الجزء الثاني من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني من تفسير سورة البقرة
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3)
قال أبو جعفر الرازي، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان التصديق.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس، ( يُؤْمِنُونَ ) يصدقون.
وقال مَعْمَر عن الزهري: الإيمان العمل.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( يُؤْمِنُونَ ) يخشون.
قال ابن جرير وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا
واعتقادًا وعملا قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق
القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق
الإقرار بالفعل. قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد
يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17]، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الإنشقاق: 25، والتين: 6]، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا.
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو
عُبَيد وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد ورد فيه
آثار كثيرة وأحاديث أوردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من فسره بالخشية، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك: 12]، وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] .
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب
كله.
وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة، وأمر النار، وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: ( بِالْغَيْبِ ) قال: بما جاء منه، يعني: مِنَ الله
تعالى.
وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، قال: الْغَيْب القرآن.
وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: بغيب الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: بالقدر.
فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب
الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد
قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب النبي صلى الله
عليه وسلم وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه
وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من
إيمان بغيب، ثم قرأ: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1-5] .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الأعمش، به .
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [الإمام] أحمد، حدثنا أبو المغيرة، أخبرنا الأوزاعي، حدثني أسيد
بن عبد الرحمن، عن خالد بن دُرَيك، عن ابن مُحَيريز، قال: قلت لأبي جمعة:
حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أحدثك حديثًا
جيدًا: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: "نعم"، "قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" .
طريق أخرى: قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن
جعفر، حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا
معاوية بن صالح، عن صالح بن جُبَيْر، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري،
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، ليصلي فيه، ومعنا يومئذ
رجاء بن حيوة، فلما انصرف
خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا؛ أحدثكم بحديث
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول
الله، هل من قوم أعظم أجرًا منا؟ آمنا بك واتبعناك، قال: "ما
يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من
بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم
أجرا" مرتين .
ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافع، عن صالح بن جبير، عن أبي جمعة، بنحوه .
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل
الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم
أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقا.
وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن
عياش الحمصي، عن المغيرة بن قيس التميمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن
جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجب إليكم
إيمانا؟". قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟".
قالوا: فالنبيون. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينـزل عليهم؟". قالوا:
فنحن. قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟". قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم
يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها" .
قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في
مستدركه، من حديث محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف، عن زيد بن أسلم، عن أبيه،
عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم: صحيح
الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، حدثنا
إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري، أخبرني
جعفر بن محمود، عن جدته تويلة بنت أسلم، قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء ، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام.
قال إبراهيم: فحدثني رجال من بني حارثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: "أولئك قوم آمنوا بالغيب" .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قال ابن عباس: أي: يقيمون الصلاة بفروضها.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال: زكاة أموالهم.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال: هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنـزل الزكاة.
وقال جُوَيْبر، عن الضحاك: كانت النفقات قربات
يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نـزلت فرائض الصدقات:
سبعُ آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات
المُثْبَتَات.
وقال قتادة: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) فأنفقوا مما أعطاكم
الله، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى
التأويلات وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم
مُؤَدّين، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته، من أهل أو عيال وغيرهم،
ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم
ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت: كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن
الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده
والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان
إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون
والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في
قوله تعالى: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) ولهذا ثبت في الصحيحين
عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُنِيَ الإسلام على
خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،
وحج البيت" . والأحاديث في هذا كثيرة.
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:
وقال أيضًا
أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك.
وقال الآخر -وهو الأعشى أيضًا-:
يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة
في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة،
بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها [المشروعة] المشهورة.
وقال ابن جرير: وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من حاجته .
[وقيل: هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند الركوع، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفا عجب الذنب، ومنه سمي المصلي؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر، وقيل: هي مشتقة من الصلى، وهو الملازمة للشيء من قوله: لا يَصْلاهَا أي: يلزمها ويدوم فيها إِلا الأَشْقَى [الليل: 15] وقيل: مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم] .
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
قال ابن عباس: ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ
قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم (
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار،
والحساب، والميزان.
وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:
أحدهما
: أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كل مؤمن، مؤمنو العرب
ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد، وأبو العالية، والربيع بن أنس،
وقتادة.
والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى: 1-5] وكما قال الشاعر:
فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد.
والثالث: أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيا بقوله: (
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ
قَبْلِكَ ) الآية مؤمنو أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واختاره ابن جرير، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ الآية [آل عمران: 199]، وبقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
[القصص: 52-54]. وثبت في الصحيحين، من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي
موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل
من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه،
ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" .
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف
في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين:
منافق وكافر، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي.
قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري، عن رجل، عن مجاهد. ورواه غير واحد، عن ابن
أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت
المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات
الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس
تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط
معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء
به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل والإيقان
بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك،
كما قال: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ
قَبْلُ الآية [النساء: 136]. وقال: وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ الآية [العنكبوت:46] . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [النساء: 47] وقال تعالى: قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة: 68] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ الآية [البقرة: 285] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
[النساء: 152] وغير ذلك من الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان
بالله ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما
بأيديهم
مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر
مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان، بما تقدم مجملا كما جاء في
الصحيح: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا: آمنا
بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم"
ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله
عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن
حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم [قد] يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم.
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
يقول الله تعالى: ( أُولَئِكَ ) أي: المتصفون بما تقدم: من الإيمان
بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنـزل
الله إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم
الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات.
( عَلَى هُدًى ) أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي: في الدنيا والآخرة.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن
جُبَيْر، عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: على
نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وقال ابن جرير: وأما معنى قوله: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد
الله إياهم، وتوفيقه لهم وتأويل قوله: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
أي المُنْجِحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه
ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله
لأعدائه من العقاب .
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: (
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، على ما تقدم من الخلاف. [قال] وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ منقطعا مما قبله، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره ( [ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ] أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما
رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن
ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين
يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما
أنـزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: (
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم،
والله أعلم. وقد نقل هذا عن مجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة،
رحمهم الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري،
حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم
واسمه سليمان بن عبد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل له: يا رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد
أن نيأس، أو كما قال. قال: فقال: "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟".
قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله تعالى : ( الْمُفْلِحُونَ ) هؤلاء أهل الجنة". قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إلى قوله: عَظِيمٌ هؤلاء أهل النار". قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: "أجل"
قال أبو جعفر الرازي، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان التصديق.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس، ( يُؤْمِنُونَ ) يصدقون.
وقال مَعْمَر عن الزهري: الإيمان العمل.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( يُؤْمِنُونَ ) يخشون.
قال ابن جرير وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا
واعتقادًا وعملا قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق
القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق
الإقرار بالفعل. قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد
يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17]، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الإنشقاق: 25، والتين: 6]، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا.
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو
عُبَيد وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد ورد فيه
آثار كثيرة وأحاديث أوردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من فسره بالخشية، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك: 12]، وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] .
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب
كله.
وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة، وأمر النار، وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: ( بِالْغَيْبِ ) قال: بما جاء منه، يعني: مِنَ الله
تعالى.
وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، قال: الْغَيْب القرآن.
وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: بغيب الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: بالقدر.
فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب
الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد
قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب النبي صلى الله
عليه وسلم وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه
وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من
إيمان بغيب، ثم قرأ: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1-5] .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الأعمش، به .
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [الإمام] أحمد، حدثنا أبو المغيرة، أخبرنا الأوزاعي، حدثني أسيد
بن عبد الرحمن، عن خالد بن دُرَيك، عن ابن مُحَيريز، قال: قلت لأبي جمعة:
حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أحدثك حديثًا
جيدًا: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: "نعم"، "قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" .
طريق أخرى: قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن
جعفر، حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا
معاوية بن صالح، عن صالح بن جُبَيْر، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري،
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، ليصلي فيه، ومعنا يومئذ
رجاء بن حيوة، فلما انصرف
خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا؛ أحدثكم بحديث
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول
الله، هل من قوم أعظم أجرًا منا؟ آمنا بك واتبعناك، قال: "ما
يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من
بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم
أجرا" مرتين .
ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافع، عن صالح بن جبير، عن أبي جمعة، بنحوه .
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل
الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم
أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقا.
وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن
عياش الحمصي، عن المغيرة بن قيس التميمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن
جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجب إليكم
إيمانا؟". قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟".
قالوا: فالنبيون. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينـزل عليهم؟". قالوا:
فنحن. قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟". قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم
يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها" .
قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في
مستدركه، من حديث محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف، عن زيد بن أسلم، عن أبيه،
عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم: صحيح
الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، حدثنا
إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري، أخبرني
جعفر بن محمود، عن جدته تويلة بنت أسلم، قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء ، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام.
قال إبراهيم: فحدثني رجال من بني حارثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: "أولئك قوم آمنوا بالغيب" .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قال ابن عباس: أي: يقيمون الصلاة بفروضها.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال: زكاة أموالهم.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال: هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنـزل الزكاة.
وقال جُوَيْبر، عن الضحاك: كانت النفقات قربات
يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نـزلت فرائض الصدقات:
سبعُ آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات
المُثْبَتَات.
وقال قتادة: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) فأنفقوا مما أعطاكم
الله، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى
التأويلات وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم
مُؤَدّين، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته، من أهل أو عيال وغيرهم،
ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم
ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت: كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن
الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده
والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان
إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون
والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في
قوله تعالى: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) ولهذا ثبت في الصحيحين
عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُنِيَ الإسلام على
خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،
وحج البيت" . والأحاديث في هذا كثيرة.
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:
لهـا حـارس لا يـبرحُ الدهـرَ بَيْتَها | وإن ذُبحَـتْ صـلى عليهـا وزَمْزَمـا |
وقابلهـــا الــريح فــي دَنّهــا | وصــلى عــلى دَنّهــا وارتسـم |
وقال الآخر -وهو الأعشى أيضًا-:
تقـــول بنتـي وقـد قَرَّبتُ مرتحلا | يـا رب جـنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا | |
عليـكِ مثـلُ الـذي صليتِ فاغتمضي | نومـا فـإن لِجَنب المـرء مُضْطجعـا |
في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة،
بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها [المشروعة] المشهورة.
وقال ابن جرير: وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من حاجته .
[وقيل: هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند الركوع، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفا عجب الذنب، ومنه سمي المصلي؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر، وقيل: هي مشتقة من الصلى، وهو الملازمة للشيء من قوله: لا يَصْلاهَا أي: يلزمها ويدوم فيها إِلا الأَشْقَى [الليل: 15] وقيل: مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم] .
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
قال ابن عباس: ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ
قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم (
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار،
والحساب، والميزان.
وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:
أحدهما
: أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كل مؤمن، مؤمنو العرب
ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد، وأبو العالية، والربيع بن أنس،
وقتادة.
والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى: 1-5] وكما قال الشاعر:
إلــى الملـك القَـرْم وابـن الهُمـام | وليــثِ الكتيبــة فــي المُزْدَحَـم |
والثالث: أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيا بقوله: (
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ
قَبْلِكَ ) الآية مؤمنو أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واختاره ابن جرير، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ الآية [آل عمران: 199]، وبقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
[القصص: 52-54]. وثبت في الصحيحين، من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي
موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل
من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه،
ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" .
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف
في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين:
منافق وكافر، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي.
قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري، عن رجل، عن مجاهد. ورواه غير واحد، عن ابن
أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت
المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات
الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس
تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط
معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء
به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل والإيقان
بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك،
كما قال: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ
قَبْلُ الآية [النساء: 136]. وقال: وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ الآية [العنكبوت:46] . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [النساء: 47] وقال تعالى: قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة: 68] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ الآية [البقرة: 285] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
[النساء: 152] وغير ذلك من الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان
بالله ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما
بأيديهم
مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر
مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان، بما تقدم مجملا كما جاء في
الصحيح: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا: آمنا
بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم"
ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله
عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن
حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم [قد] يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم.
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
يقول الله تعالى: ( أُولَئِكَ ) أي: المتصفون بما تقدم: من الإيمان
بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنـزل
الله إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم
الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات.
( عَلَى هُدًى ) أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي: في الدنيا والآخرة.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن
جُبَيْر، عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: على
نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وقال ابن جرير: وأما معنى قوله: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد
الله إياهم، وتوفيقه لهم وتأويل قوله: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
أي المُنْجِحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه
ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله
لأعدائه من العقاب .
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: (
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، على ما تقدم من الخلاف. [قال] وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ منقطعا مما قبله، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره ( [ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ] أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما
رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن
ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين
يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما
أنـزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: (
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم،
والله أعلم. وقد نقل هذا عن مجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة،
رحمهم الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري،
حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم
واسمه سليمان بن عبد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل له: يا رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد
أن نيأس، أو كما قال. قال: فقال: "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟".
قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله تعالى : ( الْمُفْلِحُونَ ) هؤلاء أهل الجنة". قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إلى قوله: عَظِيمٌ هؤلاء أهل النار". قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: "أجل"
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني من تفسير سورة البقرة
شكحرا لك على الموضوع المميز
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على الموضوع المميز وجعله في ميزان حسناتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى