الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ
الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (194)
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون عليه من الكفر
بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل؛ ولهذا
قال: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) قال أبو مالك: أي: ما أنتم
مقيمون عليه أكبر من القتل.
وقال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة،
والضحاك، والربيع بن أنس في قوله: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )
يقول: الشرك أشد من القتل.
وقوله: ( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) كما جاء
في الصحيحين: "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام
بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي
هذه، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجره، ولا يُخْتَلى
خَلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله
أذن لرسوله ولم يأذن لكم" .
يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه -قتالَه أهلها يومَ فتح مكة، فإنه
فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: من أغلق
بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
[وقد حكى القرطبي: أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ. قال قتادة: نسخها قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ [التوبة: 5]. قال مقاتل بن حيان: نسخها قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وفي هذا نظر] .
وقوله: ( حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) يقول تعالى: لا تقاتلوهم
عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم
وقتلهم دفعا للصيال
كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على
القتال، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش
عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24]، ، وقال: وَلَوْلا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ
تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 25].
وقوله: ( فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: فإن
تَركُوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله [غفور
رحيم] يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظَمُه ذَنْب أنْ يغفره لمن تاب منْه إليه.
ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار: ( حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي: شرك.
قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل بن
حيان، والسُّدي، وزيد بن أسلم.
( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) أي: يكونَ دينُ الله هو الظاهر [العالي] على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري، قال: سُئِل النبي
صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقاتل رياء،
أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
. وفي الصحيحين: "أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله،
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"
وقوله: ( فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ )
يقول: فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك، وقتال المؤمنين، فكُفُّوا عنهم،
فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، وهذا
معنى قول مجاهد: لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل. أو يكون تقديره؛ فإن انتهوا فقد
تَخَلَّصُوا من الظلم، وهو الشرك. فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد
بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة، كقوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40]، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126]. ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
وقال البخاري: قوله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]
) الآية: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عُبَيد الله، عن
نافع، عن ابن عمر، قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا
وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال:
يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا ألم يقل الله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم
تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. زاد عثمان بن صالح
عن ابن وهب قال: أخبرني فلان وحيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو المعافري أن بُكَير بن عبد الله حدثه، عن نافع: أن رجلا أتى ابن عمر فقال [له] يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر
عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال: يا
ابن أخي، بُني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس،
وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع
ما ذكر الله في كتابه: وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9]، ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) قال: فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه: إما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون .
قال عكرمة، عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، ومِقْسَم، والربيع بن أنس،
وعطاء وغيرهم: لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة
ست من الهجرة، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن
معه من المسلمين في ذي القعْدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من
قابل، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان [معه] من المسلمين، وأقَصه الله منهم، فنـزلت في ذلك هذه الآية: ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ )
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي
الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ .
هذا إسناد صحيح؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو مُخَيِّم
بالحديبية -أن عثمان قد قتل -وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين -بايع
أصحابه، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين، فلما بلغه
أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان.
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف،
عَدَل إليها، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمر
عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما ثبت في الصحيحين عن أنس
. فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ، ثم كر راجعًا إلى
مكة واعتمر من الجعرانة، حيث قسم غنائم حُنين. وكانت عُمْرته هذه في ذي
القعدة أيضًا عام ثمان، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) أمْر بالعدل حتى في المشركين: كما قال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126]. وقال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله: ( فَمَنِ اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) نـزلت
بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد، ثم نسخ بآية الجهاد بالمدينة. وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير، وقال: بل [هذه] الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة، وعزا ذلك إلى مجاهد، رحمه الله.
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة، كما قال عمرو بن كلثوم:
وقال ابن دريد:
وقال غيره:
وقوله: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ ) أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين
اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.
وَأَنْفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قال البخاري: حدثنا إسحاق، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة عن سليمان قال:
سمعت أبا وائل، عن حذيفة: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قال: نـزلت في النفقة .
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن أبي معاوية عن
الأعمش، به مثله. قال: وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير،
وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيَّان، نحو ذلك.
وقال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل
رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه، ومعنا أبو أيوب
الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه
الآية إنما نـزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَهِدنا معه
المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيَا،
فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونَصْرِه، حتى فشا
الإسلام وكثر أهلُه، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد
وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما. فنـزل فينا: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) فكانت التهلكة [في] الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب، به .
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية -وعلى أهل مصر عقبة بن عامر؛
وعلى أهل الشام رجل -يريد فَضَالة بن عُبَيد- فخرج من المدينة صَف عظيم
من الروم، فصففنا لهم فحَمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم: ثم
خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة.
فقال أبو أيوب: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل،
وإنما نـزلت فينا معشر الأنصار، وإنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه قلنا
فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها. فأنـزل الله هذه الآية.
وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال: قال رجل للبراء بن
عازب: إن حملتُ على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟
قال: لا قال الله لرسوله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ
[النساء: 84]، إنما هذا في النفقة. رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في
مستدركه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، به. وقال: صحيح على شرط الشيخين،
ولم يخرجاه . ورواه الثوري، وقيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن البراء -فذكره. وقال بعد قوله: لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ولكن التهلكة أن يُذْنِبَ الرجلُ الذنبَ، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح -كاتب الليث -حدثني
الليث، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام: أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره:
أنهم حاصروا دمشق، فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل،
فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص، فأرسل إليه
عمرو فَرَدّه، وقال عمرو: قال الله: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ )
وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تُمْسكَ بيدك عن النفقة في سبيل الله. ولا تلق بيدك إلى التهلكة.
وقال حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة
قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سَنَة، فأمسكوا
عن النفقة في سبيل الله فنـزلت: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ )
وقال الحسن البصري: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قال: هو البخل.
وقال سِمَاك بن حرب، عن النعمان بن بشير في قوله: ( وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) أن يذنب الرجل الذنب، فيقول: لا يغفر
لي، فأنـزل الله: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) رواه ابن مَرْدويه.
وقال ابن أبي حاتم: ورُويَ عن عَبيدَة السلماني، والحسن، وابن سيرين،
وأبي قلابة -نحو ذلك. يعني: نحوُ قول النعمان بن بشير: إنها في الرجل يذنب
الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي: يستكثر من
الذنوب فيهلك. ولهذا رَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: التهلكة: عذاب الله.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني
أبو صخر، عن القُرَظي: أنه كان يقول في هذه الآية: ( وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزود
الرجل. فكان أفضل زادًا من الآخر، أنفق البائس
من زاده، حتى لا يبقى من زاده شيء، أحب أن يواسي صاحبه، فأنـزل الله: (
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ) .
وقال ابن وهب أيضًا: أخبرني عبد الله بن عياش
عن زيد بن أسلم في قول الله: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وذلك أنّ رجالا كانوا يخرجون
في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير نفقة، فإما يُقْطَعُ
بهم، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا
بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي
. وقال لمن بيده فضل: ( أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
ومضمون الآية: الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القُرُبات ووجوه الطاعات، وخاصّة صرفَ الأموال في قتال الأعداء وبذلهَا فيما يَقْوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده. ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد، شرَعَ في بيان
المناسك، فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد
الشروع فيهما
؛ ولهذا قال بعده: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) أي: صُدِدْتم عن الوصول إلى
البيت ومنعتم من إتمامهما. ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج
والعمرة مُلْزِمٌ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان
للعلماء. وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا "الأحكام" مستقصى ولله الحمد والمنة.
وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن سَلَمة، عن علي: أنه قال
في هذه الآية: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) قال: أن
تُحْرِم من دُوَيرة أهلك.
وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس. وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما
أن تحرم من أهلك، لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهِلّ من الميقات ليس أن
تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت،
وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرج له، ولا تخرج لغيره.
وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال: بلغنا أنّ عمر قال في قول الله : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) [قال] : من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ .
وقال هُشَيْم عن ابن عون قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة فقيل له: العمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة، رحمهما الله.
وهذا القول فيه نظر؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر
أربع عُمَرٍ كلها في ذي القعدة: عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة
القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان،
وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشر، ولا اعتمر قَطّ
في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانئ "عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي" . وما ذاك إلا لأنها [كانت]
قد عزمت على الحج معه، عليه السلام، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب الطهر، كما هو
مبسوط في الحديث عند البخاري، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من خصائصها،
والله أعلم.
وقال السدي في قوله: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) أي: أقيموا الحج والعمرة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) يقول: من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حل.
وقال قتادة، عن زُرَارة، عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة، والعمرة
الطواف. وكذا روى الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة في قوله: ( وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) قال: هي [في] قراءة عبد الله: "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت" لا تُجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: "وأقيموا الحج
والعمرة إلى البيت" وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم، عن منصور، عن
إبراهيم أنه قرأ: "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت".
وقرأ الشعبي: "وأتموا الحج والعمرةُ لله" برفع العمرة، وقال: ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة، عن أنس وجماعة من الصحابة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح
أنه قال لأصحابه: "من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة" .
وقال في الصحيح أيضًا: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نـزول هذه الآية حديثًا
غريبًا فقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الهروي، حدثنا غسان
الهروي، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عطاء، عن صفوان بن أمية أنه قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال:
كيف تأمرنى يا رسول الله في عمرتي؟ قال: فأنـزل الله: ( وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"أين السائل عن العُمْرة؟ " فقال: ها أنا ذا. فقال له: "ألق عنك ثيابك، ثم
اغتسل، واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك"
هذا حديث غريب وسياق عجيب، والذي ورد في الصحيحين، عن يعلى بن أمية في قصة
الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: كيف ترى في
رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم جاءه الوحي، ثم رفع رأسه فقال: "أين السائل؟ " فقال: ها أنا ذا، فقال:
"أما الجبة فانـزعها، وأما الطيب الذي بك فاغسله، ثم ما كنت صانعًا في حجك
فاصنعه في عُمْرتك" . ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نـزول الآية ، وهو عن يعلى بن أمية، لا [عن] صفوان بن أمية، والله أعلم.
وقوله: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ذكروا
أنّ هذه الآية نـزلت في سنة ست، أيْ عام الحديبية، حين حال المشركون بين
رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت، وأنـزل الله في ذلك
سورةَ الفتح بكمالها، وأنـزل لهم رُخْصَةً: أن يذبحوا ما معهم من الهدي
وكان سبعين بدنة، وأن يَتَحَللوا من إحرامهم، فعند
ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا. فلم يفعلوا انتظارا
للنسخ حتى خرج فحلق رأسه، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه،
فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "رَحِم الله المُحَلِّقين". قالوا:
والمقصرين يا رسول الله؟ فقال في الثالثة: "والمقصرين"
. وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك، كُلُّ سبعة في بَدَنة، وكانوا ألفًا
وأربعمائة، وكان منـزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل: بل كانوا على طَرف
الحرم، فالله أعلم.
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو، فلا يتحلل إلا من حصره عَدُو، لا مرض ولا غيره؟ على قولين:
فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا
سفيان، عَنْ عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس،
وابن أبي نَجِيح [ومجاهد]
عن ابن عباس، أنه قال: لا حَصْرَ إلا حصرُ العدو، فأما من أصابه مرض أو
وجع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال الله تعالى: ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ )
فليس الأمن حصرًا.
قال: وروي عن ابن عمر، وطاوس، والزهري، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
والقول الثاني: أن الحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال -وهو
التَّوَهان عن الطريق أو نحو ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد،
حدثنا حَجَّاج الصوّافُ، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو
الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كُسِر أو عَرِج فقد حل، وعليه حجة أخرى".
قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق.
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير، به
. وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: من عرج أو كُسر أو مَرض -فذكر معناه.
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن الحجاج
بن أبي عثمان الصواف، به. ثم قال: وروي عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة،
وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل بن
حيان، أنهم قالوا: الإحصار من عدو، أو مرض، أو كسر.
وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه. وثبت في الصحيحين عن عائشة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب،
فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال: "حُجِّي واشترطي:
أنَّ مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني" . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله . فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث. وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث. قال البيهقي وغيره من الحفاظ: فقد صح، ولله الحمد.
وقوله: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال الإمام مالك، عن جعفر
بن محمد، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ ) شاة. وقال ابن عباس: الهَدْي من الأزواج الثمانية: من
الإبل والبقر والمعز والضأن.
وقال الثوري، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال: شاة. وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس،
وأبو العالية، ومحمد بن علي بن الحسين، وعبد الرحمن بن القاسم، والشعبي،
والنّخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم مثلَ ذلك، وهو
مذهب الأئمة الأربعة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة وابن عمر: أنهما كانا لا يريان ما
استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر.
قال: ورُوِي عن سالم، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير -نحوُ ذلك.
قلت: والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية
الحديبية، فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة، وإنما
ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس في
قوله: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال: بقدر يَسَارته .
وقال العوفي، عن ابن عباس: إن كان موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر،
وإلا فمن الغنم. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ ) قال: إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء.
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في
الإحصار: أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي: مهما تيسر مما يسمى
هديًا، والهَدْي من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما قاله
الحَبْر البحر
ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثَبتَ في الصحيحين
عن عائشة أمّ المؤمنين، رضي الله عنها، قالت: أهْدَى النبي صلى الله عليه
وسلم مَرة غنمًا .
وقوله: ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ ) معطوف على قوله: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ
) وليس معطوفًا على قوله: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ ) كما زعمه ابن جرير، رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا
وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز
الحلق ( حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ )
ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو من فعْل أحدهما
إن كان مُفْردًا أو متمتعًا، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت:
يا رسول الله، ما شأن الناس حَلّوا من العمرة، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك؟ فقال: "إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي، فلا أحلّ حتى أنحر" .
وقوله: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال البخاري: حدثنا
آدم، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني: سمعت عبد الله بن مَعْقل،
قال: فعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد -يعني مسجد الكوفة -فسألته عن
( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ) فقال: حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم
والقملُ يتناثر على وجهي. فقال: "ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا! أما
تجد شاة؟ " قلت: لا. قال: "صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين
نصف صاع من طعام، واحلق رأسك". فنـزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة .
وقال الإمام أحمدُ: حدثنا إسماعيلُ، حدثنا أيوب، عن مجاهد، عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرَة قال: أتى عَلَيّ النبي صلى الله
عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي -أو قال: حاجبي
-فقال: "يُؤْذيك هَوَامُّ رأسك؟ ". قلت: نعم. قال: "فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة". قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ .
وقال أحمد أيضا: حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر
عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وَفْرة، فجعلت الهوام تَسَاقَطُ على وجهي، فمر بي رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: "أيؤذيك هوام رأسك؟ " فأمره أن يحلق. قال:
ونـزلت هذه الآية: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) .
وكذا رواه عفان، عن شعبة، عن أبي بشر، وهو جعفر بن إياس، به. وعن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به . وعن شعبة، عن داود، عن الشعبي، عن كعب بن عُجْرَة، نحوه.
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة -فذكر نحوه .
وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري: أنه سمع كعب بن عُجْرَة يقول: فذبحت شاة. رواه ابن مَرْدُوَيه. وروي أيضًا من حديث عمر بن قيس، سندل -وهو ضعيف -عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والطعام فَرَق، بين ستة" .
وكذا رُوي عن علي، ومحمد بن كعب، وعكرمة وإبراهيم [النخعي] ومجاهد، وعطاء، والسدي، والربيع بن أنس.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا عبد الله بن وهب: أن مالك بن أنس حدثه
عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن
كعب ابن عُجْرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القَمْل
في رأسه، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: "صم
ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، مُدّين مدّين لكل إنسان، أو انسُك شاة،
أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك" .
وهكذا روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال: إذا كان "أو"
فأيه أخذتَ أجزأ عنك.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، والحسن، وحُميد الأعرج، وإبراهيم النخَعي، والضحاك، نحو ذلك.
قلت: وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يُخَيَّر
في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدّق بفَرق، وهو ثلاثة آصع، لكل
مسكين نصفُ صاع، وهو مُدّان، وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء، أيّ
ذلك فعل أجزأه. ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل: (
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ولما أمَرَ النبي
صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل، فالأفضل فقال:
انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام. فكلّ حسن في مقامه. ولله
الحمد والمنة.
وقال ابن جرير: حدّثنا أبو كُرَيْب، حدّثنا أبو بكر بن عياش قال: ذكر
الأعمشُ قال: سأل إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الآية: ( فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فأجابه يقول: يُحْكَم عليه طعام، فإن
كان عنده اشترى شاة، وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم، وجعل مكانها طعام
فتصدق، وإلا صام بكل نصف صاع يومًا، قال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر.
قال: لما قال لي سعيد بن جبير: من هذا؟ ما أظرفه! قال: قلت: هذا إبراهيم.
فقال: ما أظرفه! كان يجالسنا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت:
"يجالسنا" انتفض منها .
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن أبي عمران، حدثنا عبُيَد الله
بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله: ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ
أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال: إذا كان بالمُحْرِم أذى من رأسه، حَلَق
وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين،
كلّ مسكين مَكُّوكين: مكوكا من تمر، ومكوكا من بُر، والنسك شاة.
وقال قتادة، عن الحسن وعكرمة في قوله: ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال: إطعام عشرة مساكين.
وهذان القولان من سعيد بن جبير، وعلقمة، والحسن، وعكرمة قولان غريبان
فيهما نظر؛ لأنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن عُجْرة بصيام ثلاثة أيام،
[لا عشرة و]
لا ستة، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دَلّ
عليه سياق القرآن. وأما هذا الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد، كما
هو نص القرآن. وعليه أجمع الفقهاء هناك، بخلاف هذا، والله أعلم.
وقال هُشَيم: أخبرنا ليث، عن طاوس: أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء. وكذا قال عطاء، ومجاهد، والحسن.
وقال هُشَيم: أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء: أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان بن عفان، ومعه علي والحسين بن علي، فارتحل عثمان. قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلت: أيها النؤوم . فاستيقظ، فإذا الحسين
بن علي. قال: فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به السُّقْيا قال: فأرسل إلى علي
ومعه أسماء بنت عميس. قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال: قال علي
للحسين: ما الذي تجد؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه. قال: فأمر به عَليّ
فَحَلَق رأسه، ثم دعا ببدنَةٍ فنحرها. فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه
أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح.
وقوله: ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي: إذا تمكنتم من أداء
المناسك، فمن كان منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم
بهما، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع
الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين، كما دلت
عليه الأحاديثُ الصحاح، فإن من الرُواة من يقولُ: تمتع رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وآخر يقول: قَرَن. ولا خلاف أنّه ساق الهدي .
وقال تعالى: ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة،
وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر.
وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه، وكن متمتعات. رواه أبو بكر بن مَرْدويه .
وفي هذا دليل على شرعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال: نـزلت آية المتعة
في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يُنـزل
قرآن يُحَرّمه، ولم يُنْهَ عنها، حتى مات. قال رجل بِرَأيه ما شاء
. قال البخاري: يقال: إنه عُمَر. وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به
أن عمر، رضي الله عنه، كان ينهى النا
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ
الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (194)
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون عليه من الكفر
بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل؛ ولهذا
قال: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) قال أبو مالك: أي: ما أنتم
مقيمون عليه أكبر من القتل.
وقال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة،
والضحاك، والربيع بن أنس في قوله: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )
يقول: الشرك أشد من القتل.
وقوله: ( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) كما جاء
في الصحيحين: "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام
بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي
هذه، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجره، ولا يُخْتَلى
خَلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله
أذن لرسوله ولم يأذن لكم" .
يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه -قتالَه أهلها يومَ فتح مكة، فإنه
فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: من أغلق
بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
[وقد حكى القرطبي: أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ. قال قتادة: نسخها قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ [التوبة: 5]. قال مقاتل بن حيان: نسخها قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وفي هذا نظر] .
وقوله: ( حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) يقول تعالى: لا تقاتلوهم
عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم
وقتلهم دفعا للصيال
كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على
القتال، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش
عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24]، ، وقال: وَلَوْلا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ
تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 25].
وقوله: ( فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: فإن
تَركُوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله [غفور
رحيم] يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظَمُه ذَنْب أنْ يغفره لمن تاب منْه إليه.
ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار: ( حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي: شرك.
قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل بن
حيان، والسُّدي، وزيد بن أسلم.
( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) أي: يكونَ دينُ الله هو الظاهر [العالي] على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري، قال: سُئِل النبي
صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقاتل رياء،
أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
. وفي الصحيحين: "أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله،
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"
وقوله: ( فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ )
يقول: فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك، وقتال المؤمنين، فكُفُّوا عنهم،
فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، وهذا
معنى قول مجاهد: لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل. أو يكون تقديره؛ فإن انتهوا فقد
تَخَلَّصُوا من الظلم، وهو الشرك. فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد
بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة، كقوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40]، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126]. ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
وقال البخاري: قوله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]
) الآية: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عُبَيد الله، عن
نافع، عن ابن عمر، قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا
وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال:
يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا ألم يقل الله: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم
تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. زاد عثمان بن صالح
عن ابن وهب قال: أخبرني فلان وحيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو المعافري أن بُكَير بن عبد الله حدثه، عن نافع: أن رجلا أتى ابن عمر فقال [له] يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر
عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال: يا
ابن أخي، بُني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس،
وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع
ما ذكر الله في كتابه: وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9]، ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) قال: فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه: إما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون .
قال عكرمة، عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، ومِقْسَم، والربيع بن أنس،
وعطاء وغيرهم: لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة
ست من الهجرة، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن
معه من المسلمين في ذي القعْدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من
قابل، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان [معه] من المسلمين، وأقَصه الله منهم، فنـزلت في ذلك هذه الآية: ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ )
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي
الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ .
هذا إسناد صحيح؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو مُخَيِّم
بالحديبية -أن عثمان قد قتل -وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين -بايع
أصحابه، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين، فلما بلغه
أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان.
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف،
عَدَل إليها، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمر
عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما ثبت في الصحيحين عن أنس
. فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ، ثم كر راجعًا إلى
مكة واعتمر من الجعرانة، حيث قسم غنائم حُنين. وكانت عُمْرته هذه في ذي
القعدة أيضًا عام ثمان، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) أمْر بالعدل حتى في المشركين: كما قال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126]. وقال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله: ( فَمَنِ اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) نـزلت
بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد، ثم نسخ بآية الجهاد بالمدينة. وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير، وقال: بل [هذه] الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة، وعزا ذلك إلى مجاهد، رحمه الله.
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة، كما قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجـــهلن أحـــدٌ علينـــا | فنجــهل فــوق جــهل الجاهلينـا |
لــي اســتواء إن مــوالى اسـتوا | لــي التــواء إن تعــادى التــوا |
ولــي فـرس للحـلم بـالحلم ملجـم | ولـي فـرس للجـهل بـالجهل مسرج | |
ومــن رام تقــويمي فـإني مقـوم | ومــن رام تعويجـي فـإني معـوج |
الْمُتَّقِينَ ) أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين
اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.
وَأَنْفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قال البخاري: حدثنا إسحاق، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة عن سليمان قال:
سمعت أبا وائل، عن حذيفة: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قال: نـزلت في النفقة .
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن أبي معاوية عن
الأعمش، به مثله. قال: وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير،
وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيَّان، نحو ذلك.
وقال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل
رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه، ومعنا أبو أيوب
الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه
الآية إنما نـزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَهِدنا معه
المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيَا،
فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونَصْرِه، حتى فشا
الإسلام وكثر أهلُه، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد
وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما. فنـزل فينا: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) فكانت التهلكة [في] الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب، به .
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية -وعلى أهل مصر عقبة بن عامر؛
وعلى أهل الشام رجل -يريد فَضَالة بن عُبَيد- فخرج من المدينة صَف عظيم
من الروم، فصففنا لهم فحَمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم: ثم
خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة.
فقال أبو أيوب: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل،
وإنما نـزلت فينا معشر الأنصار، وإنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه قلنا
فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها. فأنـزل الله هذه الآية.
وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال: قال رجل للبراء بن
عازب: إن حملتُ على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟
قال: لا قال الله لرسوله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ
[النساء: 84]، إنما هذا في النفقة. رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في
مستدركه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، به. وقال: صحيح على شرط الشيخين،
ولم يخرجاه . ورواه الثوري، وقيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن البراء -فذكره. وقال بعد قوله: لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ولكن التهلكة أن يُذْنِبَ الرجلُ الذنبَ، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح -كاتب الليث -حدثني
الليث، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام: أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره:
أنهم حاصروا دمشق، فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل،
فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص، فأرسل إليه
عمرو فَرَدّه، وقال عمرو: قال الله: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ )
وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تُمْسكَ بيدك عن النفقة في سبيل الله. ولا تلق بيدك إلى التهلكة.
وقال حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة
قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سَنَة، فأمسكوا
عن النفقة في سبيل الله فنـزلت: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ )
وقال الحسن البصري: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قال: هو البخل.
وقال سِمَاك بن حرب، عن النعمان بن بشير في قوله: ( وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) أن يذنب الرجل الذنب، فيقول: لا يغفر
لي، فأنـزل الله: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) رواه ابن مَرْدويه.
وقال ابن أبي حاتم: ورُويَ عن عَبيدَة السلماني، والحسن، وابن سيرين،
وأبي قلابة -نحو ذلك. يعني: نحوُ قول النعمان بن بشير: إنها في الرجل يذنب
الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي: يستكثر من
الذنوب فيهلك. ولهذا رَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: التهلكة: عذاب الله.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني
أبو صخر، عن القُرَظي: أنه كان يقول في هذه الآية: ( وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزود
الرجل. فكان أفضل زادًا من الآخر، أنفق البائس
من زاده، حتى لا يبقى من زاده شيء، أحب أن يواسي صاحبه، فأنـزل الله: (
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ) .
وقال ابن وهب أيضًا: أخبرني عبد الله بن عياش
عن زيد بن أسلم في قول الله: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وذلك أنّ رجالا كانوا يخرجون
في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير نفقة، فإما يُقْطَعُ
بهم، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا
بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي
. وقال لمن بيده فضل: ( أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
ومضمون الآية: الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القُرُبات ووجوه الطاعات، وخاصّة صرفَ الأموال في قتال الأعداء وبذلهَا فيما يَقْوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده. ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد، شرَعَ في بيان
المناسك، فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد
الشروع فيهما
؛ ولهذا قال بعده: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) أي: صُدِدْتم عن الوصول إلى
البيت ومنعتم من إتمامهما. ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج
والعمرة مُلْزِمٌ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان
للعلماء. وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا "الأحكام" مستقصى ولله الحمد والمنة.
وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن سَلَمة، عن علي: أنه قال
في هذه الآية: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) قال: أن
تُحْرِم من دُوَيرة أهلك.
وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس. وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما
أن تحرم من أهلك، لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهِلّ من الميقات ليس أن
تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت،
وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرج له، ولا تخرج لغيره.
وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال: بلغنا أنّ عمر قال في قول الله : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) [قال] : من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ .
وقال هُشَيْم عن ابن عون قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة فقيل له: العمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة، رحمهما الله.
وهذا القول فيه نظر؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر
أربع عُمَرٍ كلها في ذي القعدة: عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة
القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان،
وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشر، ولا اعتمر قَطّ
في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانئ "عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي" . وما ذاك إلا لأنها [كانت]
قد عزمت على الحج معه، عليه السلام، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب الطهر، كما هو
مبسوط في الحديث عند البخاري، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من خصائصها،
والله أعلم.
وقال السدي في قوله: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) أي: أقيموا الحج والعمرة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) يقول: من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حل.
وقال قتادة، عن زُرَارة، عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة، والعمرة
الطواف. وكذا روى الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة في قوله: ( وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) قال: هي [في] قراءة عبد الله: "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت" لا تُجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: "وأقيموا الحج
والعمرة إلى البيت" وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم، عن منصور، عن
إبراهيم أنه قرأ: "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت".
وقرأ الشعبي: "وأتموا الحج والعمرةُ لله" برفع العمرة، وقال: ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة، عن أنس وجماعة من الصحابة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح
أنه قال لأصحابه: "من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة" .
وقال في الصحيح أيضًا: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نـزول هذه الآية حديثًا
غريبًا فقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الهروي، حدثنا غسان
الهروي، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عطاء، عن صفوان بن أمية أنه قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال:
كيف تأمرنى يا رسول الله في عمرتي؟ قال: فأنـزل الله: ( وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"أين السائل عن العُمْرة؟ " فقال: ها أنا ذا. فقال له: "ألق عنك ثيابك، ثم
اغتسل، واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك"
هذا حديث غريب وسياق عجيب، والذي ورد في الصحيحين، عن يعلى بن أمية في قصة
الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: كيف ترى في
رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم جاءه الوحي، ثم رفع رأسه فقال: "أين السائل؟ " فقال: ها أنا ذا، فقال:
"أما الجبة فانـزعها، وأما الطيب الذي بك فاغسله، ثم ما كنت صانعًا في حجك
فاصنعه في عُمْرتك" . ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نـزول الآية ، وهو عن يعلى بن أمية، لا [عن] صفوان بن أمية، والله أعلم.
وقوله: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ذكروا
أنّ هذه الآية نـزلت في سنة ست، أيْ عام الحديبية، حين حال المشركون بين
رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت، وأنـزل الله في ذلك
سورةَ الفتح بكمالها، وأنـزل لهم رُخْصَةً: أن يذبحوا ما معهم من الهدي
وكان سبعين بدنة، وأن يَتَحَللوا من إحرامهم، فعند
ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا. فلم يفعلوا انتظارا
للنسخ حتى خرج فحلق رأسه، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه،
فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "رَحِم الله المُحَلِّقين". قالوا:
والمقصرين يا رسول الله؟ فقال في الثالثة: "والمقصرين"
. وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك، كُلُّ سبعة في بَدَنة، وكانوا ألفًا
وأربعمائة، وكان منـزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل: بل كانوا على طَرف
الحرم، فالله أعلم.
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو، فلا يتحلل إلا من حصره عَدُو، لا مرض ولا غيره؟ على قولين:
فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا
سفيان، عَنْ عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس،
وابن أبي نَجِيح [ومجاهد]
عن ابن عباس، أنه قال: لا حَصْرَ إلا حصرُ العدو، فأما من أصابه مرض أو
وجع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال الله تعالى: ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ )
فليس الأمن حصرًا.
قال: وروي عن ابن عمر، وطاوس، والزهري، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
والقول الثاني: أن الحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال -وهو
التَّوَهان عن الطريق أو نحو ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد،
حدثنا حَجَّاج الصوّافُ، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو
الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كُسِر أو عَرِج فقد حل، وعليه حجة أخرى".
قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق.
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير، به
. وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: من عرج أو كُسر أو مَرض -فذكر معناه.
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن الحجاج
بن أبي عثمان الصواف، به. ثم قال: وروي عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة،
وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل بن
حيان، أنهم قالوا: الإحصار من عدو، أو مرض، أو كسر.
وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه. وثبت في الصحيحين عن عائشة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب،
فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال: "حُجِّي واشترطي:
أنَّ مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني" . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله . فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث. وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث. قال البيهقي وغيره من الحفاظ: فقد صح، ولله الحمد.
وقوله: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال الإمام مالك، عن جعفر
بن محمد، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ ) شاة. وقال ابن عباس: الهَدْي من الأزواج الثمانية: من
الإبل والبقر والمعز والضأن.
وقال الثوري، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال: شاة. وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس،
وأبو العالية، ومحمد بن علي بن الحسين، وعبد الرحمن بن القاسم، والشعبي،
والنّخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم مثلَ ذلك، وهو
مذهب الأئمة الأربعة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة وابن عمر: أنهما كانا لا يريان ما
استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر.
قال: ورُوِي عن سالم، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير -نحوُ ذلك.
قلت: والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية
الحديبية، فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة، وإنما
ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس في
قوله: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال: بقدر يَسَارته .
وقال العوفي، عن ابن عباس: إن كان موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر،
وإلا فمن الغنم. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ ) قال: إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء.
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في
الإحصار: أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي: مهما تيسر مما يسمى
هديًا، والهَدْي من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما قاله
الحَبْر البحر
ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثَبتَ في الصحيحين
عن عائشة أمّ المؤمنين، رضي الله عنها، قالت: أهْدَى النبي صلى الله عليه
وسلم مَرة غنمًا .
وقوله: ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ ) معطوف على قوله: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ
) وليس معطوفًا على قوله: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ ) كما زعمه ابن جرير، رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا
وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز
الحلق ( حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ )
ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو من فعْل أحدهما
إن كان مُفْردًا أو متمتعًا، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت:
يا رسول الله، ما شأن الناس حَلّوا من العمرة، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك؟ فقال: "إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي، فلا أحلّ حتى أنحر" .
وقوله: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال البخاري: حدثنا
آدم، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني: سمعت عبد الله بن مَعْقل،
قال: فعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد -يعني مسجد الكوفة -فسألته عن
( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ) فقال: حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم
والقملُ يتناثر على وجهي. فقال: "ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا! أما
تجد شاة؟ " قلت: لا. قال: "صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين
نصف صاع من طعام، واحلق رأسك". فنـزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة .
وقال الإمام أحمدُ: حدثنا إسماعيلُ، حدثنا أيوب، عن مجاهد، عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرَة قال: أتى عَلَيّ النبي صلى الله
عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي -أو قال: حاجبي
-فقال: "يُؤْذيك هَوَامُّ رأسك؟ ". قلت: نعم. قال: "فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة". قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ .
وقال أحمد أيضا: حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر
عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وَفْرة، فجعلت الهوام تَسَاقَطُ على وجهي، فمر بي رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: "أيؤذيك هوام رأسك؟ " فأمره أن يحلق. قال:
ونـزلت هذه الآية: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) .
وكذا رواه عفان، عن شعبة، عن أبي بشر، وهو جعفر بن إياس، به. وعن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به . وعن شعبة، عن داود، عن الشعبي، عن كعب بن عُجْرَة، نحوه.
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة -فذكر نحوه .
وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري: أنه سمع كعب بن عُجْرَة يقول: فذبحت شاة. رواه ابن مَرْدُوَيه. وروي أيضًا من حديث عمر بن قيس، سندل -وهو ضعيف -عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والطعام فَرَق، بين ستة" .
وكذا رُوي عن علي، ومحمد بن كعب، وعكرمة وإبراهيم [النخعي] ومجاهد، وعطاء، والسدي، والربيع بن أنس.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا عبد الله بن وهب: أن مالك بن أنس حدثه
عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن
كعب ابن عُجْرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القَمْل
في رأسه، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: "صم
ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، مُدّين مدّين لكل إنسان، أو انسُك شاة،
أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك" .
وهكذا روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال: إذا كان "أو"
فأيه أخذتَ أجزأ عنك.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، والحسن، وحُميد الأعرج، وإبراهيم النخَعي، والضحاك، نحو ذلك.
قلت: وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يُخَيَّر
في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدّق بفَرق، وهو ثلاثة آصع، لكل
مسكين نصفُ صاع، وهو مُدّان، وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء، أيّ
ذلك فعل أجزأه. ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل: (
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ولما أمَرَ النبي
صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل، فالأفضل فقال:
انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام. فكلّ حسن في مقامه. ولله
الحمد والمنة.
وقال ابن جرير: حدّثنا أبو كُرَيْب، حدّثنا أبو بكر بن عياش قال: ذكر
الأعمشُ قال: سأل إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الآية: ( فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فأجابه يقول: يُحْكَم عليه طعام، فإن
كان عنده اشترى شاة، وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم، وجعل مكانها طعام
فتصدق، وإلا صام بكل نصف صاع يومًا، قال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر.
قال: لما قال لي سعيد بن جبير: من هذا؟ ما أظرفه! قال: قلت: هذا إبراهيم.
فقال: ما أظرفه! كان يجالسنا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت:
"يجالسنا" انتفض منها .
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن أبي عمران، حدثنا عبُيَد الله
بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله: ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ
أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال: إذا كان بالمُحْرِم أذى من رأسه، حَلَق
وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين،
كلّ مسكين مَكُّوكين: مكوكا من تمر، ومكوكا من بُر، والنسك شاة.
وقال قتادة، عن الحسن وعكرمة في قوله: ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قال: إطعام عشرة مساكين.
وهذان القولان من سعيد بن جبير، وعلقمة، والحسن، وعكرمة قولان غريبان
فيهما نظر؛ لأنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن عُجْرة بصيام ثلاثة أيام،
[لا عشرة و]
لا ستة، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دَلّ
عليه سياق القرآن. وأما هذا الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد، كما
هو نص القرآن. وعليه أجمع الفقهاء هناك، بخلاف هذا، والله أعلم.
وقال هُشَيم: أخبرنا ليث، عن طاوس: أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء. وكذا قال عطاء، ومجاهد، والحسن.
وقال هُشَيم: أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء: أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان بن عفان، ومعه علي والحسين بن علي، فارتحل عثمان. قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلت: أيها النؤوم . فاستيقظ، فإذا الحسين
بن علي. قال: فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به السُّقْيا قال: فأرسل إلى علي
ومعه أسماء بنت عميس. قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال: قال علي
للحسين: ما الذي تجد؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه. قال: فأمر به عَليّ
فَحَلَق رأسه، ثم دعا ببدنَةٍ فنحرها. فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه
أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح.
وقوله: ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي: إذا تمكنتم من أداء
المناسك، فمن كان منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم
بهما، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع
الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين، كما دلت
عليه الأحاديثُ الصحاح، فإن من الرُواة من يقولُ: تمتع رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وآخر يقول: قَرَن. ولا خلاف أنّه ساق الهدي .
وقال تعالى: ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة،
وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر.
وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه، وكن متمتعات. رواه أبو بكر بن مَرْدويه .
وفي هذا دليل على شرعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال: نـزلت آية المتعة
في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يُنـزل
قرآن يُحَرّمه، ولم يُنْهَ عنها، حتى مات. قال رجل بِرَأيه ما شاء
. قال البخاري: يقال: إنه عُمَر. وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به
أن عمر، رضي الله عنه، كان ينهى النا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على المواضيع القيمة بارك الله فيك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 27
رد: الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثامن والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى