الجزء السابع من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع من تفسير سورة البقرة
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا
مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ
(25)
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني" على أصح أقوال
العلماء، كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر، أو
عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء، أو عكسه. وحاصله ذكر الشيء ومقابله.
وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه، كما سنوضحه إن شاء الله؛ فلهذا قال
تعالى: ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) فوصفها بأنها تجري من
تحتها < 1-204 >
الأنهار، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة، ومعنى ( تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: أن
أنهارها تجري من
غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة
بينهما، وطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله
[وكرمه] إنه هو البر الرحيم.
وقال ابن أبي حاتم: قرئ على الربيع بن سليمان: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا
ابن ثوبان، عن عطاء بن قرّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنة تُفَجَّر من تحت تلال -أو من
تحت جبال-المسك" .
وقال أيضا: حدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
وقوله تعالى: ( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا
قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال السدي في تفسيره، عن
أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود، وعن ناس من
الصحابة: ( قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال: إنهم أتوا
بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في [دار] الدنيا.
وهكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ونصره ابن جرير.
وقال عكرمة: ( قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال:
معناه: مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد: يقولون:
ما أشبهه به.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا
لشدة مشابهة بعضه بعضًا، لقوله تعالى: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال
سُنَيْد بن داود: حدثنا شيخ من أهل المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن
أبي كثير، قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء، فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أوتينا به من قبل. فتقول الملائكة: كُلْ، فاللون واحد، والطعم مختلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عامر بن يَسَاف، عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها
ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفا به، فيقول
لهم الولدان: كلوا، فإن اللون واحد، والطعم مختلف. وهو قول الله تعالى: (
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا )
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال: يشبه < 1-205 >
بعضه بعضًا، ويختلف في الطعم.
وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح،
عن ابن عباس وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: (
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) يعني: في اللون والمرأى، وليس يشتبه في الطعم.
وهذا اختيار ابن جرير.
وقال عكرمة: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب.
وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي ظِبْيان، عن ابن عباس، لا يشبه
شَيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء، وفي رواية: ليس في الدنيا
مما في الجنة إلا الأسماء. رواه ابن جرير، من رواية الثوري، وابن أبي حاتم
من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش، به.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا )
قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان
بالرمان، قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وأتوا به
متشابها، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.
وقوله تعالى: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى.
وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه: لا حيض ولا كلف. وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، عن عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: المطهرة التي لا تحيض. قال: وكذلك خلقت حواء،
عليها السلام، حتى عصت، فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك
كما أدميت هذه الشجرة. وهذا غريب.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثني جعفر بن محمد بن حرب، وأحمد بن محمد الجُوري
قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البَزيعيّ،
حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد،
عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ ) قال: "من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق" .
هذا حديث غريب. وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن محمد بن يعقوب، عن الحسن
بن علي بن عفان، عن محمد بن عبيد، به، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
< 1-206 >
وهذا الذي ادعاه فيه نظر؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البُسْتي: لا يجوز الاحتجاج به .
قلت: والأظهر أن هذا من كلام قتادة، كما تقدم، والله أعلم.
وقوله تعالى: ( وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) هذا
هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع
فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول
أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم، بر رحيم.
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ
(26)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(27)
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين،
يعني قوله:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا
[البقرة: 17] وقوله
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ
[البقرة: 19] الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله هذه الآية إلى قوله:
( هُمُ الْخَاسِرُونَ )
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: لما ذكر الله العنكبوت والذباب،
قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله [تعالى هذه
الآية] ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) .
وقال سعيد، عن قتادة : أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما،
قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة:
ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي
أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا )
قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية، وليس كذلك،
وعبارة رواية سعيد، عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جُرَيج عن مجاهد
نحو هذا الثاني عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا؛ إذ < 1-207 >
البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله تعالى عند ذلك، ثم تلا
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
[الأنعام: 44] .
هكذا رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، بنحوه، فالله أعلم.
فهذا اختلافهم في سبب النـزول، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السُّدي؛
لأنه أمس بالسورة، وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي،
أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلا ما، أي: أيّ مثل كان، بأي شيء
كان، صغيرًا كان أو كبيرًا.
و "ما" هاهنا للتقليل وتكون ( بَعُوضَةً ) منصوبة على البدل، كما تقول: لأضربن ضربًا ما، فيصدق بأدنى شيء [أو تكون "ما" نكرة موصوفة ببعوضة] . واختار ابن جرير أن ما موصولة، و ( بَعُوضَةً ) معربة بإعرابها، قال: وذلك سائغ في كلام العرب، أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة، ونكرة أخرى، كما قال حسان بن ثابت:
وَكَــفَى بِنَا فَضْـلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا | حُــب النَّبِيِّ مُحَمَّـدٍ إيَّانَـا |
[وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة
ورويت "بعوضة" بالرفع، قال ابن جني: وتكون صلة لما وحذف العائد كما في
قوله:
تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ
[الأنعام: 154] أي: على الذي أحسن هو أحسن، وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي: يعني بالذي هو قائل لك شيئًا] .
وقوله: ( فَمَا فَوْقَهَا ) فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر، والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع
: نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت. وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة، قال
الرازي: وأكثر المحققين، وفي الحديث: "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح
بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" . والثاني: فما فوقها: فما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة. وهذا [قول قتادة بن دعامة و] اختيار ابن جرير. < 1-208 >
[ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة، رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة
ومحيت عنه بها خطيئة" ] .
فأخبر أنه لا يستصغر شيئًا يَضْرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما [لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من] ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
[الحج: 73]، وقال:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
[العنكبوت: 41] وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ *
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
[إبراهيم: 24-27]، وقال تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا]
الآية [النحل: 75]، ثم قال:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ
عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ
بِخَيْرٍ [هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ]
الآية [النحل: 76]، كما قال:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ
الآية [الروم: 28]. وقال:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ]
الآية [الزمر: 29]، وقد قال تعالى:
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ
[العنكبوت: 43] وفي القرآن أمثال كثيرة.
قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول:
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ
وقال مجاهد قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا
مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون
ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.
وقال قتادة: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله.
وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال أبو العالية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعني: هذا المثل: ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) كما قال في سورة
المدثر:
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا
عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا
يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ
[المدثر: 31]، < 1-209 >
وكذلك قال هاهنا: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ )
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة،
عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ) يعني:
المنافقين، ( وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) يعني المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة
إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم وأنه لما ضربه له موافق، فذلك
إضلال الله إياهم به ( وَيَهْدِي بِهِ ) يعني بالمثل كثيرًا من أهل
الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم
بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) قال: هم المنافقون .
وقال أبو العالية: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) قال: هم أهل النفاق. وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال ابن جريج عن مجاهد، عن ابن عباس: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به.
وقال قتادة: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) فسقوا، فأضلهم الله على فسقهم.
وقال ابن أبي حاتم: حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان، عن أبي سِنان، عن عمرو
بن مرة، عن مصعب بن سعد، عن سعد ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ) يعني الخوارج.
وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، قال: سألت أبي فقلت: قوله
تعالى: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ )
إلى آخر الآية، فقال: هم الحرورية. وهذا الإسناد إن صح عن سعد بن أبي وقاص،
رضي الله عنه، فهو تفسير على المعنى، لا أن
الآية أريد منها التنصيص على الخوارج، الذين خرجوا على عليٍّ بالنهروان،
فإن أولئك لم يكونوا حال نـزول الآية، وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من
دخل؛ لأنهم سموا خوارج لخروجهم على طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام.
والفاسق في اللغة: هو الخارج عن الطاعة أيضًا. وتقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها
؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للفساد. وثبت في
الصحيحين، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق
يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور"
.
< 1-210 >
فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل
أنه وصفهم بقوله: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ *
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ
الآيات، إلى أن قال:
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
[الرعد: 19-25] .
وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه،
فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته،
ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون: بل هي
في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه
الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم
إذا بعث والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به
بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك [عن]
الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه،
فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا. وهذا اختيار
ابن جرير رحمه الله وقول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق. وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم
من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به
لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان
نحو هذا، وهو حسن، [وإليه مال الزمخشري، فإنه قال: فإن قلت: فما المراد
بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر وصاهم به
ووثقه عليهم وهو معنى قوله:
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
[الأعراف: 172] إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنـزلة عليهم لقوله:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
[البقرة: 40] .
وقال آخرون: العهد الذي ذكره [الله] تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من < 1-211 >
صلب آدم الذي وصف في قوله:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
[شَهِدْنَا]
الآيتين [الأعراف: 172، 173] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به. وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) إلى قوله: (
الْخَاسِرُونَ ) قال: هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة
على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا
اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن
يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظَّهْرَةُ عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.
وكذا
قال الربيع بن أنس أيضًا. وقال السدي في تفسيره بإسناده، قوله تعالى: (
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) قال: هو ما
عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
[محمد: 22] ورجحه ابن جرير. وقيل: المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.
وقال مقاتل بن حيان في قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى:
أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
[الرعد: 25] .
وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم
مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به
الذنب.
وقال ابن جرير في قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الخاسرون: جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم [و]
حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس
ماله في بيعه، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي
خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل
يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا، كما قال جرير بن عطية
إن سَــلِيطًا فــي الخَسَــارِ إنَّـه | أولادُ قَــــومٍ خُـــلقُوا أقِنَّـــه |
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(28)
يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده: (
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ) أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! (
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) أي: قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى
الوجود، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ
[الطور: 35، 36]، وقال
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا
[الإنسان: 1] والآيات في هذا كثيرة.
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه:
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
[غافر: 11] قال: هي التي في البقرة: ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )
وقال ابن جُريج
، عن عطاء، عن ابن عباس: ( كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) أمواتا في
أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم
حين يبعثكم. قال: وهي مثل قوله:
[رَبَّنَا]
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله:
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم
، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور
فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان
وحياتان، فهو كقوله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )
وهكذا روي عن السدي بسنده، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن
مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة-وعن أبي العالية والحسن البصري
ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نَحْوُ ذلك.
وقال الثوري، عن السدي عن أبي صالح: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) قال: يحييكم في القبر ، ثم يميتكم.
وقال ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقول الله تعالى:
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
< 1-213 >
وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس، وأولئك الجماعة من التابعين، وهو كقوله تعالى:
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ
[الجاثية: 26] .
[وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس، كما قال في الأصنام:
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ
[النحل: 21]، وقال
وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
[يس: 33] .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ
(29)
لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلا
آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض، فقال: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) أي:
قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا تَضَمَّن
معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بإلى ( فَسَوَّاهُنَّ ) أي: فخلق السماء
سبعًا، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: ( فَسَوَّاهُنَّ ) . ( وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق . كما قال:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
[الملك: 14] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله:
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ
اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
*
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ
سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
[فصلت: 9-12] .
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات
سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح
المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا *
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا *
وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
*
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا
*
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا
[النازعات: 27-32] فقد قيل: إن ( ثُمَّ ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل، كما قال الشاعر:
قــل لمــن سـاد ثـم سـاد أبـوه | ثــم قــد سـاد قبـل ذلـك جـده |
< 1-214 >
وقد قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك -وعن أبي صالح عن ابن عباس-وعن
مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا
فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]
) قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما
خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق
الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها
فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ
هو النون الذي ذكره الله في القرآن:
ن وَالْقَلَمِ
والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر مَلَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر
لقمان -ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض،
فأرسى عليها الجبال فَقَرّت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى:
وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
[النحل: 15] . وخلق الجبال فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول:
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
[فصلت: 9، 10]. يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
[فصلت: 10] يقول: من سأل فهكذا الأمر.
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
[فصلت: 11] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم
فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة
لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض،
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
[فصلت: 12] قال: خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظًا تُحْفَظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، فذلك حين يقول:
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
[الأعراف: 54] ويقول
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا
[الأنبياء: 30] .
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر
عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم
الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء
والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عَجَل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا ) قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان،
فذلك حين يقول:
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
< 1-215 >
( فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، يعني بعضهن تحت بعض.
وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة:
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
*
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا
وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
*
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ
سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
[فصلت: 9-12] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا
أعلم فيه نـزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن
السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا
[النازعات: 27-31] قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض. وفي صحيح البخاري
: أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن
الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير
قديمًا وحديثًا، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي
مفسر بقوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا
[النازعات: 30-32] ففسر الدحي بإخراج ما ك
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء السابع من تفسير سورة البقرة
شكرا لك على الموضوع المميز
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء السابع من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على الموضوع المميز وجعله في ميزان حسناتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى