الجزء الخامس من تفسير سورة التوبة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة التوبة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة التوبة
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
وقوله: ( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قد تاب الله على بقية هوازن، وأسلموا وقدموا
عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجِعِرَّانة، وذلك بعد الوقعة بقريب
من عشرين يوما، فعند ذلك خَيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا
سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فرده عليهم، وقسم أموالهم
بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم
مائةً مائةً من الإبل، وكان من جملة من أعطي مائة مالك بن عوف النَّضْري،
واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين، الذين هم نَجَس دينًا، عن المسجد الحرام،
وألا يقربوه بعد نـزول هذه الآية. وكان نـزولها في سنة تسع؛ ولهذا بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر، رضي الله عنهما، عامئذ،
وأمره أن ينادي في المشركين: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك، وحكم به شرعا وقدرا.
وقال عبد الرازق: أخبرنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر
بن عبد الله يقول في قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) إلا أن يكون
عبدًا، أو أحدا من أهل الذمة
وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حُسَين
حدثنا شريك، عن الأشعث -يعني: ابن سَوَّار -عن الحسن، عن جابر قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، إلا أهل
العهد وخدمهم "
تفرد به أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه:
أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله: (
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ )
وقال عطاء: الحرم كله مسجد، لقوله تعالى: ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) .
ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت [على طهارة المؤمن، ولما] ورد في [الحديث] الصحيح: "المؤمن لا ينجس"
وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى
أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم.
وقال أشعث، عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير.
وقوله: ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ ) قال ابن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتنقطعن عنا الأسواق،
ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق، فنـزلت
( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ )
من وجه غير ذلك -( إِنْ شَاءَ ) إلى قوله: ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) أي: إن
هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر
الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب، من الجزية.
وهكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة والضحاك، وغيرهم.
( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ) أي: بما يصلحكم، ( حَكِيم ) أي: فيما يأمر به
وينهى عنه؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره، تبارك
وتعالى؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل
الذمة، فقال: ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) فهم في نفس الأمر لما
كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل، ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون
آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لو
كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد،
صلوات الله عليه، لأن جميع الأنبياء [الأقدمين] بشروا به، وأمروا باتباعه، فلما جاء وكفروا
به، وهو أشرف الرسل، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين
لأنه من عند الله، بل لحظوظهم وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية
الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم؛ ولهذا قال: (
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) وهذه الآية الكريمة [نـزلت] أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما استقامت
جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان
ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا
الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم،
فَأَوْعَبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو [من]
ثلاثين ألفا، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين
وغيرهم، وكان ذلك في عام جَدْب، ووقت قَيْظ وحر، وخرج، عليه السلام، يريد
الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنـزل بها وأقام على مائها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله.
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشباههم كالمجوس، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي، وأحمد -في المشهور عنه -وقال أبو حنيفة، رحمه الله: بل تؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.
وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ، ومجوسي، ووثني، وغير ذلك، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا، والله أعلم.
وقوله: ( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ) أي: إن لم يسلموا، ( عَنْ يَدٍ )
أي: عن قهر لهم وغلبة، ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) أي: ذليلون حقيرون مهانون.
فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صَغَرة
أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم
في طريق فاضطروه إلى أضيقه"
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تلك
الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة
الحفاظ، من رواية عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين صالح نصارى من أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى
مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا
وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما
حولها ديرًا ولا كنيسة، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب
منها، ولا نحيي منها ما كان خطط
المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينـزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار،
وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينـزل من مر بنا من المسلمين
ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم
غشًا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه
أحدًا؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن
نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم
في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا
نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف،
ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا
نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِينا حيثما كنا، وأن نشد
الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا
كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا، وألا
نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج
شعانين ولا باعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في
شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من
الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في
منازلهم.
قال: فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نضرب أحدًا من المسلمين،
شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا
في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا
ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود
والنصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة، والفِرْية على الله تعالى، فأما
اليهود فقالوا في العُزَير: "إنه ابن الله" ، تعالى [الله]
عن ذلك علوا كبيرا. وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك، أن
العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم، بقي
العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم، حتى سقطت جفون عينيه، فبينا
هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة، وإذ امرأة تبكي عند قبر وهي تقول: وامطعماه! واكاسياه! [فقال لها ويحك]
من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت: الله. قال: فإن الله حي لا يموت! قالت: يا
عزير فمن كان يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكي
عليهم؟ فعرف أنه شيء قد وُعظ به. ثم قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه،
وصَلِّ هناك ركعتين، فإنك ستلقى هناك شيخا، فما أطعمك فكله. فذهب ففعل ما
أمر به، فإذا شيخ فقال له: افتح فمك. ففتح فمه. فألقى فيه شيئًا كهيئة
الجمرة العظيمة، ثلاث مرات، فرجع عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال:
يا بني إسرائيل، قد جئتكم بالتوراة. فقالوا: يا عُزَير، ما كنت كَذَّابا.
فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما، وكتب التوراة بإصبعه كلها، فلما تراجع
الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء، وأخبروا بشأن عزير، فاستخرجوا النسخ التي
كانوا أودعوها في الجبال، وقابلوها بها، فوجدوا ما جاء به صحيحا، فقال بعض جهلتهم: إنما صنع هذا لأنه ابن الله.
وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه
الطائفتين فقال: ( ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ) أي: لا مستند لهم
فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم، ( يضاهئون ) أي: يشابهون ( قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل
هؤلاء، ( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ) قال ابن عباس: لعنهم الله، ( أَنَّى
يُؤْفَكُونَ ) ؟ أي: كيف يضلون عن الحق، وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل؟
[وقوله]
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن
جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته
وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها،
فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم
الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه الآية: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ ) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى، إنهم حرموا عليهم
الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي، ما تقول؟ أيُفرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ ما يُفرك؟ أيفرّك أن يقال
لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله"؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم،
وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال: "إن اليهود مغضوب
عليهم، والنصارى ضالون"
وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: (
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )
إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم.
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا )
أي: الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله حل، وما شرعه اتبع، وما حكم
به نفذ.
( لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي: تعالى
وتقدس وتنـزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا
هو، ولا رب سواه.
وقوله: ( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قد تاب الله على بقية هوازن، وأسلموا وقدموا
عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجِعِرَّانة، وذلك بعد الوقعة بقريب
من عشرين يوما، فعند ذلك خَيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا
سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فرده عليهم، وقسم أموالهم
بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم
مائةً مائةً من الإبل، وكان من جملة من أعطي مائة مالك بن عوف النَّضْري،
واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:
مـا إنْ رَأيـتُ ولا سَـمعتُ بمثْلِــه | فـي النَّـاس كُـلّـهم بـمثـل مُحَـمَّد | |
أوْفَـى وأعْطَـى للجـزيل إذا اجـتُدى | ومَتـى تَشَـأ يُخْــبرْكَ عَمّـا في غَـد | |
وإذَا الكتـيبــة عَــرّدَتْ أنيابُـهـا | بالسَّـمْهَريّ وَضَــرْب كُـلّ مُهَـنَّــد | |
فَكَأنَّـــه ليــث عــلى أشْـبَاله | وسـط الهَبَـــاءة خَادر في مَرْصَد |
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين، الذين هم نَجَس دينًا، عن المسجد الحرام،
وألا يقربوه بعد نـزول هذه الآية. وكان نـزولها في سنة تسع؛ ولهذا بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر، رضي الله عنهما، عامئذ،
وأمره أن ينادي في المشركين: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك، وحكم به شرعا وقدرا.
وقال عبد الرازق: أخبرنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر
بن عبد الله يقول في قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) إلا أن يكون
عبدًا، أو أحدا من أهل الذمة
وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حُسَين
حدثنا شريك، عن الأشعث -يعني: ابن سَوَّار -عن الحسن، عن جابر قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، إلا أهل
العهد وخدمهم "
تفرد به أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه:
أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله: (
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ )
وقال عطاء: الحرم كله مسجد، لقوله تعالى: ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) .
ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت [على طهارة المؤمن، ولما] ورد في [الحديث] الصحيح: "المؤمن لا ينجس"
وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى
أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم.
وقال أشعث، عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير.
وقوله: ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ ) قال ابن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتنقطعن عنا الأسواق،
ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق، فنـزلت
( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ )
من وجه غير ذلك -( إِنْ شَاءَ ) إلى قوله: ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) أي: إن
هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر
الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب، من الجزية.
وهكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة والضحاك، وغيرهم.
( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ) أي: بما يصلحكم، ( حَكِيم ) أي: فيما يأمر به
وينهى عنه؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره، تبارك
وتعالى؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل
الذمة، فقال: ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) فهم في نفس الأمر لما
كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل، ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون
آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لو
كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد،
صلوات الله عليه، لأن جميع الأنبياء [الأقدمين] بشروا به، وأمروا باتباعه، فلما جاء وكفروا
به، وهو أشرف الرسل، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين
لأنه من عند الله، بل لحظوظهم وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية
الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم؛ ولهذا قال: (
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) وهذه الآية الكريمة [نـزلت] أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما استقامت
جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان
ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا
الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم،
فَأَوْعَبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو [من]
ثلاثين ألفا، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين
وغيرهم، وكان ذلك في عام جَدْب، ووقت قَيْظ وحر، وخرج، عليه السلام، يريد
الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنـزل بها وأقام على مائها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله.
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشباههم كالمجوس، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي، وأحمد -في المشهور عنه -وقال أبو حنيفة، رحمه الله: بل تؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.
وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ، ومجوسي، ووثني، وغير ذلك، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا، والله أعلم.
وقوله: ( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ) أي: إن لم يسلموا، ( عَنْ يَدٍ )
أي: عن قهر لهم وغلبة، ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) أي: ذليلون حقيرون مهانون.
فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صَغَرة
أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم
في طريق فاضطروه إلى أضيقه"
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تلك
الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة
الحفاظ، من رواية عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين صالح نصارى من أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى
مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا
وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما
حولها ديرًا ولا كنيسة، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب
منها، ولا نحيي منها ما كان خطط
المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينـزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار،
وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينـزل من مر بنا من المسلمين
ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم
غشًا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه
أحدًا؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن
نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم
في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا
نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف،
ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا
نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِينا حيثما كنا، وأن نشد
الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا
كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا، وألا
نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج
شعانين ولا باعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في
شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من
الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في
منازلهم.
قال: فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نضرب أحدًا من المسلمين،
شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا
في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا
ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود
والنصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة، والفِرْية على الله تعالى، فأما
اليهود فقالوا في العُزَير: "إنه ابن الله" ، تعالى [الله]
عن ذلك علوا كبيرا. وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك، أن
العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم، بقي
العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم، حتى سقطت جفون عينيه، فبينا
هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة، وإذ امرأة تبكي عند قبر وهي تقول: وامطعماه! واكاسياه! [فقال لها ويحك]
من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت: الله. قال: فإن الله حي لا يموت! قالت: يا
عزير فمن كان يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكي
عليهم؟ فعرف أنه شيء قد وُعظ به. ثم قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه،
وصَلِّ هناك ركعتين، فإنك ستلقى هناك شيخا، فما أطعمك فكله. فذهب ففعل ما
أمر به، فإذا شيخ فقال له: افتح فمك. ففتح فمه. فألقى فيه شيئًا كهيئة
الجمرة العظيمة، ثلاث مرات، فرجع عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال:
يا بني إسرائيل، قد جئتكم بالتوراة. فقالوا: يا عُزَير، ما كنت كَذَّابا.
فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما، وكتب التوراة بإصبعه كلها، فلما تراجع
الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء، وأخبروا بشأن عزير، فاستخرجوا النسخ التي
كانوا أودعوها في الجبال، وقابلوها بها، فوجدوا ما جاء به صحيحا، فقال بعض جهلتهم: إنما صنع هذا لأنه ابن الله.
وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه
الطائفتين فقال: ( ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ) أي: لا مستند لهم
فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم، ( يضاهئون ) أي: يشابهون ( قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل
هؤلاء، ( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ) قال ابن عباس: لعنهم الله، ( أَنَّى
يُؤْفَكُونَ ) ؟ أي: كيف يضلون عن الحق، وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل؟
[وقوله]
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن
جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته
وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها،
فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم
الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه الآية: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ ) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى، إنهم حرموا عليهم
الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي، ما تقول؟ أيُفرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ ما يُفرك؟ أيفرّك أن يقال
لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله"؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم،
وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال: "إن اليهود مغضوب
عليهم، والنصارى ضالون"
وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: (
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )
إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم.
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا )
أي: الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله حل، وما شرعه اتبع، وما حكم
به نفذ.
( لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي: تعالى
وتقدس وتنـزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا
هو، ولا رب سواه.
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة التوبة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة التوبة
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة التوبة
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة التوبة
بآرك آلله فيكـم ونفع بكـم
اسأل الله العظيم
أن يرزقكم الفردوس الأعلى من الجنان
وأن يثيبكم البارئ على ما طرحتـم / خير الثواب
في انتظار جديدكم المميز
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء الرابع عشر من تفسير سورة التوبة
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة التوبة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة التوبة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى