الجزء التاسع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء التاسع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ (197)
اختلف أهل العربية في قوله: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) فقال بعضهم: [تقديره]
الحج حَجُّ أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل
من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحا، والقول بصحة الإحرام بالحج
في جميع السّنَةِ مذهبُ مالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن رَاهويه، وبه يقول إبراهيم النخَعي، والثوري، والليث بن سعد. واحْتَجّ لهم بقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] وبأنه أحد النسكين. فصح الإحرام به في جميع السَّنَةِ كالعمرة.
وذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره
فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عُمْرة؟ فيه قولان عنه.
والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس،
وجابر، وبه يقول عطاء، وطاوس، ومجاهد، رحمهم الله، والدليل عليه قوله
تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب
إليه النحاة، وهو أن: وقت الحج أشهر مَعْلُومات، فخصصه بها من بين سائر
شهور السنة، فدلّ على أنه لا يصح قبلها، كميقات الصلاة.
قال الشافعي، رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، أخبرني
عُمَر بن عَطَاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: لا ينبغي لأحد أن
يُحْرِم بالحج إلا في شهور
الحج، من أجل قول الله: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) وكذا رواه ابن
أبي حاتم، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي، عن حجاج بن محمد الأعور، عن
ابن جريج، به. ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من طريقين، عن حجاج بن أرطأة،
عن الحكم بن عُتَيبة عن مِقْسَم، عن ابن عباس: أنه قال: من السُّنَّة ألا يحرم [بالحج] إلا في أشهر الحج.
وقال ابن خزيمة في صحيحه: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
شعبة، عن الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس، قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر
الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج . وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: "من السنة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن، وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديث مرفوع، قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع
حدثنا الحسن بن المُثَنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير،
عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينبغي لأحد أن يحرم
بالحج إلا في أشهر الحج".
وإسناده لا بأس به. لكن
رواه الشافعي، والبيهقي من طُرق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع
جابر بن عبد الله يسأل: أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا .
وهذا الموقوف أصحّ وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذ مذهب صحابي، يتقوّى
بقول ابن عباس: "من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره". والله أعلم.
وقوله: ( أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) قال البخاري: قال ابن عمر: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة . وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غَرْزة
حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: (
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) قال: شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة .
إسناد صحيح، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه، عن الأصم، عن الحسن بن علي بن عفان، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر -فذكره وقال: على شرط الشيخين .
قلت: وهو مَرْويّ عن عُمَر، وعليّ، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير،
وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن
سيرين، ومكحول، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والربيع بن أنس، ومقاتل بن
حَيّان. وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وأبي يوسف، وأبي
ثَوْر، رحمهم الله. واختار هذا القول ابن جرير، قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب: "زرته العام، ورأيته اليوم". وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم؛ قال الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203] وإنما تعجل في يوم ونصف.
وقال الإمام مالك بن أنس [والشافعي في القديم] :هي :شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله. وهو رواية عَن ابن عُمَر أيضًا؛ قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب،
أخبرني ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت عبد الله بن عُمَر يسمي شُهُور
الحج؟ قال: نعم، كان عبد الله يسمي: "شوال وذو القعدة وذو الحجة". قال
ابن جريج: وقال ذلك ابن شهاب، وعطاء، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى
الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج. وقد حُكي هذا أيضًا عن
طاوس، ومجاهد، وعروة بن الزبير، والربيع بن أنس، وقتادة. وجاء فيه حديث
مرفوع، ولكنه موضوع، رواه الحافظ بن مَرْدويه، من طريق حُصَين بن مخارق
-وهو متهم بالوضع -عن يونس بن عبيد، عن شهر بن حَوْشَب، عن أبي أمامة، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج أشهر معلومات: شوال وذو القعدة
وذو الحجة" .
وهذا كما رأيت لا يَصح رفعه، والله أعلم.
وفائدة مذهب مالك أنَّه إلى آخر ذي الحجة، بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش،
عن قيس بن مُسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله: الحج أشهر معلومات،
ليس فيها عمرة. وهذا إسناد صحيح.
قال ابن جرير: إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو
الحجة أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج
قد انقضى بانقضاء أيام منى، كما قال محمد بن سيرين: ما أحد مِن أهل العلم
يَشُكّ في أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحج.
وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد، عن العمرة في أشهر الحج، فقال: كانوا لا يرونها تامة.
قلت: وقد ثبت عن عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم.
وقوله: ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) أي: أوجب بإحرامه حَجًّـا.
فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه. قال ابن جرير: أجمعوا على أن
المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب والإلزام.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ )
يقول: من أحرم بحَجّ أو عمرة. وقال عطاء: الفرضُ الإحرامُ. وكذا قال
إبراهيم، والضحاك، وغيرهم.
وقال ابن جُرَيج: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قال (
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض.
قال ابن أبي حاتم: ورَوُي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد،
وعطاء، وإبراهيم النخَعي، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وسفيان الثوري،
والزهري، ومقاتل بن حَيّان -نحو ذلك.
وقال طاوس، والقاسمُ بن محمد: هو التلبية.
وقوله: ( فَلا رَفَثَ ) أي: من أحرم بالحج أو العمرة، فليجتنب الرفث، وهو الجماع، كما قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187]، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذا التكلم به بحضرة النساء.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس: أن نافعا
أخبره: أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفثُ إتيانُ النساء، والتكلم بذلك:
الرجالُ والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
قال ابن وهب: وأخبرني أبو صخر، عن محمد بن كَعْب، مثله.
قال ابن جرير: وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن
قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرَّياحي، عن ابن عباس: أنه كان يحدو -وهو
محرم -وهو يقول:
قال أبو العالية فقلت: تَكَلّمُ بالرفث وأنت محرم؟! قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء .
ورواه الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، فذكره.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن أبي عدي، عن عَون
حدثني زياد بن حصين، حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصْعَدْتُ مع ابن عباس
في الحاجِّ، وكنت خليلا له، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس، فأخذ
بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[هو] يرتجز، ويقول:
قال: فقلت: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء .
وقال عبد الله بن طاوس، عن أبيه: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: (
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ) قال: الرفث التعريض بذكر الجماع، وهي
العَرَابَة في كلام العرب، وهو أدنى الرفث.
وقال عطاء بن أبي رباح: الرفثُ: الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا
قال عمرو بن دينار. وقال عطاء: كانوا يكرهون العَرَابة، وهو التعريض بذكر
الجماع وهو مُحْرِم.
وقال طاوس: هو أن تقُول للمرأة: إذا حَلَلْت أصبتُك. وكذا قال أبو العالية.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الرفث: غِشْيان النساء والقُبَل والغَمْز، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش من الكلام، ونحو ذلك.
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر: الرفثُ: غشيانُ النساء. وكذا قال سعيدُ
بن جُبَير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم، وأبو العالية، وعطاء، ومكحول، وعطاء
بن يسار، وعطية، وإبراهيم النَّخَعي، والربيع، والزهري، والسدي، ومالك بن
أنس، ومقاتل بن حَيَّان، وعبد الكريم بن مالك، والحسن، وقتادة والضحاك،
وغيرهم.
وقوله: ( وَلا فُسُوقَ ) قال مِقْسَم وغير واحد، عن ابن عباس: هي
المعاصي. وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن
كعب، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول، وابن أبان،
والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان.
وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر
قال: الفسوق: ما أصيبَ من معاصي الله به صَيْد أو غيره. وكذا روى ابن وهب،
عن يونس، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله
في الحرم.
وقال آخرون: الفسوقُ هاهنا السباب، قاله ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومجاهد، والسدي، وإبراهيم والحسن. وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
ولهذا رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم، رحمه الله، من حديث سفيان الثوري عن يزيد عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" . وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا: الذبح للأصنام. قال الله تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145].
وقال الضحاك: الفسوق: التنابز بالألقاب.
والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، معهم الصواب، كما نهى
تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه، إلا
أنه في الأشهر الحرم آكَدُ؛ ولهذا قال: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36]، وقال في الحرم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] .
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام، من
قتل الصيد، وحَلْق الشعر، وقَلْم الأظفار، ونحو ذلك، كما تقدم عن ابن عمر.
وما ذكرناه أولى، والله أعلم. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم، عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم
يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" .
وقوله: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) فيه قولان:
أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه، وقد بينه الله أتَمّ بيان
ووضحه أكمل إيضاح. كما قال وَكِيع، عن العلاء بن عبد الكريم: سمعت مجاهدًا
يقول: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قد بين الله أشهر الحَج، فليس فيه
جدال بين الناس.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: لا
شهر يُنْسَأ، ولا جدال في الحج، قد تَبَيَّن، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون
يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به.
وقال الثوري، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن مجاهد في قوله: ( وَلا
جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: قد استقام الحج، فلا جدَال فيه. وكذا قال
السدي.
وقال هُشَيم: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: المراء في الحج.
وقال عبد الله بن وهب: قال مالك: قال الله تعالى: ( وَلا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ ) فالجدال في الحج -والله أعلم -أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر
الحرام بالمزدلفة، وكانت العرب، وغيرهم يقفون بعَرفَة، وكانوا يتجادلون،
يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول هؤلاء: نحن أصوب. فهذا فيما نرى، والله أعلم.
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يقفُون مَوَاقف
مختلفة يتجادلون، كُلّهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم
نَبَّيه بالمناسك.
وقال ابن وهب، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب، قال: كانت قريش إذا اجتمعت
بمنى قال هؤلاء: حجُّنا أتّم من حجكم. وقال هؤلاء: حجّنا أتم من حَجكم.
وقال حماد بن سلمة عن جبر بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجِدَال في الحج أن يقول بعضهم: الحجّ غدًا. ويقول بعضهم: اليوم.
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه الأقوال، وهو قطع التنازع في مناسك الحج.
والقول الثاني : أن المراد بالجدال هاهنا: المخاصمة.
قال ابن جرير: حدثنا عبد الحميد بن بيان
حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -هو ابن
مسعود -في قوله: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: أنْ تماري صاحبك حتى
تغضبه.
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق، عن التميمي: سألت ابن عباس عن "الجدال"
قال: المراء، تماري صاحبك حتى تغضبه. وكذا روى مِقْسَم والضحاك، عن ابن
عباس. وكذا قال أبو العالية، وعطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر
بن زيد، وعطاء الخراساني، ومكحول، وعمرو بن دينار، والسدي، والضحاك،
والربيع بن أنس، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن يسار، والحسن، وقتادة،
والزهري، ومقاتل بن حيّان.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال
الجدال: المراء والملاحاة، حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك.
وقال إبراهيم النخعي: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: كانوا يكرهون
الجدال. وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب
والمنازعة. وكذا روى ابن وهب، عن يونس، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول:
الجدال في الحج: السباب، والمراء، والخصومات، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن
ابن الزبير، والحسن، وإبراهيم، وطاوس، ومحمد بن كعب، قالوا: الجدال المراء.
وقال عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن بشر
عن عكرمة: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) والجدال الغضب، أن تُغْضب عليك
مسلمًا، إلا أن تستعتب مملوكًا فتُغْضبه من غير أن تضربه، فلا بأس عليك، إن
شاء الله.
قلت: ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا. والدليل على ذلك ما رواه الإمام
أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن
عبد الله بن الزبير، عن أبيه: أنّ أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حُجّاجًا، حتى إذا كنا بالعَرْج نـزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فجلست عائشةُ إلى جنب رسول الله، وجلستُ إلى جَنْب
أبي. وكانت
زِمَالة أبي بكر وزِمَالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي
بكر، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه، فأطْلَعَ وليس معه بعيره،
فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللتُه البارحة. فقال أبو بكر: بعير واحد تُضلَّه؟
فطفق يضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: "انظروا إلى هذا
المُحْرِم ما يصنع؟ ".
وهكذا أخرجه أبو داود، وابن ماجه، من حديث ابن إسحاق
. ومن هذا الحديث حكى بعضُهم عن بعض السلف أنه قال: من تمام الحج ضَرْبُ
الجمال. ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر: "انظروا
إلى هذا المُحْرِم ما يصنع؟ " -كهيئة الإنكار اللطيف -أن الأولى تركُ ذلك،
والله أعلم.
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قضَى
نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقوله: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) لما نهاهم
عن إتيان القبيح قولا وفعْلا حَثَّهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به،
وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة.
وقوله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) قال العوفي، عن ابن عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزْودة، يقولون: نَحُجُّ بيت الله ولا يطعمنا.. فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا
سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة: قال: إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد،
فأنـزل الله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو -وهو الفَلاس -عن ابن عيينة.
قال ابن أبي حاتم: وقد روى هذا الحديث ورَقْاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: وما يرويه عن ابن عيينة أصح.
قلت: قد رواه النسائي، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس [قال] كان نَاس يحجون بغير زاد، فأنـزل الله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) . وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري، عن يحيى بن بشر، عن شَبَابة
. وأخرجه أبو داود، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي، ومحمد بن عبد
الله المُخَرَّمي، عن شبابة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن
عباس، قال: كان أهل اليمن يَحُجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون . فأنـزل الله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره، عن شَبابة [به] . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة، به.
وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث عَمْرو بن عبد الغفار [عن محمد بن سوقة] عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا -ومعهم أزوادهم -رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر
؛ فأنـزل الله تعالى: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
) فَنُهوا عن ذلك، وأمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق. وكذا قال
ابن الزبير، وأبو العالية، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، وسالم بن عبد
الله، وعطاء الخراساني، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
وقال سعيد بن جبير: فتزودوا الدقيق والسويق والكعك وقال وكيع [بن الجراح] في تفسيره: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة
عن سعيد بن جبير: ( وَتَزَوَّدُوا ) قال: الخشكنانج والسويق. وقال وكيع
أيضًا: حدثنا إبراهيم المكي، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عمر،
قال: إن من كَرَم الرجل طيب زاده في السفر. وزاد فيه حماد بن سلمة، عن أبي
ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجَوْزَة .
وقوله: ( فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) لما أمرهم بالزاد للسفر
في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، كما قال: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26]. لما ذكر اللباس الحسي نَبّه مرشدًا إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع، والطاعة والتقوى، وذكر أنه خير من هذا، وأنفع.
قال عطاء الخراساني في قوله: ( فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) يعني: زاد الآخرة.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبدان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا مروان بن معاوية، عن إسماعيل عن قيس، عن جرير بن عبد الله، عن النبي، صلى الله عليه وسلم [قال ] : "من يتزود في الدنيا يَنْفَعه في الآخرة" .
وقال مقاتل بن حيان: لما نـزلت هذه الآية: ( وَتَزَوَّدُوا ) قام رجل من
فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله، ما نجد زادًا نتزوده. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم
التقوى". رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ ) يقول: واتقوا عقابي،
ونكالي، وعذابي، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام.
لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قال البخاري: حدثنا محمد، أخبرني ابن عيينة، عن عَمْرو، عن ابن عباس،
قال: كانت عكاظ ومَجَنَّة ، وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثَّموا أن
يتجروا في المواسم فنـزلت: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) في مواسم الحج .
وهكذا رواه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغير واحد، عن سفيان بن عيينة، به .
ولبعضهم: فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنـزل الله هذه الآية. وكذلك رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظُ ومَجَنَّةُ وذو المجاز، فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نـزلت هذه الآية.
وروى أبو داود، وغيره، من حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن
عباس، قال: كانوا يَتَّقون البيوع والتجارة في الموسم، والحج، يقولون: أيام
ذكر، فأنـزل الله: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا
مِنْ رَبِّكُمْ ) .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حجاج، عن
عطاء، عن ابن عباس: أنه قال: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في
مواسم الحج".
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. وهكذا رَوَى العوفي، عن ابن عباس.
وقال وَكِيع: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان
يقرأ: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". [وقال عبد
الرزاق: عن أبيه عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت ابن الزبير يقول:
"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" ] .
ورواه عبد بن حميد، عن محمد بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمعت ابن الزبير يقرأ -فذكر مثله سواء . وهكذا فسرها مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا شبابة بن سَوّار، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة
قال: سمعت ابن عمر -وسُئِل عن الرجل يحجُّ ومعه تجارة -فقرأ ابن عمر: (
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ )
وهذا موقوف، وهو قوي جيد . وقد روي مرفوعًا قال أحمد: حدثنا [أحمد بن]
أسباط، حدثنا الحسن بن عَمْرو الفُقَيمي، عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت
لابن عمر: إنا نُكْرِي، فهل لنا من حج، قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون
المُعَرَّفَ، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا
: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي
سألتني فلم يجبه، حتى نـزل عليه جبريل بهذه الآية: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) فدعاه النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: "أنتم حجاج" .
وقال
عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله
قال: جاء رَجُل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم
نُكْرِي، ويزعمون أنه ليس لنا حج. قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون
كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى. قال: فأنت حاج
. ثم قال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عما سألت
عنه، فنـزلت هذه الآية: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) .
ورواه عَبْد [بن حميد في تفسيره] عن عبد الرزاق به. وهكذا روى هذا الحديث ابن حذيفة، عن الثوري، مرفوعًا. وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا .
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عباد بن العوام، عن العلاء بن
المسيب، عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نُكْرِي في هذا
الوجه إلى مكة، وإن أناساً يزعمون أنّه لا حج لنا، فهل ترى لنا حجاً؟ قال:
ألستم تحرمون، وتطوفون بالبيت، وتقفون المناسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فأنتم حجاج. ثم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن [مثل]
الذي سألت، فلم يَدْر ما يعود عليه -أو قال: فلم يَرُدّ عليه شيئا -حتى
نـزلت: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ
) فدعا الرجل، فتلاها عليه، وقال: "أنتم حجاج" .
وكذا رواه مسعود بن سعد، وعبد الواحد بن زياد، وشَريك القاضي، عن العلاء بن المسيب به مرفوعاً.
وقال ابن جرير: حدثني طليق
بن محمد الواسطي، حدثنا أسباط -هو ابن محمد -أخبرنا الحسن بن عَمْرو-هو
الفقَيْمِي -عن أبي أمامة التيمي. قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نُكْرِي، فهل
لنا من حج؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المُعَرّف، وترمون الجمار،
وتحلقون رؤوسكم؟ قلنا: بلى. قال
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر
ما يقول له، حتى نـزل جبريل، عليه السلام، بهذه الآية: ( لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) إلى آخر
الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم حجاج" .
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا مَنْدل، عن
عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر، قال: قلت: يا أمير المؤمنين،
كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
وقوله تعالى: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )
إنما صَرَفَ "عرفات" وإن كان علما على مؤنث؛ لأنه في الأصل جَمْع
كمسلمات ومؤمنات، سمي به بقعة معينة، فروعي فيه الأصل، فصرف. اختاره ابن
جرير.
وعرفة: موضع الموقف في الحج، وهي عمدة أفعال الحج؛ ولهذا روى الإمام أحمدُ، وأهل السنن، بإسناد صحيح، عن الثوري، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يَعْمر الديَلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفات -ثلاثا -فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه" .
ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلُوع الفجر الثاني من يوم النحر؛
لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، بعد أن صلى الظهر إلى
أن غربت الشمس، وقال: "لتأخُذوا عني مناسككم" .
وقال في هذا الحديث: "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا
مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت
الوقوف من أول يوم عَرَفة. واحتجوا بحديث الشعبي، عن عروة بن مُضَرِّس بن
حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جَبَليْ طيئ، أكللت
راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حَج؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَهِد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى
ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حَجّه، وقضى تَفَثَه".
رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي .
ثم قيل: إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج قال:
قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: بعث الله جبريل، عليه السلام، إلى
إبراهيم، عليه السلام، فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، فلذلك سميت عَرَفة.
وقال ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: إنما سميت
عرفة، أنّ جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك، فيقول: عَرَفْتُ عَرَفْتُ.
فسمي "عرفات". وروي نحوه عن ابن عباس، وابن عمر وأبي مِجْلز، فالله أعلم.
وتسمى عرفات المشعر الحلال، والمشعر الأقصى، وإلال -على وزن هلال -ويقال للجبل في وسطها: جَبَلُ الرحمة. قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن الحسن بن عَنْبَسَة، حدثنا أبو عامر، عن زمعة -هو ابن صالح -عن سلمة -هو ابن وَهْرَام
-عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت
الشمس على رؤوس الجبال، كأنها العمائم على رؤوس الرجال، دفعوا، فأخر رسول
الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس.
ورواه ابن مَرْدُويه، من حديث زمعة بن صالح، وزاد: ثم وقف بالمزدلفة، وصلى الفجر بغَلَس، حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر، دفع. وهذا حَسَنُ الإسناد.
وقال ابن جُرَيْج، عن محمد بن قيس، عن المسْوَر بن مَخْرَمة قال:
خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعرفات، فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال: "أما بعد -وكان إذا خطب خطبة قال: أما بعد -فإن هذا اليوم الحجَ
الأكبر، ألا وإن أهلَ الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن
تغيب الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال، كأنها عمائم الرجال في وجوهها،
وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع
الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا
ندفع قبل أن تطلع الشمس، مُخَالفاً هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك".
هكذا رواه ابن مَرْدويَه وهذا لفظه، والحاكم في مستدركه، كلاهما من حديث
عبد الرحمن بن المبارك العيشي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن ابن جريج، به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. قال: وقد صح وثَبَت بما
ذكرناه سماع المِسْوَر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما يتوهمه
رعاع أصحابنا أنّه ممن له رؤية بلا سماع .
وقال وَكِيع، عن شعبة، عن إسماعيل بن رجاء [الزبيدي] عن المعرور بن سويد، قال: رأيت عمر، رضي الله عنه، حين دفع من عرفة، كأني أنظر إليه رَجُلا أصلع على بعير له، يُوضِع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع.
وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل، الذي في صحيح مسلم، قال فيه: فلم يزل واقفا -يعني بعرفة -حتى غربت الشمس، وذهبت
الصُّفْرَة قليلا حتى غاب القُرْصُ، وأردف أسامة خلفه، ودفعَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ للقصواء الزّمام، حتى إنّ رأسها ليصيب
مَوْرك رحله، ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس، السكينة السكينة". كلما أتى
جبلا من الجبال أرْخَى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها
المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئا، ثم اضطجع
حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيَّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب
القصواء حتى أتى المشعرَ الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهَلَّله
ووحَّده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلُع الشمس وفي الصحيح عن أسامة بن زيد، أنه سُئِل كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دَفَعَ؟ قال: "كان يسير العَنَق، فإذا وجد فَجْوَة نَص" . والعنق: هو انبساط السير، والنص، فوقه.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي، فيما كَتَب إليّ،
عن أبيه أو عمه، عن سفيان بن عيينة قوله: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) وهي
الصلاتين جميعاً.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن عمرو بن ميمون: سألت عبد الله بن عَمْرو
عن المشعر الحرام، فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين
السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سالم قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها .
وقال هُشَيم، عن حجاج عن نافع، عن ابن عمر: أنه سئل عن قوله: ( فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) قال: فقال: هو الجبل وما حوله.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: رآهم ابن
عُمَر يزدحمون على قُزَحَ، فقال: عَلام يزدحم هؤلاء؟ كل ما هاهنا مشعر .
وروي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفَضْت من مَأزمي عرفة فذلك إلى مُحَسِّر. قال: وليس المأزمان مَأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مُفَاضَاهما . قال: فقِف بينهما إن شئت، قال: وأحب أن تَقفَ دون قُزَح، هَلُمّ إلينا من أجل طريق الناس.
قلت: والمشاعر هي المعالم الظاهرة، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام؛
لأنها داخل الحرم، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به، كما ذهب إليه
طائفة من السلف، وبعض أصحاب الشافعي، منهم: القفال، وابن خُزَيمة، لحديث
عُرْوة بن مُضَرَس؟ أو واجب، كما هو أحد قولي الشافعي يجْبَر بدم؟ أو مستحب
لا يجب بتركه شيء كما هو القول الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء، لبسطها موضع آخر غير هذا، والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَفَةُ كلها موقف، وارفعوا عن عُرَنة ، وجَمْع كلها مَوقف إلا مُحَسرًا" .
هذا حديث مرسل. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، حدثني سليمان بن موسى، عن جبير بن مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "كل عرفات موقف، وارفعوا عن عُرَنة . وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن مُحَسِّر، وكل فجاج مكة مَنْحر، وكل أيام التشريق ذبح" .
وهذا أيضا منقطع، فإن سليمان بن موسى هذا -وهو الأشدق -لم يدرك جُبَير
بن مطعم. ولكن رواه الوليد بن مسلم، وسويد بن عبد العزيز، عن سعيد بن عبد
العزيز، عن سليمان، فقال الوليد: عن ابن لجبير بن مطعم، عن أبيه. وقال سويد: عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، والله أعلم.
وقوله: ( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ ) تنبيه لهم على ما أنْعَم به عليهم، من الهداية
والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج، على ما كان عليه إبراهيم الخليل، عليه
السلام؛ ولهذا قال: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ )
قيل: من قبل هذا الهدي، وقبل القرآن، وقبل الرسول، والكل متقارب، ومتلازم،
وصحيح.
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
"ثم" هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف
بعرفات أن يَدْفَع إلى المزدلفة، ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن
يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها
إلا قريشًا، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم، فيقفون في طرف الحرم عند
أدنى الحِل ، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقُطَّان بيته.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن حازم، حدثنا هشام،
عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا
يُسَمّون الحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَأتَي عرفات، ثم يقف بها ثم يُفيض منها، فذلك قوله: ( مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) .
وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، وغيرهم. واختاره ابن جرير، وحكى عليه الإجماع، رحمهم الله.
وقال الإمام أحمد، حدثنا سُفْيان، عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن
أبيه، قال: أضللتُ بعيرًا لي بعرفة، فذهبت أطلبه، فإذا النبي صلى الله
عليه وسلم واقف، قلت: إن هذا من الحَمْس ما شأنه هاهنا؟
أخرجاه في الصحيحين
. ثم روى البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن كُرَيب، عن ابن عباس ما يقتضي
أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار
. فالله أعلم. وحكاه ابنُ جرير، عن الضحاك بن مزاحم فقط. قال: والمراد
بالناس: إبراهيم، عليه السلام. وفي رواية عنه: الإمام. قال ابن جرير
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ (197)
اختلف أهل العربية في قوله: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) فقال بعضهم: [تقديره]
الحج حَجُّ أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل
من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحا، والقول بصحة الإحرام بالحج
في جميع السّنَةِ مذهبُ مالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن رَاهويه، وبه يقول إبراهيم النخَعي، والثوري، والليث بن سعد. واحْتَجّ لهم بقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] وبأنه أحد النسكين. فصح الإحرام به في جميع السَّنَةِ كالعمرة.
وذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره
فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عُمْرة؟ فيه قولان عنه.
والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس،
وجابر، وبه يقول عطاء، وطاوس، ومجاهد، رحمهم الله، والدليل عليه قوله
تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب
إليه النحاة، وهو أن: وقت الحج أشهر مَعْلُومات، فخصصه بها من بين سائر
شهور السنة، فدلّ على أنه لا يصح قبلها، كميقات الصلاة.
قال الشافعي، رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، أخبرني
عُمَر بن عَطَاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: لا ينبغي لأحد أن
يُحْرِم بالحج إلا في شهور
الحج، من أجل قول الله: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) وكذا رواه ابن
أبي حاتم، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي، عن حجاج بن محمد الأعور، عن
ابن جريج، به. ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من طريقين، عن حجاج بن أرطأة،
عن الحكم بن عُتَيبة عن مِقْسَم، عن ابن عباس: أنه قال: من السُّنَّة ألا يحرم [بالحج] إلا في أشهر الحج.
وقال ابن خزيمة في صحيحه: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن
شعبة، عن الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس، قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر
الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج . وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: "من السنة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن، وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديث مرفوع، قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع
حدثنا الحسن بن المُثَنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير،
عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينبغي لأحد أن يحرم
بالحج إلا في أشهر الحج".
وإسناده لا بأس به. لكن
رواه الشافعي، والبيهقي من طُرق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع
جابر بن عبد الله يسأل: أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا .
وهذا الموقوف أصحّ وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذ مذهب صحابي، يتقوّى
بقول ابن عباس: "من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره". والله أعلم.
وقوله: ( أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) قال البخاري: قال ابن عمر: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة . وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غَرْزة
حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: (
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) قال: شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة .
إسناد صحيح، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه، عن الأصم، عن الحسن بن علي بن عفان، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر -فذكره وقال: على شرط الشيخين .
قلت: وهو مَرْويّ عن عُمَر، وعليّ، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير،
وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن
سيرين، ومكحول، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والربيع بن أنس، ومقاتل بن
حَيّان. وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وأبي يوسف، وأبي
ثَوْر، رحمهم الله. واختار هذا القول ابن جرير، قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب: "زرته العام، ورأيته اليوم". وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم؛ قال الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203] وإنما تعجل في يوم ونصف.
وقال الإمام مالك بن أنس [والشافعي في القديم] :هي :شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله. وهو رواية عَن ابن عُمَر أيضًا؛ قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب،
أخبرني ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت عبد الله بن عُمَر يسمي شُهُور
الحج؟ قال: نعم، كان عبد الله يسمي: "شوال وذو القعدة وذو الحجة". قال
ابن جريج: وقال ذلك ابن شهاب، وعطاء، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى
الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج. وقد حُكي هذا أيضًا عن
طاوس، ومجاهد، وعروة بن الزبير، والربيع بن أنس، وقتادة. وجاء فيه حديث
مرفوع، ولكنه موضوع، رواه الحافظ بن مَرْدويه، من طريق حُصَين بن مخارق
-وهو متهم بالوضع -عن يونس بن عبيد، عن شهر بن حَوْشَب، عن أبي أمامة، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج أشهر معلومات: شوال وذو القعدة
وذو الحجة" .
وهذا كما رأيت لا يَصح رفعه، والله أعلم.
وفائدة مذهب مالك أنَّه إلى آخر ذي الحجة، بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش،
عن قيس بن مُسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله: الحج أشهر معلومات،
ليس فيها عمرة. وهذا إسناد صحيح.
قال ابن جرير: إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو
الحجة أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج
قد انقضى بانقضاء أيام منى، كما قال محمد بن سيرين: ما أحد مِن أهل العلم
يَشُكّ في أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحج.
وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد، عن العمرة في أشهر الحج، فقال: كانوا لا يرونها تامة.
قلت: وقد ثبت عن عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم.
وقوله: ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) أي: أوجب بإحرامه حَجًّـا.
فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه. قال ابن جرير: أجمعوا على أن
المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب والإلزام.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ )
يقول: من أحرم بحَجّ أو عمرة. وقال عطاء: الفرضُ الإحرامُ. وكذا قال
إبراهيم، والضحاك، وغيرهم.
وقال ابن جُرَيج: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قال (
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض.
قال ابن أبي حاتم: ورَوُي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد،
وعطاء، وإبراهيم النخَعي، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وسفيان الثوري،
والزهري، ومقاتل بن حَيّان -نحو ذلك.
وقال طاوس، والقاسمُ بن محمد: هو التلبية.
وقوله: ( فَلا رَفَثَ ) أي: من أحرم بالحج أو العمرة، فليجتنب الرفث، وهو الجماع، كما قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187]، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذا التكلم به بحضرة النساء.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس: أن نافعا
أخبره: أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفثُ إتيانُ النساء، والتكلم بذلك:
الرجالُ والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
قال ابن وهب: وأخبرني أبو صخر، عن محمد بن كَعْب، مثله.
قال ابن جرير: وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن
قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرَّياحي، عن ابن عباس: أنه كان يحدو -وهو
محرم -وهو يقول:
وَهُـــنَّ يَمْشــينَ بنَــا هَمِيسَــا | إنْ يَصْــدُق الطَّــيْرُ نَنَـلْ لَميسَـا |
ورواه الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، فذكره.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن أبي عدي، عن عَون
حدثني زياد بن حصين، حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصْعَدْتُ مع ابن عباس
في الحاجِّ، وكنت خليلا له، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس، فأخذ
بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[هو] يرتجز، ويقول:
وَهُـــنَّ يَمْشِــينَ بنَــا هَمِيسَــا | إنْ يَصْــدُق الطَّــيْرُ نَنَـلْ لَميسَـا |
وقال عبد الله بن طاوس، عن أبيه: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: (
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ) قال: الرفث التعريض بذكر الجماع، وهي
العَرَابَة في كلام العرب، وهو أدنى الرفث.
وقال عطاء بن أبي رباح: الرفثُ: الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا
قال عمرو بن دينار. وقال عطاء: كانوا يكرهون العَرَابة، وهو التعريض بذكر
الجماع وهو مُحْرِم.
وقال طاوس: هو أن تقُول للمرأة: إذا حَلَلْت أصبتُك. وكذا قال أبو العالية.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الرفث: غِشْيان النساء والقُبَل والغَمْز، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش من الكلام، ونحو ذلك.
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر: الرفثُ: غشيانُ النساء. وكذا قال سعيدُ
بن جُبَير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم، وأبو العالية، وعطاء، ومكحول، وعطاء
بن يسار، وعطية، وإبراهيم النَّخَعي، والربيع، والزهري، والسدي، ومالك بن
أنس، ومقاتل بن حَيَّان، وعبد الكريم بن مالك، والحسن، وقتادة والضحاك،
وغيرهم.
وقوله: ( وَلا فُسُوقَ ) قال مِقْسَم وغير واحد، عن ابن عباس: هي
المعاصي. وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن
كعب، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول، وابن أبان،
والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان.
وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر
قال: الفسوق: ما أصيبَ من معاصي الله به صَيْد أو غيره. وكذا روى ابن وهب،
عن يونس، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله
في الحرم.
وقال آخرون: الفسوقُ هاهنا السباب، قاله ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومجاهد، والسدي، وإبراهيم والحسن. وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
ولهذا رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم، رحمه الله، من حديث سفيان الثوري عن يزيد عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" . وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا: الذبح للأصنام. قال الله تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145].
وقال الضحاك: الفسوق: التنابز بالألقاب.
والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، معهم الصواب، كما نهى
تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه، إلا
أنه في الأشهر الحرم آكَدُ؛ ولهذا قال: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36]، وقال في الحرم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] .
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام، من
قتل الصيد، وحَلْق الشعر، وقَلْم الأظفار، ونحو ذلك، كما تقدم عن ابن عمر.
وما ذكرناه أولى، والله أعلم. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم، عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم
يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" .
وقوله: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) فيه قولان:
أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه، وقد بينه الله أتَمّ بيان
ووضحه أكمل إيضاح. كما قال وَكِيع، عن العلاء بن عبد الكريم: سمعت مجاهدًا
يقول: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قد بين الله أشهر الحَج، فليس فيه
جدال بين الناس.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: لا
شهر يُنْسَأ، ولا جدال في الحج، قد تَبَيَّن، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون
يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به.
وقال الثوري، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن مجاهد في قوله: ( وَلا
جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: قد استقام الحج، فلا جدَال فيه. وكذا قال
السدي.
وقال هُشَيم: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: المراء في الحج.
وقال عبد الله بن وهب: قال مالك: قال الله تعالى: ( وَلا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ ) فالجدال في الحج -والله أعلم -أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر
الحرام بالمزدلفة، وكانت العرب، وغيرهم يقفون بعَرفَة، وكانوا يتجادلون،
يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول هؤلاء: نحن أصوب. فهذا فيما نرى، والله أعلم.
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يقفُون مَوَاقف
مختلفة يتجادلون، كُلّهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم
نَبَّيه بالمناسك.
وقال ابن وهب، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب، قال: كانت قريش إذا اجتمعت
بمنى قال هؤلاء: حجُّنا أتّم من حجكم. وقال هؤلاء: حجّنا أتم من حَجكم.
وقال حماد بن سلمة عن جبر بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجِدَال في الحج أن يقول بعضهم: الحجّ غدًا. ويقول بعضهم: اليوم.
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه الأقوال، وهو قطع التنازع في مناسك الحج.
والقول الثاني : أن المراد بالجدال هاهنا: المخاصمة.
قال ابن جرير: حدثنا عبد الحميد بن بيان
حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -هو ابن
مسعود -في قوله: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: أنْ تماري صاحبك حتى
تغضبه.
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق، عن التميمي: سألت ابن عباس عن "الجدال"
قال: المراء، تماري صاحبك حتى تغضبه. وكذا روى مِقْسَم والضحاك، عن ابن
عباس. وكذا قال أبو العالية، وعطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر
بن زيد، وعطاء الخراساني، ومكحول، وعمرو بن دينار، والسدي، والضحاك،
والربيع بن أنس، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن يسار، والحسن، وقتادة،
والزهري، ومقاتل بن حيّان.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال
الجدال: المراء والملاحاة، حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك.
وقال إبراهيم النخعي: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) قال: كانوا يكرهون
الجدال. وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب
والمنازعة. وكذا روى ابن وهب، عن يونس، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول:
الجدال في الحج: السباب، والمراء، والخصومات، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن
ابن الزبير، والحسن، وإبراهيم، وطاوس، ومحمد بن كعب، قالوا: الجدال المراء.
وقال عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن بشر
عن عكرمة: ( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) والجدال الغضب، أن تُغْضب عليك
مسلمًا، إلا أن تستعتب مملوكًا فتُغْضبه من غير أن تضربه، فلا بأس عليك، إن
شاء الله.
قلت: ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا. والدليل على ذلك ما رواه الإمام
أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن
عبد الله بن الزبير، عن أبيه: أنّ أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حُجّاجًا، حتى إذا كنا بالعَرْج نـزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فجلست عائشةُ إلى جنب رسول الله، وجلستُ إلى جَنْب
أبي. وكانت
زِمَالة أبي بكر وزِمَالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي
بكر، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه، فأطْلَعَ وليس معه بعيره،
فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللتُه البارحة. فقال أبو بكر: بعير واحد تُضلَّه؟
فطفق يضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: "انظروا إلى هذا
المُحْرِم ما يصنع؟ ".
وهكذا أخرجه أبو داود، وابن ماجه، من حديث ابن إسحاق
. ومن هذا الحديث حكى بعضُهم عن بعض السلف أنه قال: من تمام الحج ضَرْبُ
الجمال. ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر: "انظروا
إلى هذا المُحْرِم ما يصنع؟ " -كهيئة الإنكار اللطيف -أن الأولى تركُ ذلك،
والله أعلم.
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قضَى
نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقوله: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) لما نهاهم
عن إتيان القبيح قولا وفعْلا حَثَّهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به،
وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة.
وقوله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) قال العوفي، عن ابن عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزْودة، يقولون: نَحُجُّ بيت الله ولا يطعمنا.. فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا
سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة: قال: إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد،
فأنـزل الله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو -وهو الفَلاس -عن ابن عيينة.
قال ابن أبي حاتم: وقد روى هذا الحديث ورَقْاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: وما يرويه عن ابن عيينة أصح.
قلت: قد رواه النسائي، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس [قال] كان نَاس يحجون بغير زاد، فأنـزل الله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) . وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري، عن يحيى بن بشر، عن شَبَابة
. وأخرجه أبو داود، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي، ومحمد بن عبد
الله المُخَرَّمي، عن شبابة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن
عباس، قال: كان أهل اليمن يَحُجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون . فأنـزل الله: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره، عن شَبابة [به] . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة، به.
وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث عَمْرو بن عبد الغفار [عن محمد بن سوقة] عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا -ومعهم أزوادهم -رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر
؛ فأنـزل الله تعالى: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
) فَنُهوا عن ذلك، وأمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق. وكذا قال
ابن الزبير، وأبو العالية، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، وسالم بن عبد
الله، وعطاء الخراساني، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
وقال سعيد بن جبير: فتزودوا الدقيق والسويق والكعك وقال وكيع [بن الجراح] في تفسيره: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة
عن سعيد بن جبير: ( وَتَزَوَّدُوا ) قال: الخشكنانج والسويق. وقال وكيع
أيضًا: حدثنا إبراهيم المكي، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عمر،
قال: إن من كَرَم الرجل طيب زاده في السفر. وزاد فيه حماد بن سلمة، عن أبي
ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجَوْزَة .
وقوله: ( فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) لما أمرهم بالزاد للسفر
في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، كما قال: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26]. لما ذكر اللباس الحسي نَبّه مرشدًا إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع، والطاعة والتقوى، وذكر أنه خير من هذا، وأنفع.
قال عطاء الخراساني في قوله: ( فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) يعني: زاد الآخرة.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبدان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا مروان بن معاوية، عن إسماعيل عن قيس، عن جرير بن عبد الله، عن النبي، صلى الله عليه وسلم [قال ] : "من يتزود في الدنيا يَنْفَعه في الآخرة" .
وقال مقاتل بن حيان: لما نـزلت هذه الآية: ( وَتَزَوَّدُوا ) قام رجل من
فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله، ما نجد زادًا نتزوده. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم
التقوى". رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ( وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ ) يقول: واتقوا عقابي،
ونكالي، وعذابي، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام.
لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قال البخاري: حدثنا محمد، أخبرني ابن عيينة، عن عَمْرو، عن ابن عباس،
قال: كانت عكاظ ومَجَنَّة ، وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثَّموا أن
يتجروا في المواسم فنـزلت: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) في مواسم الحج .
وهكذا رواه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغير واحد، عن سفيان بن عيينة، به .
ولبعضهم: فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنـزل الله هذه الآية. وكذلك رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظُ ومَجَنَّةُ وذو المجاز، فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نـزلت هذه الآية.
وروى أبو داود، وغيره، من حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن
عباس، قال: كانوا يَتَّقون البيوع والتجارة في الموسم، والحج، يقولون: أيام
ذكر، فأنـزل الله: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا
مِنْ رَبِّكُمْ ) .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حجاج، عن
عطاء، عن ابن عباس: أنه قال: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في
مواسم الحج".
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. وهكذا رَوَى العوفي، عن ابن عباس.
وقال وَكِيع: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان
يقرأ: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". [وقال عبد
الرزاق: عن أبيه عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت ابن الزبير يقول:
"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" ] .
ورواه عبد بن حميد، عن محمد بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمعت ابن الزبير يقرأ -فذكر مثله سواء . وهكذا فسرها مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا شبابة بن سَوّار، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة
قال: سمعت ابن عمر -وسُئِل عن الرجل يحجُّ ومعه تجارة -فقرأ ابن عمر: (
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ )
وهذا موقوف، وهو قوي جيد . وقد روي مرفوعًا قال أحمد: حدثنا [أحمد بن]
أسباط، حدثنا الحسن بن عَمْرو الفُقَيمي، عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت
لابن عمر: إنا نُكْرِي، فهل لنا من حج، قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون
المُعَرَّفَ، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا
: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي
سألتني فلم يجبه، حتى نـزل عليه جبريل بهذه الآية: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) فدعاه النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: "أنتم حجاج" .
وقال
عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله
قال: جاء رَجُل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم
نُكْرِي، ويزعمون أنه ليس لنا حج. قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون
كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى. قال: فأنت حاج
. ثم قال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عما سألت
عنه، فنـزلت هذه الآية: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) .
ورواه عَبْد [بن حميد في تفسيره] عن عبد الرزاق به. وهكذا روى هذا الحديث ابن حذيفة، عن الثوري، مرفوعًا. وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا .
وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عباد بن العوام، عن العلاء بن
المسيب، عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نُكْرِي في هذا
الوجه إلى مكة، وإن أناساً يزعمون أنّه لا حج لنا، فهل ترى لنا حجاً؟ قال:
ألستم تحرمون، وتطوفون بالبيت، وتقفون المناسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فأنتم حجاج. ثم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن [مثل]
الذي سألت، فلم يَدْر ما يعود عليه -أو قال: فلم يَرُدّ عليه شيئا -حتى
نـزلت: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ
) فدعا الرجل، فتلاها عليه، وقال: "أنتم حجاج" .
وكذا رواه مسعود بن سعد، وعبد الواحد بن زياد، وشَريك القاضي، عن العلاء بن المسيب به مرفوعاً.
وقال ابن جرير: حدثني طليق
بن محمد الواسطي، حدثنا أسباط -هو ابن محمد -أخبرنا الحسن بن عَمْرو-هو
الفقَيْمِي -عن أبي أمامة التيمي. قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نُكْرِي، فهل
لنا من حج؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المُعَرّف، وترمون الجمار،
وتحلقون رؤوسكم؟ قلنا: بلى. قال
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر
ما يقول له، حتى نـزل جبريل، عليه السلام، بهذه الآية: ( لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) إلى آخر
الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم حجاج" .
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا مَنْدل، عن
عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر، قال: قلت: يا أمير المؤمنين،
كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
وقوله تعالى: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )
إنما صَرَفَ "عرفات" وإن كان علما على مؤنث؛ لأنه في الأصل جَمْع
كمسلمات ومؤمنات، سمي به بقعة معينة، فروعي فيه الأصل، فصرف. اختاره ابن
جرير.
وعرفة: موضع الموقف في الحج، وهي عمدة أفعال الحج؛ ولهذا روى الإمام أحمدُ، وأهل السنن، بإسناد صحيح، عن الثوري، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يَعْمر الديَلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفات -ثلاثا -فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه" .
ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلُوع الفجر الثاني من يوم النحر؛
لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، بعد أن صلى الظهر إلى
أن غربت الشمس، وقال: "لتأخُذوا عني مناسككم" .
وقال في هذا الحديث: "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا
مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت
الوقوف من أول يوم عَرَفة. واحتجوا بحديث الشعبي، عن عروة بن مُضَرِّس بن
حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جَبَليْ طيئ، أكللت
راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حَج؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَهِد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى
ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حَجّه، وقضى تَفَثَه".
رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي .
ثم قيل: إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج قال:
قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: بعث الله جبريل، عليه السلام، إلى
إبراهيم، عليه السلام، فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، فلذلك سميت عَرَفة.
وقال ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: إنما سميت
عرفة، أنّ جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك، فيقول: عَرَفْتُ عَرَفْتُ.
فسمي "عرفات". وروي نحوه عن ابن عباس، وابن عمر وأبي مِجْلز، فالله أعلم.
وتسمى عرفات المشعر الحلال، والمشعر الأقصى، وإلال -على وزن هلال -ويقال للجبل في وسطها: جَبَلُ الرحمة. قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وبالمشـعَر الأقصـى إذا قصـدوا لـه | إلال إلــى تلــك الشِّـراج القَـوَابل |
-عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت
الشمس على رؤوس الجبال، كأنها العمائم على رؤوس الرجال، دفعوا، فأخر رسول
الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس.
ورواه ابن مَرْدُويه، من حديث زمعة بن صالح، وزاد: ثم وقف بالمزدلفة، وصلى الفجر بغَلَس، حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر، دفع. وهذا حَسَنُ الإسناد.
وقال ابن جُرَيْج، عن محمد بن قيس، عن المسْوَر بن مَخْرَمة قال:
خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعرفات، فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال: "أما بعد -وكان إذا خطب خطبة قال: أما بعد -فإن هذا اليوم الحجَ
الأكبر، ألا وإن أهلَ الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن
تغيب الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال، كأنها عمائم الرجال في وجوهها،
وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع
الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا
ندفع قبل أن تطلع الشمس، مُخَالفاً هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك".
هكذا رواه ابن مَرْدويَه وهذا لفظه، والحاكم في مستدركه، كلاهما من حديث
عبد الرحمن بن المبارك العيشي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن ابن جريج، به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. قال: وقد صح وثَبَت بما
ذكرناه سماع المِسْوَر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما يتوهمه
رعاع أصحابنا أنّه ممن له رؤية بلا سماع .
وقال وَكِيع، عن شعبة، عن إسماعيل بن رجاء [الزبيدي] عن المعرور بن سويد، قال: رأيت عمر، رضي الله عنه، حين دفع من عرفة، كأني أنظر إليه رَجُلا أصلع على بعير له، يُوضِع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع.
وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل، الذي في صحيح مسلم، قال فيه: فلم يزل واقفا -يعني بعرفة -حتى غربت الشمس، وذهبت
الصُّفْرَة قليلا حتى غاب القُرْصُ، وأردف أسامة خلفه، ودفعَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ للقصواء الزّمام، حتى إنّ رأسها ليصيب
مَوْرك رحله، ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس، السكينة السكينة". كلما أتى
جبلا من الجبال أرْخَى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها
المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئا، ثم اضطجع
حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيَّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب
القصواء حتى أتى المشعرَ الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهَلَّله
ووحَّده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلُع الشمس وفي الصحيح عن أسامة بن زيد، أنه سُئِل كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دَفَعَ؟ قال: "كان يسير العَنَق، فإذا وجد فَجْوَة نَص" . والعنق: هو انبساط السير، والنص، فوقه.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي، فيما كَتَب إليّ،
عن أبيه أو عمه، عن سفيان بن عيينة قوله: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) وهي
الصلاتين جميعاً.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن عمرو بن ميمون: سألت عبد الله بن عَمْرو
عن المشعر الحرام، فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين
السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سالم قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها .
وقال هُشَيم، عن حجاج عن نافع، عن ابن عمر: أنه سئل عن قوله: ( فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) قال: فقال: هو الجبل وما حوله.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: رآهم ابن
عُمَر يزدحمون على قُزَحَ، فقال: عَلام يزدحم هؤلاء؟ كل ما هاهنا مشعر .
وروي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفَضْت من مَأزمي عرفة فذلك إلى مُحَسِّر. قال: وليس المأزمان مَأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مُفَاضَاهما . قال: فقِف بينهما إن شئت، قال: وأحب أن تَقفَ دون قُزَح، هَلُمّ إلينا من أجل طريق الناس.
قلت: والمشاعر هي المعالم الظاهرة، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام؛
لأنها داخل الحرم، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به، كما ذهب إليه
طائفة من السلف، وبعض أصحاب الشافعي، منهم: القفال، وابن خُزَيمة، لحديث
عُرْوة بن مُضَرَس؟ أو واجب، كما هو أحد قولي الشافعي يجْبَر بدم؟ أو مستحب
لا يجب بتركه شيء كما هو القول الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء، لبسطها موضع آخر غير هذا، والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَفَةُ كلها موقف، وارفعوا عن عُرَنة ، وجَمْع كلها مَوقف إلا مُحَسرًا" .
هذا حديث مرسل. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، حدثني سليمان بن موسى، عن جبير بن مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "كل عرفات موقف، وارفعوا عن عُرَنة . وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن مُحَسِّر، وكل فجاج مكة مَنْحر، وكل أيام التشريق ذبح" .
وهذا أيضا منقطع، فإن سليمان بن موسى هذا -وهو الأشدق -لم يدرك جُبَير
بن مطعم. ولكن رواه الوليد بن مسلم، وسويد بن عبد العزيز، عن سعيد بن عبد
العزيز، عن سليمان، فقال الوليد: عن ابن لجبير بن مطعم، عن أبيه. وقال سويد: عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، والله أعلم.
وقوله: ( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ ) تنبيه لهم على ما أنْعَم به عليهم، من الهداية
والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج، على ما كان عليه إبراهيم الخليل، عليه
السلام؛ ولهذا قال: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ )
قيل: من قبل هذا الهدي، وقبل القرآن، وقبل الرسول، والكل متقارب، ومتلازم،
وصحيح.
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
"ثم" هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف
بعرفات أن يَدْفَع إلى المزدلفة، ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن
يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها
إلا قريشًا، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم، فيقفون في طرف الحرم عند
أدنى الحِل ، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقُطَّان بيته.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن حازم، حدثنا هشام،
عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا
يُسَمّون الحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَأتَي عرفات، ثم يقف بها ثم يُفيض منها، فذلك قوله: ( مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) .
وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، وغيرهم. واختاره ابن جرير، وحكى عليه الإجماع، رحمهم الله.
وقال الإمام أحمد، حدثنا سُفْيان، عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن
أبيه، قال: أضللتُ بعيرًا لي بعرفة، فذهبت أطلبه، فإذا النبي صلى الله
عليه وسلم واقف، قلت: إن هذا من الحَمْس ما شأنه هاهنا؟
أخرجاه في الصحيحين
. ثم روى البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن كُرَيب، عن ابن عباس ما يقتضي
أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار
. فالله أعلم. وحكاه ابنُ جرير، عن الضحاك بن مزاحم فقط. قال: والمراد
بالناس: إبراهيم، عليه السلام. وفي رواية عنه: الإمام. قال ابن جرير
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا على المواضيع القيمة بارك الله فيك
طريق النجاح- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 709
تاريخ الميلاد : 07/05/1997
العمر : 27
رد: الجزء التاسع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 27
رد: الجزء التاسع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء التاسع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثالث والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الرابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الخامس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السادس والثلاثون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى