الجزء السابع عشر من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع عشر من تفسير سورة البقرة
وَلَمَّا
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89)
يقول تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ ) يعني اليهود ( كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ ) وهو: القرآن الذي أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم ( مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَهُمْ ) يعني: من التوراة، وقوله: ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا
الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم،
يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال
محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال:
قالوا: فينا والله وفيهم -يعني في الأنصار-وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم،
نـزلت هذه القصة يعني: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) قالوا
كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًا من [الأنبياء] يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله رسوله من قريش [واتبعناه]
كفروا به. يقول الله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 89 ]
وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال يستظهرون يقولون : نحن
نعين محمدًا عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون.
وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن يَهود
كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل
مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.
فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة
يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى
الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته.
فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي
كنا نذكر لكم فأنـزل الله في ذلك من قولهم: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم
على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب-فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم
ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على
مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى
نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورأوا
أنه
من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال الله: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )
وقال قتادة: ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا ) قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ )
وقال مجاهد: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) قال: هم اليهود.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني صالح بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، أخي بني عبد الأشهل عن
سلمة بن سلامة بن وقش، وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد
الأشهل قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل. قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث
من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي. فذكر البعث والقيامة
والحسنات والميزان والجنة والنار. قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون
بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس
يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم،
والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم
يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك
وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار
بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم
سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب
الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا،
فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا.
فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به. تفرد به أحمد .
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا
في زمان الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك، فقالوا:
اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان، إلا
نصرتنا عليهم. قال: فنصروا عليهم. قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله
فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم. قال الله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا
عَرَفُوا ) أي من الحق وصفة محمد صلى الله عليه وسلم "كَفَرُوا به" فلعنة
الله على الكافرين.
بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُهِينٌ (90)
قال مجاهد: ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) يهودُ شَرَوُا
الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن
يبينوه.
وقال السدي: ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) يقول: باعوا به
أنفسهم، يعني: بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من الكفر بما
أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته] .
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية ( أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس: ( بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنـزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ ) أي: إن الله جعله من غيرهم ( فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ )
قال ابن عباس: فالغضب على الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة
وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم.
قلت: ومعنى ( بَاءُوا ) استوجبوا، واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب.
وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب عليهم
بكفرهم بمحمد، وبالقرآن عليهما السلام، [وعن عكرمة وقتادة مثله] .
وقال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل، وأما الغضب
الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم [وعن ابن عباس مثله]
.
وقوله: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) لما كان كفرهم سببه البغي
والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، [أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] .
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عَجْلان، عن عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم
القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا
سجنًا في جهنم، يقال له: بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النار" .
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ
مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
يقول تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ) أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب ( آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) [أي] :
على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه ( قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا ) أي: يكفينا الإيمان بما أنـزل علينا من التوراة
والإنجيل ولا نقر إلا بذلك، ( وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ) يعنى: بما
بعده ( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) أي: وهم يعلمون أن ما
أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم الحق ( مُصَدِّقًا ) منصوب على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة: 146] ثم قال تعالى: ( [قُلْ]
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ) أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنـزل إليكم، فلم
قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم
نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيًا [وحسدًا] وعنادًا واستكبارًا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء والتشهي كما قال تعالى أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87].
وقال السدي: في هذه الآية يعيرهم الله تعالى: ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )
وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل -[الذين] إذا قلت لهم: آمنوا بما أنـزل الله قالوا: ( نُؤْمِنُ بِمَا أُنـزلَ عَلَيْنَا ) -: لم تقتلون
-إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنـزل الله عليكم-أنبياءه وقد حرم
الله في الكتاب الذي أنـزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم
وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: ( نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا ) وتعيير لهم.
( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعة
على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. والبينات هي: الطوفان، والجراد،
والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفَلْق البحر، وتظليلهم بالغمام،
والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ( ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ) أي: معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته.
وقوله ( مِنْ بَعْدِهِ ) أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله
كما قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف: 148]، ( وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) [أي وأنتم ظالمون] في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: وَلَمَّا
سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ
لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 149].
وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
يعدد، تبارك وتعالى، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم
عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه؛ ولهذا قال: ( قَالُوا
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) وقد تقدم تفسير ذلك.
( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) قال عبد
الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
[بِكُفْرِهِمْ] ) قال: أشربوا [في قلوبهم] حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن
أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي
الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصم".
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به
وقال السدي: أخذ موسى، عليه السلام، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه
في البحر، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى:
اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول
الله تعالى: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد
وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، قال: عمد موسى إلى العجل،
فوضع عليه المبارد، فبرده بها، وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء
ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب .
وقال سعيد بن جبير: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) قال:
لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ثم قال القرطبي]
وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق، أنه ظهر النقير على
شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا: أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل، يعني: في
حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
وقوله: ( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ) أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه، من كفركم بآيات
الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم
-وهذا أكبر ذنوبكم، وأشد الأمور عليكم-إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء
والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد
فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله،
وعبادتكم العجل؟!
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89)
يقول تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ ) يعني اليهود ( كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ ) وهو: القرآن الذي أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم ( مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَهُمْ ) يعني: من التوراة، وقوله: ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا
الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم،
يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال
محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال:
قالوا: فينا والله وفيهم -يعني في الأنصار-وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم،
نـزلت هذه القصة يعني: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) قالوا
كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًا من [الأنبياء] يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله رسوله من قريش [واتبعناه]
كفروا به. يقول الله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 89 ]
وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال يستظهرون يقولون : نحن
نعين محمدًا عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون.
وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن يَهود
كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل
مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.
فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة
يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى
الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته.
فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي
كنا نذكر لكم فأنـزل الله في ذلك من قولهم: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم
على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب-فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم
ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على
مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى
نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورأوا
أنه
من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال الله: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )
وقال قتادة: ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا ) قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ )
وقال مجاهد: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) قال: هم اليهود.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني صالح بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، أخي بني عبد الأشهل عن
سلمة بن سلامة بن وقش، وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد
الأشهل قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل. قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث
من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي. فذكر البعث والقيامة
والحسنات والميزان والجنة والنار. قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون
بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس
يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم،
والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم
يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك
وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار
بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم
سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب
الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا،
فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا.
فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به. تفرد به أحمد .
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا
في زمان الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك، فقالوا:
اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان، إلا
نصرتنا عليهم. قال: فنصروا عليهم. قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله
فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم. قال الله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا
عَرَفُوا ) أي من الحق وصفة محمد صلى الله عليه وسلم "كَفَرُوا به" فلعنة
الله على الكافرين.
بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُهِينٌ (90)
قال مجاهد: ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) يهودُ شَرَوُا
الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن
يبينوه.
وقال السدي: ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) يقول: باعوا به
أنفسهم، يعني: بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من الكفر بما
أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته] .
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية ( أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس: ( بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنـزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ ) أي: إن الله جعله من غيرهم ( فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ )
قال ابن عباس: فالغضب على الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة
وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم.
قلت: ومعنى ( بَاءُوا ) استوجبوا، واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب.
وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب عليهم
بكفرهم بمحمد، وبالقرآن عليهما السلام، [وعن عكرمة وقتادة مثله] .
وقال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل، وأما الغضب
الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم [وعن ابن عباس مثله]
.
وقوله: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) لما كان كفرهم سببه البغي
والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، [أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] .
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عَجْلان، عن عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم
القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا
سجنًا في جهنم، يقال له: بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النار" .
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ
مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
يقول تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ) أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب ( آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) [أي] :
على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه ( قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا ) أي: يكفينا الإيمان بما أنـزل علينا من التوراة
والإنجيل ولا نقر إلا بذلك، ( وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ) يعنى: بما
بعده ( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) أي: وهم يعلمون أن ما
أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم الحق ( مُصَدِّقًا ) منصوب على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة: 146] ثم قال تعالى: ( [قُلْ]
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ) أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنـزل إليكم، فلم
قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم
نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيًا [وحسدًا] وعنادًا واستكبارًا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء والتشهي كما قال تعالى أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87].
وقال السدي: في هذه الآية يعيرهم الله تعالى: ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )
وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل -[الذين] إذا قلت لهم: آمنوا بما أنـزل الله قالوا: ( نُؤْمِنُ بِمَا أُنـزلَ عَلَيْنَا ) -: لم تقتلون
-إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنـزل الله عليكم-أنبياءه وقد حرم
الله في الكتاب الذي أنـزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم
وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: ( نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا ) وتعيير لهم.
( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعة
على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. والبينات هي: الطوفان، والجراد،
والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفَلْق البحر، وتظليلهم بالغمام،
والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ( ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ) أي: معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته.
وقوله ( مِنْ بَعْدِهِ ) أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله
كما قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف: 148]، ( وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) [أي وأنتم ظالمون] في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: وَلَمَّا
سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ
لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 149].
وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
يعدد، تبارك وتعالى، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم
عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه؛ ولهذا قال: ( قَالُوا
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) وقد تقدم تفسير ذلك.
( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) قال عبد
الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
[بِكُفْرِهِمْ] ) قال: أشربوا [في قلوبهم] حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن
أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي
الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصم".
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به
وقال السدي: أخذ موسى، عليه السلام، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه
في البحر، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى:
اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول
الله تعالى: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد
وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، قال: عمد موسى إلى العجل،
فوضع عليه المبارد، فبرده بها، وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء
ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب .
وقال سعيد بن جبير: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) قال:
لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ثم قال القرطبي]
وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق، أنه ظهر النقير على
شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا: أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل، يعني: في
حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغــل حـب عثمـة فـي فـؤادي | فباديــه مــع الخــافي يســير | |
تغلغــل حــيث لـم يبلـغ شـراب | ولا حــزن ولــم يبلــغ سـرور | |
أكــاد إذا ذكــرت العهــد منهـا | أطــير لــو أن إنســانا يطــير |
مُؤْمِنِينَ ) أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه، من كفركم بآيات
الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم
-وهذا أكبر ذنوبكم، وأشد الأمور عليكم-إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء
والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد
فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله،
وعبادتكم العجل؟!
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة البقرة
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة البقرة
جزاك الله خيرا
الأمير- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 6081
تاريخ الميلاد : 29/10/1996
العمر : 28
رد: الجزء السابع عشر من تفسير سورة البقرة
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والخمسون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والأربعون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء السابع والخمسون من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى