تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
صفحة 2 من اصل 2 • شاطر
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
نضع بين ايديكم تفسير ابن باديس الذي جاء تحت عنوان
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
التذكير
حقيقية التذكير أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان به جاهلًا، أو عنه ناسياً، أو غافلًا. وقد يقوم الفعل والسمت والهدي مقام القول، فيسمى تذكيراً مجازاً وتوسعاً.
ويجمع للثلاثة قولك: عباد الله الصالحون يذكرون الخلق بالخالق، بأقوالهم وأعمالهم وسمتهم.
حاجة الخلق إليه:
وحاجة العباد إلى هذا التذكير أعظم ما يحتاجون إليه وأشرف وألزم. فإن سعادتهم الحقيقية في هذه الحياة بإنارة عقولهم، وزكاة نفوسهم واستقامة سلوكهم.
وفي الحياة الأخرى بنعيم الجنان، وحلول الرضوان- إنما هي بإيمانهم بربهم، وشكرهم له.
وإن دلائل وجوده ووحدانيته وقيوميته، وآثار فضله وإحسانه ورحمته- ماثلة في الكون بادية للعيان، داعية إلى الشكر، هادية إلى الإيمان. لكن العقول كثيراً ما تكون مغلولة بقيود أهوائها، محجوبة بحجب غفلتها؟ فتعمى عن تلك الدلائل والآثار، فتكفر كفر جحود وعناد، أو كفر عصيان وطغيان؛ ويكون تورطها في كبائر الذنوب وصغائرها على مقدار تلك الحجب وتلك القيود. وليس- لغير من عصم الله- انفكاك أو خروج منها كلها.
فهم إذن بأشد الحاجة إلى تذكيرهم بتلك الدلائل وتلك الآثار ليحصلوا أسباب سعادتهم بالإيمان والشكر.
القائمون بالتذكير:
قد علم الله حاجة عباده إلى التذكير، فاصطفى منهم رجالًا أنعم عليهم بكمال الفطرة، ووقاية العصمة، وأرسلهم لتذكير العباد: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] ، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ، ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208، 209] .
(1/25)
________________________________________
فالأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام- أولو هذا المقام الجليل: مقام التذكير، ثم من بعدهم ورثتهم من العلماء العاملين.
تذكير النبي:
قد كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على سنة إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد، ممتثلا أمر ربه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] . إذ السيطرة لا تكون على القلوب؛ والإيمان -وهو من أعمال القلب- لا يكون بالإكراه، وإنما بذكر الحجج والأدلة، وكذلك سنة المرسلين في الدعوة إلى الله، كما قصها علينا القرآن الكريم في كثير من السور والآيات.
ما كان يذكر به النبي:
كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يذكرهم بقوله وعمله وهديه وسمته، ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه. وقد قالت عائشة الصديقة رضوان الله عليها، لما سئلت عن خلقه قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» .
فكان تذكيره كله بآيات القرآن: يتلوها، ويبينها بالبيان القولي والبيان العملي، ممتثلاً في ذلك كله أمر ربه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] .
فالقرآن وبيانه القولي والعملي من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ بهما يكون تذكير العباد، ودعوتهم لله رب العالمين.
ومن حاد في التذكير عنهما ضل وأضل، وكأن ما يضر أكثر مما ينفع إن كان هناك من نفع.
من كان يذكرهم النبي؟:
كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يفتأ مذكراً للمؤمنين والكافرين والله يهدي من يشاء ويوفق من يريد. وقد أمر بالتذكير مطلقاً في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} .
وكانت سيرته العملية في التذكير هي العمل بهذا الإطلاق، فما كان يخص قوماً دون قوم في الدعوة والتذكير، فكانت هاته السنة العملية، دليلاً على أن ما جاء على صورة التقييد في بعض الآيات ليس المراد منه التقييد، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] .
فالشرط الصوري هو للاستبعاد، أي استبعاد نفع الذكرى فيهم. ولا يزال من أساليب العربية في لسان التخاطب الدارج بيننا قول الناس لبعضهم: «كلمه في كذا إذا نفع فيه الكلام» استبعاداً لنفعه فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} . فليس ذكر المفعول للتقييد، وإنما هو للتنبيه على أنه هو الذي ينتفع بالتذكير، نظير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .
(1/26)
________________________________________
مشروعية التذكير:
ولحاجة العباد للتذكير ومنزلته من الدين شرعه الله للمسلمين شرعاً مؤقتا في خطب الجمع والأعياد، وشرعاً مرسلاً موكولاً للمذكرين على ما يرونه من نشاط الناس وحاجتهم.
وكما كان يتخول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الناس بالموعظة، وطلبه طلباً عاماً من جميع المؤمنين في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} في صفة المؤمنين العاملين.
وسيكون هذا الباب من "المجلة" (1) مجالًا لفنون من التذكير جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وآخرة.
__________
(1) أي مجلة "الشهاب" التي نشر فيها هذا البحث.
(1/27)
________________________________________
أفضل الأذكار
تمهيد:
(أ) حالة يعالج فيها شؤون الحياة من أمر نفسه وأهله، وما إلى رعايته من مصالحه، أو مصالح غيره، فيمارس فيها الأسباب، ويباشر فيها ما تقتضيه بشريته.
وهو في هذه الحالة متعبد مأجور ما جرى فيها على حدود الله، وقصد بها امتثال شرعه.
(ب) وحالة ينفرد فيها لربه ويخلص قلبه من هم ذلك كله، ويتوجه بكليته إلى خالقه: بالفكر والاعتبار ودوام المراقبة والإقبال.
وهذه الحالة الثانية هي أشرف وأفضل حالتيه، وهي أساس الاستقامة في الحالة الأولى وأصل الكمال فيها.
كانت هاتان الحالتان للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما كانتا لغيره. وقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، إشارة إلى الحالة الأولى: التي يكون فيها قائما بمصالح الأمة، وناهضاً بأعباء الرسالة، ومباشرة الشؤون العامة والخاصة، ورآها دون الحالة الثانية: التي يكون [فيها] .متفرغ القلب للرب.
وما كان ذلك الغين إلاّ الاشتغال بأمور الخلق في الحالة الأولى التي يحجب [فيها] .عن كمال مشاهدة الحق التي في الحالة الثانية، فاستغفر الله تعالى منه.
وما كان استغفاره- عليه الصلاة والسلام- إلاّ لاشتغاله بكامل عن أكمل، وتوجهه للقيام بأمر عظيم عن مقام أعظم.
وقد تفطن الصحابة رضوان الله عليهم لهاتين الحالتين، وسألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عنهما، وأفتاهم فيهما: فجاء في الصحيح أن حنظلة الأسيدي- وكان من كتّاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال:
«لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا (1) الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ (2) ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
__________
(1) عافسنا: قال الهرويّ وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به؛ أي عالجنا معايشنا وحظوظنا.
(2) الضيعات: جمع ضيعة، وهي معايش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة.
(1/28)
________________________________________
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا.
فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ!! وَلِكْنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً (1) » .
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «سَاعَةً وَسَاعَةً» بيان للحالتين وتقرير لها. وقوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» إلى آخره، بيان لفضلاهما.
هذه الحالة الفضلى الذكر الذي يحصلها العبد على أكمل وجه هو أفضل الأذكار.
وستعرف مما سيأتي بعد أنه هو القرآن، وقد قسمنا ما سنقوله إلى قسمين: علمي وعملي، وختمنا بفصل في التحذير.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب التوبة، حديث 12) وفي آخر الحديث بعد قوله: «ساعة وساعة ... » زيادة لفظ: «ثلاث مرات» . وأخرجه أيضاً الترمذي في جامعه (كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب 59، حديث 2514) .
(1/29)
________________________________________
القسم العلمي
(أ) القرآن أفضل الأذكار من طريق الأثر:
1- قال الله تبارك وتعالى:
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ.} [الأنبياء: 5] ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91، 92] .
فهذه البركة، وهذا التيسير، وهذا الأمر بالتلاوة المقرون بالأمر بتوحيد العبادة وبالإسلام على طريق الحصر- لم ترد إلاّ في القرآن.
2- وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» .
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» (1) .
وهذه مثوبة لم ترد لغير القرآن من جمع الأذكار.
3- وروى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً:
«مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» (2) .
ومن معناه ما ذكره القرطبي عن فروة بن نوفل عن خباب بن الأرت قال: «إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه» .
__________
(1) أنظر الجامع الصحيح للترمذي (كتاب فضائل القرآن، باب 16، حديث 2910) ولفظه بعد رواية الحديث: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه» . وقال قبله: «ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود» .
(2) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب 17، حديث 2911. وتمامه: «ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليُذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه» . قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه» .
(1/30)
________________________________________
ومثل هذا لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع.
4- وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً:
يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينِ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» (1) .
وهذا الحديث والذي قبله نصان صريحان في المقصود.
5- وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:
«قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ» (2) .
6- وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنه:
«سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ، وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ.
ثُمَّ الدُّعَاءُ وَالاِسْتِغْفَارُ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ.
ثُمَّ الصَّدَقَةُ، فَإِنَّهَا تُطْفِىءُ غَضَبَ الرَّبِّ.
ثُمَّ الصِّيَامُ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ لِلْعَبْدِ مِنَ النَّارِ» .
قال القرطبي- بعد ما خرج هذا الحديث بسنده- قال علماؤنا: «هذا حديث عظيم في الدين يبين فيه أن أعظم العبادات قراءة القرآن في الصلاة» .
(ب) القرآن أفضل الأذكار من طريق النظر:
إن أشرف حالتي الإنسان- وهي حالة انفراده لربه، وتوجهه بكليته إليه، وخلوص قلبه له، وتعلقه به- إنما تحصل على أكملها لتالي القرآن العظيم؛ فإن أفضل ما فيه- وهو قلبه- يكون قائماً بأفضل أعماله وهو التفكير والتدبر في أفضل المعاني، وهي معاني القرآن.
وإن ترجمان ذلك القلب- وهو لسانه- يكون قائماً بأفضل أعماله وهي البيان بأفضل كلام وهو القرآن.
وجوارحه- إذا لم يكن في صلاة- كانت محبوسة على قيام القلب واللسان بأفضل الأعمال،
__________
(1) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب 25، حديث 2926. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 413) (باب في تعظيم القرآن، فصل في استحباب القراءة في الصلاة، حديث رقم 2243) وتتمته فيه: « ... والتسبيح أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جُنّة من النار» .
(1/31)
________________________________________
وإذا كان في صلاة كانت قائمة بأفضل عبادة وهي الصلاة، في أشرف موقف وهو مناجاة الرحمن بآيات القرآن.
فهذا الذكر الحكيم، تنزيل الرحمن الرحيم، الذي يحصل هذه الحال، التي هي أشرف الأحوال، وهي معراج الأرواح لمنازل الكمال، هو أفضل الأذكار.
وأيضاً فإن الذكر قلبي ولساني وعملي، والقرآن محصل لذلك كله على أكمله كما سنبينه.
القرآن، والذكر القلبي:
فالتالي للقرآن المتدبر لآياته، يكون متفكراً في مخلوقات الله وما فيها من حكم ومن نعم، وفي معاني أسمائه وصفاته، وفي مظاهر رحمته وإحسانه وبطشه وانتقامه، وفي أسباب ثوابه وعقابه، وفي مواقع رضاه وسخطه.
كما يكون التالي أيضاً متبصراً في عقائده، خبيراً بأدلتها، ورد الشبه عنها.
كما يكون أيضاً مستحضراً لربه في قلبه باستحضار حقوقه ونعمه وآلائه؛ إذ هذا كله مما تضمنته آي القرآن على أكمل بيان، وأوضح برهان.
القرآن والذكر اللساني:
وكذلك قد اشتمل القرآن على أفضل الأذكار اللسانية: من تهليل، وتكبير، وتحميد، وتسبيح، وتمجيد، واستغفار، ودعاء، وعلى الأسماء الحسنى، والصفات العلى للرب تبارك وتعالى؛ فتاليه يكون ذاكراً بهذه الأذكار كلها.
القرآن، والذكر العملي:
إن تلاوة القرآن بالتدبر تثمر للتالي التوبة والإنابة والرجاء والخوف، وذلك كله مما يكون له خير داع إلى الاستقامة- ولو بعض الشيء- في سلوكه العملي.
هذا شيء قليل مما للقرآن في الذكر بأنواعه الثلاثة.
إلى ما فيه من علم مصالح العباد في المعاش والمعاد، وبسط أسباب الخير والشر والسعادة والشقاوة في الدنيا والأخرى. وعلم النفوس وأحوالها، وأصول الأخلاق والأحكام. وكليات السياسة والتشريع. وحقائق الحياة في العمران والاجتماع. ونظم الكون المبنية على الرحمة والقوة، والعدل والإحسان.. إلى ما تقصر عن عده الألسنة وتعجز عن الإحاطة به الأفهام.
وإنما ينال كل تال منها على قدر ما عنده من سلامة قصد، وصحة علم، بتقدير وتيسير من الحكيم العليم.
نتيجة الاستدلال:
لهذه الأدلة الأثرية والنظرية المذكورة وغيرها ذهب الأئمة من السلف والخلف إلى أن قراءة القرآن أفضل من الذكر. قال سفيان الثوري:
(1/32)
________________________________________
«سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر» . نقله القرطبي في الباب السابع من كتاب التذكار.
وقال النووي: «واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء: أن قراءة القرآن [[أفضل]] (*) من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك» . قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ليست في المطبوع، ولعل الصواب إثباتها
(1/33)
________________________________________
القسم العملي
مقدار التلاوة:
قد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لا يخلي ليله ونهاره من تلاوة القرآن، وكان- كما قال القرطبي-: «يختمه في سبع» . وهكذا قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه: «وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً» . وقد كان قال له أولا: «وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ» . فلما قال له: إنه يطيق أكثر من ذلك نقله إلى العشرين، وإلى الخمسة عشر، وإلى العشر، وانتهى به إلى السبع في قول الأكثر (1) . وكان هذا فعل الأكثرين من السلف.
وعند الترمذي وغيره، من حديث ابن عمرو رضي الله عنه مرفوعاً: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» (2) . وهذا ترخيص فيما دون السبع، وترغيب عما دون الثلاث.
وقد فهم السلف من هذه الأحاديث بيان ما يكون وظيفة وحزبا يستمر عليه؛ فلذا لم يمتنعوا من ختم القرآن في أقل من ذلك في مرات في بعض الأحوال، وقد ثبت عن كثير منهم ختم القرآن في ركعة واحدة.
ولا شك أن أحوال حملة القرآن تختلف في التفرغ للتلاوة والاشتغال بغيرها.
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 34، والصوم باب 58. وأبو داود في رمضان باب 8 و9. والنسائي في الصيام باب 76 و78. وابن ماجه في الإقامة باب 178. ولفظ الحديث بتمامه كما رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن (باب 34، حديث رقم 2052) : «حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنّته فيسألها عن بعلها فتقول: نِعْمَ الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفًا مذ أتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: القني به. فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم. قال: وكيف تختم؟ قال: كل ليلة. قال: صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم ثلالة أيام في الجمعة. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة. فليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أني كبرت وضعفت. فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، واذا أراد أن يتقوى افطر أياما وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئا فارق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابو عبد الله: وقال بعضهم في ثلاث وفي خمس، وأكثرهم على سبع» .
(2) أخرجه الترمذي في القرآن باب 11. وأبو داود في رمضان باب 8 و9. وابن ماجه في الإقامة باب 178. والدارمي في الصلاة باب 173. وأحمد في المسند (2/ 164، 165، 189، 193، 195) .
(1/34)
________________________________________
وأحوال الشخص الواحد في نفسه تختلف كذلك فيرتب حامل القرآن حزبه من الشهر إلى السبع على حسب حاله.
فإذا لم يكن من حملة القرآن فلا يخل ليله ونهاره من تلاوة شيء مما معه حسب استطاعته، ولا يكن من الغافلين.
ما يقصده من التلاوة:
قراءة القرآن أفضل أعمال اللسان، وتدبر معانيه أفضل أعمال القلب، هذا من حديث أبي أمامة عند الترمذي الذي قدمناه في القسم الأول (1) فليقصد التالي التقرب إلى الله بهما. والقرآن موعظة ترقق القلوب القاسية فليقصد تليين قلبه.
والقرآن شفاء لأدواء النفوس في عقائدها وأخلاقها وأعمالها؛ فليقصد الشفاء به من ذلك كله.
والقرآن هدى ودلالة على كل حال ما يوصل إلى سعادة الدنيا والأخرى فليقصد الاهتداء بهدايته.
والقرآن رحمة من الله للمؤمنين، فليستنزل بتلاوته وتدبره الرحمة من الله تعالى بإفاضة علوم القرآن على قلبه، وبتوفيقه إلى القيام بمقتضى هدايته.
ولا يسلم تالي القرآن- لأنه غير معصوم- من ذنوب قد يصدأ لها قلبه، فليقصد بتلاوته جلاء قلبه والتوفيق للتوبة من ذنبه.
وليجعل تلاوته لأجل تحصيل التوبة من أعظم وسائله إلى ربه. وقد مضى لك في الحديث القدسي في القسم الأول: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينَ» (2)
تحذير:
زعم قوم أن الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خير لعامة الناس من تلاوة القرآن، قالوا: لأن الصلاة ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثماً لمخالفته لما يتلوه!
واستدلوا على هذا بقول أنس رضي الله عنه الذي يحسبه العامة حديثاً: «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه» . فأدى هذا معتقديه إلى ترك قراءة القرآن أو التقليل منها، فليحذر من هذا الرأي ومما أدى إليه.
للصلاة منزلتها وفضلها، وللقرآن فضله ومنزلته، فليأت الذاكر من الصلاة ومن غيرها
__________
(1) راجع الحاشية2 [ص:30] .
(2) راجع الحاشية1 [ص:31] .
(1/35)
________________________________________
أبواب الذكر بما لا يؤدي إلى ترك أو تقليل تلاوة القرآن الذي هو أفضل الاذكار.
وهذا الرأي المتقدم في تفضيل الصلاة على التلاوة، مخالف تمام المخالفة لما نقلناه في: "نتيجة الاستدلال" عن أئمة السلف والخلف: من أن قراءة القرآن أفضل من جميع الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة. ومخالف كذلك لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه:
الوجه الأول:
أن المذنبين مرضى القلوب: فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (1) ؛ فكل معصية يأتي بها الجسد هي من فساد في القلب ومرض به.
وإن الله تعالى قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [[يونس: 57]] . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوه ويتدبروه ويستشفوا به بألفاظه ومعانيه.
وذلك الرأي يصرف المذنبين عن تلاوته!
الوجه الثاني:
أن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة، والشكوك والأوهام، والجهالات، وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها، وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها، ولا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها فهي محتاجة دائماً وأبداً إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن. وقد أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى هذا- فيما رواه البيهقي في الشعب، والقرطبي في التذكار:
«إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن» (2) .
__________
(1) من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؟ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمًى، ألا إن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
أخرجه البخاري في الإيمان باب 39، واللفظ له. ومسلم في المساقاة حديث 107. وابن ماجه في الفتن باب 14. والدارمي في البيوع باب 1. وقوله في الحديث: «الا وإن في الجسد مضغة» قال أهل اللغة: يقال: صلح الشيء وفسد، بفتح اللام والسين وضمهما، والفتح أفصح وأشهر. والمضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها. قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب.
(2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (ج 2 ص241- حديث رقم 3924) من حديث عبد الله بن عمرو، ونسبه لابن شاهين في الترغيب في الذكر. وذكره أيضاً الذهبي في ميزان الاعتدال (9085) وابن حجر في لسان الميزان (576/6) وابن الجوزي في العلل المتناهية (347/2) وابن عدي في الكامل في الضعفاء (258/1) .
(1/36)
________________________________________
فمقصود الشارع من المذنبين أن يتلوا القرآن لجلاء قلوبهم.
وذلك الرأي يصرفهم عنه!
الوجه الثالث:
أن الوعيد والترهيب قد ثبتا في نسيان القرآن بعد تعلمه، وذهابه من الصدور بعد حفظه فيها: فروى أبو داود عن سعد (1) .
«مَا مِنِ اِمْرِىءٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللهَ أَجْذَمَ» (2) . وروى الشيخان عن عبد الله:
«اِسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا (3) مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ» (4) .
فمقصود الشرع دوام التلاوة لدوام الحفظ، ودفع النسيان.
وذلك الرأي أدى إلى تقليلها أو تركها الموقع في النسيان!
لوازم فاسدة لهذا الزعم:
وإلى مخالفته لمقصود الشرع بهذه الوجوه فإن له لوازم فاسدة منها:
1- أن صلاة النافلة مرغب فيها على العموم، وهي مشتملة على قراءة القرآن، فماذا يقول أصحاب هذا الرأي؟ فهل يرغبون المذنبين- أمثالنا- عن النافلة طرداً لأصلهم؟
أم ينهون عن قراءة القرآن في النافلة، فيقولون ما لم يقله أحد؟
أم يقولون بالاقتصار على قراءة سور دون سور، فيتحكمون في الأحكام؟
2- ومنها: أنه قل من يسلم من مخالفة للقرآن بعمله، فإذا ذهبنا مع ذلك الرأي حرم خلق كثير من تلاوة القرآن.
وكفى بقول يؤدي إلى هذا كله رداً على نفسه.
وأما قولهم: «إن تالي القرآن يأثم بقراءته مع مخالفته» . فهي دعوى لم يقيموا عليها من نص صحيح صريح من سنة أو كتاب. بل الدليل قائم على خلافها: فإن المذنب يكتب عليه ذنبه مرة
__________
(1) يعني سعد بن عبادة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو داود في الوتر (باب 21، حديث 1474) .
(3) قال أهل اللغة: التفصي: الانفصال. وهذا بمعنى الرواية الأخرى: أشد تفلتًا. والنعم: أصلها الإبل والبقر والغنم، والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل؛ ففي بعض روايات الحديث: «أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا» .
(4) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 23. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 228 و229. والترمذي في القرآن باب 8. والنسائي في الافتتاح باب 37. والدارمي في الرقاق باب 32، وفضائل القرآن باب 4. وأحمد في المسند (1/ 382، 417، 423، 429، 463) .
(1/37)
________________________________________
واحدة، ولا يكتب عليه مرة ثانية إذا ارتكب ذنباً آخر، وإنما يكتب عليه ذلك الذنب الآخر.
فكيف إذا باشر عبادة التلاوة؟؟! والأصل القطعي- كتاباً وسنة- أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها (1) ، وهو يبطل أن تجدد له سيئاته إذا جاء بحسنة تلاوة القرآن.
وأما قول أنس رضي الله عنه:
«رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ» ، فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته. وكيف وتلاوته عبادة؟! وإنما معناه: أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلًا، فيكون داخلًا في عموم لعنه للظالمين والكاذبين، فخرج هذا الكلام مخرج التقبيح لمخالفة القرآن مع تلاوته، بعثا للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن، وتعجيل المتاب، لا مخرج الأمر بترك التلاوة والانصراف عنها.
هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل عليه بحكم الأدلة المتقدمة.
وثبت في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" (2) . وهذا في المتعبد بالصيام الذي يوقع الزور والعمل به في وقت صيامه؛ فيكون متلبساً بالعبادة والمخالفة في وقت واحد.
ومع هذا فقد قال الشراح في معنى الحديث- والعبارة للقسطلاني (3) :
«وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور. فهو كقوله عليه الصلاة والسلام: «من باع الخمر فليشقص (4) الخنازير» ولم يأمره بشقصها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به، ليتم له أجر صيامه» .
فمن باب أحرى وأولى ألا يكون قول أنس رضي الله عنه، محمولاً على طلب ترك التلاوة من
__________
(1) مثال ذلك مما جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى في الآية 160 من سورة الأنعام: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون} ، وقوله في الآية 27 من سورة يونس: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها} ، وقوله في الآية 84 من سورة القصص: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلاّ ما كانوا يعملون} ، وقوله في الآية 40 من سورة غافر: {من عمل سيئة فلا يجزى إلاّ مثلها} . ومن السنة المشرفة ما رواه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان، حديث رقم 205) عن أبي هريرة، عن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله عز وجلّ: إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها. وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» .
(2) من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري في الصوم باب 8، والأدب باب51. وأبو داود في الصوم باب 25. والترمذي في الصوم باب 16. وابن ماجه في الصيام باب21. وأحمد في المسند (2/ 453، 505) .
(3) في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (3/ 353، 354) .
(4) قال القسطلاني (3/ 353) : «أي يذبحها» .
(1/38)
________________________________________
المذنب، لأنه غير مباشر لذنبه في حال تلاوته، وإنما المقصود تحذيره من الاستمرار على المخالفة، وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته.
هذا حظ العلم في الاستدلال على حاجة المذنبين إلى تلاوة القرآن العظيم.
وأما حظ التجربة: فوالله الذي لا إله إلاّ هو، ما رأيت- وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إلانة للقلب، واستدراراً للدمع، وإحضارا للخشية، وأبعث على التوبة من تلاوة القرآن وسماع القرآن.
عود إلى تتميم الكلام على التحذير:
ليحذر القارىء من السرعة في التلاوة التي تؤدي إلى تخليط كلماته، وتذهب بحلاوته، وتمنع من بقاء أثره في النفس.
وليحذر من ذهاب قلبه مسترسلاً مع خواطره، منصرفاً عن تدبره والتذكر به، وإذا عرضت له الخواطر فليصرفها ليدفعها، وليحمل فكره على تدبر آيات الكتاب، ولا ينقطع عن التلاوة إذا كانت تلك الخواطر لا تفارقه، فإن تصميمه على دفعها مع تكاثرها من جهاد لنفسه، الذي يثاب عليه، وينتهي به في الأخير إلى الانتصار عليها.
وليحذر من الاستمرار على ما عنده من مخالفة لأوامر ونواهي الكتاب ومن عدم الخوف والوجل عند المرور بآيات الوعيد والتقريع على ذلك الذنب، إذا لم يوفق للتوبة في بعضها، فليستحضر الخشية والخضوع عند الآيات المتعلقة بذلك الذنب، وليكررها وليتفهمها. وليقف عندها وقفة العاجز الذليل الفقير المتضرع لربه، المتعرض لرحمته بتلاوة كلامه، فإن هذا من أعظم الوسائل لتيسير التوبة.
فرتل القرآن، وتدبر معانيه، والزم حدوده، واضرع إلى الله تعالى أن يرزقك التوبة فيما عندك من مخالفة تكن من الفائزين بإذن رب العالمين.
(1/39)
نضع بين ايديكم تفسير ابن باديس الذي جاء تحت عنوان
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
التذكير
حقيقية التذكير أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان به جاهلًا، أو عنه ناسياً، أو غافلًا. وقد يقوم الفعل والسمت والهدي مقام القول، فيسمى تذكيراً مجازاً وتوسعاً.
ويجمع للثلاثة قولك: عباد الله الصالحون يذكرون الخلق بالخالق، بأقوالهم وأعمالهم وسمتهم.
حاجة الخلق إليه:
وحاجة العباد إلى هذا التذكير أعظم ما يحتاجون إليه وأشرف وألزم. فإن سعادتهم الحقيقية في هذه الحياة بإنارة عقولهم، وزكاة نفوسهم واستقامة سلوكهم.
وفي الحياة الأخرى بنعيم الجنان، وحلول الرضوان- إنما هي بإيمانهم بربهم، وشكرهم له.
وإن دلائل وجوده ووحدانيته وقيوميته، وآثار فضله وإحسانه ورحمته- ماثلة في الكون بادية للعيان، داعية إلى الشكر، هادية إلى الإيمان. لكن العقول كثيراً ما تكون مغلولة بقيود أهوائها، محجوبة بحجب غفلتها؟ فتعمى عن تلك الدلائل والآثار، فتكفر كفر جحود وعناد، أو كفر عصيان وطغيان؛ ويكون تورطها في كبائر الذنوب وصغائرها على مقدار تلك الحجب وتلك القيود. وليس- لغير من عصم الله- انفكاك أو خروج منها كلها.
فهم إذن بأشد الحاجة إلى تذكيرهم بتلك الدلائل وتلك الآثار ليحصلوا أسباب سعادتهم بالإيمان والشكر.
القائمون بالتذكير:
قد علم الله حاجة عباده إلى التذكير، فاصطفى منهم رجالًا أنعم عليهم بكمال الفطرة، ووقاية العصمة، وأرسلهم لتذكير العباد: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] ، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ، ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208، 209] .
(1/25)
________________________________________
فالأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام- أولو هذا المقام الجليل: مقام التذكير، ثم من بعدهم ورثتهم من العلماء العاملين.
تذكير النبي:
قد كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على سنة إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد، ممتثلا أمر ربه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] . إذ السيطرة لا تكون على القلوب؛ والإيمان -وهو من أعمال القلب- لا يكون بالإكراه، وإنما بذكر الحجج والأدلة، وكذلك سنة المرسلين في الدعوة إلى الله، كما قصها علينا القرآن الكريم في كثير من السور والآيات.
ما كان يذكر به النبي:
كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يذكرهم بقوله وعمله وهديه وسمته، ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه. وقد قالت عائشة الصديقة رضوان الله عليها، لما سئلت عن خلقه قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» .
فكان تذكيره كله بآيات القرآن: يتلوها، ويبينها بالبيان القولي والبيان العملي، ممتثلاً في ذلك كله أمر ربه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] .
فالقرآن وبيانه القولي والعملي من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ بهما يكون تذكير العباد، ودعوتهم لله رب العالمين.
ومن حاد في التذكير عنهما ضل وأضل، وكأن ما يضر أكثر مما ينفع إن كان هناك من نفع.
من كان يذكرهم النبي؟:
كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يفتأ مذكراً للمؤمنين والكافرين والله يهدي من يشاء ويوفق من يريد. وقد أمر بالتذكير مطلقاً في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} .
وكانت سيرته العملية في التذكير هي العمل بهذا الإطلاق، فما كان يخص قوماً دون قوم في الدعوة والتذكير، فكانت هاته السنة العملية، دليلاً على أن ما جاء على صورة التقييد في بعض الآيات ليس المراد منه التقييد، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] .
فالشرط الصوري هو للاستبعاد، أي استبعاد نفع الذكرى فيهم. ولا يزال من أساليب العربية في لسان التخاطب الدارج بيننا قول الناس لبعضهم: «كلمه في كذا إذا نفع فيه الكلام» استبعاداً لنفعه فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} . فليس ذكر المفعول للتقييد، وإنما هو للتنبيه على أنه هو الذي ينتفع بالتذكير، نظير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .
(1/26)
________________________________________
مشروعية التذكير:
ولحاجة العباد للتذكير ومنزلته من الدين شرعه الله للمسلمين شرعاً مؤقتا في خطب الجمع والأعياد، وشرعاً مرسلاً موكولاً للمذكرين على ما يرونه من نشاط الناس وحاجتهم.
وكما كان يتخول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الناس بالموعظة، وطلبه طلباً عاماً من جميع المؤمنين في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} في صفة المؤمنين العاملين.
وسيكون هذا الباب من "المجلة" (1) مجالًا لفنون من التذكير جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وآخرة.
__________
(1) أي مجلة "الشهاب" التي نشر فيها هذا البحث.
(1/27)
________________________________________
أفضل الأذكار
تمهيد:
(أ) حالة يعالج فيها شؤون الحياة من أمر نفسه وأهله، وما إلى رعايته من مصالحه، أو مصالح غيره، فيمارس فيها الأسباب، ويباشر فيها ما تقتضيه بشريته.
وهو في هذه الحالة متعبد مأجور ما جرى فيها على حدود الله، وقصد بها امتثال شرعه.
(ب) وحالة ينفرد فيها لربه ويخلص قلبه من هم ذلك كله، ويتوجه بكليته إلى خالقه: بالفكر والاعتبار ودوام المراقبة والإقبال.
وهذه الحالة الثانية هي أشرف وأفضل حالتيه، وهي أساس الاستقامة في الحالة الأولى وأصل الكمال فيها.
كانت هاتان الحالتان للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما كانتا لغيره. وقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، إشارة إلى الحالة الأولى: التي يكون فيها قائما بمصالح الأمة، وناهضاً بأعباء الرسالة، ومباشرة الشؤون العامة والخاصة، ورآها دون الحالة الثانية: التي يكون [فيها] .متفرغ القلب للرب.
وما كان ذلك الغين إلاّ الاشتغال بأمور الخلق في الحالة الأولى التي يحجب [فيها] .عن كمال مشاهدة الحق التي في الحالة الثانية، فاستغفر الله تعالى منه.
وما كان استغفاره- عليه الصلاة والسلام- إلاّ لاشتغاله بكامل عن أكمل، وتوجهه للقيام بأمر عظيم عن مقام أعظم.
وقد تفطن الصحابة رضوان الله عليهم لهاتين الحالتين، وسألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عنهما، وأفتاهم فيهما: فجاء في الصحيح أن حنظلة الأسيدي- وكان من كتّاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال:
«لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا (1) الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ (2) ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
__________
(1) عافسنا: قال الهرويّ وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به؛ أي عالجنا معايشنا وحظوظنا.
(2) الضيعات: جمع ضيعة، وهي معايش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة.
(1/28)
________________________________________
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا.
فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ!! وَلِكْنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً (1) » .
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «سَاعَةً وَسَاعَةً» بيان للحالتين وتقرير لها. وقوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» إلى آخره، بيان لفضلاهما.
هذه الحالة الفضلى الذكر الذي يحصلها العبد على أكمل وجه هو أفضل الأذكار.
وستعرف مما سيأتي بعد أنه هو القرآن، وقد قسمنا ما سنقوله إلى قسمين: علمي وعملي، وختمنا بفصل في التحذير.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب التوبة، حديث 12) وفي آخر الحديث بعد قوله: «ساعة وساعة ... » زيادة لفظ: «ثلاث مرات» . وأخرجه أيضاً الترمذي في جامعه (كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب 59، حديث 2514) .
(1/29)
________________________________________
القسم العلمي
(أ) القرآن أفضل الأذكار من طريق الأثر:
1- قال الله تبارك وتعالى:
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ.} [الأنبياء: 5] ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91، 92] .
فهذه البركة، وهذا التيسير، وهذا الأمر بالتلاوة المقرون بالأمر بتوحيد العبادة وبالإسلام على طريق الحصر- لم ترد إلاّ في القرآن.
2- وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» .
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» (1) .
وهذه مثوبة لم ترد لغير القرآن من جمع الأذكار.
3- وروى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً:
«مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» (2) .
ومن معناه ما ذكره القرطبي عن فروة بن نوفل عن خباب بن الأرت قال: «إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه» .
__________
(1) أنظر الجامع الصحيح للترمذي (كتاب فضائل القرآن، باب 16، حديث 2910) ولفظه بعد رواية الحديث: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه» . وقال قبله: «ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود» .
(2) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب 17، حديث 2911. وتمامه: «ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليُذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه» . قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه» .
(1/30)
________________________________________
ومثل هذا لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع.
4- وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً:
يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينِ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» (1) .
وهذا الحديث والذي قبله نصان صريحان في المقصود.
5- وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:
«قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ» (2) .
6- وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنه:
«سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ، وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ.
ثُمَّ الدُّعَاءُ وَالاِسْتِغْفَارُ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ.
ثُمَّ الصَّدَقَةُ، فَإِنَّهَا تُطْفِىءُ غَضَبَ الرَّبِّ.
ثُمَّ الصِّيَامُ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ لِلْعَبْدِ مِنَ النَّارِ» .
قال القرطبي- بعد ما خرج هذا الحديث بسنده- قال علماؤنا: «هذا حديث عظيم في الدين يبين فيه أن أعظم العبادات قراءة القرآن في الصلاة» .
(ب) القرآن أفضل الأذكار من طريق النظر:
إن أشرف حالتي الإنسان- وهي حالة انفراده لربه، وتوجهه بكليته إليه، وخلوص قلبه له، وتعلقه به- إنما تحصل على أكملها لتالي القرآن العظيم؛ فإن أفضل ما فيه- وهو قلبه- يكون قائماً بأفضل أعماله وهو التفكير والتدبر في أفضل المعاني، وهي معاني القرآن.
وإن ترجمان ذلك القلب- وهو لسانه- يكون قائماً بأفضل أعماله وهي البيان بأفضل كلام وهو القرآن.
وجوارحه- إذا لم يكن في صلاة- كانت محبوسة على قيام القلب واللسان بأفضل الأعمال،
__________
(1) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب 25، حديث 2926. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 413) (باب في تعظيم القرآن، فصل في استحباب القراءة في الصلاة، حديث رقم 2243) وتتمته فيه: « ... والتسبيح أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جُنّة من النار» .
(1/31)
________________________________________
وإذا كان في صلاة كانت قائمة بأفضل عبادة وهي الصلاة، في أشرف موقف وهو مناجاة الرحمن بآيات القرآن.
فهذا الذكر الحكيم، تنزيل الرحمن الرحيم، الذي يحصل هذه الحال، التي هي أشرف الأحوال، وهي معراج الأرواح لمنازل الكمال، هو أفضل الأذكار.
وأيضاً فإن الذكر قلبي ولساني وعملي، والقرآن محصل لذلك كله على أكمله كما سنبينه.
القرآن، والذكر القلبي:
فالتالي للقرآن المتدبر لآياته، يكون متفكراً في مخلوقات الله وما فيها من حكم ومن نعم، وفي معاني أسمائه وصفاته، وفي مظاهر رحمته وإحسانه وبطشه وانتقامه، وفي أسباب ثوابه وعقابه، وفي مواقع رضاه وسخطه.
كما يكون التالي أيضاً متبصراً في عقائده، خبيراً بأدلتها، ورد الشبه عنها.
كما يكون أيضاً مستحضراً لربه في قلبه باستحضار حقوقه ونعمه وآلائه؛ إذ هذا كله مما تضمنته آي القرآن على أكمل بيان، وأوضح برهان.
القرآن والذكر اللساني:
وكذلك قد اشتمل القرآن على أفضل الأذكار اللسانية: من تهليل، وتكبير، وتحميد، وتسبيح، وتمجيد، واستغفار، ودعاء، وعلى الأسماء الحسنى، والصفات العلى للرب تبارك وتعالى؛ فتاليه يكون ذاكراً بهذه الأذكار كلها.
القرآن، والذكر العملي:
إن تلاوة القرآن بالتدبر تثمر للتالي التوبة والإنابة والرجاء والخوف، وذلك كله مما يكون له خير داع إلى الاستقامة- ولو بعض الشيء- في سلوكه العملي.
هذا شيء قليل مما للقرآن في الذكر بأنواعه الثلاثة.
إلى ما فيه من علم مصالح العباد في المعاش والمعاد، وبسط أسباب الخير والشر والسعادة والشقاوة في الدنيا والأخرى. وعلم النفوس وأحوالها، وأصول الأخلاق والأحكام. وكليات السياسة والتشريع. وحقائق الحياة في العمران والاجتماع. ونظم الكون المبنية على الرحمة والقوة، والعدل والإحسان.. إلى ما تقصر عن عده الألسنة وتعجز عن الإحاطة به الأفهام.
وإنما ينال كل تال منها على قدر ما عنده من سلامة قصد، وصحة علم، بتقدير وتيسير من الحكيم العليم.
نتيجة الاستدلال:
لهذه الأدلة الأثرية والنظرية المذكورة وغيرها ذهب الأئمة من السلف والخلف إلى أن قراءة القرآن أفضل من الذكر. قال سفيان الثوري:
(1/32)
________________________________________
«سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر» . نقله القرطبي في الباب السابع من كتاب التذكار.
وقال النووي: «واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء: أن قراءة القرآن [[أفضل]] (*) من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك» . قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ليست في المطبوع، ولعل الصواب إثباتها
(1/33)
________________________________________
القسم العملي
مقدار التلاوة:
قد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لا يخلي ليله ونهاره من تلاوة القرآن، وكان- كما قال القرطبي-: «يختمه في سبع» . وهكذا قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه: «وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً» . وقد كان قال له أولا: «وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ» . فلما قال له: إنه يطيق أكثر من ذلك نقله إلى العشرين، وإلى الخمسة عشر، وإلى العشر، وانتهى به إلى السبع في قول الأكثر (1) . وكان هذا فعل الأكثرين من السلف.
وعند الترمذي وغيره، من حديث ابن عمرو رضي الله عنه مرفوعاً: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» (2) . وهذا ترخيص فيما دون السبع، وترغيب عما دون الثلاث.
وقد فهم السلف من هذه الأحاديث بيان ما يكون وظيفة وحزبا يستمر عليه؛ فلذا لم يمتنعوا من ختم القرآن في أقل من ذلك في مرات في بعض الأحوال، وقد ثبت عن كثير منهم ختم القرآن في ركعة واحدة.
ولا شك أن أحوال حملة القرآن تختلف في التفرغ للتلاوة والاشتغال بغيرها.
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 34، والصوم باب 58. وأبو داود في رمضان باب 8 و9. والنسائي في الصيام باب 76 و78. وابن ماجه في الإقامة باب 178. ولفظ الحديث بتمامه كما رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن (باب 34، حديث رقم 2052) : «حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنّته فيسألها عن بعلها فتقول: نِعْمَ الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفًا مذ أتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: القني به. فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم. قال: وكيف تختم؟ قال: كل ليلة. قال: صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم ثلالة أيام في الجمعة. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة. فليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أني كبرت وضعفت. فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، واذا أراد أن يتقوى افطر أياما وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئا فارق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابو عبد الله: وقال بعضهم في ثلاث وفي خمس، وأكثرهم على سبع» .
(2) أخرجه الترمذي في القرآن باب 11. وأبو داود في رمضان باب 8 و9. وابن ماجه في الإقامة باب 178. والدارمي في الصلاة باب 173. وأحمد في المسند (2/ 164، 165، 189، 193، 195) .
(1/34)
________________________________________
وأحوال الشخص الواحد في نفسه تختلف كذلك فيرتب حامل القرآن حزبه من الشهر إلى السبع على حسب حاله.
فإذا لم يكن من حملة القرآن فلا يخل ليله ونهاره من تلاوة شيء مما معه حسب استطاعته، ولا يكن من الغافلين.
ما يقصده من التلاوة:
قراءة القرآن أفضل أعمال اللسان، وتدبر معانيه أفضل أعمال القلب، هذا من حديث أبي أمامة عند الترمذي الذي قدمناه في القسم الأول (1) فليقصد التالي التقرب إلى الله بهما. والقرآن موعظة ترقق القلوب القاسية فليقصد تليين قلبه.
والقرآن شفاء لأدواء النفوس في عقائدها وأخلاقها وأعمالها؛ فليقصد الشفاء به من ذلك كله.
والقرآن هدى ودلالة على كل حال ما يوصل إلى سعادة الدنيا والأخرى فليقصد الاهتداء بهدايته.
والقرآن رحمة من الله للمؤمنين، فليستنزل بتلاوته وتدبره الرحمة من الله تعالى بإفاضة علوم القرآن على قلبه، وبتوفيقه إلى القيام بمقتضى هدايته.
ولا يسلم تالي القرآن- لأنه غير معصوم- من ذنوب قد يصدأ لها قلبه، فليقصد بتلاوته جلاء قلبه والتوفيق للتوبة من ذنبه.
وليجعل تلاوته لأجل تحصيل التوبة من أعظم وسائله إلى ربه. وقد مضى لك في الحديث القدسي في القسم الأول: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينَ» (2)
تحذير:
زعم قوم أن الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خير لعامة الناس من تلاوة القرآن، قالوا: لأن الصلاة ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثماً لمخالفته لما يتلوه!
واستدلوا على هذا بقول أنس رضي الله عنه الذي يحسبه العامة حديثاً: «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه» . فأدى هذا معتقديه إلى ترك قراءة القرآن أو التقليل منها، فليحذر من هذا الرأي ومما أدى إليه.
للصلاة منزلتها وفضلها، وللقرآن فضله ومنزلته، فليأت الذاكر من الصلاة ومن غيرها
__________
(1) راجع الحاشية2 [ص:30] .
(2) راجع الحاشية1 [ص:31] .
(1/35)
________________________________________
أبواب الذكر بما لا يؤدي إلى ترك أو تقليل تلاوة القرآن الذي هو أفضل الاذكار.
وهذا الرأي المتقدم في تفضيل الصلاة على التلاوة، مخالف تمام المخالفة لما نقلناه في: "نتيجة الاستدلال" عن أئمة السلف والخلف: من أن قراءة القرآن أفضل من جميع الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة. ومخالف كذلك لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه:
الوجه الأول:
أن المذنبين مرضى القلوب: فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (1) ؛ فكل معصية يأتي بها الجسد هي من فساد في القلب ومرض به.
وإن الله تعالى قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [[يونس: 57]] . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوه ويتدبروه ويستشفوا به بألفاظه ومعانيه.
وذلك الرأي يصرف المذنبين عن تلاوته!
الوجه الثاني:
أن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة، والشكوك والأوهام، والجهالات، وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها، وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها، ولا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها فهي محتاجة دائماً وأبداً إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن. وقد أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى هذا- فيما رواه البيهقي في الشعب، والقرطبي في التذكار:
«إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن» (2) .
__________
(1) من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؟ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمًى، ألا إن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
أخرجه البخاري في الإيمان باب 39، واللفظ له. ومسلم في المساقاة حديث 107. وابن ماجه في الفتن باب 14. والدارمي في البيوع باب 1. وقوله في الحديث: «الا وإن في الجسد مضغة» قال أهل اللغة: يقال: صلح الشيء وفسد، بفتح اللام والسين وضمهما، والفتح أفصح وأشهر. والمضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها. قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب.
(2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (ج 2 ص241- حديث رقم 3924) من حديث عبد الله بن عمرو، ونسبه لابن شاهين في الترغيب في الذكر. وذكره أيضاً الذهبي في ميزان الاعتدال (9085) وابن حجر في لسان الميزان (576/6) وابن الجوزي في العلل المتناهية (347/2) وابن عدي في الكامل في الضعفاء (258/1) .
(1/36)
________________________________________
فمقصود الشارع من المذنبين أن يتلوا القرآن لجلاء قلوبهم.
وذلك الرأي يصرفهم عنه!
الوجه الثالث:
أن الوعيد والترهيب قد ثبتا في نسيان القرآن بعد تعلمه، وذهابه من الصدور بعد حفظه فيها: فروى أبو داود عن سعد (1) .
«مَا مِنِ اِمْرِىءٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللهَ أَجْذَمَ» (2) . وروى الشيخان عن عبد الله:
«اِسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا (3) مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ» (4) .
فمقصود الشرع دوام التلاوة لدوام الحفظ، ودفع النسيان.
وذلك الرأي أدى إلى تقليلها أو تركها الموقع في النسيان!
لوازم فاسدة لهذا الزعم:
وإلى مخالفته لمقصود الشرع بهذه الوجوه فإن له لوازم فاسدة منها:
1- أن صلاة النافلة مرغب فيها على العموم، وهي مشتملة على قراءة القرآن، فماذا يقول أصحاب هذا الرأي؟ فهل يرغبون المذنبين- أمثالنا- عن النافلة طرداً لأصلهم؟
أم ينهون عن قراءة القرآن في النافلة، فيقولون ما لم يقله أحد؟
أم يقولون بالاقتصار على قراءة سور دون سور، فيتحكمون في الأحكام؟
2- ومنها: أنه قل من يسلم من مخالفة للقرآن بعمله، فإذا ذهبنا مع ذلك الرأي حرم خلق كثير من تلاوة القرآن.
وكفى بقول يؤدي إلى هذا كله رداً على نفسه.
وأما قولهم: «إن تالي القرآن يأثم بقراءته مع مخالفته» . فهي دعوى لم يقيموا عليها من نص صحيح صريح من سنة أو كتاب. بل الدليل قائم على خلافها: فإن المذنب يكتب عليه ذنبه مرة
__________
(1) يعني سعد بن عبادة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو داود في الوتر (باب 21، حديث 1474) .
(3) قال أهل اللغة: التفصي: الانفصال. وهذا بمعنى الرواية الأخرى: أشد تفلتًا. والنعم: أصلها الإبل والبقر والغنم، والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل؛ ففي بعض روايات الحديث: «أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا» .
(4) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 23. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 228 و229. والترمذي في القرآن باب 8. والنسائي في الافتتاح باب 37. والدارمي في الرقاق باب 32، وفضائل القرآن باب 4. وأحمد في المسند (1/ 382، 417، 423، 429، 463) .
(1/37)
________________________________________
واحدة، ولا يكتب عليه مرة ثانية إذا ارتكب ذنباً آخر، وإنما يكتب عليه ذلك الذنب الآخر.
فكيف إذا باشر عبادة التلاوة؟؟! والأصل القطعي- كتاباً وسنة- أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها (1) ، وهو يبطل أن تجدد له سيئاته إذا جاء بحسنة تلاوة القرآن.
وأما قول أنس رضي الله عنه:
«رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ» ، فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته. وكيف وتلاوته عبادة؟! وإنما معناه: أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلًا، فيكون داخلًا في عموم لعنه للظالمين والكاذبين، فخرج هذا الكلام مخرج التقبيح لمخالفة القرآن مع تلاوته، بعثا للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن، وتعجيل المتاب، لا مخرج الأمر بترك التلاوة والانصراف عنها.
هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل عليه بحكم الأدلة المتقدمة.
وثبت في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" (2) . وهذا في المتعبد بالصيام الذي يوقع الزور والعمل به في وقت صيامه؛ فيكون متلبساً بالعبادة والمخالفة في وقت واحد.
ومع هذا فقد قال الشراح في معنى الحديث- والعبارة للقسطلاني (3) :
«وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور. فهو كقوله عليه الصلاة والسلام: «من باع الخمر فليشقص (4) الخنازير» ولم يأمره بشقصها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به، ليتم له أجر صيامه» .
فمن باب أحرى وأولى ألا يكون قول أنس رضي الله عنه، محمولاً على طلب ترك التلاوة من
__________
(1) مثال ذلك مما جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى في الآية 160 من سورة الأنعام: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون} ، وقوله في الآية 27 من سورة يونس: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها} ، وقوله في الآية 84 من سورة القصص: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلاّ ما كانوا يعملون} ، وقوله في الآية 40 من سورة غافر: {من عمل سيئة فلا يجزى إلاّ مثلها} . ومن السنة المشرفة ما رواه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان، حديث رقم 205) عن أبي هريرة، عن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله عز وجلّ: إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها. وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» .
(2) من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري في الصوم باب 8، والأدب باب51. وأبو داود في الصوم باب 25. والترمذي في الصوم باب 16. وابن ماجه في الصيام باب21. وأحمد في المسند (2/ 453، 505) .
(3) في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (3/ 353، 354) .
(4) قال القسطلاني (3/ 353) : «أي يذبحها» .
(1/38)
________________________________________
المذنب، لأنه غير مباشر لذنبه في حال تلاوته، وإنما المقصود تحذيره من الاستمرار على المخالفة، وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته.
هذا حظ العلم في الاستدلال على حاجة المذنبين إلى تلاوة القرآن العظيم.
وأما حظ التجربة: فوالله الذي لا إله إلاّ هو، ما رأيت- وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إلانة للقلب، واستدراراً للدمع، وإحضارا للخشية، وأبعث على التوبة من تلاوة القرآن وسماع القرآن.
عود إلى تتميم الكلام على التحذير:
ليحذر القارىء من السرعة في التلاوة التي تؤدي إلى تخليط كلماته، وتذهب بحلاوته، وتمنع من بقاء أثره في النفس.
وليحذر من ذهاب قلبه مسترسلاً مع خواطره، منصرفاً عن تدبره والتذكر به، وإذا عرضت له الخواطر فليصرفها ليدفعها، وليحمل فكره على تدبر آيات الكتاب، ولا ينقطع عن التلاوة إذا كانت تلك الخواطر لا تفارقه، فإن تصميمه على دفعها مع تكاثرها من جهاد لنفسه، الذي يثاب عليه، وينتهي به في الأخير إلى الانتصار عليها.
وليحذر من الاستمرار على ما عنده من مخالفة لأوامر ونواهي الكتاب ومن عدم الخوف والوجل عند المرور بآيات الوعيد والتقريع على ذلك الذنب، إذا لم يوفق للتوبة في بعضها، فليستحضر الخشية والخضوع عند الآيات المتعلقة بذلك الذنب، وليكررها وليتفهمها. وليقف عندها وقفة العاجز الذليل الفقير المتضرع لربه، المتعرض لرحمته بتلاوة كلامه، فإن هذا من أعظم الوسائل لتيسير التوبة.
فرتل القرآن، وتدبر معانيه، والزم حدوده، واضرع إلى الله تعالى أن يرزقك التوبة فيما عندك من مخالفة تكن من الفائزين بإذن رب العالمين.
(1/39)
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القسم الرابع في سورة يس
في هذا القسم:
1- يس والقول في فواتح السور، والفائدة العلمية.
لطف الله في جعل حد للعقل.
خفاء بعض الأحكام ووجهه.
قيام الحجة على الإنسان بما عرف.
2- الحكمة في هذه الآيات.
3- العقائد وأدلتها من هذه الآيات.
4- الوحي مصدر الإسلام.
5- الإسلام دين العز والرحمة.
6- النذارة ثمرة الرسالة.
7- لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه.
8- لا حجة لمن مات على كفره، بما سبق من علم الله فيه.
9- تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه.
10- من استوى عنده الإنذار وعدمه، لا يرجى منه إيمان.
11- الحياة بعد الموت.
12- إحصاء الأعمال.
13- الإحصاء العام في الكتاب الإمام.[/rtl]
[rtl](1/281)[/rtl]
[rtl]المرسل والرسالة والرسول والمرسل إليهم
{يس (1) } (فاتحة سورة يس)
تمهيد:
مثل هذا اللفظ مما افتتحت به بعض سور القرآن للعلماء فيه طريقتان:
الطريقة الأولى:
أنه لفظ له معنى يعلمه الله، فهو من المتشابه الذي لا يعلمه الراسخون، وإنما يؤمنون به، ويردون علمه إلى عالمه.
سؤال وجوابه:
القرآن أنزل للبيان، ولا بيان إلاّ بالإفهام، فكيف يكون في القرآن لفظ لا يُفهم له معنى؛ والجواب: أن عدم فهم معنى من بضع عشرة كلمة افتتحت بها بعض السور، لا يخل ببيان القرآن، لما أنزل لبيانه من عقائد وآداب وأحكام وغيرها من مقاصد القرآن.
توجيه وتنظير:
إن الله تعالى أعطانا العقل، الذي به ندرك الآيات التي نصبها لنا؛ لنستدل بها على وجوده ووحدانيته وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته.
وبالنظر في هذه الآيات نصل- بتيسير الله- بعقولنا إلى إدراك بدائع عجيبة، وأسرار غريبة، ما تزال تتجلى لنا ما دمنا نتأمل فيها، ونعتبر بها.
وما يزال الإنسان يكتشف منها حقائق مضت عليها أزمان، وهو يعدّها من المحال، ويجتني منها فوائد ما كانت تخطر له- في أحقابه الماضية- على بال.
غير أن استجلاء هذه الحقائق، واستحصال هذه الفوائد من الآيات الكونية- على نفاستها وعظيم نفعها- محفوف بخطر الإعجاب بذلك العقل؛ حتى يحسب أنه محيط بالحقائق كلها، وأن مدركاتها يقينيات بأسرها.
فيؤديه حسبانه الأول (1) إلى الفتنة بالمدركات، فيحسب أن لا شيء بعدها فقد يخرج إلى إنكار خالقها.
ويؤديه حسبانه الثاني (2) إلى الذهاب في ظنونه وأوهامه وفرضياته، إلى غايات لا نسب بين اليقين وبينها.
__________
(1) أي أنه محيط بالحقائق كلها.
(2) أي أن مدركاتها يقينيات بأسرها.[/rtl]
[rtl](1/283)[/rtl]
[rtl]فكان من لطف الله بالإنسان أن جعل لعقله حداً يقف عنده، وينتهي إليه، ليسلم من هذا الخطر: خطر الإعجاب بالعقل.
ففي آيات الله الكونية حقائق كثيرة تقف العقول حيارى أمامها، وقد تشهد آثارها، ولا تستطيع أن تعرف كنهها، كحقيقة الكهرباء في الكون، وحقيقة الروح والعقل في الإنسان.
فمثل هذه الحقائق المنغلقة التي يرتد عقل الإنسان إليه عنها خاسئاً وهو حسير، هي التي تعرفه بقدره، وبعظمة هذا الكون، وفخامة أمره، فيقف بعقله عند حد النظر والاعتبار، والاستدلال ببديع الصنعة وعظيم النعمة على حكمة الله البالغة، ومنته السابغة، دون خلط للأوهام بالحقائق، ولا فتنة بالمخلوق عن الخالق.
هذه الحقائق التي خفيت عن العقل البشري، فلم يدرك كنهها، لم تقدح في دلالة آيات الأكوان، على ما دلت عليه من وجود الخالق ووحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وفضله، وإحسانه، ورحمته.
فكذلك لم يقدح في بيان القرآن ودلالة آياته، خفاء معاني بضع عشرة كلمة من كلماته.
وكما كان خفاء تلك الحقائق في الآيات الكونية، إيقافاً للعقل عند حده، وتعريفاً له بقدره، وتنبيهاً له على عظم آيات ربه؛ كذلك كان خفاء هذه المعاني في الآيات القرآنية لمثل ذلك. ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية في هذا الجلاء العام، والخفاء الخاص.. جملة من الأحكام:
كعدد الصلوات، والركعات، والسجدات، التي خفيت على العقول حكمتها، وقد ظهرت الحكم الكثيرة الجلية في سائر أحكام الشريعة غيرها.
ولم يقدح في حكمة الشريعة في أحكامها، خفاء ما خفي في بعضها.
كما لم يقدح خفاء ما خفي من حقائق الآيات الكونية، ومعاني الآيات الكلامية في دلالتها وبيانها.
والحكمة هنا في هذه الأحكام هي الحكمة المتقدمة فيهما.
ونظير الآيات الكونية، والآيات الكلامية، والأحكام الشرعية، في هذا الخفاء الجزئي تصرفات الله في خلقه بمجاري أقداره.
فقد تظهر حكمة الله فيها، وقد تخفى.
وقد تخفى دهراً وتظهر بعد مدة.
وقد نبهنا الله على هذه الحقيقة، بما قص علينا في قصة يوسف عليه السلام، وما كان مجهولًا من حكم قدر الله في مبدإ أمره، وما ظهر من تلك الحكم الباهرة للقدر في آخر أمره.
وبما قصه علينا في قصة أم موسى- عليه السلام- لما أوحى إليها بقذفه في اليم، وعدم الخوف عليه، وما كان من عواقب أمره.[/rtl]
[rtl](1/284)[/rtl]
[rtl]وكما لا ينفي الحكمة عن تدبير الله عدم ظهورها.. كذلك لا ينفي الحكمة عن شرعه عدم فهمها، ولا يقدح في دلالة الآيات وبيانها، عدم إدراك كنهها، أو عدم فهم معناها.
ففي خلق الله، وفي شرع الله، وفي قدر الله، وفي كلام الله، ما يخفى على العقول إدراك حقيقته، أو حكمته، أو معناه، لطفاً من الله بالإنسان وتنبيهاً له.
وقد قامت الحجة عليه فيما جهل بما عرف، وتجلت له بدائع الخلقة وجلائل النعمة فيما ظهر، فآمن بوجود مثلها فيما خفي.
إذ الرب الحكيم الرحيم، لا يكون منه إلاّ ما هو حكمة، وفيه نعمة.
فكان الإنسان (1) في القسم الأول (2) مدركاً مستدلاً معتبراً، قد استعمل عقله فأداه إلى الإيمان واليقين فيما ظهر. وكان في القسم الثاني (3) مصدقاً مذعناً لربه صاغراً، قد أدرك الحجة فآمن بالغيب فيما استتر، فجمع بين النظر والاستدلال، والتسليم والإذعان.
فهذا توجيه وجود لفظ من كتاب الله لا نفهم معناه- عند من يقول به- ببيان حكمته، مع تنظيره بمثله في خلق الله وشرعه وقدره.
بناء العمل على هذا العلم:
قد رأيت كيف يقف العقل عاجزاً أمام بعض أسرار الخلق والقدر والشرع.
والقرآن مع يقينه بما علم منها أن ما عجز عن إدراكه، ما هو إلاّ مثل ما عرف في كماله في الحق والحكمة والنعمة؛ إذ الجميع- ما عرف وما عجز عنه- من إله واحد حكيم خبير، رحمن رحيم.
فليذكر الناظر في خلق الله، وقدره، وشرعه، وكلامه، دائماً هذه الحقيقة:
وهي ثبوت الحق والحكمة والنعمة في جميعها، وإمكان عجز عقله في بعض المواضع والأحوال عن إدراكها؛ فيكون عمله في خلق الله هو النظر والبحث والتحليل والاكتشاف، واستجلاء الحقائق الكونية، واستخراج الفوائد العلمية والعملية، إلى أقصى حد توصله إليه معلوماته وآلاته.
حتى إذا انتهى إلى مشكل استغلق عليه اعترف بعجزه، ولم يرتكب من الأوهام والفروض البعيدة ما يكسو الحقيقة ظلمة، ويوقع الباحث من بعده في ضلالة أو حيرة.
فكثيراً ما كانت الفروض الوهمية الموضوعة موضع اليقينيات، سبباً في صد العقول عن النظر، وطول أمد الخطأ والجهل (4) .
__________
(1) أي المؤمن كما يؤخذ من كلامه بعد.
(2) أي فيما عرف حكمته.
(3) أي فيما خفي عليه حكمته.
(4) كفرضية تسطيح الأرض وثباتها بقيم مسلمة قرونًا عديدة فكانت سببًا في صدّ العقول عن اكتشافات أخرى مهمة.[/rtl]
[rtl](1/285)[/rtl]
[rtl]ويكون عمله في قدر الله هو الاعتبار في تصاريف القدر، واتعاظ بأحوال البشر، واستحصال قواعد الحياة من سير الحياة.
فإذا رأى من تصاريف القدر ما لم يعرف وجهه ولم يتبين له ما فيه من عدل وحكمة وإحسان ورحمة ... فليذكر عجزه، وليذكر ظهور ما خفي عنه من مثل ذلك في وقت، ثم ظهر له؛ فيوقن أن هذا مثله، وأنه إذا طالت به الأيام قد يظهر له من وجهه ما خفي منه، فيتلقاه الآن بالتسليم والتنزيه، راداً علمه إلى الله تعالى، مفوضاً أمره إليه.
ويكون عمله في شرع الله هو الفهم لنصوص الآيات والأحاديث، ومقاصد الشرع وكلام أئمة السلف، وتحصيل الأحكام وحكمها، والعقائد وأدلتها، والآداب وفوائدها، والمفاسد وأضرارها.
حتى إذا بلغ إلى حكم لم يعرف حكمته وقضاء لم يدر علته، ذكر عجزه فوقف عنده، فلم يكن من المرتابين ولا من المتكلفين.
ولم يمنعه عجزه عن تعليل وتبين وجه ذلك القليل عن المضي في التفهم والتدبر لما بقي له من الكثير.
ويكون عمله في كتاب الله هو التفهم والتدبر لآياته، والتفطن لتنبيهاته، ووجوه دلالاته، واستثارة علومه من منطوقه ومفهومه، على ما دلت عليه لغة العرب في منظومها ومنثورها، وما جاء من التفاسير المأثورة، وما نقل من مفهوم الأئمة الموثوق بعلمهم وأمانتهم، المشهود لهم بذلك من أمثالهم.
فإذا وقف أمام المتشابه رده إلى المحكم، وإذا انتهى إلى فواتح السور ذكر عجزه فآمن بما لها من معنى، وقال: الله به أعلم.
فبهذا السير النظري، والعمل العلمي المبني على اليقين بعدل الخالق جل جلاله، وحكمته ورحمته في خلقه، وقدره وشرعه وكلامه، ومعرفة العبد بقدره ومقامه، يزداد السائر على مقتضاه إيماناً وعلماً، وفوائد جمة، ويسلم من الغرور والأوهام والفتنة.
وهو سبيل الراسخين الذين يقولون فيما لا يفهمونه:
{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .
***
الطريقة الثانية:
وذهبت جماعة من أهل العلم، من السلف والخلف، إلى أن هذه الفواتح قد فهمت العرب المراد منها، ولذلك لم تعترض على البيان بها، ولا طعنت في عربيته بعدم فهمها، وإن كنا لا نجد في كلامها ما نعرف به المعنى الذي فهمته منها.
وممن ذهب إلى ذلك الإمام أبو بكر بن العربي، فقال في كتاب (القبس على موطأ مالك بن أنس) :[/rtl]
[rtl](1/286)[/rtl]
[rtl]«وليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلاّ الله، فإن محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لو خاطب الكفار منها بما لا يفهم لكان ذلك أقوى أسبابها في الطعن عليه، وكانوا يقولون: هذا يتكلم بما لا نفهم، وهو يدعي أنه بلسان عربي مبين، وما حمعسق في اللسان؟! وما كهيعص في الكلام؟.
فدل أنهم فهموا الغرض وعرفوا المقصود» .
إختلاف المتأولين:
أ- منهم طائفة تكلمت على كل لفظ من ألفاظ الفواتح، وذكرت له معنى، واختلفوا في تلك المعاني التي ذكروها، وهي كما ذكر الإمام ابن العربي:
«لا سبيل إلى تمييز واحد منها بدليل لأنه معدوم، ولا بأثر لأنه غير منقول.
ولا تطمئن إلى شيء منها القلوب التي عاشت على اليقين.
ولا تسلم واحداً منها العقول التي اعتادت قفو (1) العلم على نور الدليل» .
ب- ومنهم طائفة أخذتها كلها بوجه واحد، فقال بعض:
إنها حروف تنبيه تقرع الأسماع، فتلفت السامعين إلى الاستماع والتدبر؛ لما اشتملت عليه السورة من الأحكام والعقائد والآداب وغيرها، من مقاصد القرآن. فهي نظير (ألا والهاء) في مألوف الاستعمال.
ج- وقال بعضهم: إنها حروف تعجيز وإفحام وتقريع؛ لأن القرآن الذي عجزوا عن معارضته، من هذه الحروف وأخواتها تركبت كلماته فكأنما يقال لهم:
ما هذا الذي عجزتم عنه إلاّ كلام من جنس كلامكم، وما ركبت كلماته إلاّ مما ركبت منه كلماتكم، وهذا لعجزهم أفضح، ولتقريعهم أوجع.
ومما يؤيد هذا أن أكثر هذه الفواتح ذكر بعده الكتاب المعجز وصفاته مثل قوله تعالى:
{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1 و 2] ،
{الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1- 3] ،
{المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1 و 2] ،
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] ،
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 11] ،
{اتر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1] ،
{طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص: 1 و 2] ،
{الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1 و 2] ،
{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1و 2] . وغيرها،
__________
(11 القفْوُ: الاتباع. وفي التنزيل العزيز: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .[/rtl]
[rtl](1/287)[/rtl]
[rtl]الفائدة العملية:
قد افتتحت هذه السور من القرآن العظيم بكلمات التنبيه، وجاءت أول سورة منه بعد الفاتحة مفتتحة به.
فلتكن عند قراءته في انتباه، وإقبال على استيعاب لفظه، وتفهم معناه، فإن التالي للقرآن والسامع له في حضرة الرب على بساط القرب، والغفلة في هذا المقام من قلة الأدب.
ومن قل أدبه في مقام الإحسان والكرامة، استوجب أضعاف ما يستوجبه غيره من العتب والملامة، وتعرض لموجبات الحسرة والندامة.
فالله نسأل أن يجعلنا من قرآنه على انتباه واستحضار، آناء الليل وأطراف النهار، العاملين به بالعشي والإنبكار، إنه الجواد الكريم الستار.
تابع المرسل والرسول والرسالة والمرسل إليهم:
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) } [يس: 2-6] .
{الحكيم} : هو الموصوف بالحكمة، وأصل اللفظ من حكم بمعنى أمسك، فالحكمة هي العلم الصحيح الذي يمسك صاحبه عن الجهالات والضلالات والسفالات، فيكون ذا إدراك للحقائق قويم وخلق كريم، وعمل مستقيم لا يحكم إلاّ عن تفكير، ولا يقول إلاّ عن علم، ولا يفعل إلاّ على بصيرة؛ فإذا نظر أصاب، وإذا فعل أصاب، وإذا نطق أتى بفصل الخطاب.
ووصف القرآن بالحكيم، لأنه هو العلم الصحيح المثمر لهذا كله، و (الصراط المستقيم) هو دين الإسلام الذي جاء به جميع المرسلين قبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
{تنزيل} بمعنى منزل، وهو الصراط المستقيم.
{العزيز} الغالب الممنع الذي لا نظير له.
{الرحيم} المنعم الدائم الإنعام والإحسان.
{الإنذار} الإعلام بوقوع ما يُخاف منه، وهو الهلاك والعذاب العاجل والآجل.
و {الغافل} عن الشيء: التارك له المعرض عنه مع حضوره لديه لاشتغال باله بسواه.
المعنى:
أقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المرسلين رداً على من قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} في حال أنه على دين الإسلام الذي بعثه الله، ثابتاً عليه في عقده وقوله وفعله وجميع أمره.[/rtl]
[rtl](1/288)[/rtl]
[rtl]وأخبر تعالى أن هذا الإسلام الذي جاء به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزله عليه القوي الغالب الذي لا يغالب، العديم الشبه والنظير، والمنعم الدائم الإنعام المستمر الإحسان.
وبين تعالى أنه كان من المرسلين لينذر الأمة العربية، ويُعلمها سوء عاقبة ما هي عليه من الشرك والضلال.
تلك الأمة التي ما أُنذر آباؤها، فهي مشتغلة بما توارثته من آبائها من عبادة الأوثان وارتكاب الإثم والعدوان، وأنكل الضلال والخسران، معرضة عن توحيد خالق الأرض والسموات، وعن النظر فيما نصب للدلالة عليه من الآيات، طال عليها أمد الجهالة، واستولت عليها أسباب الضلالة، فتمكنت منها الغفلة التمكن التام؛ فذهبت في أوديتها البعيدة المدى، كالأنعام أو أضل من الأنعام.
***
أصل المعرفة والسلوك من هذه الآية الكريمة:
خلق الله الخلق حنفاء موحدين، فأتتهم الشياطن فأضلتهم عن سواء السبيل، فمن رحمته- تعالى- بهم أن أرسل إليهم رجالاً منهم لهدايتهم، وأنزل عليهم كتبا منه لدلالتهم.
فالله هو المرسل، تلك الكتب هي رسائله، وأولئك الرجال هم رسله، والخلق هم المرسل إليهم.
المعرفة:
فللمرسِل العلو والكمال، وله الخلق والأمر، ومنه الرحمة والعدل والإحسان والفضل، وله الربوبية والألوهية دون شريك ولا مثال.
وفي تلك الرسائل الحق والحكمة، والنور المُخرج من كل ظلمة، والفرقان في كل شبهة، والفصل في كل خصومة، بها تفتح البصائر، وتطهر الضمائر، وتعرف طريق الحق والهدى من طرائق الباطل والضلال.
ولأولئك الرسل- عليهم الصلاة والسلام- أكمل ما يمكن للإنسان من كمال، وأكمل المعرفة بالمرسِل- تعالى- وأعظم الخشية له، وأكمل الرحمة بالخلق، وأشد الشفقة عليهم، وأكمل العلم بما جاءوا به، وأعظم التمسك به، وأكثر الاتباع له.
فلا كمال إلاّ بالإقتداء بهم، ولا نجاة إلاّ باتباعهم، ولا وصول إلى الله تعالى إلاّ باقتفاء آثارهم.
وللمرسَل إليهم عجز المخلوق وضعفه أمام خالقه، وحاجته وافتقاره إليه، وعليه حق عبادته وطاعته والرجاء لفضله، والخوف من عقابه والفكر في آياته ومخلوقاته، والنهوض للعمل في مرضاته، واستثمار أنكل نعمائه، والشكر له على جميع آلائه.
فبمعرفة هذه الأربعة حق معرفتها، ومعرفة مقام كل واحد منها وما له فيه؛ كمال الإنسان العلمي، الذي هو أصل كماله العملي، والشرط اللازم فيه.[/rtl]
[rtl](1/289)[/rtl]
[rtl]وقد اشتملت هذه الآيات على هذه الأربعة في حق الأمة المحمدية:
فالمرسِل هو {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
والرسالة هي: {الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
والرسول هو محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المخاطب بـ {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
والمرسل إليهم هم العرب الذين: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} .
***
تمهيد:
لما ضل الخلق عن طريق الحق والكمال، الذي يوصلهم إليه: إلى مرضاته والفوز بما لديه، أرسل إليهم الرسل ليعرفوهم بأن ذلك الطريق هو الإسلام، ويكونوا أدلتهم في السير، وقادتهم إلى الغاية، وأنزل عليهم الكتب لينيروا لهم بها الطريق، ويقودوهم على بصيرة، ويزكوهم على البيضاء ليلها كنهارها (1) ، لا يهلك عليها إلاّ من ظلم نفسه فحاد عن السواء، أو تخلف عن القافلة فكان من الهالكين.
فالقافلة هم الخلق، والطريق هو الإسلام، والأدلة هم الرسل، والمصابيح هي الكتب، والغاية هو الله جل جلاله.
السلوك:
فعلى من يريد النجاة من المهالك والفوز بأسنى المطالب وأعلى المراتب، أن ينضم إلى القافلة الربانية، يتعاون مع أفرادها، ويقوم بحق الرفقة فيها، ويعدّ نفسه جزءاً منها: لا سلامة له (2) إلاّ بسلامتها؛ فهو يحب لكل واحد منها ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، ويهديه إلى ما يهديها إليه من خير؛ ويقيه مما يقيها منه من سوء.
وأن يطيع أولئك الأدلة، ويقتفي آثارهم، وينزل بنزولهم، ويرتحل بارتحالهم، وأن يرجع في معرفة وجوه السير وأصنافه وأوقاته ومنازله إليهم، دون أدنى اعتراض ولا مخالفة.
ويقابل ما يتحملونه من مشاق الدلالة ومتاعب القيادة بغاية ما يستطيع من الأدب معهم، والتعظيم والانقياد لهم، والمحبة فيهم، وحسن الثناء عليهم، وطلب عظيم الجزاء من الله تعالى لهم على عظيم إحسانهم.
وأن يلزم ذلك الطريق، ويسير في سوائه غير مائل إلى جنباته، ولا ذاهب في بنيَّاته (3) .
__________
(1) روى ابن ماجة في مقدمة سننه (باب 1 حديث رقم 5) عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نذكر الفقر ونتخوّفه، فقال: «آلفقر تخافون؛ والذي نفي بيده لتُصبَّنَّ عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يُزيغ قلبَ أحدكم إزاغة إلاّ هي؛ وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواع» . ومعنى قوله: «على مثل البيضاء» أي على قلوب بيضاء نقية عن الميل إلى الباطل، لا يميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرَّاء.
(2) كانت في الأصل المطبوع: "لها" والصواب ما أثبتناه.
(3) بُنَيَّة الطريق: طريق صغير تشعب من الجادة (المعجم الوسيط: [ص:72] ) .[/rtl]
[rtl](1/290)[/rtl]
[rtl]لا مُفْرِطًا في السير يسبق الرفقة فينفرد بلا دليل ولا مُفَرِّطًا (1) فيه فيتخلف عنها بلا معين، نمطاً وسطاً مع الجماعة، لا من الغلاة ولا مع المقصرين.
وأن يستنير بما رفعه أولئك الأدلة من مصابيح الهداية، وأن يسير تحت أنوارها الساطعة، مفتح البصر للاستضاءة بها، غير مغلق الأجفان عنها، متعرفاً بها أديم الأرض، وموقع قدمه منها.
وأن يعرف عظيم الغاية التي هو سائر إليها، فيقصر همه كله في الوصول إليها، ويحضرها قلبه في كل لحظات سيره ليسرع مع الرفعة إليها، وتخف عليه (2) مشاق الطريق واتعابها، ويعذب لديه كل ألم في الانتهاء إليها.
فبسلوك هذا الطريق القويم، بدلالة الرسول الكريم، وأنوار الكتاب المبين، إلى رب العالمين الرحمن الرحيم- كمال الإنسان العملي المبني على الكمال العلمي.
وقد اشتملت هذه الآيات على ذكر السالكين، وهم المنذرون، وعلى الدليل وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وعلى الطريق وهو "الصراط المستقيم" المنزل من الله، وعلى ما يبين الطريق، وهو القرآن الحكيم.
***
الحكمة في هذه الآيات:
قال ابن وهب: سمعت مالك- رضي الله عنه- يقول:
«الحكمة الفقه في دين الله والعمل به» . ففي الفقه في دين الله الكمال العلمي، وفي العمل به الكمال العملي.
وهذه الآيات- على إيجازها- قد اشتملت على أصول ما به كمال الإنسان العلمي، وكماله العملي، اللذان بهما كماله الروحي والبدني، ونعيمه الدنيوي والآخروي.
وما كماله العلمي وكماله العملي إلاّ بالمعرفة الصحيحة، والسلوك المستقيم، وهما اللذان تقدم [في] . (3) الفصل السابق بيانهما.
وفسر مالك الحكمة بهما؛ إذ الفقه في دين الله هو المعرفة الصحيحة، والعمل به هو السلوك المستقيم، وهما الحكمة التي وصف به في الآية الأولى القرآن العظيم؛ لأنه كتاب العلم والعمل اللذين لا يكون بدونهما حكيم.
__________
(1) المُفْرط: من فعل أفرط، أي جاوز الحذ والقدر في قول أو فعل. والمفَرِّطُ: من فعل فَرَّط، أي قصر في الأمر وضيعه حتى فات (المعجم الوسيط: [ص:683] ) .
(2) تحرفت في الأصل المطبوع الى: "عليها".
(3) سقطت من الأصل المطبوع.[/rtl]
[rtl](1/291)[/rtl]
فكما اشتملت هذه الآيات على أصول الحكمة، دلت على أصلها ومأخذها، وما يكون الإنسان بعلمه والعمل بما فيه من أهلها، وهو القرآن الحكيم.
توجيه القسم في الآيات:
أقسم الله بالقرآن الحكيم على أن محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من المرسلين، لينذر الغافلين حال أنه على صراط عظيم مستقيم، منزل من العزيز الرحيم؛ لأن القرآن هو كتاب محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي كان يتخلق به، ويهتدي بما فيه، وينذر به، ويدعو إليه ويبينه للناس بقوله وفعله، وهو برهانه وحجته، وآيته ومعجزته.
كما أنه كتاب الإسلام الذي هو الصراط المستقيم.
فيه حجته ودلائله، فيه أحكامه وحكمه، فيه آدابه وشمائله.
فيه بيان حقيقته وما هو منه، ونفي ما ليس منه عنه.
فيه بيان تاريخه وتاريخ الإنسانية معه.
فيه ذكر أوليائه وحسن بلائهم في سبيله، وحسن أثره فيهم، والعود بالعاقبة المحمودة عليهم، وذكر أعدائه وجهدهم في مقاومته، وسقوط شبههم أمام حجته، وذهاب باطلهم أمام حقه، وشدة أخذه لهم على ظلمهم، ونزول نقمته بهم، وحلول دائرة السوء عليهم.
فيه الإسلام كله، فمن طلبه فيه وجده ونجا به؛ ومن طلبه في غيره ضل وكان من الهالكين.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- عدد المساهمات : 3412
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]عقائد وأدلتها من هذه الآيات:
العقيدة الأولى: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رسول الله.
دليلها الأول:
القرآن الحكيم الذي جاء به رجل أمي، ما قرأ ولا كتب، ولا دارس العلماء، ولا عرف الكتب.
ودليلها الثاني:
موافقة دعوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لدعوة المرسلين- صلوات الله عليهم- إلى عبادة الله وحده، وتصديق ما جاءهم به من عنده، دون أن يسألهم على ذلك أجراً، وهذا من قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
فهو من المرسلين من جهة إرساله؛ لأنه منهم في أقواله وأفعاله نظير قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ، وقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] ، وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] .
ودليلها الثالث:
هذا الدين الكامل الجامع، الذي هدي به النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى ما فيه[/rtl]
[rtl]سعادته، فأطلق فكره، وسدد نظره، وقوم عقائده، وهذب أخلاقه، ونظم اجتماعه، ووضع له قواعد الحياة والعمران على العدل والإحسان، ووجههم إلى خالقهم، وما أعد لهم عنده من النعيم المقيم والرضوان التام.
ودليلها الرابع:
سلوكه هو في حياته على الصراط المستقيم، من يوم عرف الدنيا حتى فارقها؛ فكان يمثله على أكمل وجه، ولا يُخل بشيء منه، ثابتاً عليه، لا يحيد قيد شعرة عنه، دون أن تحفظ عنه زلة، ولا تعرف منه في القيام به والدعوة إليه فترة (1) ، ولا تقف أمامه قوة، ولا ترد له حادثة عزمه، ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ولا رهبة، ولا تبدل حاله رخاء ولا شدة.
فكان في كرم خلقه، وتمام زهده، وعظيم تألهه (2) وتوجهه لربه، بعدما فتح الله له الفتح المبين، ودخل الناس أفواجاً في الدين.
كما كان أيام كان وحيداً بين أعظم أعدائه من المشركين، وما هذا من شأن البشر وطبعهم لولا عصمة وتأييد رب العالمين.
العقيدة الثانية: القرآن كلام الله ووحيه:
ودليلها:
أنه حكيم، فما فيه من العلم وأصول العمل، لا يمكن أن يكون إلاّ عند الله، في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها.
الى ما فيه من حقائق كونية، كانت مجهولة عند جميع البشر، وما عرفت لهم إلاّ في هذا العصر الأخير.
ومن أشهرها: مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه، وهو الجوهر الفرد المركب من قوتين: موجبة وسالبة.
جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] .
ومنها مسألة حياة النبات، التي جاءت في مثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .
ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر إلى الأنثى، جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . فهذه حقائق
__________
(1) الفَتْرَة: الضعف والانكسار (المعجم الوسيط: [ص:672] ) .
(2) التأله: التنسّك والتعبّد (المرجع السابق: [ص:25] ) .[/rtl]
[rtl]علمية كونية، أجمع عليها علماء العصر أنها من المكتشفات الحديثة، ولم تكن معلومة عند أحد من الخلق قبل اكتشافها، ولا كانت عندهم الآلات الموصلة إلى معرفتها.
وكفى بهذا القلّ من الكثر دليلاً على أن هذا القرآن ما كان إلاّ من عند الله الذي خلق الأشياء، ويعلم حقائقها.
العقيدة الثالثة: الإسلام دين الله الذي شرعه وارتضاه:
ودليلها مستفاد من وصفه بأنه صراط مستقيم، فهو تشريع تام عام لجميع أعمال الإنسان:
أعمال قلبه، وأعمال لسانه، وأعمال جوارحه، وجميع معاملاته الخاصة والعامة بين أفراده وأممه، ولا تخرج كلية من كلياته ولا جزئية من جزئياته عن هذا الأصل العام، المتجلي في جميع الأحكام، وهو "الحق والخير والعدل والإحسان".
***
وقد وضع عقلاء الأمم شرائع في بعض نواحي أعمال الإنسان، ولكنها بإجماع المتشرعين لا تخلو من نقص واعوجاج واضطراب، فهم ما يفتئون يتعبونها بالتكميل والتقويم والتعديل على مر الأيام.
ولو عرضت كل حكم من أحكامه على الأصل العام الذي ذكرناه، لوجدته منطبقاً عليه ظاهراً فيه، حتى ما خفي وجهه على الأمم الأجنبية من الإسلام أيام تأخرها قد ظهر لها فضله ونفعه أيام تقدمها فجاء كبراء عقلائها يعترفون فيها بصواب ما شرعه فيها الإسلام.
ثم هم يعجزون عن تطبيقها على أممهم، للعادة الغالبة والوراثة القديمة، منها مسألة الطلاق، وتعدد الزوجات، وتحريم الربا تحريماً باتاً.
فكم من عالم غير مسلم، صرح بأن الحق والعدل والخير للإنسانية في هذه المسائل، هو ما شرعه الإسلام، على الوجه الذي شرعه الإسلام.
بهذه الاستقامة التامة العامة المضطردة، في شرع ما جاء به رجل أمي، من أمة أمية جاهلية، يجزم كل عاقل بأنه ليس من وضع العباد، وإنما هو من وضع خالق العباد.
***
الوحي مصدر الإسلام
جملة {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} بينت وجه استقامة ذلك الصراط الذي هو الإسلام، بأنه تنزيل العزيز الرحيم.
وأفادت أن جميع هذا الدين وحي من الله منزل على نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ وهذا لأن مرجع الإسلام في أصوله وفروعه إلى القرآن، وهو وحي من الله، وإلى السنة النبوية، وهي وحي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2، 3] .[/rtl]
[rtl]وكل دليل من أدلة الشريعة فإنه يرجع إلى هذين الأصلين، ولا يقبل إلاّ إذا قبلاه ودلا عليه.
وكل شيء ينسب للإسلام، ولا أصل له فيهما، فهو مردود على قائله. وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) .
الإسلام دين العز والرحمة:
ذكر من أسمائه تعالى في هذا الموطن {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، للتنبيه على أن هذا الدين الذي نزله الرب الموصوف بالعزة والرحمة، هو دين عزة ورحمة.
ومن مقتضى العزة القوة والمنعة والرفعة، ومن مقتضى الرحمة الفضل والخير والمصلحة، وهذه كلها متجلية في أحكام الإسلام.
والعدل والإحسان اللذان أمر الله بهما وانبنت أحكام الإسلام عليهما لا يكونان إلاّ عن العزة والرحمة فالذليل لا ينهض بالحكم، ولا يقيم ميزان العدل، والقاسي لا يكون منه إحسان.
إهتداء واقتداء:
فالمسلم المتحقق بالإسم المهتدي بهدايته، لا يكون إلاّ عزيزا رحيماً.
فالذلة من المسلم نقص في إسلامه، والقساوة مثلها نقص فيه.
وقد ذكر الله تعالى سادات المسلمين في عزتهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] . وذكرهم في رحمتهم فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . ونعم القدوة هم لجميع المسلمين.
النذارة ثمرة الرسالة:
كان من المرسلين (2) لينذر الغافلين. فالأول كمال، والثاني تكميل.
وقد فطر الله رسله- عليهم الصلاة والسلام- على الرحمة وحب الخير؛ فكانوا أحرص الناس على نجاة الناس وكمالهم وسعادتهم، فصبروا على تكذيبهم وإذايتهم، حتى أدوا أمانة الله إليهم، وأقاموا حجته عليهم، وكان الله ينجيهم ومن آمن بهم، وينزل عقوبته بالمكذبين لهم، وينصرهم عليهم؛ فأعلم محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بأنه من المرسلين لينذر- ليتأسى بهم، ويصبر صبرهم، ويرجو من نصر الله له وإهلاك أعدائه ما كان منه تعالى لهم.
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة البخاري في الصلح باب 5، ومسلم في الأقضية حديث 17 و18، وأبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 2، وأحمد في المسند (6/ 146) وأخرجه البخاري أيضاً تعليقا في الاعتصام في ترجمة الباب 20؛ والبيوع في ترجمة الباب 60.
(2) في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية 3 من سورة يس.[/rtl]
[rtl]إقتداء:
العلماء ورثة الأنبياء. وما ورث الأنبياء ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، والعلم مستمد من الرسالة، فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلايا، والعطف على الخلق والرحمة، وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
التدريج في الإنذار:
أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للعالمين بشيراً ونذيراً.
ودرجه في النذارة على مقتضى الحكمة، من القريب إلى البعيد.
فأمره بإنذار عشيرته بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، فصعد الصفا فنادى بطون قريش حتى نادى العباس عمه، وصفية عمته، وفاطمة ابنته، وقال لهم: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» (1) .
وأمره بإنذار من حول مكة من العرب بقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] . على الوجه الأقرب في معنى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} المؤيد بصدر الكلام وهو قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] .
ومثلها في إنذار العرب ما في هذه الآية، وهو قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] .
فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم (2) .
وأمره بتعميم الإنذار بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
فأرسل رسله إلى الأمم تحمل كتبه إلى ملوكها بالدعوة إلى الإسلام، وكان ذلك هو الإنذار العام.
الدفاع أشكال:
قد كان النبي يُرسَل إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الناس عامة، بمثل قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، أي بالقرآن كل من بلغه القرآن. ولا
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الوصايا باب 11، وتفسير سورة 26 باب 2. والنسائي في الوصايا باب 6. والدارمي في الرقاق باب 23.
(2) روى ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 13، حديث 201) عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض نفسه على الناس في المَوْسِمِ فيقول: "أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِى إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِى أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّى".[/rtl]
[rtl]يشكل على ذلك مثل ما تقدم من الآيات في إنذار عشيرته الأقربين، وقومه العرب، لأنه ابتدأ بهما، لحكمة التدريج، وحق القريب، لا للتخصيص بدليل ما جاء من آيات التعميم.
إقتداء:
هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب الناس إليه، ثم من بعدهم على التدريج.
وعندما يقوم كل واحد منا بإرشاد أهله وأقرب الناس إليه، لا نلبث أن نرى الخير قد انتشر في الجميع: فمن الأُسَرِ تتركب الأمة؛ فعندما يعنى كل واحد بأسرته ترتقي الأمة كلها بارتقاء أسرها، كارتقاء أي كل بارتقاء أجزائه؛ فيكون المعتني بأسرته في الوقت نفسه معتنياً بأمته. وعندما يقصد بخدمة أسرته خدمة أمته يثاب ثواب خادم الجميع: أسرته بالفعل، وأمته بالقصد، أو أسرته مباشرة وأمته بواسطة، وكل هذا مما يثاب المرء شرعاً عليه.
إستطراد واستنباط:
لما كان العرب لم يأتهم نذير قبل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بنص هذه الآية وغيرها، فهم في فترتهم (1) ناجون لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
ولقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] . وغيرهما، وكلها آيات وقواطع في نجاة أهل الفترة.
ولا يستثنى من ذلك إلاّ من جاء فيهم نص ثابت خاص: كعمرو بن لحي أول من سَيَّبَ السوائب، وبدل في شريعة إبراهيم وغير، وحلل للعرب وحرم.
فأبوا النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ناجيان بعموم هذه الأدلة.
ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس رضي الله عنه:
أن رجلًا قال للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله، أين أبي؛ قال: «في النار» . فلما قَفَّى (2) الرجل دعاه، فقال: «إن أبي وأباك في النار» (3) ، لأنه خبر آحاد (4) ، فلا يعارض القواطع. وهو قابل للتأويل بحمل الأب على العم مجازاً، يحسنه المشاكلة اللفظية، ومناسبته لجبر خاطر الرجل، وذلك من رحمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكريم أخلاقه.
__________
(1) الفَتْرة: المدة تقع بين زمنين أو نبيين. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} سورة المائدة الآية 19.
(2) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 94- مادة قفا) : "أي ذهب مدلياً، وكأنه من القفا: أي أعطاه قفاه وظهره".
(3) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 347، وأبو داود في السنة باب 17.
(4) خبر الآحاد لا يفيد القطع بل الظن فقط، بعكس الحديث المتواتر الذي يفيد القطع.[/rtl]
[rtl]سبب الغفلة ودواؤها:
أفادت الفاء في قوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أن غفلتهم تسببت عن عدم إنذارهم؛ فكل أمة انقطع عنها الإنذار وترك فيها التذكير واقعة في الغفلة لا محالة. ولما كان ترك الإنذار والتذكير موقعاً في الغفلة، فالإنذار والتذكير يزيلانها؛ فقد عرفتنا الآية الكريمة بسبب الغفلة وبعلاجها لنحذر سببها ونعالج أنفسنا وغيرنا بعلاجها.
تطبيق:
كان الناس منذ زمن قريب لا يسمعون ولا يسمع منهم لفظ الاهتداء بهداية القرآن العظيم، والإقتداء بهدي الرسول الكريم، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، والسير بسيرة السلف الصالح، في النهوض بأعباء الدنيا والدين، وهم- إلاّ قليلاً- عن هذا غافلون.
أما اليوم بعد أن نهض العلماء المصلحون بواجبهم (1) ، ونشروا دعوة الحق في قومهم، فقد أصبح ذلك معروفاً عند أكثر الناس، وفي متناول الناس بجميع طبقاتهم.
وإنا لنرجو من فضل الله المزيد، ونشاهد ذلك والحمد لله كل يوم يزيد، فالحمد لله على ما علّم وألهم وبصر ويسّر، ونسأله دوام التوفيق والتسديد يا رب العالمين.
***
لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس:7-11] .
علم الله أن نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وإنقاذهم من الهلكة.
وعلم أنهم لا يؤمن به إلاّ أقلهم، وعلم أن ذلك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لشدة حرصه على إيمانهم، وعظيم شفقته عليهم، ولعدم ظهور ثمرة ما بذله من جهد في هدايتهم.
فأراد- تعالى- أن يقوي قلب نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على تحمل ذلك بإعلامه به
__________
(1) يشير إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أنشأها ابن باديس (حاشية المطبوع: [ص:494] ) .[/rtl]
[rtl]من أول الأمر، إذ ليس المؤلم المتوقع كالمؤلم الذي يصدم عن مفاجأة، وأعظم منه الذي يصدم مع توقع ضده، كما هنا: فإن المتوقع منهم بعد الإنذار البالغ بالبرهان الساطع، هو إيمان أكثرهم لا كفره.
{حَقَّ} وجب وثبت. {الْقَوْلُ} قول الله فيهم بما سبق في علمه أنهم لا يؤمنون. {فَهُمْ} أي أكثرهم.
نفى الإيمان عنهم نفياً مؤكداً بالإخبار عن ضميرهم بجملة لا يؤمنون. وقرنت الجملة بالفاء السببية؛ لتفيد أن من سبق في علم الله عدم إيمانه لا يرجى إيمانه بحال؛ فارتباط الثاني بالأول ارتباط لا انفكاك له.
المعنى:
لقد وجد وثبت ما سبق في علم الله، في أكثرهم، وما كان في قوله بعدم إيمانهم؛ فلا يرجى من ذلك الأكثر- الذي سبق في علم الله عدم إيمانه- إيمان.
سؤال:
ما مات النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى عَرَجَ (1) الإسلام جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولا شك أن الذين ماتوا على الكفر هم الأقل بالنسبة لمن آمنوا، فما معنى قوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} ؟.
جوابه:
الذين قام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإنذارهم وأقام بين ظهرانيهم مكرراً للنذارة عليهم صباح مساء، مدة ثلاث عشرة سنة، هم أهل مكة؛ فهم الذين تتعين إرادتهم من الضمير في قوله تعالى: {أَكْثَرِهِمْ} ولا شك أن أكثر من أنذرهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أهل مكة ماتوا على الكفر.
سؤال على هذا الجواب:
هذا يقتضي أن المراد بلفظة "قوماً" المتقدمة: أهل مكة مع أن المفسرين فسروها بالعرب.
جوابه:
نسلم بهذا، ويكون تفسير "قوماً" بالعرب نظراً لمماثلتهم لأهل مكة في وجوب إنذارهم، باعتبار مشاركتهم لهم في الوصف، وهو غفلتهم لعدم إنذار آبائهم.
لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله فيه:
قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار، وما نصب لهم (2) من آيات مشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات.
__________
(1) عرج: ارتفع وعلا (المعجم الوسيط: [ص:591] ) .
(2) كانت في الأصل المطبوع: "لها".[/rtl]
[rtl]وهذه كلها أمور معلومة لديهم، ضرورية عندهم، لا يستطيعون أن ينكروا شيئاً منهاة فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار، ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل إليهم وما تلوا عليهم من آيات.
وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، وكان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.
فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم؛ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
توجيه للترتيب:
تقوم حجة الله على العبد أولاً.
ويعمل هو- كاسبا ومكتسبا- باختياره ثانياً.
ويظهر لنا ما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثاً.
ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية التي فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم.
تقريب:
قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتهما، وأخلاقهما، وسيرتهما.
ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما، وهو يعلم- بما علم من أحدهما- أنه يمتثل، ويعلم- بما علم من الآخر- أنه يخالف.
ويقول لأهل بيته: إن فلاناً سيمتثل، وإن فلانا سيخالف.
فيظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما؛ فجازى الممتثل على طاعته، وجازى المخالف على عصيانه.
فلا شك أن هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير، وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والإرشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما.
كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما سبق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه.
لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علماً، فعلم من سيطيعه ومن سيعصي.
ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.
بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاؤهم على ما عملوا وما قدمت ايديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.[/rtl]
تعليم:
أرأيت كيف أن الله- تعالى- لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم على أعمالهم.
فهذا تعليم لنا كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض؛ فلا نجازي على مجرد الظن، بل ولا على مجرد اليقين؛ وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال.
فرُبّ شخص قدرت فيه الخير أو الشر، ففعل ضد ما قدرت؛ فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه، ولنال كل ما لا يستحقه.
فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه، وهذا ما ينبغي أن نربط به المجازاة بيننا.
***
العقيدة الأولى: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رسول الله.
دليلها الأول:
القرآن الحكيم الذي جاء به رجل أمي، ما قرأ ولا كتب، ولا دارس العلماء، ولا عرف الكتب.
ودليلها الثاني:
موافقة دعوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لدعوة المرسلين- صلوات الله عليهم- إلى عبادة الله وحده، وتصديق ما جاءهم به من عنده، دون أن يسألهم على ذلك أجراً، وهذا من قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
فهو من المرسلين من جهة إرساله؛ لأنه منهم في أقواله وأفعاله نظير قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ، وقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] ، وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] .
ودليلها الثالث:
هذا الدين الكامل الجامع، الذي هدي به النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى ما فيه[/rtl]
[rtl](1/292)[/rtl]
ودليلها الرابع:
سلوكه هو في حياته على الصراط المستقيم، من يوم عرف الدنيا حتى فارقها؛ فكان يمثله على أكمل وجه، ولا يُخل بشيء منه، ثابتاً عليه، لا يحيد قيد شعرة عنه، دون أن تحفظ عنه زلة، ولا تعرف منه في القيام به والدعوة إليه فترة (1) ، ولا تقف أمامه قوة، ولا ترد له حادثة عزمه، ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ولا رهبة، ولا تبدل حاله رخاء ولا شدة.
فكان في كرم خلقه، وتمام زهده، وعظيم تألهه (2) وتوجهه لربه، بعدما فتح الله له الفتح المبين، ودخل الناس أفواجاً في الدين.
كما كان أيام كان وحيداً بين أعظم أعدائه من المشركين، وما هذا من شأن البشر وطبعهم لولا عصمة وتأييد رب العالمين.
العقيدة الثانية: القرآن كلام الله ووحيه:
ودليلها:
أنه حكيم، فما فيه من العلم وأصول العمل، لا يمكن أن يكون إلاّ عند الله، في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها.
الى ما فيه من حقائق كونية، كانت مجهولة عند جميع البشر، وما عرفت لهم إلاّ في هذا العصر الأخير.
ومن أشهرها: مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه، وهو الجوهر الفرد المركب من قوتين: موجبة وسالبة.
جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] .
ومنها مسألة حياة النبات، التي جاءت في مثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .
ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر إلى الأنثى، جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . فهذه حقائق
__________
(1) الفَتْرَة: الضعف والانكسار (المعجم الوسيط: [ص:672] ) .
(2) التأله: التنسّك والتعبّد (المرجع السابق: [ص:25] ) .[/rtl]
[rtl](1/293)[/rtl]
وكفى بهذا القلّ من الكثر دليلاً على أن هذا القرآن ما كان إلاّ من عند الله الذي خلق الأشياء، ويعلم حقائقها.
العقيدة الثالثة: الإسلام دين الله الذي شرعه وارتضاه:
ودليلها مستفاد من وصفه بأنه صراط مستقيم، فهو تشريع تام عام لجميع أعمال الإنسان:
أعمال قلبه، وأعمال لسانه، وأعمال جوارحه، وجميع معاملاته الخاصة والعامة بين أفراده وأممه، ولا تخرج كلية من كلياته ولا جزئية من جزئياته عن هذا الأصل العام، المتجلي في جميع الأحكام، وهو "الحق والخير والعدل والإحسان".
***
وقد وضع عقلاء الأمم شرائع في بعض نواحي أعمال الإنسان، ولكنها بإجماع المتشرعين لا تخلو من نقص واعوجاج واضطراب، فهم ما يفتئون يتعبونها بالتكميل والتقويم والتعديل على مر الأيام.
ولو عرضت كل حكم من أحكامه على الأصل العام الذي ذكرناه، لوجدته منطبقاً عليه ظاهراً فيه، حتى ما خفي وجهه على الأمم الأجنبية من الإسلام أيام تأخرها قد ظهر لها فضله ونفعه أيام تقدمها فجاء كبراء عقلائها يعترفون فيها بصواب ما شرعه فيها الإسلام.
ثم هم يعجزون عن تطبيقها على أممهم، للعادة الغالبة والوراثة القديمة، منها مسألة الطلاق، وتعدد الزوجات، وتحريم الربا تحريماً باتاً.
فكم من عالم غير مسلم، صرح بأن الحق والعدل والخير للإنسانية في هذه المسائل، هو ما شرعه الإسلام، على الوجه الذي شرعه الإسلام.
بهذه الاستقامة التامة العامة المضطردة، في شرع ما جاء به رجل أمي، من أمة أمية جاهلية، يجزم كل عاقل بأنه ليس من وضع العباد، وإنما هو من وضع خالق العباد.
***
الوحي مصدر الإسلام
جملة {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} بينت وجه استقامة ذلك الصراط الذي هو الإسلام، بأنه تنزيل العزيز الرحيم.
وأفادت أن جميع هذا الدين وحي من الله منزل على نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ وهذا لأن مرجع الإسلام في أصوله وفروعه إلى القرآن، وهو وحي من الله، وإلى السنة النبوية، وهي وحي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2، 3] .[/rtl]
[rtl](1/294)[/rtl]
وكل شيء ينسب للإسلام، ولا أصل له فيهما، فهو مردود على قائله. وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) .
الإسلام دين العز والرحمة:
ذكر من أسمائه تعالى في هذا الموطن {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، للتنبيه على أن هذا الدين الذي نزله الرب الموصوف بالعزة والرحمة، هو دين عزة ورحمة.
ومن مقتضى العزة القوة والمنعة والرفعة، ومن مقتضى الرحمة الفضل والخير والمصلحة، وهذه كلها متجلية في أحكام الإسلام.
والعدل والإحسان اللذان أمر الله بهما وانبنت أحكام الإسلام عليهما لا يكونان إلاّ عن العزة والرحمة فالذليل لا ينهض بالحكم، ولا يقيم ميزان العدل، والقاسي لا يكون منه إحسان.
إهتداء واقتداء:
فالمسلم المتحقق بالإسم المهتدي بهدايته، لا يكون إلاّ عزيزا رحيماً.
فالذلة من المسلم نقص في إسلامه، والقساوة مثلها نقص فيه.
وقد ذكر الله تعالى سادات المسلمين في عزتهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] . وذكرهم في رحمتهم فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . ونعم القدوة هم لجميع المسلمين.
النذارة ثمرة الرسالة:
كان من المرسلين (2) لينذر الغافلين. فالأول كمال، والثاني تكميل.
وقد فطر الله رسله- عليهم الصلاة والسلام- على الرحمة وحب الخير؛ فكانوا أحرص الناس على نجاة الناس وكمالهم وسعادتهم، فصبروا على تكذيبهم وإذايتهم، حتى أدوا أمانة الله إليهم، وأقاموا حجته عليهم، وكان الله ينجيهم ومن آمن بهم، وينزل عقوبته بالمكذبين لهم، وينصرهم عليهم؛ فأعلم محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بأنه من المرسلين لينذر- ليتأسى بهم، ويصبر صبرهم، ويرجو من نصر الله له وإهلاك أعدائه ما كان منه تعالى لهم.
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة البخاري في الصلح باب 5، ومسلم في الأقضية حديث 17 و18، وأبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 2، وأحمد في المسند (6/ 146) وأخرجه البخاري أيضاً تعليقا في الاعتصام في ترجمة الباب 20؛ والبيوع في ترجمة الباب 60.
(2) في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية 3 من سورة يس.[/rtl]
[rtl](1/295)[/rtl]
العلماء ورثة الأنبياء. وما ورث الأنبياء ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، والعلم مستمد من الرسالة، فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلايا، والعطف على الخلق والرحمة، وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
التدريج في الإنذار:
أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للعالمين بشيراً ونذيراً.
ودرجه في النذارة على مقتضى الحكمة، من القريب إلى البعيد.
فأمره بإنذار عشيرته بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، فصعد الصفا فنادى بطون قريش حتى نادى العباس عمه، وصفية عمته، وفاطمة ابنته، وقال لهم: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» (1) .
وأمره بإنذار من حول مكة من العرب بقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] . على الوجه الأقرب في معنى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} المؤيد بصدر الكلام وهو قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] .
ومثلها في إنذار العرب ما في هذه الآية، وهو قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] .
فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم (2) .
وأمره بتعميم الإنذار بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
فأرسل رسله إلى الأمم تحمل كتبه إلى ملوكها بالدعوة إلى الإسلام، وكان ذلك هو الإنذار العام.
الدفاع أشكال:
قد كان النبي يُرسَل إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الناس عامة، بمثل قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، أي بالقرآن كل من بلغه القرآن. ولا
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الوصايا باب 11، وتفسير سورة 26 باب 2. والنسائي في الوصايا باب 6. والدارمي في الرقاق باب 23.
(2) روى ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 13، حديث 201) عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض نفسه على الناس في المَوْسِمِ فيقول: "أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِى إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِى أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّى".[/rtl]
[rtl](1/296)[/rtl]
إقتداء:
هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب الناس إليه، ثم من بعدهم على التدريج.
وعندما يقوم كل واحد منا بإرشاد أهله وأقرب الناس إليه، لا نلبث أن نرى الخير قد انتشر في الجميع: فمن الأُسَرِ تتركب الأمة؛ فعندما يعنى كل واحد بأسرته ترتقي الأمة كلها بارتقاء أسرها، كارتقاء أي كل بارتقاء أجزائه؛ فيكون المعتني بأسرته في الوقت نفسه معتنياً بأمته. وعندما يقصد بخدمة أسرته خدمة أمته يثاب ثواب خادم الجميع: أسرته بالفعل، وأمته بالقصد، أو أسرته مباشرة وأمته بواسطة، وكل هذا مما يثاب المرء شرعاً عليه.
إستطراد واستنباط:
لما كان العرب لم يأتهم نذير قبل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بنص هذه الآية وغيرها، فهم في فترتهم (1) ناجون لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
ولقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] . وغيرهما، وكلها آيات وقواطع في نجاة أهل الفترة.
ولا يستثنى من ذلك إلاّ من جاء فيهم نص ثابت خاص: كعمرو بن لحي أول من سَيَّبَ السوائب، وبدل في شريعة إبراهيم وغير، وحلل للعرب وحرم.
فأبوا النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ناجيان بعموم هذه الأدلة.
ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس رضي الله عنه:
أن رجلًا قال للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله، أين أبي؛ قال: «في النار» . فلما قَفَّى (2) الرجل دعاه، فقال: «إن أبي وأباك في النار» (3) ، لأنه خبر آحاد (4) ، فلا يعارض القواطع. وهو قابل للتأويل بحمل الأب على العم مجازاً، يحسنه المشاكلة اللفظية، ومناسبته لجبر خاطر الرجل، وذلك من رحمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكريم أخلاقه.
__________
(1) الفَتْرة: المدة تقع بين زمنين أو نبيين. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} سورة المائدة الآية 19.
(2) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 94- مادة قفا) : "أي ذهب مدلياً، وكأنه من القفا: أي أعطاه قفاه وظهره".
(3) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 347، وأبو داود في السنة باب 17.
(4) خبر الآحاد لا يفيد القطع بل الظن فقط، بعكس الحديث المتواتر الذي يفيد القطع.[/rtl]
[rtl](1/297)[/rtl]
أفادت الفاء في قوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أن غفلتهم تسببت عن عدم إنذارهم؛ فكل أمة انقطع عنها الإنذار وترك فيها التذكير واقعة في الغفلة لا محالة. ولما كان ترك الإنذار والتذكير موقعاً في الغفلة، فالإنذار والتذكير يزيلانها؛ فقد عرفتنا الآية الكريمة بسبب الغفلة وبعلاجها لنحذر سببها ونعالج أنفسنا وغيرنا بعلاجها.
تطبيق:
كان الناس منذ زمن قريب لا يسمعون ولا يسمع منهم لفظ الاهتداء بهداية القرآن العظيم، والإقتداء بهدي الرسول الكريم، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، والسير بسيرة السلف الصالح، في النهوض بأعباء الدنيا والدين، وهم- إلاّ قليلاً- عن هذا غافلون.
أما اليوم بعد أن نهض العلماء المصلحون بواجبهم (1) ، ونشروا دعوة الحق في قومهم، فقد أصبح ذلك معروفاً عند أكثر الناس، وفي متناول الناس بجميع طبقاتهم.
وإنا لنرجو من فضل الله المزيد، ونشاهد ذلك والحمد لله كل يوم يزيد، فالحمد لله على ما علّم وألهم وبصر ويسّر، ونسأله دوام التوفيق والتسديد يا رب العالمين.
***
لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس:7-11] .
علم الله أن نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وإنقاذهم من الهلكة.
وعلم أنهم لا يؤمن به إلاّ أقلهم، وعلم أن ذلك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لشدة حرصه على إيمانهم، وعظيم شفقته عليهم، ولعدم ظهور ثمرة ما بذله من جهد في هدايتهم.
فأراد- تعالى- أن يقوي قلب نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على تحمل ذلك بإعلامه به
__________
(1) يشير إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أنشأها ابن باديس (حاشية المطبوع: [ص:494] ) .[/rtl]
[rtl](1/298)[/rtl]
{حَقَّ} وجب وثبت. {الْقَوْلُ} قول الله فيهم بما سبق في علمه أنهم لا يؤمنون. {فَهُمْ} أي أكثرهم.
نفى الإيمان عنهم نفياً مؤكداً بالإخبار عن ضميرهم بجملة لا يؤمنون. وقرنت الجملة بالفاء السببية؛ لتفيد أن من سبق في علم الله عدم إيمانه لا يرجى إيمانه بحال؛ فارتباط الثاني بالأول ارتباط لا انفكاك له.
المعنى:
لقد وجد وثبت ما سبق في علم الله، في أكثرهم، وما كان في قوله بعدم إيمانهم؛ فلا يرجى من ذلك الأكثر- الذي سبق في علم الله عدم إيمانه- إيمان.
سؤال:
ما مات النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى عَرَجَ (1) الإسلام جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولا شك أن الذين ماتوا على الكفر هم الأقل بالنسبة لمن آمنوا، فما معنى قوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} ؟.
جوابه:
الذين قام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإنذارهم وأقام بين ظهرانيهم مكرراً للنذارة عليهم صباح مساء، مدة ثلاث عشرة سنة، هم أهل مكة؛ فهم الذين تتعين إرادتهم من الضمير في قوله تعالى: {أَكْثَرِهِمْ} ولا شك أن أكثر من أنذرهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أهل مكة ماتوا على الكفر.
سؤال على هذا الجواب:
هذا يقتضي أن المراد بلفظة "قوماً" المتقدمة: أهل مكة مع أن المفسرين فسروها بالعرب.
جوابه:
نسلم بهذا، ويكون تفسير "قوماً" بالعرب نظراً لمماثلتهم لأهل مكة في وجوب إنذارهم، باعتبار مشاركتهم لهم في الوصف، وهو غفلتهم لعدم إنذار آبائهم.
لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله فيه:
قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار، وما نصب لهم (2) من آيات مشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات.
__________
(1) عرج: ارتفع وعلا (المعجم الوسيط: [ص:591] ) .
(2) كانت في الأصل المطبوع: "لها".[/rtl]
[rtl](1/299)[/rtl]
وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، وكان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.
فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم؛ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
توجيه للترتيب:
تقوم حجة الله على العبد أولاً.
ويعمل هو- كاسبا ومكتسبا- باختياره ثانياً.
ويظهر لنا ما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثاً.
ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية التي فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم.
تقريب:
قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتهما، وأخلاقهما، وسيرتهما.
ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما، وهو يعلم- بما علم من أحدهما- أنه يمتثل، ويعلم- بما علم من الآخر- أنه يخالف.
ويقول لأهل بيته: إن فلاناً سيمتثل، وإن فلانا سيخالف.
فيظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما؛ فجازى الممتثل على طاعته، وجازى المخالف على عصيانه.
فلا شك أن هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير، وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والإرشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما.
كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما سبق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه.
لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علماً، فعلم من سيطيعه ومن سيعصي.
ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.
بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاؤهم على ما عملوا وما قدمت ايديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.[/rtl]
[rtl](1/300)[/rtl]
أرأيت كيف أن الله- تعالى- لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم على أعمالهم.
فهذا تعليم لنا كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض؛ فلا نجازي على مجرد الظن، بل ولا على مجرد اليقين؛ وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال.
فرُبّ شخص قدرت فيه الخير أو الشر، ففعل ضد ما قدرت؛ فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه، ولنال كل ما لا يستحقه.
فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه، وهذا ما ينبغي أن نربط به المجازاة بيننا.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- عدد المساهمات : 3412
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه:
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) } [يس:8 و 9] .
لما ذكر عدم إيمانهم، وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الإعراض عنه.
(الغل) ما يجعل في العنق محيطًا به.
(الذقن) مجمع اللحيين، ملتقى عظميهما تحت الفم.
{مُقْمَحُونَ} رافعون رؤوسهم. يقال: قمح البعير قموحاً إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع عن الشرب. ويقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه.
(السد) الحاجز بين الشيئين.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} جعلنا عليهم غشاء أي غطاء، أحاط بجميع الذات فمنع العيون من الإبصار.
{فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} أي الأغلال منتهية من أسفل الأعناق إلى الأذقان. وهذا كناية عن عرضها، ولذا فرع عليه {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} .
وفرع عدم إبصارهم على جعل سد أمامهم وسد خلفهم؛ لالتزاق السدين بهم، وضغطهما عليهم، فكما لا يستطيعون معهما تحركًا لا يستطيعون إبصاراً. وكيف يبصر من وجهه ملتزق بالحائط مثلاً؟[/rtl]
[rtl]المعنى:
إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالًا ضيقة عريضة، تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الإيمان، لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا.
وجعلنا أمامهم حجاباً وخلفهم حجاباً محيطين وملتزقين بهم ومغطين لجميع ذواتهم، فلا يستطيعون معهما تحركاً ولا إبصاراً.
توجيه التمثيل:
دعوا إلى الإيمان والتوحيد ومكارم الأخلاق، وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها شبهوا بالإبل المقمحة عن الماء.
ثم إن هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة، تدرك باستعمال النظر فيما بين يدي الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها، وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها.
فلما أعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملزقين ومحيطين به، فجمد في مكانه؛ فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئاً.
ترهيب:
كل ما دعا إليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال، فهو مما تقبله الفطر السليمة، وتدركه العقول بالنظر الصحيح.
فمن قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد، وخالف فطرته، وعاكس عقله، كان حقيقاً بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة، والطبع على القلب؛ فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ، الذي صورها في أبشع وأفظع صورة؛ ليحذرنا من الإعراض عن الحق والعناد له، ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.
تعليم:
لكل إنسان فطرته وعقله، فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما راجعين إلى الفطرة الإنسانية وإلى العقل البشري منزهين عن الأغراض والأهواء والأوهام والشبهات.
فإذا كان هلاك هؤلاء بعدم الاستفادة منهما، فإن النجاة عندما تعرض الأمور بالرجوع إليهما.
ونجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة؛ ليعلمنا الرجوع إليهما والاستفادة منهما.
***[/rtl]
[rtl]من استوى عنده الانذار وعدم الانذار لا يرجى منه إيمان:
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) } [بس:10] .
لما ذكر- تعالى- عدم إيمانهم لما سبق من علم الله فيهم ذكر هنا سبباً آخر لذلك، وهو استواء الإنذار وعدمه لديهم.
ذكر هذا السبب إثر ما تقدم من وصف حالهم في شدة الإعراض، للتنبيه على أن من فسدت فطرته، وانطمس عقله، يستوي عنده الإنذار وعدمه، فلا يكون منه إيمان على كل حال.
{سواء} بمعنى مستو. والهمزة الأولى (1) أصلها للاستفهام، وليس مراداً هنا، وتسمى في مثل هذا التركيب همزة التسوية، لوقوعها بعد لفظها، ودخولها على الأول من أمرين يراد التسوية ما بينهما. وهي حينئذ من أدوات السبك ولذا يكون تأويل الكلام هكذا: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك.
المعنى:
إن أكثر أهل مكة الذين حكم الله بعدم إيمانهم، بلغوا من شدة الإعراض والعناد إلى حيث استوى عندهم الضدان: الإنذار وعدم الإنذار، فمحقق منهم عدم الإيمان ومأيوس من صدوره من ناحيتهم.
تحذير:
يذكر الله- تعالى- حالة هؤلاء الذين استوى عندهم الشيء وضده، يحذرنا منها، ومما يؤدي إليها، من إهمال الفطرة وترك النظر.
فإن الإنسان إنما يمتاز على بقية الحيوان بتمييزه بين الحقائق بالفطرة والفكرة، وإدراكه الفوارق ما بينها. فإذا سلب هذه المزية التحق بالعجماوات؛ بل كانت العجماوات خيراً منه لبقاء فطرتها سليمة لإدراك ما فيها استعداداً لإدراكه.
***
تجديد الإنذار للمنتفعين به وتبشيرهم:
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس: 11] .
لما ذكر تعالى المأيوس من انتفاعهم بإنذار النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذكر الذين ينتفعون به تأنيساً له بهم، وتقوية له بظهور ثمرة إنذاره فيهم.
__________
(1) في قوله: "أَنْذَرْتَهُمْ".[/rtl]
[rtl]{الذكر} القرآن. وهو من أسمائه التي تكررت في التنزيل، و"ال" فيه العهد.
{الغيب} الخلوة عندما يغيب الإنسان عن عيون البشر.
(التبشير) الإخبار بما يسر.
(المغفرة) سترة الذنب بالتجاوز عنه وعدم المؤاخذة به.
(الأجر) الجزاء على العمل.
(الكريم) الطيب الشريف في نفسه الدافع في إثره الذي لا يشوب ذاته نقص ولا منفعته ضرر.
وأفاد المضارع في {تنذر} تجديد الإنذار للمتبعين، وذكر اسم {الرحمن} ليفيد التركيب أنهم يخشونه مع العلم برحمته، وذلك يقتضي جمعهم بين الخوف والرجاء.
ذكر المنتفعين بعد المأيوس من انتفاعهم، ترقية من الأدنى إلى الأعلى، ولأنهم كالزبدة التي يحصل عليها بعد طرح غيرها، ولإراحة القلب من أولئك، لتتوجه العناية التامة إلى هؤلاء. وذكرت الخشية بعد الاتباع لأنها لا تحصل إلاّ به.
وجيء بعد بالتبشير مقروناً بالفاء، لأنه إنما يكون لأهل الاتباع والخشية، بسبب اتباعهم وخشيتهم.
وذكر الأجر بعد المغفرة لأن التحلية بعد التخلية، والتزين بعد إزالة الأدران.
المعنى:
إنما يتجدد إنذارك وينتفع به الذين آمنوا، وهم الذين اتبعوا القرآن وخافوا الله في خلواتهم، لصدق إيمانهم خاشين نقمته، راجين رحمته.
وهؤلاء كما تنذرهم وينتفعون بإنذارك، بشرهم- على اتباعهم للقرآن، وخشيتهم بالغيب للرحمن- بمغفرة ذنوبهم، وجزاء- شريفًا رفيعًا طيبًا نافعًا (1) لا نقص فيه ولا تنغيص- على أعمالهم.
دفع إشكال:
أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالإنذار العام، ثم كان ممن أنذرهم قوم مأيوس منهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ... الآيات، وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] . إذ لا فائدة من إنذارهم.
وكان قوم آخرون آمنوا وهؤلاء هم المرادون بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الآية.
فلا منافاة بين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الذي يقتضي التعميم، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الذي
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "شريف رفيع طيب نافع" والصواب ما أثبتناه؛ لأن كل هذه الألفاظ نعوت لـ"جزاء" المنصوب بـ"بشرهم".[/rtl]
[rtl]يقتضي التخصيص؛ لأن الأول في مقام الإنذار العام، والثاني في مقام تجديد الإنذار والانتفاع به، وأما الإعراض فلا يكون إلاّ عن المأيوس منه من الكافرين.
إرشاد:
طريق السلوك الشرعي إنما هي اتباع القرآن، وأكمل أحوال العبد أن يخشى الله ويرجو رحمته.
وأهل الاتباع والخشية لا يستغنون عن تجديد الإنذار، وذلك بدوام التذكير المشروع في الإسلام، وتذكير المؤمنين بإنذارهم وتبشيرهم؛ فلا يَأْمَنُون (1) من عذاب الله ولا يقنطون من رحمته.
صفة المؤمن من هذه الآيات:
المؤمن الكامل هو من سلمت فطرته، وصح إدراكه، واتبع القرآن في عقده، وخلقه، وعمله، واستوت خلوته وجلوته، وسره وعلنه؛ وعبد الله راجياً رحمته، خائفاً عذابه، يخيفه الإنذار، وترجيه البشرى بالمغفرة والأجر الكريم.
ثبتنا الله والمسلمين على الايمان مع هذه الصفات إلى الممات، آمين يا رب العالمين.
***
الحياة بعد الموت
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } [يس:12] .
اشتملت الآيات المتقدمة على ذكر الرسول وصفته، ورسالته التي جاء بها- وهي القرآن- ووصفها، والمرسل وهو العزيز الرحيم، والمرسل إليهم، وتعميم بالنذارة، وانقسامهم إلى معرضين معاندين، ومقبلين متبعين؛ فجاءت هذه الآية مشتملة على ما تكون فيه نتيجة ذلك وثمرته، وهو يوم القيامة.
ووجه آخر (2) وهو أن أمهات أصول العقائد ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله، والإيمان باليوم الآخر.
وقد انتظمت الآيات المتقدمة تقرير الأصل الثاني (3) بالقسم عليه (4) على ما تقدم من البيان، وانتظمت الأصل الأول (5) ضمنًا بذكر العزيز الرحيم (6) .
فجاءت هذه الآية لتقرير الأصل الثالث (7) .
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "يؤمنون" والصواب ما أثبتناه، فلا يأمنون؛ من الأمْن.
(2) أي في سبب الارتباط.
(3) الإيمان برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(4) بقوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
(5) الإيمان بالله تعالى.
(6) {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
(7) الإيمان باليوم الآخر.[/rtl]
[rtl]سؤال:
كيف يذكر الأصل الأول- وهو الأصل الأول- إلاّ بما ذكر به من الذكر الضمني؟
الجواب:
ذلك لأمرين:
الأول: أن هذه الأصول الثلاثة تذكر في أول السور، غير أن بعض السور تخصص بالحديث على بعض الأصول أكثر من غيره، ولا يذكر فيها غيره إلاّ ضمنًا كما هنا.
الثاني: أن تقرير الأصل الثاني هو تقرير للأصل الأول؛ إذ جميع دلائل النبوة، دلائل على وجود الخالق وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
(الإحياء) : إيجاد الحياة في الجسم؛ ولا يكون إلاّ من الله.
و (الميت) : الجسم الذي يقبل الحياة ولا حياة فيه، سواء أكانت فيه وزالت، أم لم تكن فيه بعد كالجنين قبل نفخ الروح فيه.
أكدت الجملة لأن الخطاب مع منكري البعث والنشور، وأكد إسم "إنّ" (1) بـ"نحن" ليفيد الاختصاص، فهو المحيي دون غيره.
وعبر بـ {نحيي} فعلاً مضارعاً ليفيد تجديد الإحياء واستمراره، فيشمل إحياءه للأجنة في الدنيا، وإحياءه الثاني في الأخرى. وكثيراً ما جاء في القرآن الاستدلال على الإحياء الثاني بالإحياء الأول؛ فتكون كلمة {نحيي} قد اشتملت على العقيدة وهى الإحياء الثاني، ودليلها وهو الإحياء الأول.
المعنى:
يعرف الله- تعالى- عباده بأنه هو الذي يحيي الموتى دون غيره، ويذكرهم بما يشاهدونه من ذلك فيهم، وهم أجنة في بطون أمهاتهم؛ فيؤمنون بأنه يحييهم كذلك بعد موتهم، فيستعدون من حياتهم الأولى لحياتهم الثانية.
***
إحصاء الأعمال المباشرة وغير المباشرة:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .
لما أعلم الخلق بأنهم يحيون بعد الموت، أعلمهم بأن أعمالهم المباشرة وغير المباشرة مكتوبة عليهم؛ لأن حياتهم بعد الموت، لنيل جزاء ما كتب عليهم من أعمالهم.
(قدم الشيء) : جعله قدامه. وأعمال المرء التي يباشرها قدمها قبله في طريقه إِلى الآخرة، فهي محفوظة حتى يلحقها.
__________
(1) في قوله تعالى: {إنَّا} .[/rtl]
[rtl]و (الأثر) ما يحصل من العمل، كالذي يحصل على وجه التراب من وضع الأقدام ويبقي بعد رفعها الإنسان ما يحصل من أعماله التي باشرها.
عبر بـ {نَكْتُبُ} مضارعاً ليفيد التجدد والاستمرار، فما من عمل أو أثر يتجدد إلاّ ويكتب.
وأسند الكتابة إليه، والكاتبون الملائكة، لأنهم بأمره يكتبون.
المعنى:
يعلم الله- تعالى- عباده بأنه يكتب كل أعمالهم التي يعملونها ويباشرونها بأنفسهم.
ويكتب كذلك ما يعمله غيرهم، إذا كان متسبباً عن أعمالهم وأثراً لها.
تنظير:
مثل هذه الآية- في الدلالة على أن العبد مؤاخذ بما عمل مباشرة، وما عمله غيره، وكان من آثار عمله- قوله تعالى:
{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] . فالذي أخره، هو أثره المذكور في (1) هذه الآية.
تأييد وبيان:
في صحيح مسلم من طريق جابر (2) بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حبة، فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه؛ حتى رؤي ذلك في وجهه..
قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«من سن في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (3) .
وفيه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه رآله وسلم- قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
__________
(1) لفظة "في" ساقطة من الأصل المطبوع.
(2) كذا في الأصل المطبوع، وهو خطأ. والصواب "جرير". انظر المراجع المذكورة في الحاشية التالية.
(3) رواه مسلم في العلم حديث 15، والزكاة حديث 69 و70. والنسائي في الزكاة باب 64. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في المقدمة باب 44. وأحمد في المسند (4/ 359، 360، 362) .[/rtl]
[rtl]ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» (1) .
فتأيد بهذين الحديثين فهم المعنى المتقدم من الآية، وهو أن العبد له وعليه من آثار أعماله مما لم يباشره بنفسه، مثل ما له وما عليه من أعماله التي يباشرها.
وبيَّن الحديث الأول: أن ما تسبب عن عمل المرء يعد أثراً لعمله عندما يعمل به في حياته مثلما يعمل به بعد مماته، إذ الذي جاء بالصرة أولاً قد تسبب في مجيئه مجيء من بعده على إثره، والحديث سيق في شأنهم؛ فتكون حالتهم أول ما يشمل.
كما بين الحديث الثاني: أن أثر القول كأثر الفعل، إذ الكل عمل.
وبين الحديثان: أن نيل المرء جزاء عمله الذي لم يباشره لا ينقص من جزاء العامل المباشر شيئا.
تنبيه:
من صورة الواقعة التي ورد فيها الحديث الأول علمنا: أن المراد بمن سن سنة حسنة أو سيئة، هو من ابتدأ طريقاً من الخير في أعمال البر والإحسان، وما ينتفع به الناس من شئون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات، إذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتيات (2) عليه واستنقاص له؛ وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) .
تحذير:
على العاقل- وقد علم أنه محاسب على أفعاله وعلى آثار أقواله- ألاّ يفعل فعلاً ولا يقول قولاً حتى ينظر في عواقبه، فقد تكون تلك العواقب أضر عليه من أصل القول وأصل الفعل؛ فقد يقول القول مرة، ويفعل الفعل مرة، ثم يقتدي به فيه آلاف عديدة في أزمنة متطاولة.
حقاً إن هذا لشيء تنخلع منه القلوب، وترتعد منه الفرائص، وصدق القائل من السلف رضي الله عنهم: "السعيد من ماتت معه سيئاته".
__________
(1) أخرجه مسلم في العلم حديث 16، والذكر حديث 1. وأبو داود في السنة باب 6. والترمذي في العلم باب 15، وثواب القرآن باب 14. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في فضائل القرآن باب 1.
(2) افْتَات في الأمر: استبدَّ به ولم يستثر من له الرأي فيه (المعجم الوسيط: [ص:705] ) .
(3) جزء من حديث طويل أخرجه من حديث جابر بن عبد الله (من دون عبارة: «وكل ضلالة في النار» ) مسلم في الجمعة حديث 43، وابن ماجة في المقدمة باب 6، وأحمد في المسند (3/ 310) ومن حديث العرباض بن سارية: أبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 7، وأحمد في المسند (4/ 126، 127) . ولفظة «وكل ضلالة في النار» لم ترد في الصحيح.[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"](1/308)[/b]
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) } [يس:8 و 9] .
لما ذكر عدم إيمانهم، وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الإعراض عنه.
(الغل) ما يجعل في العنق محيطًا به.
(الذقن) مجمع اللحيين، ملتقى عظميهما تحت الفم.
{مُقْمَحُونَ} رافعون رؤوسهم. يقال: قمح البعير قموحاً إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع عن الشرب. ويقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه.
(السد) الحاجز بين الشيئين.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} جعلنا عليهم غشاء أي غطاء، أحاط بجميع الذات فمنع العيون من الإبصار.
{فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} أي الأغلال منتهية من أسفل الأعناق إلى الأذقان. وهذا كناية عن عرضها، ولذا فرع عليه {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} .
وفرع عدم إبصارهم على جعل سد أمامهم وسد خلفهم؛ لالتزاق السدين بهم، وضغطهما عليهم، فكما لا يستطيعون معهما تحركًا لا يستطيعون إبصاراً. وكيف يبصر من وجهه ملتزق بالحائط مثلاً؟[/rtl]
[rtl](1/301)[/rtl]
إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالًا ضيقة عريضة، تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الإيمان، لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا.
وجعلنا أمامهم حجاباً وخلفهم حجاباً محيطين وملتزقين بهم ومغطين لجميع ذواتهم، فلا يستطيعون معهما تحركاً ولا إبصاراً.
توجيه التمثيل:
دعوا إلى الإيمان والتوحيد ومكارم الأخلاق، وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها شبهوا بالإبل المقمحة عن الماء.
ثم إن هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة، تدرك باستعمال النظر فيما بين يدي الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها، وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها.
فلما أعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملزقين ومحيطين به، فجمد في مكانه؛ فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئاً.
ترهيب:
كل ما دعا إليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال، فهو مما تقبله الفطر السليمة، وتدركه العقول بالنظر الصحيح.
فمن قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد، وخالف فطرته، وعاكس عقله، كان حقيقاً بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة، والطبع على القلب؛ فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ، الذي صورها في أبشع وأفظع صورة؛ ليحذرنا من الإعراض عن الحق والعناد له، ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.
تعليم:
لكل إنسان فطرته وعقله، فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما راجعين إلى الفطرة الإنسانية وإلى العقل البشري منزهين عن الأغراض والأهواء والأوهام والشبهات.
فإذا كان هلاك هؤلاء بعدم الاستفادة منهما، فإن النجاة عندما تعرض الأمور بالرجوع إليهما.
ونجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة؛ ليعلمنا الرجوع إليهما والاستفادة منهما.
***[/rtl]
[rtl](1/302)[/rtl]
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) } [بس:10] .
لما ذكر- تعالى- عدم إيمانهم لما سبق من علم الله فيهم ذكر هنا سبباً آخر لذلك، وهو استواء الإنذار وعدمه لديهم.
ذكر هذا السبب إثر ما تقدم من وصف حالهم في شدة الإعراض، للتنبيه على أن من فسدت فطرته، وانطمس عقله، يستوي عنده الإنذار وعدمه، فلا يكون منه إيمان على كل حال.
{سواء} بمعنى مستو. والهمزة الأولى (1) أصلها للاستفهام، وليس مراداً هنا، وتسمى في مثل هذا التركيب همزة التسوية، لوقوعها بعد لفظها، ودخولها على الأول من أمرين يراد التسوية ما بينهما. وهي حينئذ من أدوات السبك ولذا يكون تأويل الكلام هكذا: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك.
المعنى:
إن أكثر أهل مكة الذين حكم الله بعدم إيمانهم، بلغوا من شدة الإعراض والعناد إلى حيث استوى عندهم الضدان: الإنذار وعدم الإنذار، فمحقق منهم عدم الإيمان ومأيوس من صدوره من ناحيتهم.
تحذير:
يذكر الله- تعالى- حالة هؤلاء الذين استوى عندهم الشيء وضده، يحذرنا منها، ومما يؤدي إليها، من إهمال الفطرة وترك النظر.
فإن الإنسان إنما يمتاز على بقية الحيوان بتمييزه بين الحقائق بالفطرة والفكرة، وإدراكه الفوارق ما بينها. فإذا سلب هذه المزية التحق بالعجماوات؛ بل كانت العجماوات خيراً منه لبقاء فطرتها سليمة لإدراك ما فيها استعداداً لإدراكه.
***
تجديد الإنذار للمنتفعين به وتبشيرهم:
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس: 11] .
لما ذكر تعالى المأيوس من انتفاعهم بإنذار النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذكر الذين ينتفعون به تأنيساً له بهم، وتقوية له بظهور ثمرة إنذاره فيهم.
__________
(1) في قوله: "أَنْذَرْتَهُمْ".[/rtl]
[rtl](1/303)[/rtl]
{الغيب} الخلوة عندما يغيب الإنسان عن عيون البشر.
(التبشير) الإخبار بما يسر.
(المغفرة) سترة الذنب بالتجاوز عنه وعدم المؤاخذة به.
(الأجر) الجزاء على العمل.
(الكريم) الطيب الشريف في نفسه الدافع في إثره الذي لا يشوب ذاته نقص ولا منفعته ضرر.
وأفاد المضارع في {تنذر} تجديد الإنذار للمتبعين، وذكر اسم {الرحمن} ليفيد التركيب أنهم يخشونه مع العلم برحمته، وذلك يقتضي جمعهم بين الخوف والرجاء.
ذكر المنتفعين بعد المأيوس من انتفاعهم، ترقية من الأدنى إلى الأعلى، ولأنهم كالزبدة التي يحصل عليها بعد طرح غيرها، ولإراحة القلب من أولئك، لتتوجه العناية التامة إلى هؤلاء. وذكرت الخشية بعد الاتباع لأنها لا تحصل إلاّ به.
وجيء بعد بالتبشير مقروناً بالفاء، لأنه إنما يكون لأهل الاتباع والخشية، بسبب اتباعهم وخشيتهم.
وذكر الأجر بعد المغفرة لأن التحلية بعد التخلية، والتزين بعد إزالة الأدران.
المعنى:
إنما يتجدد إنذارك وينتفع به الذين آمنوا، وهم الذين اتبعوا القرآن وخافوا الله في خلواتهم، لصدق إيمانهم خاشين نقمته، راجين رحمته.
وهؤلاء كما تنذرهم وينتفعون بإنذارك، بشرهم- على اتباعهم للقرآن، وخشيتهم بالغيب للرحمن- بمغفرة ذنوبهم، وجزاء- شريفًا رفيعًا طيبًا نافعًا (1) لا نقص فيه ولا تنغيص- على أعمالهم.
دفع إشكال:
أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالإنذار العام، ثم كان ممن أنذرهم قوم مأيوس منهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ... الآيات، وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] . إذ لا فائدة من إنذارهم.
وكان قوم آخرون آمنوا وهؤلاء هم المرادون بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الآية.
فلا منافاة بين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الذي يقتضي التعميم، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الذي
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "شريف رفيع طيب نافع" والصواب ما أثبتناه؛ لأن كل هذه الألفاظ نعوت لـ"جزاء" المنصوب بـ"بشرهم".[/rtl]
[rtl](1/304)[/rtl]
إرشاد:
طريق السلوك الشرعي إنما هي اتباع القرآن، وأكمل أحوال العبد أن يخشى الله ويرجو رحمته.
وأهل الاتباع والخشية لا يستغنون عن تجديد الإنذار، وذلك بدوام التذكير المشروع في الإسلام، وتذكير المؤمنين بإنذارهم وتبشيرهم؛ فلا يَأْمَنُون (1) من عذاب الله ولا يقنطون من رحمته.
صفة المؤمن من هذه الآيات:
المؤمن الكامل هو من سلمت فطرته، وصح إدراكه، واتبع القرآن في عقده، وخلقه، وعمله، واستوت خلوته وجلوته، وسره وعلنه؛ وعبد الله راجياً رحمته، خائفاً عذابه، يخيفه الإنذار، وترجيه البشرى بالمغفرة والأجر الكريم.
ثبتنا الله والمسلمين على الايمان مع هذه الصفات إلى الممات، آمين يا رب العالمين.
***
الحياة بعد الموت
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } [يس:12] .
اشتملت الآيات المتقدمة على ذكر الرسول وصفته، ورسالته التي جاء بها- وهي القرآن- ووصفها، والمرسل وهو العزيز الرحيم، والمرسل إليهم، وتعميم بالنذارة، وانقسامهم إلى معرضين معاندين، ومقبلين متبعين؛ فجاءت هذه الآية مشتملة على ما تكون فيه نتيجة ذلك وثمرته، وهو يوم القيامة.
ووجه آخر (2) وهو أن أمهات أصول العقائد ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله، والإيمان باليوم الآخر.
وقد انتظمت الآيات المتقدمة تقرير الأصل الثاني (3) بالقسم عليه (4) على ما تقدم من البيان، وانتظمت الأصل الأول (5) ضمنًا بذكر العزيز الرحيم (6) .
فجاءت هذه الآية لتقرير الأصل الثالث (7) .
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "يؤمنون" والصواب ما أثبتناه، فلا يأمنون؛ من الأمْن.
(2) أي في سبب الارتباط.
(3) الإيمان برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(4) بقوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
(5) الإيمان بالله تعالى.
(6) {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
(7) الإيمان باليوم الآخر.[/rtl]
[rtl](1/305)[/rtl]
كيف يذكر الأصل الأول- وهو الأصل الأول- إلاّ بما ذكر به من الذكر الضمني؟
الجواب:
ذلك لأمرين:
الأول: أن هذه الأصول الثلاثة تذكر في أول السور، غير أن بعض السور تخصص بالحديث على بعض الأصول أكثر من غيره، ولا يذكر فيها غيره إلاّ ضمنًا كما هنا.
الثاني: أن تقرير الأصل الثاني هو تقرير للأصل الأول؛ إذ جميع دلائل النبوة، دلائل على وجود الخالق وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
(الإحياء) : إيجاد الحياة في الجسم؛ ولا يكون إلاّ من الله.
و (الميت) : الجسم الذي يقبل الحياة ولا حياة فيه، سواء أكانت فيه وزالت، أم لم تكن فيه بعد كالجنين قبل نفخ الروح فيه.
أكدت الجملة لأن الخطاب مع منكري البعث والنشور، وأكد إسم "إنّ" (1) بـ"نحن" ليفيد الاختصاص، فهو المحيي دون غيره.
وعبر بـ {نحيي} فعلاً مضارعاً ليفيد تجديد الإحياء واستمراره، فيشمل إحياءه للأجنة في الدنيا، وإحياءه الثاني في الأخرى. وكثيراً ما جاء في القرآن الاستدلال على الإحياء الثاني بالإحياء الأول؛ فتكون كلمة {نحيي} قد اشتملت على العقيدة وهى الإحياء الثاني، ودليلها وهو الإحياء الأول.
المعنى:
يعرف الله- تعالى- عباده بأنه هو الذي يحيي الموتى دون غيره، ويذكرهم بما يشاهدونه من ذلك فيهم، وهم أجنة في بطون أمهاتهم؛ فيؤمنون بأنه يحييهم كذلك بعد موتهم، فيستعدون من حياتهم الأولى لحياتهم الثانية.
***
إحصاء الأعمال المباشرة وغير المباشرة:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .
لما أعلم الخلق بأنهم يحيون بعد الموت، أعلمهم بأن أعمالهم المباشرة وغير المباشرة مكتوبة عليهم؛ لأن حياتهم بعد الموت، لنيل جزاء ما كتب عليهم من أعمالهم.
(قدم الشيء) : جعله قدامه. وأعمال المرء التي يباشرها قدمها قبله في طريقه إِلى الآخرة، فهي محفوظة حتى يلحقها.
__________
(1) في قوله تعالى: {إنَّا} .[/rtl]
[rtl](1/306)[/rtl]
عبر بـ {نَكْتُبُ} مضارعاً ليفيد التجدد والاستمرار، فما من عمل أو أثر يتجدد إلاّ ويكتب.
وأسند الكتابة إليه، والكاتبون الملائكة، لأنهم بأمره يكتبون.
المعنى:
يعلم الله- تعالى- عباده بأنه يكتب كل أعمالهم التي يعملونها ويباشرونها بأنفسهم.
ويكتب كذلك ما يعمله غيرهم، إذا كان متسبباً عن أعمالهم وأثراً لها.
تنظير:
مثل هذه الآية- في الدلالة على أن العبد مؤاخذ بما عمل مباشرة، وما عمله غيره، وكان من آثار عمله- قوله تعالى:
{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] . فالذي أخره، هو أثره المذكور في (1) هذه الآية.
تأييد وبيان:
في صحيح مسلم من طريق جابر (2) بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حبة، فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه؛ حتى رؤي ذلك في وجهه..
قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«من سن في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (3) .
وفيه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه رآله وسلم- قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
__________
(1) لفظة "في" ساقطة من الأصل المطبوع.
(2) كذا في الأصل المطبوع، وهو خطأ. والصواب "جرير". انظر المراجع المذكورة في الحاشية التالية.
(3) رواه مسلم في العلم حديث 15، والزكاة حديث 69 و70. والنسائي في الزكاة باب 64. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في المقدمة باب 44. وأحمد في المسند (4/ 359، 360، 362) .[/rtl]
[rtl](1/307)[/rtl]
فتأيد بهذين الحديثين فهم المعنى المتقدم من الآية، وهو أن العبد له وعليه من آثار أعماله مما لم يباشره بنفسه، مثل ما له وما عليه من أعماله التي يباشرها.
وبيَّن الحديث الأول: أن ما تسبب عن عمل المرء يعد أثراً لعمله عندما يعمل به في حياته مثلما يعمل به بعد مماته، إذ الذي جاء بالصرة أولاً قد تسبب في مجيئه مجيء من بعده على إثره، والحديث سيق في شأنهم؛ فتكون حالتهم أول ما يشمل.
كما بين الحديث الثاني: أن أثر القول كأثر الفعل، إذ الكل عمل.
وبين الحديثان: أن نيل المرء جزاء عمله الذي لم يباشره لا ينقص من جزاء العامل المباشر شيئا.
تنبيه:
من صورة الواقعة التي ورد فيها الحديث الأول علمنا: أن المراد بمن سن سنة حسنة أو سيئة، هو من ابتدأ طريقاً من الخير في أعمال البر والإحسان، وما ينتفع به الناس من شئون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات، إذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتيات (2) عليه واستنقاص له؛ وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) .
تحذير:
على العاقل- وقد علم أنه محاسب على أفعاله وعلى آثار أقواله- ألاّ يفعل فعلاً ولا يقول قولاً حتى ينظر في عواقبه، فقد تكون تلك العواقب أضر عليه من أصل القول وأصل الفعل؛ فقد يقول القول مرة، ويفعل الفعل مرة، ثم يقتدي به فيه آلاف عديدة في أزمنة متطاولة.
حقاً إن هذا لشيء تنخلع منه القلوب، وترتعد منه الفرائص، وصدق القائل من السلف رضي الله عنهم: "السعيد من ماتت معه سيئاته".
__________
(1) أخرجه مسلم في العلم حديث 16، والذكر حديث 1. وأبو داود في السنة باب 6. والترمذي في العلم باب 15، وثواب القرآن باب 14. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في فضائل القرآن باب 1.
(2) افْتَات في الأمر: استبدَّ به ولم يستثر من له الرأي فيه (المعجم الوسيط: [ص:705] ) .
(3) جزء من حديث طويل أخرجه من حديث جابر بن عبد الله (من دون عبارة: «وكل ضلالة في النار» ) مسلم في الجمعة حديث 43، وابن ماجة في المقدمة باب 6، وأحمد في المسند (3/ 310) ومن حديث العرباض بن سارية: أبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 7، وأحمد في المسند (4/ 126، 127) . ولفظة «وكل ضلالة في النار» لم ترد في الصحيح.[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"](1/308)[/b]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- عدد المساهمات : 3412
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]الإحصاء العام في الكتاب الإمام:
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} .
لما أعلم العباد بأنه يكتب لهم وعليهم أعمالهم، أعلمهم بأنه تعالى قد كتب كل الأشياء لا خصوص أعمالهم تعميماً بعد تخصيص.
(الإحصاء) تحصيل الشيء بالعد وضبطه والإحاطة به.
(الإمام) ما يؤتم ويقتدى به، والكتاب إمام لأنه يتبع فيؤخذ بما فيه ويعتمد عليه.
و (المبين) المظهر لما فيه، فكل ما فيه ظاهر فيه.
أصل الكلام: أحصينا كل شيء أحصيناه. فحذف أحصينا الأول لدلالة الثاني، فكان هذا أقوى في ثبوت الإحصاء ووقوعه على كل شيء.
المعنى:
يعلم الله عباده بأنه حصل كل شيء من ذوات وأقوال وأفعال، وجميع ما كان في العالم وما يكون، وأثبته فرداً فرداً في كتاب إمام معتمد، مظهر للأشياء التي فيه، فهي ثابتة ظاهرة جلية.
اعتبار:
فقد أحاط الله بكل شيء علماً، فهو غني بعلمه عن هذه الكتابة، ولكنه جعل هذا الكتاب إظهاراً لعظمة ملكه وليعلم عباده الضبط والإحصاء في جميع أمورهم وليبالغوا في محاسبة أنفسهم وليعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم (1) ، فيزول من قلوبهم الخوف من الحوادث والمخلوقات وتعظم ثقتهم بالله.
وفي ذلك أعظم قوة في هذه الحياة، وأكبر راحة للقلب من صروفها.
نسأل الله سبحانه أن يقوي قلوبنا بالإيمان، وأن يريحنا باليقين، وأن يعيذنا من الخوف إلاّ منه، ومن الخضوع إلاّ له آمين يا رب العالمين.
__________
(1) كما ورد في الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت؛ وفي الحديث: « ... ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله تعالى ما قبله الله تعالى منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار» . أخرجه أبو داود في سننه (كتاب السنة، باب 16، حديث رقم 4699) .[/rtl]
[rtl]القسم الخامس آيات بيِّنات
في هذا القسم:
1- سبيل السعادة والنجاة.
2- كيف تكون الدعوة إلى الله، والدفاع عنها.
3- دعوة أهل الكتاب.
4- الإجتماع العام للأمر الهام، وارتباط الجماعة بأمر الإمام.
5- الود من إكرام الله لأولياء الله.
6- حسن التلقي، وطلب المزيد.
7- من وعد الله للصالحين.
8- دفاع الله عن المؤمنين.
9- أكل الحلال والعمل الصالح.
10- الفرار إلى الله، والفرار من الله.[/rtl]
[rtl]1- سبيل السعادة والنجاة
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } [يوسف:108] .
تمهيد:
خلق الله [تعالى] . محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل الناس، وجعله قدوتهم، وفرض عليهم اتباعه والائتساء به (1) ، فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم، ومغفرة خالقهم ورضوانه- إلاّ باقتفاء آثاره والسير في سبيله. فلهذا أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يبين سبيله بياناً عاماً للناس، لتتضح المحجة للمهتدين، وتقوم الحجة على الهالكين.
أمره أن يبينها البيان الذي يصيرها مشاهدة بالعيان، ويشير إليها كما يشار إلى سائر المشاهدات، فقال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} .
ثم بين سبيله بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الله على بصيرة، وتنزيه الله تعالى، والبراءة من المشركين، فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
الدعوة إلى الله:
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من يوم بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته، كان يدعو الناس كلهم إلى الله، بأقواله وأفعاله وتقريراته وجميع مواقفه في سائر مشاهده.
وكانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة جلية لا خفاء بها، كما قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» (2) ، فكانت مشاهدة معينة، كما أشير إليها في الآية إشارة المعين المشاهد.
__________
(1) حيث قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سورة الأحزاب: الآية 21.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 1 حدبث 5) عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: «آلفقر تخافون؛ والذي نفسي بيده لتصبنً عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة الا هِيَهْ. وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» . وقوله: «البيضاء» أي على قلوب بيضاء نقيّة عن الميل إلى الباطل، لا يميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرّاء.[/rtl]
[rtl]كان يدعو إلى دين الله، ويبين هو ذلك الدين ويمثله: يدعو إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته، ويشاهد الناس تلك العبادة والتوحيد والطاعة، فكان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كله دعوة إلى الله.
فما دعا إلى نفسه؛ فقد مات ودرعه مرهونة في دَيْن.
وما دعا إلى قومه، فقد كان يقول: «لا فضل لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلاّ بتقوى الله» (1) .
كان يدعو الناس كلهم، إذ هو رسول الله إلى الناس كلهم، فكتب الكتب وأرسل الرسل، فبلغت دعوته إلى الأمم وملوك الأمم.
كان يدعو الكافرين كما يدعو المؤمنين، يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع يوماً عن الإنذار والتبشير والوعظ والتذكير.
كان يدعو إلى الله على بينة وحجة يحصل بها الإدراك التام للعقل، حتى يصير الأمر المدرك واضحاً لديه كوضوح الأمر المشاهد بالبصر، فهو على بينة ويقين من كل ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها، وفي جميع أحواله.
وكانت دعوته المبنية على الحجة والبرهان، مشتملة على الحق والبرهان، فكان يستشهد بالعقل، ويعتضد بالعلم، ويستنصر بالوجدان، ويحتج بأيام الله في الأمم الخالية، وما استفاض من أخبارها، وبقي من آثارها من أنباء الأولين، وما يمر الناس عليه {مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 136] .
على كل مسلم أن يكون داعياً إلى الله:
لقد كان في بيان أن الدعوة إلى الله هي سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يفيد أن على أتباعه- وهو قدوتهم ولهم فيه الأسوة الحسنة- أن تكون الدعوة إلى الله سبيلهم.
ولكن لتأكيد هذا عليهم وبيان أنه من مقتضى كونهم أتباعه وأن أتباعهم له لا يتم إلاّ به- جاء التصريح بذلك هكذا:
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
فالمسلمون أفراداً وجماعات، عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله، وأن تكون دعوتهم على بينة وحجة وإيمان ويقين، وأن تكون دعوتهم وفقاً لدعوته، وتبعاً لها.
ماهية الدعوة:
1- فمن الدعوة إلى الله: دروس العلوم كلها، مما يفقه في دين الله، ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته، ويدل على رحمة الله وأنواع نعمته.
__________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد في المسند (5/ 411) من حديث أبي نضرة عن رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.[/rtl]
[rtl]فالفقيه الذي يبين حكم الله وحكمته، دل إلى الله.
والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته دل إلى الله.
ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل.
2- ومن الدعوة إلى الله: بيان حجج الإسلام، ودفع الشبه عنه، ونشر محاسنه بين الأجانب عنه ليدخلوا فيه، وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه.
3- ومن الدعوة إلى الله: مجالس الوعظ والتذكير، لتعريف المسلمين بدينهم، وتربيتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم فيه، ببيان ما فيه من خير وسعادة لهم.
وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه هي سبب كل شقاوة وشر لحقهم.
وبيان أنه ما من سبب مما تسعد به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ودعاهم إليه، وما من سبب مما تشقى به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ونهاهم عنه.
وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم، وبقاياه الباقية لديهم، ومظاهره القائمة بهم، لما بقيت لهم- وهم المجردون من كل قوة- بقية، ولتلاشت أشلاؤهم- وهم الأموات- في الأمم الحية.
4- ومن الدعوة إلى الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواجب بحسب رتبة الاستطاعة: فيجب باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب، وهو أضعف الإيمان (1) ، وأقل الأعمال في هذا المقام.
5- ومن الدعوة إلى الله: ظهور المسلمين- أفراداً وجماعات- بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة وعلم وعمل وصدق وأمانة؛ فذلك أعظم مرغب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفر لهم عنه، وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم، إلاّ لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال، كما يدعون بالقول، وما زالت الأعمال عياراً على الأقوال.
6- ومن الدعوة إلى الله: بعث البعثات إلى الأمم غير المسلمة، ونشر الكتب بألسنتها، وبعث المرشدين إلى عواصم الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم.
وكل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنة السلف الصالح من بعده.
فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه، وليعلم أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسبيل إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم من قبله.
__________
(1) وفيه الحديث عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» . رواه مسلم في الإيمان حديث 78. وأبو داود في الصلاة باب 242، والملاحم باب 17. والترمذي في الفتن باب 11. وابن ماجة في الإقامة باب 155، والفتن باب 20، والنسائي في الإيمان باب 17. وأحمد في المسند (3/ 10، 20، 49، 53، 54، 62) .[/rtl]
[rtl]فلم يكن المسلم ليدع من هذا المقام الشريف- مقام خلافة النبوة- شيئاً من حظه، وإذا كان هذا المقام ثابتاً لكل مسلم ومسلمة، وحقا القيام به- بقدر الاستطاعة- على كل مسلم ومسلمة- فأهل العلم به أولى وهو عليهم أحق، وهم المسؤولون عنه قبل جميع الناس.
وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلاّ يوم قعد أهل العلم عن هذا الواجب عليهم. وإذا عادوا إلى القيام به- وقد عادوا والحمد لله- أوشك- إن شاء الله- أن ينجلي عن المسلمين مصابهم.
تفرقة:
ليس كل من زعم أنه يدعو إلى الله يكون صادقاً في دعواه، فلا بد من التفرقة بين الصادقين والكاذبين. والفرق بينهما- مستفاد من الآية- بوجهين:
الأول:
أن الصادق لا يتحدث عن نفسه، فلا يستطيع أن ينسى نفسه في أقواله وأعماله.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {إِلَى اللهِ} .
الثاني:
أن الصادق يعتمد على الحجة والبرهان، فلا تجد في كلامه كذباً ولا تلبيساً ولا ادعاء مجرداً، ولا تقع من سلوكه في دعوته على التواء ولا تناقض ولا اضطراب.
وأما الكاذب فإنه بخلافه: فإنه يلقي دعاويه مجردة ويحاول تدعيمها بكل ما تصل إليه يده، ولا يزال لذلك في حنايا وتعاريج لا تزيده إلاّ بعداً عن الصراط المستقيم.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} .
مباحث لفظية:
{عَلَى بَصِيرَةٍ} يتعلق بـ {أدعو} ، واختيرت {على} لتدل على تمام التمكن و {أنا} تأكيد للضمير المستتر في {أدعو} ، ونكتته الإعلان بنفسه في مقام الدعوة، وشأن الداعي على بصيرة أن يجهر بدعوته ولا يستسر بها، واتصال اللفظ الدال عليه باللفظ الدال على اتباعه كما تتصل بدعوته.
وشأن الصورة اللفظية مطابقة الصورة الخارجية والكلام تصوير للواقع.
{من} تفيد العموم لكل تابع، وأكملهم في الاتباع أكملهم في الدعوة؛ لأن الموصول يفيد التعليل بصلته، فهم يدعون لأنهم متبعون.
تنزيه الله تعالى:
الإعتراف بوجود خالق للكون يكاد يكون غريزة مركوزة في الفطرة، ويكاد لا تكون لمنكريه- عناداً- نسبة عددية بين البشر.
ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه، ولا يليق بجلاله: من الصاحبة[/rtl]
[rtl]والولد، والمادة والصورة، والحلول، والشريك في التصرف في الكون، والشريك في التوجه والضراعة إليه، والسؤال منه والاتكال عليه.
فأرسل الله الرسل ليبينوا للخلق تنزهه عن ذلك كله.
وكان من سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه يدعو الخلق إلى الله، وينزهه عن كل ما نسبه إليه المبطلون وتخيله المتخيلون، وهو معنى قوله: {وَسُبْحَانَ اللهِ} .
فهو يدعوهم إلى الله الذي قد عرفوا وجوده بفطرتهم، وعرفوا أنه هو خالق الكون وخالقهم، لا يسميه إلاّ بما سمى به نفسه، ولا يصفه إلاّ بما وصف به نفسه، ويعرفهم بآثار قدرته، ومواقع رحمته، ومظاهر حكمته، وآيات ربوبيته وألوهيته، ووحدانيته في جلاله وسلطانه، وينزهه عن المشابهة والمماثلة لشيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهذا التنزيه- وإن كان داخلاً في الدعوة إلى الله فإنه- خصص بالذكر، لعظم شأنه؛ فإنه ما عرف الله من شبهه بخلقه، أو نسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو أشرك به سواه. وإن ضلال أكثر الخلق جاءهم من هذه الناحية.
فمن أعظم وجوه الدعوة وألزمها، تنزيه الله تعالى عن الشبيه والشريك، وكل ما لا يليق.
والمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الدعوة إلى الله على بصيرة، متبعون له في هذا التنزيه: عقداً، وقولًا، وعملاً، وإعلاناً، ودعوة.
مباحث لفظية:
{سبحان} منصوب بفعل محذوف تقديره أسبح أي أنزه، والجملة معطوفة على جملة {أدعو} ، فهي من بيان القبيل.
البراءة من المشركين:
الأمة التي بعث منها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهي أول أمة دعاها إلى الله، هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشركة تعرف أن الله خلقها ورزقها، وتعبد مع ذلك أوثانها: تزعم أنها تقربها إلى الله، وتتوسط لها لديه!!
فكان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعو إلى الله وينزهه، يعلن براءته من المشركين، وأنه ليس منهم: براءة من عقيدتهم، وأقوال وأعمال شركهم. فهو مباين لهم في العقد، والقول، والعمل مباينة الضد للضد. فكما باين التوحيد الشرك، باين هو المشركين، وذلك معنى قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وهذه البراءة والمباينة- وإن كانت مستفادة من أنه يدعو إلى الله وينزهه- فإنها نص عليها بالتصريح، لتأكيد أمر مباينة المشركين، والبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جلية وخفية.[/rtl]
في جميع مظاهر شركهم، حتى في صورة القول، كما "شاء الله وشاء فلان". فلا يقال: "وشاء فلان" كما جاء في حديث (1) بيناه في جزء من الأجزاء الماضية.
أو في صورة الفعل: كأن يسوق بقرة أو شاة مثلاً إلى ضريح من الأضرحة، ليذبحها عنده، فإنه ضلال كما قاله "الشيخ الدردير في باب النذر".
فضلاً عن عقائدهم: كاعتقاد أن هناك ديواناً من عباد الله يتصرف في ملك الله وأن المذنب لا يدعو الله وإنما يسأل من يعتقد فيه الخير من الأموات، وذلك الميت يدعو له الله!!
لتأكيد أمر المباينة للمشركين في هذا كله نص عليها بالتصريح كما قلنا، وللبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره وجليه وخفيه.
والمباينة والتبري لازمة من كل كفر وضلال، وذلك مستفاد من الدعوة إلى الله وتنزيهه. وإنما خصص المشركين لما تقدم ولأن الشرك هو شرك الكفر وأقبحه.
ولما كانت هذه المباينة والبراءة داخلة في الدعوة إلى الله وتنزيهه، فالمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعون إلى الله على بصيرة، وينزهونه؛ يباينون المشركين في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، ويطرحون الشرك بجميع وجوهه، ويعلنون براءتهم وانتفاءهم من المشركين. والحمد لله رب العالمين.
***
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} .
لما أعلم العباد بأنه يكتب لهم وعليهم أعمالهم، أعلمهم بأنه تعالى قد كتب كل الأشياء لا خصوص أعمالهم تعميماً بعد تخصيص.
(الإحصاء) تحصيل الشيء بالعد وضبطه والإحاطة به.
(الإمام) ما يؤتم ويقتدى به، والكتاب إمام لأنه يتبع فيؤخذ بما فيه ويعتمد عليه.
و (المبين) المظهر لما فيه، فكل ما فيه ظاهر فيه.
أصل الكلام: أحصينا كل شيء أحصيناه. فحذف أحصينا الأول لدلالة الثاني، فكان هذا أقوى في ثبوت الإحصاء ووقوعه على كل شيء.
المعنى:
يعلم الله عباده بأنه حصل كل شيء من ذوات وأقوال وأفعال، وجميع ما كان في العالم وما يكون، وأثبته فرداً فرداً في كتاب إمام معتمد، مظهر للأشياء التي فيه، فهي ثابتة ظاهرة جلية.
اعتبار:
فقد أحاط الله بكل شيء علماً، فهو غني بعلمه عن هذه الكتابة، ولكنه جعل هذا الكتاب إظهاراً لعظمة ملكه وليعلم عباده الضبط والإحصاء في جميع أمورهم وليبالغوا في محاسبة أنفسهم وليعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم (1) ، فيزول من قلوبهم الخوف من الحوادث والمخلوقات وتعظم ثقتهم بالله.
وفي ذلك أعظم قوة في هذه الحياة، وأكبر راحة للقلب من صروفها.
نسأل الله سبحانه أن يقوي قلوبنا بالإيمان، وأن يريحنا باليقين، وأن يعيذنا من الخوف إلاّ منه، ومن الخضوع إلاّ له آمين يا رب العالمين.
__________
(1) كما ورد في الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت؛ وفي الحديث: « ... ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله تعالى ما قبله الله تعالى منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار» . أخرجه أبو داود في سننه (كتاب السنة، باب 16، حديث رقم 4699) .[/rtl]
[rtl](1/309)[/rtl]
في هذا القسم:
1- سبيل السعادة والنجاة.
2- كيف تكون الدعوة إلى الله، والدفاع عنها.
3- دعوة أهل الكتاب.
4- الإجتماع العام للأمر الهام، وارتباط الجماعة بأمر الإمام.
5- الود من إكرام الله لأولياء الله.
6- حسن التلقي، وطلب المزيد.
7- من وعد الله للصالحين.
8- دفاع الله عن المؤمنين.
9- أكل الحلال والعمل الصالح.
10- الفرار إلى الله، والفرار من الله.[/rtl]
[rtl](1/311)[/rtl]
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } [يوسف:108] .
تمهيد:
خلق الله [تعالى] . محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل الناس، وجعله قدوتهم، وفرض عليهم اتباعه والائتساء به (1) ، فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم، ومغفرة خالقهم ورضوانه- إلاّ باقتفاء آثاره والسير في سبيله. فلهذا أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يبين سبيله بياناً عاماً للناس، لتتضح المحجة للمهتدين، وتقوم الحجة على الهالكين.
أمره أن يبينها البيان الذي يصيرها مشاهدة بالعيان، ويشير إليها كما يشار إلى سائر المشاهدات، فقال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} .
ثم بين سبيله بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الله على بصيرة، وتنزيه الله تعالى، والبراءة من المشركين، فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
الدعوة إلى الله:
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من يوم بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته، كان يدعو الناس كلهم إلى الله، بأقواله وأفعاله وتقريراته وجميع مواقفه في سائر مشاهده.
وكانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة جلية لا خفاء بها، كما قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» (2) ، فكانت مشاهدة معينة، كما أشير إليها في الآية إشارة المعين المشاهد.
__________
(1) حيث قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سورة الأحزاب: الآية 21.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 1 حدبث 5) عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: «آلفقر تخافون؛ والذي نفسي بيده لتصبنً عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة الا هِيَهْ. وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» . وقوله: «البيضاء» أي على قلوب بيضاء نقيّة عن الميل إلى الباطل، لا يميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرّاء.[/rtl]
[rtl](1/313)[/rtl]
فما دعا إلى نفسه؛ فقد مات ودرعه مرهونة في دَيْن.
وما دعا إلى قومه، فقد كان يقول: «لا فضل لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلاّ بتقوى الله» (1) .
كان يدعو الناس كلهم، إذ هو رسول الله إلى الناس كلهم، فكتب الكتب وأرسل الرسل، فبلغت دعوته إلى الأمم وملوك الأمم.
كان يدعو الكافرين كما يدعو المؤمنين، يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع يوماً عن الإنذار والتبشير والوعظ والتذكير.
كان يدعو إلى الله على بينة وحجة يحصل بها الإدراك التام للعقل، حتى يصير الأمر المدرك واضحاً لديه كوضوح الأمر المشاهد بالبصر، فهو على بينة ويقين من كل ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها، وفي جميع أحواله.
وكانت دعوته المبنية على الحجة والبرهان، مشتملة على الحق والبرهان، فكان يستشهد بالعقل، ويعتضد بالعلم، ويستنصر بالوجدان، ويحتج بأيام الله في الأمم الخالية، وما استفاض من أخبارها، وبقي من آثارها من أنباء الأولين، وما يمر الناس عليه {مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 136] .
على كل مسلم أن يكون داعياً إلى الله:
لقد كان في بيان أن الدعوة إلى الله هي سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يفيد أن على أتباعه- وهو قدوتهم ولهم فيه الأسوة الحسنة- أن تكون الدعوة إلى الله سبيلهم.
ولكن لتأكيد هذا عليهم وبيان أنه من مقتضى كونهم أتباعه وأن أتباعهم له لا يتم إلاّ به- جاء التصريح بذلك هكذا:
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
فالمسلمون أفراداً وجماعات، عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله، وأن تكون دعوتهم على بينة وحجة وإيمان ويقين، وأن تكون دعوتهم وفقاً لدعوته، وتبعاً لها.
ماهية الدعوة:
1- فمن الدعوة إلى الله: دروس العلوم كلها، مما يفقه في دين الله، ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته، ويدل على رحمة الله وأنواع نعمته.
__________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد في المسند (5/ 411) من حديث أبي نضرة عن رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.[/rtl]
[rtl](1/314)[/rtl]
والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته دل إلى الله.
ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل.
2- ومن الدعوة إلى الله: بيان حجج الإسلام، ودفع الشبه عنه، ونشر محاسنه بين الأجانب عنه ليدخلوا فيه، وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه.
3- ومن الدعوة إلى الله: مجالس الوعظ والتذكير، لتعريف المسلمين بدينهم، وتربيتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم فيه، ببيان ما فيه من خير وسعادة لهم.
وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه هي سبب كل شقاوة وشر لحقهم.
وبيان أنه ما من سبب مما تسعد به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ودعاهم إليه، وما من سبب مما تشقى به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ونهاهم عنه.
وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم، وبقاياه الباقية لديهم، ومظاهره القائمة بهم، لما بقيت لهم- وهم المجردون من كل قوة- بقية، ولتلاشت أشلاؤهم- وهم الأموات- في الأمم الحية.
4- ومن الدعوة إلى الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواجب بحسب رتبة الاستطاعة: فيجب باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب، وهو أضعف الإيمان (1) ، وأقل الأعمال في هذا المقام.
5- ومن الدعوة إلى الله: ظهور المسلمين- أفراداً وجماعات- بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة وعلم وعمل وصدق وأمانة؛ فذلك أعظم مرغب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفر لهم عنه، وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم، إلاّ لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال، كما يدعون بالقول، وما زالت الأعمال عياراً على الأقوال.
6- ومن الدعوة إلى الله: بعث البعثات إلى الأمم غير المسلمة، ونشر الكتب بألسنتها، وبعث المرشدين إلى عواصم الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم.
وكل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنة السلف الصالح من بعده.
فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه، وليعلم أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسبيل إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم من قبله.
__________
(1) وفيه الحديث عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» . رواه مسلم في الإيمان حديث 78. وأبو داود في الصلاة باب 242، والملاحم باب 17. والترمذي في الفتن باب 11. وابن ماجة في الإقامة باب 155، والفتن باب 20، والنسائي في الإيمان باب 17. وأحمد في المسند (3/ 10، 20، 49، 53، 54، 62) .[/rtl]
[rtl](1/315)[/rtl]
وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلاّ يوم قعد أهل العلم عن هذا الواجب عليهم. وإذا عادوا إلى القيام به- وقد عادوا والحمد لله- أوشك- إن شاء الله- أن ينجلي عن المسلمين مصابهم.
تفرقة:
ليس كل من زعم أنه يدعو إلى الله يكون صادقاً في دعواه، فلا بد من التفرقة بين الصادقين والكاذبين. والفرق بينهما- مستفاد من الآية- بوجهين:
الأول:
أن الصادق لا يتحدث عن نفسه، فلا يستطيع أن ينسى نفسه في أقواله وأعماله.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {إِلَى اللهِ} .
الثاني:
أن الصادق يعتمد على الحجة والبرهان، فلا تجد في كلامه كذباً ولا تلبيساً ولا ادعاء مجرداً، ولا تقع من سلوكه في دعوته على التواء ولا تناقض ولا اضطراب.
وأما الكاذب فإنه بخلافه: فإنه يلقي دعاويه مجردة ويحاول تدعيمها بكل ما تصل إليه يده، ولا يزال لذلك في حنايا وتعاريج لا تزيده إلاّ بعداً عن الصراط المستقيم.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} .
مباحث لفظية:
{عَلَى بَصِيرَةٍ} يتعلق بـ {أدعو} ، واختيرت {على} لتدل على تمام التمكن و {أنا} تأكيد للضمير المستتر في {أدعو} ، ونكتته الإعلان بنفسه في مقام الدعوة، وشأن الداعي على بصيرة أن يجهر بدعوته ولا يستسر بها، واتصال اللفظ الدال عليه باللفظ الدال على اتباعه كما تتصل بدعوته.
وشأن الصورة اللفظية مطابقة الصورة الخارجية والكلام تصوير للواقع.
{من} تفيد العموم لكل تابع، وأكملهم في الاتباع أكملهم في الدعوة؛ لأن الموصول يفيد التعليل بصلته، فهم يدعون لأنهم متبعون.
تنزيه الله تعالى:
الإعتراف بوجود خالق للكون يكاد يكون غريزة مركوزة في الفطرة، ويكاد لا تكون لمنكريه- عناداً- نسبة عددية بين البشر.
ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه، ولا يليق بجلاله: من الصاحبة[/rtl]
[rtl](1/316)[/rtl]
فأرسل الله الرسل ليبينوا للخلق تنزهه عن ذلك كله.
وكان من سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه يدعو الخلق إلى الله، وينزهه عن كل ما نسبه إليه المبطلون وتخيله المتخيلون، وهو معنى قوله: {وَسُبْحَانَ اللهِ} .
فهو يدعوهم إلى الله الذي قد عرفوا وجوده بفطرتهم، وعرفوا أنه هو خالق الكون وخالقهم، لا يسميه إلاّ بما سمى به نفسه، ولا يصفه إلاّ بما وصف به نفسه، ويعرفهم بآثار قدرته، ومواقع رحمته، ومظاهر حكمته، وآيات ربوبيته وألوهيته، ووحدانيته في جلاله وسلطانه، وينزهه عن المشابهة والمماثلة لشيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهذا التنزيه- وإن كان داخلاً في الدعوة إلى الله فإنه- خصص بالذكر، لعظم شأنه؛ فإنه ما عرف الله من شبهه بخلقه، أو نسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو أشرك به سواه. وإن ضلال أكثر الخلق جاءهم من هذه الناحية.
فمن أعظم وجوه الدعوة وألزمها، تنزيه الله تعالى عن الشبيه والشريك، وكل ما لا يليق.
والمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الدعوة إلى الله على بصيرة، متبعون له في هذا التنزيه: عقداً، وقولًا، وعملاً، وإعلاناً، ودعوة.
مباحث لفظية:
{سبحان} منصوب بفعل محذوف تقديره أسبح أي أنزه، والجملة معطوفة على جملة {أدعو} ، فهي من بيان القبيل.
البراءة من المشركين:
الأمة التي بعث منها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهي أول أمة دعاها إلى الله، هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشركة تعرف أن الله خلقها ورزقها، وتعبد مع ذلك أوثانها: تزعم أنها تقربها إلى الله، وتتوسط لها لديه!!
فكان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعو إلى الله وينزهه، يعلن براءته من المشركين، وأنه ليس منهم: براءة من عقيدتهم، وأقوال وأعمال شركهم. فهو مباين لهم في العقد، والقول، والعمل مباينة الضد للضد. فكما باين التوحيد الشرك، باين هو المشركين، وذلك معنى قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وهذه البراءة والمباينة- وإن كانت مستفادة من أنه يدعو إلى الله وينزهه- فإنها نص عليها بالتصريح، لتأكيد أمر مباينة المشركين، والبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جلية وخفية.[/rtl]
[rtl](1/317)[/rtl]
أو في صورة الفعل: كأن يسوق بقرة أو شاة مثلاً إلى ضريح من الأضرحة، ليذبحها عنده، فإنه ضلال كما قاله "الشيخ الدردير في باب النذر".
فضلاً عن عقائدهم: كاعتقاد أن هناك ديواناً من عباد الله يتصرف في ملك الله وأن المذنب لا يدعو الله وإنما يسأل من يعتقد فيه الخير من الأموات، وذلك الميت يدعو له الله!!
لتأكيد أمر المباينة للمشركين في هذا كله نص عليها بالتصريح كما قلنا، وللبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره وجليه وخفيه.
والمباينة والتبري لازمة من كل كفر وضلال، وذلك مستفاد من الدعوة إلى الله وتنزيهه. وإنما خصص المشركين لما تقدم ولأن الشرك هو شرك الكفر وأقبحه.
ولما كانت هذه المباينة والبراءة داخلة في الدعوة إلى الله وتنزيهه، فالمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعون إلى الله على بصيرة، وينزهونه؛ يباينون المشركين في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، ويطرحون الشرك بجميع وجوهه، ويعلنون براءتهم وانتفاءهم من المشركين. والحمد لله رب العالمين.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- عدد المساهمات : 3412
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]- كيف تكون الدعوة إلى الله والدفاع عنها
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) } [النحل: 125] .
سبيل الرسل جل جلاله:
شرع الله لعباده- بما أنزل من كتابه، وما كان من بيان رسوله- ما فيه استنارة عقولهم، وزكاء نفوسهم، واستقامة أعمالهم.
وسماه سبيلاً ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة، ليفضي بهم إلى الغاية المقصودة، وهي السعادة الأبدية قي الحياة الأخرى.
وأضافه إلى نفسه، ليعلموا أنه هو وضعه، وأنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه.
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في الأدب باب 76، والدارمي في الاستئذان باب 63، وأحمد في المسند (5/ 384، 394، 398) من طريق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ماشاء الله ثم شاء فلان» .[/rtl]
[rtl](1/318)[/rtl]
[rtl]وذكر من أسمائه الرب؛ ليعلموا أن الرب الذي خلقهم وصورهم (1) ، ولطف بهم في جميع أطوار خلقهم ومراحل تكوينهم: هو الذي وضع لهم هذه السبيل لطفاً منه بهم، وإحساناً إليهم، لينهجوها في مراحل حياتهم، فكما كان رحيماً بهم في خلقه، كان رحيماً بهم في شرعه، فيسيروا فيها عن رغبة ومحبة فيها ومع شكر له وشوق إليه.
وأمر نبيه- عليه السلام- أن يدعو الناس أجمعين- وحذف معمول "ادع" لإفادة العموم- إلى هذه السبيل، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} .
إهتداء:
أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو إلى سبيل ربه، وهو الأمين المعصوم فما ترك شيئاً من سبيل ربه إلاّ دعا إليه، فعرفنا بهذا أن ما لم يدع إليه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فليس من سبيل الرب جل جلاله؛ فاهتدينا بهذا- وأمثاله كثير- إلى الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ودعاة الله ودعاة الشيطان.
فمن دعا إلى ما دعا إليه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحق والهدى. ومن دعا إلى ما لم يدع إليه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال.
إقتداء:
فالمسلم المتبع للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يألو جهداً في الدعوة إلى كل ما عرف من سبيل ربه، وبقيام كل واحد من المسلمين بهذه الدعوة بما استطاع، تتضح السبيل للسالكين، ويعم العلم بها عند المسلمين، وتخلو سبل الباطل على دعاتها من الشياطين.
أركان الدعوة:
1- الداعي، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
2- والمدعو، وهم جميع الناس.
3- والمدعو إليه، وهو سبيل الرب جل جلاله. والدعوة إلى سبيله الموصل إليه دعوة إليه، فالمدعو إليه في الحقيقة هو الله تعالى.
4- والبيان عن الدعوة.
وتجيء الآيات القرآنية منها ما هو حديث وبيان عن الداعي، ومنها ما هو حديث وبيان عن المدعو إليه، ومنها ما هو حديث وبيان عن بيان الدعوة.
وتتضمن كل آية جاءت في واحد الذكر أوجه الإشارة للثلاثة الأخرى، وهذه الآية الكريمة
__________
(1) تحرفت في الأصل المطبوع إلى "وطورهم".[/rtl]
[rtl](1/319)[/rtl]
[rtl]جاءت في بيان كيفية الدعوة، وبماذا تؤدى؟ وكيف يدافع عنها؟ مع ذكر الداعي والمدعو إليه؛ فقال تعالى: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
(الحكمة) هي العلم الصحيح الثابت، المثمر للعمل المتقن المبني على ذلك العلم.
فالعقائد الحقة والحقائق العلمية الراسخة في النفس رسوخاً تظهر آثاره على الأقوال والأعمال- حكمة.
والأعمال المستقيمة، والكلمات الطيبة التي أثمرتها تلك العقائد- حكمة.
والأخلاق الكريمة كالحلم والأناة- وهي علم وعمل نفسي- حكمة.
والبيان عن هذا كله بالكلام الواضح الجامع- حكمة؛ تسمية للدال باسم المدلول.
إستدلال واستنتاج:
في سورة الإسراء ثمان عشرة آية، جمعت أصول الهداية، من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] . الى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] .
وقد جمعت تلك الآيات كل ما ذكرنا من العقائد الحقة، والحقائق العلمية، والأعمال المستقيمة والكلمات الطيبة، والأخلاق الكريمة.
وسمى الله ذلك كله حكمة فقال تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39] .
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من الشعر حكمة» (1) وذلك لأن من الشعر ما فيه بيان عن عقيدة حق، أو خلق كريم، أو عمل صالح، أو علم وتجربة: كشعر أمية بن أبي الصلت، الذي قال فيه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كاد أن يسلم» (2) .
وككلمة لبيد رضي الله عنه:* ألا كل شيء ما خلا الله باطل (3) * التي قال فيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
__________
(1) أخرجه من حديث أبي بن كعب البخاري في الأدب باب 90، وأبو داود في الأدب باب 87، وابن ماجة في الأدب باب 41 حديث 3755، وأحمد في المسند (6/ 453 و5/ 125) . وأخرجه من حديث ابن عباس الترمذي في الأدب باب 69 حديث 2845، وابن ماجة في الأدب باب 41 حديث 3756. وأخرجه من حديث عبد الله بن مسعود الترمذي في الأدب باب 69 حديث 2844.
(2) رواه في حديث أبي هريرة البخاري في الأدب باب. 9. ومسلم في الشعر حديث 1 و3 و4. وابن ماجة في الأدب باب 41. وأحمد في المسند (2/ 248، 391، 393، 470) . ولفظ الحديث- كما عند البخاري- «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل؛ وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم» .
(3) هذا صدر بيت للبيد بن ربيعة، وعجزه:
وكل نعبم لا محالة زائِلُ
وهو في ديوانه [ص:256] . وجواهر الأدب [ص:382] . وخزانة الأدب (2/ 255- 257) والدرر اللوامع على=[/rtl]
[rtl](1/320)[/rtl]
[rtl]«أصدق كلمة قالها الشاعر» (1) .
فالحكمة التي أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الناس إلى سبيل ربه بها، هي البيان الجامع الواضح للعقائد بأدلتها، والحقائق ببراهينها، والأخلاق الكريمة بمحاسنها، ومقابح أضدادها، والأعمال الصالحة: من أعمال القلب واللسان والجوارح بمنافعها ومضارّ خلافها.
وهكذا كان بيانه لهذه الأشياء كلها؛ بما صح من أحاديثه وجوامع كلمه، وهكذا هو بيان القرآن لها كلها، حيثما كانت من آياته. فآيات القرآن وأحاديثه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في بيان هذه الأشياء البيان المذكور- هما الحكمة التي كان يدعو إلى سبيل ربه بها.
وتلك الأشياء كلها هي أيضا حكمة وهي التي كان يعلمها كما في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من دل إلى الحكمة بالحكمة، ومعلم للحكمة بالحكمة.
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة إلى أسلوب الدعوة: وهو الحكمة، وتجلت هذه الحكمة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
فعلينا أن نلزمها جهدنا حيثما دعونا، ونقتدي باساليب القرآن والسنة في دعوتنا، فيما يحصل الفهم واليقين، والفقه في الدين والرغبة في العمل والدوام عليه.
وها نحن قد بلغ الحال بنا إلى ما بلغ إليه من الجهل بحقائق الدين، والجمود في فهمه، والإعراض عن العمل به، والفتور في العمل.
فحق على أهل الدعوة إلى الله- وخصوصاً المعلمين- أن يقاوموا ما بيَّنَّا من جهل وجمود وإعراض وفتور، بالتزام البيان للحقائق العلمية بأدلتها، والعقائد ببراهينها، والأخلاق بمحاسنها، والأعمال بمصالحها.
وقد وجد الأخذ بهذه الأساليب القرآنية- والحمد لله- وأخذ أثرها- بفضل الله- يظهر في
__________
همع الهوامع شرح جمع الجوامع في العلوم العربية (1/ 71 أو ديوان المعاني (1/ 118) وسمط اللآليء [ص:253] . وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (1/ 11) وشرح التصريح على التوضيح (1/ 29) وشرح شذور الذهب [ص:339] . وشرح شواهد المغني (1/ 150، 153، 154، 392) وشرح المفصل (2/ 78) والعقد الفريد (5/ 273) ولسان العرب (5/ 351- مادة رجز) والمقاصد النحوية (1/ 5، 7، 291) ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب (1/ 133) وهمع الهوامع (1/ 3) وأسرار العربية [ص:211] . وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (2/ 289) ورصف المباني في شرح حروف المعاني [ص:269] . وشرح عمدة الحافظ [ص:263] . وشرح قطر الندى [ص:248] . واللمع في العربية [ص:154] .
(1) راجع تخريجه في الحاشية (2) في الصفحة السابقة.[/rtl]
[rtl](1/321)[/rtl]
[rtl]الناس بقدر الأخذ بها، ويوشك أن تتجدد بذلك في المسلمين حياة إن شاء الله (1) .
الموعظة الحسنة:
الوعظ والموعظة، الكلام الملين للقلب، بما فيه من ترغيب وترهيب فيحمل السامع- إذا اتعظ وقبل الوعظ، وأثر فيه- على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقد يطلق على نفس الأمر والنهي.
الإستدلال:
ففي حديث العرباض (2) الذي رواه الترمذي وغيره:
"وعظنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- موعظة وجلت (3) منها القلوب، وذرفت (4) منها العيون" (5) فقد خطب فيهم خطبة كان لها هذا الأثر في قلوبهم، فهذه حقيقة الموعظة.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء: 66] . أي يؤمرون به. وقال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] . أي ينهاكم.
فهذا من إطلاق الوعظ على الأمر والنهي؛ لأن شأن الأمر والنهي أن يقترن بما يحمل على امتثاله من الترغيب والترهيب.
بماذا تكون الموعظة:
يكون الوعظ بذكر أيام الله في الأمم الخالية، وباليوم الآخر، وما يتقدمه، وما يكون فيه من مواقف الخلق وعواقبهم، ومصيرهم إلى الجنة أو النار، وما في الجنة من نعيم، وما في النار عن عذاب أليم، وبوعد الله ووعيده، وهذه أكثر ما يكون بها الوعظ.
ويكون بغيرها كتذكير الإنسان بأحوال نفسه، ليعامل غيره بما يحب أن يعامل به، وهو من أدق فنون الوعظ وأبلغها، مثل قوله تعالى وقد نهى أن يقال لمن ألقى السلام لست مؤمنا- {كَذَلِكَ
__________
(1) يشير الإمام إلى دعوة جمعية العلماء المسلمين التي أنشأها وقامت بواجب الدعوة إلى الله، وكان ابن باديس رئيسها حتى لحق بربه سنة 1940 م. (حاشية المطبوع: [ص:536] ) .
(2) هو أبو نجيح وأبو الحارث العرباض بن سارية السلمي الفزاري القرشي المتوفى بعد السبعين للهجرة. صحابي جليل من أهل الصفة. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (7/ 174) وتقريب التهذيب (17/2) وتاريخ البخاري الكبر (7/ 85) والجرح والتعدبل (7/ 39) والثقات (3/ 321) وأسد الغابة (4/ 19) وتجريد أسماء الصحابة (1/ 378) والإصابة (4/ 482) والاستيعاب (1238) وسيرة أعلام النبلاء (3/ 419) وحلية الأولياء (3/ 12) وطبقات ابن سعد (2/ 165، 4/ 271) .
(3) وجلت: خافت وفزعت (المعجم الوسيط: [ص:1014] ) .
(4) ذرف الدمع ذَرَفاً: سال (المعجم الوسيط: [ص:311] ) .
(5) رواه الترمذي في العلم باب 16. وأبو داود في السنَة باب 5. وابن ماجة في المقدمة باب 6. والدارمي في المقدمة باب 16. وأحمد في المسند (4/ 126، 127) .[/rtl]
[rtl](1/322)[/rtl]
[rtl]كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] . وقوله تعالى- وقد أمر بالعفو والصفح- {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] .
تفريق بالتمثيل:
يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] . هذه حكمة. ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] . هذه موعظة.
ويقول تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] . هذه أيضاً موعظة. {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل: 94] . هذه حكمة، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94] ، هذه موعظة.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30] . هذه حكمة. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . هذه موعظة؟
وهكذا تمتزج المواعظ الحسنة بالحكم البالغة في آيات القرآن العظيم، فتتبعها في جميع سوره تجدها، وتدبرها تقع منها على علوم جمة، وأسرار غزيرة.
حسن الموعظة:
الموعظة التي تحصل المقصود منها: من ترقيق للقلوب، للحمل على الامتثال لما فيه خير الدنيا والآخرة هي الموعظة الحسنة.
وإنما يحصل المقصود منها إذا حسن لفظها؛ بوضوح دلالته على معناها، وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فعذبت في الأسماع، واستقرت في القلوب، وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية، فأثارت الرغبة والرهبة، وبعثت الرجاء والخوف، بلا تقنيط من رحمة الله، ولا تأمين من مكره، وانبعثت عن إيمان ويقين، ونادت بحماس وتأثر، فتلقتها النفس من النفس، وتلقفها القلب من القلب، إلاّ نفساً أحاطت بها الظلمة، وقلباً عَمَى عليه الران (1) .
عافى الله قلوب المؤمنين.
تطبيق واستدلال:
كل هذا تجده في مواعظ القرآن، وفيما صح من مواعظ النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وكان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما جاء في الصحيح: «إذا خطب، وذكر الساعة اشتد غضبه
__________
(1) الران: الغطاء والحجاب الكثيف؛ والصدأ يعلو الشيء الجلي كالسيف والمرآة ونحوهما؛ والدنس؛ وما غطّى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب (المعجم الوسيط: [ص:386] ) .[/rtl]
[rtl](1/323)[/rtl]
[rtl]وعلا صوته، واحمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، كأنه منذر جيش يقول صبحكم، ومساكم، وكان يقصر خطبه في بلاغة وإيجاز» (1) .
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها إلى أن من الموعظة ما هو حسن، وهو الذي تكون به الدعوة، ومنها ما هو ليس بحسن فيتجنب.
وبينت مواعظ القرآن، ومواعظ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك الحسن.
فعلينا أن نلتزمه؛ لأنه هو الذي تبلغ به الموعظة غايتها، وتثمر بإذن الله ثمرتها.
وعلينا أن نجتنب كل ما خالفه مما يعدم ثمرة الموعظة كتعقيد ألفاظها؛ أو يقلبها إلى ضد المقصود منها، كذكر الأثار الواهية التي فيها أعظم الجزاء على أقل الأعمال.
تحذير:
أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة، مسجعة طويلة، من مخلفات الماضي، لا يراعى فيها شيء من أحوال الحاضر وأمراض السامعين، تلقى بترنم وتلحين، أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيراً ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات.
هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعاثر الإسلامية، سد بها أهلها باباً عظيماً من الخير فتحه الإسلام، وعطلوا بها الوعظ والإرشاد وهو ركن عظيم من أركان الإسلام.
فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيباً في الناس.
وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون.
ورحم الله أبا الحسن- كرم الله وجهه- فقد قال: "الفقيه كل الفقيه كل الفقيه، من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكره، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه".
الجدال بالتي هي أحسن:
لا بد أن يجد داعية الحق معارضة من دعاة الباطل، وأن يلقى منهم مشاغبة بالتشبهات، واستطالة بالأذى والسفاهة؛ فيضطر إلى رد باطلهم وإبطال شغبهم، ودحض شبههم، وهذا هو جدالهم ومدافعتهم الذي أمر به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وَجَادِلْهُمْ ... } (2) .
__________
(1) لفظ الحديث بتمامه كما رواه مسلم في الجمعة حديث رقم 43: عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمّرت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبّحكم ومسّاكم» ، ويقول: «بُعثت أنا والساعة كهاتين» ويقرن بين أصبعيه السبَّابة والوسطى؛ ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهُدى هُدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» . ثم يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ ومن ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ» . ورواه أيضاً النسائي في العيدين باب 22، وابن ماجة في المقدمة باب 7.
(2) الآية 125 من سورة النحل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .[/rtl]
[rtl](1/324)[/rtl]
[rtl]ولما كان أهل الباطل لا يجدون في تأييد باطلهم إلاّ الكلمات الباطلة يموهون بها، والكلمات البذيئة القبيحة يتخذون سلاحاً منها، ولا يسلكون في مجادلتهم إلاّ الطرق الملتوية المتناقضة، فيتعسفون فيها ويهربون إليها؛ لما كان هذا شأنهم، أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
أن يجتنب كلماتهم الباطلة والقبيحة، وطرائقهم المتناقضة والملتوية.
وأن يلتزم في جدالهم كلمة الحق والكلمات الطيبة البريئة.
وأن يسلك في مدافعتهم طريق الرفق والرجاحة والوقار، دون فحش ولا طيش ولا فظاظة.
وهذه الطريقة في الجدال هي التي هي أحسن من غيرها، في لفظها ومعناها، ومظهرها وتأثيرها، وإفضائها للمقصود من إفحام المبطل وجلبه، ورد شره عن الناس، وإطلاعهم على نقصه، وسوء قصده.
وهذه هي الطريقة التي أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالجدال بها في قوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة إلى الطريقة المحمودة المشروعة في الجدال.
وفي آيات القرآن بيان لهذه الطريقة البيان التام، فإنه كما لم يترك القرآن عقيدة من عقائد الإسلام إلاّ بينها وأوضح دليلها، ولا أصلاً من أصول أحكامه أو أصول آدابه إلاّ بينه واحتج له وذكر حكمته وثمرته، كذلك لم يترك شبهة من شبه الباطل إلاّ ردها بالطريقة الحسنة التي أمر بها. وجاءت السنة النبوية الكريمة، والسيرة المحمدية الشريفة، مطبقة لذلك ومنفذة له.
فالكتاب والسنة، فيهما البيان الكافي الشافي للجدال بالتي هى أحسن، كما فيهما البيان الشافي الكافي للحكمة والموعظة الحسنة.
فعلينا أن نطلب هذا كله من الكتاب والسنة، ونجهد في تتبعه وأخذه واستنباطه منهما، وندأب على العمل بما نجده، والتحلي به، والإلتزام له، من هذه الأصول الثلاثة في الدعوة والدفاع عنها.
أحكام وتنزيل:
أمر الله بالدعوة وبالجدال على الوجه المذكور، فكلاهما واجب على المسلمين أن يقوموا به.
فكما يجب لسبيل الرب جل جلاله، أن تعرف بالبيان بالحكمة، وأن تحب بالترغيب بالموعظة الحسنة؛ كذلك يجب أن يدافع من يصدون عنها بالتي هي أحسن، إذ لا قيام لشيء من الحق إلاّ بهذه الثلاث.
غير أن الدعوة بوجهيها والجدال ليستا في منزلة واحدة في القصد والدوام: فإن المقصود بالذات هو الدعوة، وأما الجدال فإنه غير مقصود بالذات، وإنما يجب عند وجود المعارض بالشبهة،[/rtl]
[rtl](1/325)[/rtl]
[rtl]والصادّ بالباطل عن سبيل الله؛ فالدعوة بوجهيها أصل قائم دائم، والجدال يكون عند وجود ما يقتضيه، ولهذا كانت الدعوة بوجهيها محمودة على كل حال، وكان الجدال مذموماً في بعض الأحوال؛ وذلك فيما إذا استعمل عند عدم الحاجة إليه، فيكون حينئذ شاغلًا عن الدعوة ومؤديًا (1) - في الأكثر- إلى الفساد والفتنة.
فإذا كان جدالًا لمجرد الغلبة والظهور، فهو شر كله. وأشد شراً منه إذا كان لمدافعة الحق بالباطل.
وفي هذه الأقسام الممنوعة جاء مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] ، {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] . وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلاّ أوتوا الجدل» (2) ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] .
تحذير:
المدافعة والمغالبة من فطرة الإنسان، ولهذا كان الإنسان أكثر شيء جدلاً. غير أن التربية الدينية هي التي تضبط خلقه، وتقوم فطرته، فتجعل جداله بالحق عن الحق.
فلنحذر من أن يطغى علينا خلق المدافعة والمغالبة، فنذهب في الجدل شر مذاهبه، وتصير الخصومة لنا خلقاً، ومن صارت الخصومة له خلقاً أصبح يندفع معها في كل شيء، ولأدنى شيء، ولا يبالي بحق ولا باطل، وإنما يريد الغلب بأي وجه كان، وهذا هو الذي قال فيه النبي صلى اله عليه وآله وسلم:
«إن أبغض الرجال إلى الله الألذ الخصم» (3) .
ومن ضبط نفسه وراقب ربه، لا يجادل إذا جادل إلاّ عن الحق وبالتي هي أحسن.
علينا الدعوة والجدال، وإلى الله الهدى والضلال، والمجازاة على الأعمال:
الدعوة بوجهيها يجب أن تكون عامة، والجدال على وجهه عام مثلها.
ثم يكون حظ كل أحد من الهدى والضلال على حسب استعداده وقابليته، وما سبق عليه
__________
(1) تحرّفت في الأصل المطبوع إلى "ومؤيداً" بتقديم الياء على الدال.
(2) رواه من حديث أبي أمامة الباهلي الترمذي في تفسير سورة 43، وابن ماجة في المقدمة باب 7، وأحمد في المسند (5/ 52، 256)
(3) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها البخاري في تفسير سورة البقرة باب 37، والمظالم باب 15، والأحكام باب 34، ومسلم في العلم حديث 5. والترمذي في تفسير سورة البقرة باب 23. والنسائي في القضاة باب 34. وأحمد في المسند (6/ 55، 63، 205) . والأّلَدُّ: شديد الخصومة؛ مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتجّ عليه بحجة أخذ في جانب آخر. والخَصِم: الحاذق بالخصومة؛ والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حقّ أو إثبات باطل.[/rtl]
[rtl](1/326)[/rtl]
من أمر ربه، وتكون مجازاته على ذلك للخالق، الذي هو العالم بمن خرج عن طريقه وأعرض عن هداه، وبالذين قبلوا هداه فاهتدوا وساروا في سبيله.
والعدل الحقيقي التام في الجزاء، إنما يكون ممن يعلم السر والعلن، وليس ذلك إلاّ لله، فلا يكون الجزاء على الهدى والضلال من سواه؛ ولهذا ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
ثمرة:
ثمرة العلم بهذا:
أن الداعي يدعو ولا ينقطع عن الدعوة ولو لم يتبعه أحد، لأنه يعلم أن أمر الهدى والضلال إلى الله، وإنما عليه البلاغ. وأنه يصبر على ما يلقى من إعراض وعناد وكيد وأذى، دون أن يجازي بالمثل، أو يفتر في دعوته من أذاه؛ لعلمه بأن الذي يجازي إنما هو الله.
جعلنا الله والمسلمين من الدعاة إلى سبيله كما أمر، الصابرين المحتسبين أمام من آمن وشكر، ومن جحد وكفر؛ غير منتظرين إلاّ جزاءه، ولا متكلين إِلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- عدد المساهمات : 3412
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]- دعوة أهل الكتاب
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } [المائدة: 15 و 16] .
تمهيد:
أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لجميع الأمم؛ فكانت رسالته عامة، وكانت دعوته عامة مثلها.
وجاءت آيات القرآن بالدعوة العامة في مقامات، وبالدعوة الخاصة لبعض من شملتهم الدعوة العامة في مقامات أخرى.
ولما أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان الخلق قسمين: أهل كتاب- وهم اليهود والنصارى- وغيرهم. وكان أشرف القسمين أهل الكتاب؛ بما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم لحظ منه، وتحريفهم لما حرفوا. وكانوا أولى القسمين باتباع محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بما عرفوا قبله من الكتب والأنبياء. فلهذا وذاك كانت توجه إليهم الدعوة الخاصة بمثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} إلى آخر الآيتين.[/rtl]
[rtl]وفي ندائهم- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} تشريف وتعظيم لهم بإضافتهم للكتاب، وبعث لهم على قبول ما جاء به محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأنه جاء بكتاب وهم أهل الكتاب، واحتجاج عليهم بأن الإيمان بالكتاب الذي عندهم يقتضي الإيمان بالكتاب الذي جاء به لأنه من جنسه.
أدب وإقتداء:
هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله، ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحد أحسن ما يدعى به، وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه: فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك، ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون أول حائل يبعد بينك وبينه، وإذا كان هذا الأدب عاماً في كل تداع وتخاطب، فأحق الناس بمراعاته هم الدعاة إلى الله، والمبينون لدينه سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين.
بيانه لهم حجته عليهم:
كانت كتبهم مقصورة على أحبارهم ورهبانهم، مخفية عندهم لا تصل إليها أيدي عامتهم؛ فكانوا لا يظهرون منها إلاّ ما يشاءون، ولا تعرف عامتهم منها إلاّ ما أظهروا، فجاءهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو أمي من أمة أمية، يبين لهم بما أنزله الله عليه، وأوحى إليه به، من آيات الله وحججه وأحكامه وكلمات رسله، فيما عندهم مما هو حجة عليهم مقداراً كثيراً، ويتجاوز عن كثير. فيما عندهم من ذكر قبائح أسلافهم وذمهم، وما لقي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من عنتهم (1) وشرهم وأذاهم.
فكان هذا البيان العليم وهذا الخلق الكريم من هذا النبي الأمي كافياً أن يعرفهم بنبوته وصدق دعوته ونهوض حجته؛ ولهذا ذكر الله هذا البيان وهذا التجاوز في أول صفاته، لما أخبرهم بمجيئه إليهم بقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .
تمثيل:
في أول الإصحاح العشرين من سفر اللاوين التصريح برجم الزناة، فأبطل أحبارهم هذا الحكم وعوضوه بغيره من التخفيف، وكتموا النص؛ فبينه لهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقصة مشهورة في كتب السنن.
جاءت صفات النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- التي لا تنطبق على غيره فكتموها، مثل قول عيسى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفقرة الثانية عشرة وما بعدها في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا: "إِنَّ لِي أُمُوراً أَيْضاً لِأَقُولَ لَكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُوَن أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ إِمَامَتِي، جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِن نَّفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٌ، ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي وَيُخْبِرُكُمْ".
صرح عيسى عليه السلام بأن الله هو الإله وحده، وأن عيسى رسوله، فكتموها وقالوا فيه ما قالوا.
__________
(1) العَنَت: المكابرة عناداً (المعجم الوسيط: [ص:630] ) .[/rtl]
[rtl]وجاء في الفقرة الثانية من الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا، قول عيسى عليه السلام:
"وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَن يَّعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِي وَحْدَكَ، وَشُمُوعُ الْمَسِيحِ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ".
وأمثال هذا فيما عندهم كثير.
أدب واقتداء:
على الداعي إلى الله والمناظر في العلم، أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه؛ فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب، ولو كانت هنالك عيوب ومثالب؛ إقتداء بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير، وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب، وتَعَدٍّ على الخصم وإبعاد له، وتنفير عن الاستماع والقبول، وهما المقصود من الدعوة والمناظرة:
نعمة الإظهار والبيان ... بالرسول والقرآن
ولقد كان الناس: أهل الكتاب وغيرهم، قبل بعثة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في ظلام من الجهل وبأنبيائه وبشرعه، ومن الجهل بآيات الله في أنفسهم وفي الكون، ومن الجهل بنعم الله عليهم (1) في أنفسهم بالعقل والفكر والاستعداد للخير والكمال، وفي العالم المسخر لهم بما أودع فيه من مرافق العيش والعمران والحياة، ومن الجهل بقيمة أنفسهم الإنسانية وكرامتها وحريتها.
فلما بعث الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان بقوله وبفعله وبسيرته معرفاً للخلق بما كانوا يجهلون؛ فكان نوراً سطع في ذلك الظلام الحالك فبدده عن البصائر.
وكما أن النور الكوني يجلو الموجودات الكونية للأبصار فكذلك كان محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك النور الرباني، يجلو تلك الحقائق للبصائر.
وكما أن النور الكوني يظهر الموجودات الكونية، فلا يحرم منها إلاّ معدوم البصر، فكذلك كان محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك النور الرباني، مجلياً للحقائق للبشرية كلها، ولا يحرم من إدراكها إلاّ مطموسو البصائر، الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وكما كان محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نوراً تنبعث من أقواله وأفعاله وسيرته الأشعة الكاشفة للحقائق- كذلك كان الكتاب الكريم الذي أنزله الله عليه، يبين بسوره وآياته وكلماته تلك الحقائق أجلى بيان.
فبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وكتابه، تمت نعمة الله تعالى على البشرية كلها، بإظهار
__________
(1) كانت في الأصل المطبوع: "عليه".[/rtl]
[rtl]وبيان كل ما تحتاج إلى إظهاره وبيانه. ولما دعا الله إلى تصديق رسوله بالحجة العلمية الخُلقية من بيانه وتجاوزه ذكر بهذه النعمة العظمى في قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] .
***
محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقرآن نور وبيان:
في هذه الآية وصف محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأنه نور، ووصف القرآن بأنه مبين، وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور، كقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] . ووصف الرسول بأنه مبين كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .
وهذا ليبين لنا الله تعالى أن إظهار النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد.
وقد صدقت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (1) " (2) .
نستفيد من هذا- أولاً- أن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان، ولهذا يُرَدُّ خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن.
وثانياً- أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنته، وفقه حياته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يتوقف على القرآن، وفقه الإسلام يتوقف على فقههما.
إقتداء:
هذا نبينا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نور وبيان، وهذا كتابنا نور وبيان؛ فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له حظه من هذا البيان: فهو على ما يسر له من العلم ولو ضئيلا يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال، وهو بذاك وبعمله الصالح كالنور يشع على من حوله، وتتسع دائرة إشعاعه وتضيق بحسب ما عنده من علم وعمل.
فعلى المسلم أن يعلم هذا من نفسه، ويعمل عليه، ويضرع إلى الله دائما في دعواته أن يمدّه بنوره، وليدع بدعاء النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي كان يدعو به في ذلك وهو: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن
__________
(1) "كان خلقه القرآن" معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبّره وحسن تلاوته.
(2) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 139. وأبو داود في التطوع باب 36. والترمذي في البرّ باب 69. والنسائي في قيام الليل باب 2. وابن ماجة في الأحكام باب 14. والدارمي في الصلاة باب 165. وأحمد في المسند (6/ 54، 91، 111، 163، 188، 216) .[/rtl]
[rtl]يساري نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً" (1) .
***
الهداية نوعان:
قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم، ومرضاة خالقهم.
وهذه هي هداية الدلالة، وهي من فضل الله العام للناس أجمعين، وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكن والاختيار قامت حجة الله على العبد.
ثم يسر من شاء- وهو الحكيم العدل- إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال، وهذه هي دلالة التوفيق، وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته، وأقبلوا على ما آتاهم من عنده؛ فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] .
أما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلهم عليه، فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذلك التيسير، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] .
فالمقبلون على الله القابلون لما أتاهم من عنده هدوا دلالة وتوفيقاً.
والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة، وحرموا من التوفيق جزاء إعراضهم.
بماذا تكون الهداية:
كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون؛ إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال.
ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر- جاء بالضمير مفرداً في قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} .
لمن تكون الهداية:
أما هداية الدلالة والإرشاد وحدها، فهي كما تقدم عامة. وأما هداية الدلالة والإرشاد مع التوفيق والتسديد، فهي للذين اتبعوا ما جاء من عند الله: من رسوله وكتابه، وكانوا باتباعهم لها
__________
(1) من حديث عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، رواه البخاري في الدعوات باب 9. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 181 و187 و189. وأبو داود في التطوع باب 26. والترمذي في الدعوات باب.3. وأحمد
في المسند (1/ 284، 343، 352، 373) .[/rtl]
[rtl]متبعين لرضوانه، المقتضي لقبوله مثوبته وكرامته لهم، ولم يتبعوا أهواءهم ومألوفاتهم وما ألفوا عليه آباءهم ولا أهواء الناس ورضاهم، فكان اتباعهم لرضوان الله سببا في دوام إرشادهم وتوفيقهم، وبقدر ما يكون ازدياد اتباعهم، يكون توفيقهم؛ إذ قوة السبب تقتضي قوة المسبب، والخير يهدي إلى الخير والهدي يزداد بالاهتداء.
وهذا الربط الشرعي بين التوفيق والاتباع، يقتضي الربط ما بين ضديهما: الإعراض والخذلان، وأنه بقدر ما يكون الإعراض عن الهدى، يكون الخذلان والحرمان، والشر يدعو بعضه إلى بعض، والسيئة تجر السيئة.
وقد أفاد تخصيص التوفيق بأهل الاتباع، وجعل التوفيق مسبباً عنه- بما في صلة الموصول من التعليل- قوله تعالى: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} .
إلى ماذا تكون الهداية؟
فشؤون الشخص في نفسه، وشؤونه فيما بينه وبين أهله، وفيما بينه وبين بنيه، وفيما بينه وبين أقاربه، وفي بيته، وبين جيرانه، وفيما بينه وبين من تربطه به علاقة من علاقات الحياة ومصالحها، وشؤون الجماعات وشؤون الأمم فيما بينها.
كل هذه الشؤون سبل وطرق في الحياة، تسلك ويسار عليها؛ للبلوغ إلى الغايات المقصودة منها مما به صلاح الفرد والمجموع؛ وكلها إن سلكت بعلم وحكمة وعدل وإحسان، كانت سبل سلامة ونجاة، وإلاّ كانت سبل هلاك، فيحتاج العبد فيها إلى إرشاد وتوفيق من الله تعالى.
وقد منّ الله- بفضله- على العباد بهذا النبي الكريم، والكتاب العظيم، فمن آمن بهما واتبعهما ففيهما ما يهديه إلى كل ما يحتاج إليه في كل سبيل من تلك السبل في الحياة. وباتباعهما- واتباعهما اتباع لرضوان الله- يوفقه الله ويسدده في سلوك تلك السبل- الفردية والجماعية والأممية- إلى ما يفضي به إلى السلامة والنجاة. وتكون تلك السبل كلها له سبل سلام، أي سلامة ونجاة، لأنها أفضت به بإرشاد الله وتوفيقه، جزاء لاتباعه وتصديقه إليها، كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] .
***
الإخراج من حالات الحيرة إلى حالة الاطمئنان:
تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيراً مرتبكاً كمن يكون في ظلام؛ منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى والمقلد للآباء من دليل يطمئن به ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه.
ومنها حالة الشك، ومنها حالة اعتراض الشبهات، ومنها حالة ثوران الشهوات. وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة بالرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والاهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات[/rtl]
[rtl]والشهوات، وما فيها من حيرة وعماية إلى الحالة التي تطمئن فيها القلوب، كما تطمئن في النور عندما يسطع فيبدد سدول الظلام.
فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات، وتكسر سلطان الشهوات، فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من أعرض عنهما، أو خالفهما، يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة، وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] .
على العبد أن يقبل ما فيه كماله وسعادته، ومرضاة خالقه، مما هداه الله إليه برسوله وكتابه، وجعل قبوله له سبباً في توفيقه وإخراجه من الظلمات إلى النور، وعليه أن يعتقد أنه لا ينال شيئا من التوفيق وحظًّا من النور إلاّ بإذن الله، أي إرادته وتيسيره، فلا يعتمد على نفسه ولا على أعماله، وإنما يكون اعتماده على الله، فيحمله ذلك على الاجتهاد في العمل، وعدم العجب به، ودوام التوجه إلى الله، وصدق الرجاء فيه، والخوف من عقابه، ودوام المراقبة له.
ولأجل لزوم هذا الاعتماد على الله الميسر للأسباب، الذي لا يكون في ملكه إلاّ ما أراد- قرن قوله: {يَهْدِي} و {يُخْرِجُهُمْ} بقوله: {بِإِذْنِهِ} .
الإسلام هو السبيل الجامع العام:
ما جاء به النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقرآن العظيم، هو دين الله الإسلام، فكل ما دل الله عليه الخلق بهما، وما وفق إليه العلم والعمل باتباعهما، فهو من الإسلام. ولهذا لما ذكر- تعالى- إرشاده وتوفيقه للذين اتبعوا رضوانه، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ذكر إرشاده وتوفيقه لهم إلى الطريق المستوي، الموصل إلى الكمال والسعادة، ومرضاة الله الجامع لذلك كله بقوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائماً:
إن الحاجة إلى إرشاد الله وتوفيقه دائمة متجددة، فكل عمل من أعمال الإنسان وكل حالة من أحواله هو محتاج فيه إلى هداية الله ودلالته؛ ليعرف ما يرضاه الله منه مما لا يرضاه.
وهو محتاج فيه إلى توفيق الله وتيسيره ليقوم بما يرضاه منه، وشرّعه له ودلّه عليه، ولن يزال العبد- غير المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) - تغشاه ظلمات الشبهات والشهوات، فيحتاج إلى دلالة الله وتوفيقه، ليخرج منها إلى نور الإيمان والاستقامة.
فالعبد محتاج دائماً إلى الرجوع إلى كتاب الله، وما ثبت من سنة نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليهتدي إلى ما يرضي الله، مما شرّعه له من أحواله وأفعاله، وإلى ما يدفع عنه شبهاته، وينقذه من شهواته.
ومحتاج إلى التوسل بذلك الرجوع إليهما وذلك الاتباع لهما إلى الله، ليفتح له أبواب المعرفة، ويمد له أسباب التوفيق، وهذا هو القصد من صيغة المضارع، المفيدة للتجدد، في قوله تعالى: {يَهْدِي} و {يُخْرِجُهُمْ} و {يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .[/rtl]
[rtl]جعلنا الله من المتبعين لرضوانه، الرجاعين لكتابه وسنة رسوله، الفائزين منهما بالهداية لخير غاية، بإذنه وفضله، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
***
4- الاجتماع العام للأمر الهام وارتباط الجماعة بأمر الإمام
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63} [النور:62 و63] .
(الأمر الجامع) هو الحادث الذي يتطلب الاجتماع بطبيعته، فيجمع الإمام الناس من أجله، من ذوي الرأي والمعرفة بمثله، والخبرة والتجربة فيه، من كل ما يعم نفعه أو ضرره، من أمور السلم والحرب، وشؤون الحياة والاجتماع، ليتشاوروا فيما بينهم، ويستضيء بعضهم برأي بعض.
و (الاستئذان) هو طلب الإذن من الإمام بمفارقة الاجتماع لعذر قاض بالمفارقة.
المعنى:
يأمر الله المؤمنين إذا كانوا مع رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على أمر جامع ألا يفارقوا مجلسه كلهم أو بعضهم إلاّ بإذنه. وأكد هذا الأمر بما وطأ له من ذكر الإيمان بالله ورسوله، تنبيها على أنه من مقتضاهما. وبقرنه بهما، وجعله ثالثاً لها، تعظيماً لشأنه، وتنبيهاً على ملازمته لهما ممن صدق فيهما؛ حتى كان غير المستأذنين لا إيمان لهم.
وبإعادته في الجملة الثانية، ببيان أن الذين يستأذنون هم دون غيرهم الثابتون في إيمانهم، المستمرون عليه، تعريضاً بالذين لا يستأذنون وتقبيحا لحالهم بأنهم لا ثبات لهم في الإيمان، ولا استمرار منهم على العمل به، فليسوا بالمؤمنين، ولا بالذين يؤمنون.
ثم جعل الخيار لرسوله في الإذن وعدم الإذن لهم إذا استأذنوه لبعض شأنهم، تعظيماً لأمر الاجتماع، وتعظيماً للصالح العام، وتوكيداً لحق الإمام على الجماعة لحفظ الاجتماع وتتميم الأعمال. ثم أمره أن يستغفر لهم، فقد يكون العذر دون الاضطرار، وقد يكون ما فاته من بركات الاجتماع، وحسنات المشاركة فيه بالرأي والاهتمام، وتكثير السواد- بسبب ذنب كان منهم في أمر غير الاجتماع، وأكد هذا الأمر بأنه الكثير المغفرة لعباده الدائم الرحمة بهم.[/rtl]
[rtl]الأحكام:
لما كان الاجتماع شرع للمصلحة، والذهاب بدون استئذان حرم للمفسدة؛ فالمشروعية والتحريم دائمان بدوام المصلحة والمفسدة.
فأحكام الآية مستمرة الأحكام عامة للمسلمين، في كل زمان وكل مكان، مع أئمتهم وقادتهم المقدمين منهم فيهم، في كل ما يعرض من اجتماع لصالح عام.
فمن أحكام الآية الكريمة:
1- أن على أئمة المسلمين وذوي القيادة فيهم، إِذا نزل بهم أمر هام أن يجمعوا جماعة المسلمين الذين يرجى منهم الرأي والعمل فيما نزل، فلا يجوز لهم أن يهملوا أمرهم ولا أن يستبدوا عليهم.
2- وأن على المسلمين أن يجتمعوا إليهم ويكونوا معهم، يظاهرونهم ويؤيدونهم، وينصحون لهم، فلا يجوز لهم أن يتخلفوا عنهم، ولا أن يخذلوهم.
3- وأن على المجتمعين ألا يذهب واحد منهم إلاّ بإذن.
4- وألا يستأذن إلاّ لعذر ببعض الشأن.
5- وأن على الإمام أن ينظر في الإذن وعدمه، فيفعل ما هو أولى.
بيان مراد ودفع اغترار واعتراض:
تجد في آيات القرآن العظيم أخباراً ووعوداً من الله- تعالى- للمؤمنين. ولربما حسب- من لا يعلم- أنها تشمل كل من كان على أصل الإيمان، من اعتقاده مع بعض أعماله، وإن فرط في كثير من أصول الأعمال.
فيبين الله تعالى في هذه الآية وأمثالها مراده بالمؤمنين عند إطلاق لفظ المؤمنين في تلك الأخبار والوعود، حتى لا يغتر المفرطون ولا يعترض الجاهلون.
توجيه وإرشاد:
إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كان لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة؛ ولهذا قرن الله في هذه الآية بين الإيمان بالله ورسوله، والحديث عن الجماعة وما يتعلق بالاجتماع، فيرشدنا هذا إلى خطر أمر الاجتماع ونظامه، ولزوم الحرص والمحافظة عليه، كأصل لازم للقيام بمقتضيات الإيمان وحفظ عمود الإسلام.
موعظة:
ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلاّ بإهمالهم لأمر الاجتماع ونظامه: إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتشار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، وجهلهم بما يفرضه عليهم، وما[/rtl]
[rtl]ذاك إلاّ من سكوت علمائهم وقعودهم عن القيام بواجبهم: في مقاومة المستبدين وتعليم الجاهلين، وبث روح الإسلام الإنساني السامي في المسلمين.
فعلى أهل العلم- وهم المسؤولون عن المسلمين بما لهم من إرث النبوة فيهم- أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة؛ فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع والشورى، في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، حتى لا يستبد بهم مستبد، ولا يتخلف منهم متوان، وحتى يظهر الخاذل لهم ممن ينتسب إليهم، فينبذ ويطرح ويستغنى عنه بالله وبالمؤمنين.
موازنة وترجيح:
هنالك المصلحة العامة وهنالك المصلحة الخاصة، ومحال أن تساوى هذه بتلك: انظر إلى الذكر الحكيم كيف عبر عن الأولى بالأمر الجامع، وفي هذا ما فيه من تفخيم. وعبر عن الثانية ببعض الشأن، وفي هذا ما فيه من التحقير والتقليل.
وفي قرنها بالاستغفار تنبيه على ترجيح الأولى على الثانية، وأنها ما كانت تعتبر إلاّ على وجه الرخصة، والاستغراق في الاهتمام والتدبير للمصلحة العامة أحق وأولى.
إمتثال ورجاء:
لنجعل المصلحة العامة غايتنا والمقدمة عندنا، حتى لا يكون- إن شاء الله- في مصالحنا الخاصة ما يصرفنا أو يشغلنا عنها، راجين من الله تعالى أن يعيننا على ما قصدنا، وأن يوفقنا إلى استعمال كل مصلحة خاصة لنا في مصلحة عامة لنا ولإخواننا، إنه نعم الموفق ونعم المعين.
***
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . لما بينت الآية السابقة وجوب الاستئذان عند إرادة الانصراف من مجلسه، عليه الصلاة والسلام، بينت هذه الآية وجوب تلبية دعوته إذا دعا، وفضحت حالة الذين يتسللون غير مستأذنين، وحذرت من فعلهم، وأوعدت الوعيد الشديد للمخالفين أمثالهم.
(الدعاء) النداء وطلب الإقبال للحضور. {بَيْنَكُمْ} في اعتقادكم ومعاملتكم.
{يَتَسَلَّلُونَ} يذهبون قليلا قليلاً من الجماعة متخفين.
{لِوَاذًا} ملاوذة، بأن يلوذ هذا بهذا ويلوذ هذا بهذا متستراً به حتى لا يرى عند خروجه.
{فَلْيَحْذَرِ} فليتيقظ وليتحرز؛ وذلك باجتناب المخالفة.
{يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يصدون ويعرضون عن طريقته وسنته ومنهاجه، وما كان عليه من سير في الحياة.
(الفتنة) البلاء بأنواع النقم أو بنعم تستدرج إلى النقم. هذا معنى الفتنة هنا لأنها ذكرت في مساق الوعيد.[/rtl]
[rtl]{عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.
المعنى:
لا تنزلوا دعاء الرسول لكم إذا دعاكم إلى الحضور عنده، منزلة دعاء بعضكم بعضاً للحضور؛ فتحسبون أنفسكم مخيرين إن شئتم أجبتم وإن شئتم تخلفتم! فتارة تجيبون وتارة تتخلفون. فإجابة دعوته، والإسراع إليه واجب محتم عليكم، والتخلف أو التباطؤ- لغير عذر واضح- محرم عليكم؛ ذلك لأنه إذا دعاكم لا يدعوكم إلاّ لمصلحة قطعية وخير محقق يعود عليكم في أمر الدين أو أمر الدنيا، ففي تخلفِكم أو [[تباطئِكم]] تفويت، أو تعطيل أو تثبيط.
وإذا حضرتم مجلسه فابقوا كلكم عنده ولا تذهبوا من مجلسه واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، يتستر بعضكم ببعض عند الخروج حتى لا يراه الناس، ولا يراه الرسول، فإن الله يعلم قطعاً أولئك الذين يخرجون متسللين متسترين بعضهم ببعض، فإذا نجوا من ملام الرسول، فإنهم لا ينجون من عذاب الله.
وإذا كان الله عالماً بصنعهم ومفارقتهم لمجلس رسوله، وثلمهم لجماعته وصدهم وإعراضهم عما هم عليه هو ومن معه- فهو معاقبهم على ما ارتكبوا بالبلايا، يصبّها عليهم في الدنيا، أو العذاب الأليم ينزله بهم في الأخرى، أو يجمع لهم ما بينهما.
فليجتنب أولئك المخالفون لأمره هذه الفتنة وهذا العذاب، وليحذروا منهما، وما ذلك إلاّ بترك المخالفة والإقلاع عنها، والرجوع إلى الموافقة والاتباع.
تنظير وتعميم:
أمراء المسلمين وقادتهم، ومن يتولون أمراً من أمورهم العامة، تجب دعوتهم إذا دعوا لأمر عام وشأن مما يرتبط بما في عهدتهم من أمر الناس، وشرع إليهم، ولا يتسلل من مجالسهم، ذلك لما لهم من حق الخلافة عن الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما كان يقوم به من أمر الناس، وتدبير شؤونهم، وضبط نظامهم، ورعاية مصالحهم.
ميزان:
كل الأقوال والأعمال توزن بأقواله وأعماله، وكل الأحوال والسير توزن بسيرته وحاله: فما وافقها فهو الحق والخير والهدى، وهو الذي يقبل من كائن من كان، وما خالفها فهو الباطل والشر والضلال، وهو الذي يرد على صاحبه كائناً من كان.
وقد ثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) .
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها البخاري في الصلح باب 5. ومسلم في الأقضية حديث 17 و18. وأبو داود في السنة باب 5. وابن ماجة في المقدمة باب 2. وأحمد في المسند (6/ 146) .[/rtl]
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } [المائدة: 15 و 16] .
تمهيد:
أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لجميع الأمم؛ فكانت رسالته عامة، وكانت دعوته عامة مثلها.
وجاءت آيات القرآن بالدعوة العامة في مقامات، وبالدعوة الخاصة لبعض من شملتهم الدعوة العامة في مقامات أخرى.
ولما أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان الخلق قسمين: أهل كتاب- وهم اليهود والنصارى- وغيرهم. وكان أشرف القسمين أهل الكتاب؛ بما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم لحظ منه، وتحريفهم لما حرفوا. وكانوا أولى القسمين باتباع محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بما عرفوا قبله من الكتب والأنبياء. فلهذا وذاك كانت توجه إليهم الدعوة الخاصة بمثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} إلى آخر الآيتين.[/rtl]
[rtl](1/327)[/rtl]
أدب وإقتداء:
هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله، ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحد أحسن ما يدعى به، وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه: فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك، ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون أول حائل يبعد بينك وبينه، وإذا كان هذا الأدب عاماً في كل تداع وتخاطب، فأحق الناس بمراعاته هم الدعاة إلى الله، والمبينون لدينه سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين.
بيانه لهم حجته عليهم:
كانت كتبهم مقصورة على أحبارهم ورهبانهم، مخفية عندهم لا تصل إليها أيدي عامتهم؛ فكانوا لا يظهرون منها إلاّ ما يشاءون، ولا تعرف عامتهم منها إلاّ ما أظهروا، فجاءهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو أمي من أمة أمية، يبين لهم بما أنزله الله عليه، وأوحى إليه به، من آيات الله وحججه وأحكامه وكلمات رسله، فيما عندهم مما هو حجة عليهم مقداراً كثيراً، ويتجاوز عن كثير. فيما عندهم من ذكر قبائح أسلافهم وذمهم، وما لقي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من عنتهم (1) وشرهم وأذاهم.
فكان هذا البيان العليم وهذا الخلق الكريم من هذا النبي الأمي كافياً أن يعرفهم بنبوته وصدق دعوته ونهوض حجته؛ ولهذا ذكر الله هذا البيان وهذا التجاوز في أول صفاته، لما أخبرهم بمجيئه إليهم بقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .
تمثيل:
في أول الإصحاح العشرين من سفر اللاوين التصريح برجم الزناة، فأبطل أحبارهم هذا الحكم وعوضوه بغيره من التخفيف، وكتموا النص؛ فبينه لهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقصة مشهورة في كتب السنن.
جاءت صفات النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- التي لا تنطبق على غيره فكتموها، مثل قول عيسى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفقرة الثانية عشرة وما بعدها في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا: "إِنَّ لِي أُمُوراً أَيْضاً لِأَقُولَ لَكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُوَن أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ إِمَامَتِي، جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِن نَّفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٌ، ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي وَيُخْبِرُكُمْ".
صرح عيسى عليه السلام بأن الله هو الإله وحده، وأن عيسى رسوله، فكتموها وقالوا فيه ما قالوا.
__________
(1) العَنَت: المكابرة عناداً (المعجم الوسيط: [ص:630] ) .[/rtl]
[rtl](1/328)[/rtl]
"وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَن يَّعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِي وَحْدَكَ، وَشُمُوعُ الْمَسِيحِ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ".
وأمثال هذا فيما عندهم كثير.
أدب واقتداء:
على الداعي إلى الله والمناظر في العلم، أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه؛ فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب، ولو كانت هنالك عيوب ومثالب؛ إقتداء بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير، وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب، وتَعَدٍّ على الخصم وإبعاد له، وتنفير عن الاستماع والقبول، وهما المقصود من الدعوة والمناظرة:
نعمة الإظهار والبيان ... بالرسول والقرآن
ولقد كان الناس: أهل الكتاب وغيرهم، قبل بعثة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في ظلام من الجهل وبأنبيائه وبشرعه، ومن الجهل بآيات الله في أنفسهم وفي الكون، ومن الجهل بنعم الله عليهم (1) في أنفسهم بالعقل والفكر والاستعداد للخير والكمال، وفي العالم المسخر لهم بما أودع فيه من مرافق العيش والعمران والحياة، ومن الجهل بقيمة أنفسهم الإنسانية وكرامتها وحريتها.
فلما بعث الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان بقوله وبفعله وبسيرته معرفاً للخلق بما كانوا يجهلون؛ فكان نوراً سطع في ذلك الظلام الحالك فبدده عن البصائر.
وكما أن النور الكوني يجلو الموجودات الكونية للأبصار فكذلك كان محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك النور الرباني، يجلو تلك الحقائق للبصائر.
وكما أن النور الكوني يظهر الموجودات الكونية، فلا يحرم منها إلاّ معدوم البصر، فكذلك كان محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك النور الرباني، مجلياً للحقائق للبشرية كلها، ولا يحرم من إدراكها إلاّ مطموسو البصائر، الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وكما كان محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نوراً تنبعث من أقواله وأفعاله وسيرته الأشعة الكاشفة للحقائق- كذلك كان الكتاب الكريم الذي أنزله الله عليه، يبين بسوره وآياته وكلماته تلك الحقائق أجلى بيان.
فبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وكتابه، تمت نعمة الله تعالى على البشرية كلها، بإظهار
__________
(1) كانت في الأصل المطبوع: "عليه".[/rtl]
[rtl](1/329)[/rtl]
***
محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقرآن نور وبيان:
في هذه الآية وصف محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأنه نور، ووصف القرآن بأنه مبين، وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور، كقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] . ووصف الرسول بأنه مبين كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .
وهذا ليبين لنا الله تعالى أن إظهار النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد.
وقد صدقت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (1) " (2) .
نستفيد من هذا- أولاً- أن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان، ولهذا يُرَدُّ خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن.
وثانياً- أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنته، وفقه حياته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يتوقف على القرآن، وفقه الإسلام يتوقف على فقههما.
إقتداء:
هذا نبينا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نور وبيان، وهذا كتابنا نور وبيان؛ فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له حظه من هذا البيان: فهو على ما يسر له من العلم ولو ضئيلا يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال، وهو بذاك وبعمله الصالح كالنور يشع على من حوله، وتتسع دائرة إشعاعه وتضيق بحسب ما عنده من علم وعمل.
فعلى المسلم أن يعلم هذا من نفسه، ويعمل عليه، ويضرع إلى الله دائما في دعواته أن يمدّه بنوره، وليدع بدعاء النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي كان يدعو به في ذلك وهو: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن
__________
(1) "كان خلقه القرآن" معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبّره وحسن تلاوته.
(2) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 139. وأبو داود في التطوع باب 36. والترمذي في البرّ باب 69. والنسائي في قيام الليل باب 2. وابن ماجة في الأحكام باب 14. والدارمي في الصلاة باب 165. وأحمد في المسند (6/ 54، 91، 111، 163، 188، 216) .[/rtl]
[rtl](1/330)[/rtl]
***
الهداية نوعان:
قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم، ومرضاة خالقهم.
وهذه هي هداية الدلالة، وهي من فضل الله العام للناس أجمعين، وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكن والاختيار قامت حجة الله على العبد.
ثم يسر من شاء- وهو الحكيم العدل- إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال، وهذه هي دلالة التوفيق، وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته، وأقبلوا على ما آتاهم من عنده؛ فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] .
أما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلهم عليه، فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذلك التيسير، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] .
فالمقبلون على الله القابلون لما أتاهم من عنده هدوا دلالة وتوفيقاً.
والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة، وحرموا من التوفيق جزاء إعراضهم.
بماذا تكون الهداية:
كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون؛ إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال.
ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر- جاء بالضمير مفرداً في قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} .
لمن تكون الهداية:
أما هداية الدلالة والإرشاد وحدها، فهي كما تقدم عامة. وأما هداية الدلالة والإرشاد مع التوفيق والتسديد، فهي للذين اتبعوا ما جاء من عند الله: من رسوله وكتابه، وكانوا باتباعهم لها
__________
(1) من حديث عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، رواه البخاري في الدعوات باب 9. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 181 و187 و189. وأبو داود في التطوع باب 26. والترمذي في الدعوات باب.3. وأحمد
في المسند (1/ 284، 343، 352، 373) .[/rtl]
[rtl](1/331)[/rtl]
وهذا الربط الشرعي بين التوفيق والاتباع، يقتضي الربط ما بين ضديهما: الإعراض والخذلان، وأنه بقدر ما يكون الإعراض عن الهدى، يكون الخذلان والحرمان، والشر يدعو بعضه إلى بعض، والسيئة تجر السيئة.
وقد أفاد تخصيص التوفيق بأهل الاتباع، وجعل التوفيق مسبباً عنه- بما في صلة الموصول من التعليل- قوله تعالى: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} .
إلى ماذا تكون الهداية؟
فشؤون الشخص في نفسه، وشؤونه فيما بينه وبين أهله، وفيما بينه وبين بنيه، وفيما بينه وبين أقاربه، وفي بيته، وبين جيرانه، وفيما بينه وبين من تربطه به علاقة من علاقات الحياة ومصالحها، وشؤون الجماعات وشؤون الأمم فيما بينها.
كل هذه الشؤون سبل وطرق في الحياة، تسلك ويسار عليها؛ للبلوغ إلى الغايات المقصودة منها مما به صلاح الفرد والمجموع؛ وكلها إن سلكت بعلم وحكمة وعدل وإحسان، كانت سبل سلامة ونجاة، وإلاّ كانت سبل هلاك، فيحتاج العبد فيها إلى إرشاد وتوفيق من الله تعالى.
وقد منّ الله- بفضله- على العباد بهذا النبي الكريم، والكتاب العظيم، فمن آمن بهما واتبعهما ففيهما ما يهديه إلى كل ما يحتاج إليه في كل سبيل من تلك السبل في الحياة. وباتباعهما- واتباعهما اتباع لرضوان الله- يوفقه الله ويسدده في سلوك تلك السبل- الفردية والجماعية والأممية- إلى ما يفضي به إلى السلامة والنجاة. وتكون تلك السبل كلها له سبل سلام، أي سلامة ونجاة، لأنها أفضت به بإرشاد الله وتوفيقه، جزاء لاتباعه وتصديقه إليها، كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] .
***
الإخراج من حالات الحيرة إلى حالة الاطمئنان:
تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيراً مرتبكاً كمن يكون في ظلام؛ منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى والمقلد للآباء من دليل يطمئن به ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه.
ومنها حالة الشك، ومنها حالة اعتراض الشبهات، ومنها حالة ثوران الشهوات. وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة بالرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والاهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات[/rtl]
[rtl](1/332)[/rtl]
فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات، وتكسر سلطان الشهوات، فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من أعرض عنهما، أو خالفهما، يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة، وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] .
على العبد أن يقبل ما فيه كماله وسعادته، ومرضاة خالقه، مما هداه الله إليه برسوله وكتابه، وجعل قبوله له سبباً في توفيقه وإخراجه من الظلمات إلى النور، وعليه أن يعتقد أنه لا ينال شيئا من التوفيق وحظًّا من النور إلاّ بإذن الله، أي إرادته وتيسيره، فلا يعتمد على نفسه ولا على أعماله، وإنما يكون اعتماده على الله، فيحمله ذلك على الاجتهاد في العمل، وعدم العجب به، ودوام التوجه إلى الله، وصدق الرجاء فيه، والخوف من عقابه، ودوام المراقبة له.
ولأجل لزوم هذا الاعتماد على الله الميسر للأسباب، الذي لا يكون في ملكه إلاّ ما أراد- قرن قوله: {يَهْدِي} و {يُخْرِجُهُمْ} بقوله: {بِإِذْنِهِ} .
الإسلام هو السبيل الجامع العام:
ما جاء به النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقرآن العظيم، هو دين الله الإسلام، فكل ما دل الله عليه الخلق بهما، وما وفق إليه العلم والعمل باتباعهما، فهو من الإسلام. ولهذا لما ذكر- تعالى- إرشاده وتوفيقه للذين اتبعوا رضوانه، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ذكر إرشاده وتوفيقه لهم إلى الطريق المستوي، الموصل إلى الكمال والسعادة، ومرضاة الله الجامع لذلك كله بقوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائماً:
إن الحاجة إلى إرشاد الله وتوفيقه دائمة متجددة، فكل عمل من أعمال الإنسان وكل حالة من أحواله هو محتاج فيه إلى هداية الله ودلالته؛ ليعرف ما يرضاه الله منه مما لا يرضاه.
وهو محتاج فيه إلى توفيق الله وتيسيره ليقوم بما يرضاه منه، وشرّعه له ودلّه عليه، ولن يزال العبد- غير المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) - تغشاه ظلمات الشبهات والشهوات، فيحتاج إلى دلالة الله وتوفيقه، ليخرج منها إلى نور الإيمان والاستقامة.
فالعبد محتاج دائماً إلى الرجوع إلى كتاب الله، وما ثبت من سنة نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليهتدي إلى ما يرضي الله، مما شرّعه له من أحواله وأفعاله، وإلى ما يدفع عنه شبهاته، وينقذه من شهواته.
ومحتاج إلى التوسل بذلك الرجوع إليهما وذلك الاتباع لهما إلى الله، ليفتح له أبواب المعرفة، ويمد له أسباب التوفيق، وهذا هو القصد من صيغة المضارع، المفيدة للتجدد، في قوله تعالى: {يَهْدِي} و {يُخْرِجُهُمْ} و {يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .[/rtl]
[rtl](1/333)[/rtl]
***
4- الاجتماع العام للأمر الهام وارتباط الجماعة بأمر الإمام
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63} [النور:62 و63] .
(الأمر الجامع) هو الحادث الذي يتطلب الاجتماع بطبيعته، فيجمع الإمام الناس من أجله، من ذوي الرأي والمعرفة بمثله، والخبرة والتجربة فيه، من كل ما يعم نفعه أو ضرره، من أمور السلم والحرب، وشؤون الحياة والاجتماع، ليتشاوروا فيما بينهم، ويستضيء بعضهم برأي بعض.
و (الاستئذان) هو طلب الإذن من الإمام بمفارقة الاجتماع لعذر قاض بالمفارقة.
المعنى:
يأمر الله المؤمنين إذا كانوا مع رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على أمر جامع ألا يفارقوا مجلسه كلهم أو بعضهم إلاّ بإذنه. وأكد هذا الأمر بما وطأ له من ذكر الإيمان بالله ورسوله، تنبيها على أنه من مقتضاهما. وبقرنه بهما، وجعله ثالثاً لها، تعظيماً لشأنه، وتنبيهاً على ملازمته لهما ممن صدق فيهما؛ حتى كان غير المستأذنين لا إيمان لهم.
وبإعادته في الجملة الثانية، ببيان أن الذين يستأذنون هم دون غيرهم الثابتون في إيمانهم، المستمرون عليه، تعريضاً بالذين لا يستأذنون وتقبيحا لحالهم بأنهم لا ثبات لهم في الإيمان، ولا استمرار منهم على العمل به، فليسوا بالمؤمنين، ولا بالذين يؤمنون.
ثم جعل الخيار لرسوله في الإذن وعدم الإذن لهم إذا استأذنوه لبعض شأنهم، تعظيماً لأمر الاجتماع، وتعظيماً للصالح العام، وتوكيداً لحق الإمام على الجماعة لحفظ الاجتماع وتتميم الأعمال. ثم أمره أن يستغفر لهم، فقد يكون العذر دون الاضطرار، وقد يكون ما فاته من بركات الاجتماع، وحسنات المشاركة فيه بالرأي والاهتمام، وتكثير السواد- بسبب ذنب كان منهم في أمر غير الاجتماع، وأكد هذا الأمر بأنه الكثير المغفرة لعباده الدائم الرحمة بهم.[/rtl]
[rtl](1/334)[/rtl]
لما كان الاجتماع شرع للمصلحة، والذهاب بدون استئذان حرم للمفسدة؛ فالمشروعية والتحريم دائمان بدوام المصلحة والمفسدة.
فأحكام الآية مستمرة الأحكام عامة للمسلمين، في كل زمان وكل مكان، مع أئمتهم وقادتهم المقدمين منهم فيهم، في كل ما يعرض من اجتماع لصالح عام.
فمن أحكام الآية الكريمة:
1- أن على أئمة المسلمين وذوي القيادة فيهم، إِذا نزل بهم أمر هام أن يجمعوا جماعة المسلمين الذين يرجى منهم الرأي والعمل فيما نزل، فلا يجوز لهم أن يهملوا أمرهم ولا أن يستبدوا عليهم.
2- وأن على المسلمين أن يجتمعوا إليهم ويكونوا معهم، يظاهرونهم ويؤيدونهم، وينصحون لهم، فلا يجوز لهم أن يتخلفوا عنهم، ولا أن يخذلوهم.
3- وأن على المجتمعين ألا يذهب واحد منهم إلاّ بإذن.
4- وألا يستأذن إلاّ لعذر ببعض الشأن.
5- وأن على الإمام أن ينظر في الإذن وعدمه، فيفعل ما هو أولى.
بيان مراد ودفع اغترار واعتراض:
تجد في آيات القرآن العظيم أخباراً ووعوداً من الله- تعالى- للمؤمنين. ولربما حسب- من لا يعلم- أنها تشمل كل من كان على أصل الإيمان، من اعتقاده مع بعض أعماله، وإن فرط في كثير من أصول الأعمال.
فيبين الله تعالى في هذه الآية وأمثالها مراده بالمؤمنين عند إطلاق لفظ المؤمنين في تلك الأخبار والوعود، حتى لا يغتر المفرطون ولا يعترض الجاهلون.
توجيه وإرشاد:
إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كان لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة؛ ولهذا قرن الله في هذه الآية بين الإيمان بالله ورسوله، والحديث عن الجماعة وما يتعلق بالاجتماع، فيرشدنا هذا إلى خطر أمر الاجتماع ونظامه، ولزوم الحرص والمحافظة عليه، كأصل لازم للقيام بمقتضيات الإيمان وحفظ عمود الإسلام.
موعظة:
ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلاّ بإهمالهم لأمر الاجتماع ونظامه: إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتشار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، وجهلهم بما يفرضه عليهم، وما[/rtl]
[rtl](1/335)[/rtl]
فعلى أهل العلم- وهم المسؤولون عن المسلمين بما لهم من إرث النبوة فيهم- أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة؛ فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع والشورى، في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، حتى لا يستبد بهم مستبد، ولا يتخلف منهم متوان، وحتى يظهر الخاذل لهم ممن ينتسب إليهم، فينبذ ويطرح ويستغنى عنه بالله وبالمؤمنين.
موازنة وترجيح:
هنالك المصلحة العامة وهنالك المصلحة الخاصة، ومحال أن تساوى هذه بتلك: انظر إلى الذكر الحكيم كيف عبر عن الأولى بالأمر الجامع، وفي هذا ما فيه من تفخيم. وعبر عن الثانية ببعض الشأن، وفي هذا ما فيه من التحقير والتقليل.
وفي قرنها بالاستغفار تنبيه على ترجيح الأولى على الثانية، وأنها ما كانت تعتبر إلاّ على وجه الرخصة، والاستغراق في الاهتمام والتدبير للمصلحة العامة أحق وأولى.
إمتثال ورجاء:
لنجعل المصلحة العامة غايتنا والمقدمة عندنا، حتى لا يكون- إن شاء الله- في مصالحنا الخاصة ما يصرفنا أو يشغلنا عنها، راجين من الله تعالى أن يعيننا على ما قصدنا، وأن يوفقنا إلى استعمال كل مصلحة خاصة لنا في مصلحة عامة لنا ولإخواننا، إنه نعم الموفق ونعم المعين.
***
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . لما بينت الآية السابقة وجوب الاستئذان عند إرادة الانصراف من مجلسه، عليه الصلاة والسلام، بينت هذه الآية وجوب تلبية دعوته إذا دعا، وفضحت حالة الذين يتسللون غير مستأذنين، وحذرت من فعلهم، وأوعدت الوعيد الشديد للمخالفين أمثالهم.
(الدعاء) النداء وطلب الإقبال للحضور. {بَيْنَكُمْ} في اعتقادكم ومعاملتكم.
{يَتَسَلَّلُونَ} يذهبون قليلا قليلاً من الجماعة متخفين.
{لِوَاذًا} ملاوذة، بأن يلوذ هذا بهذا ويلوذ هذا بهذا متستراً به حتى لا يرى عند خروجه.
{فَلْيَحْذَرِ} فليتيقظ وليتحرز؛ وذلك باجتناب المخالفة.
{يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يصدون ويعرضون عن طريقته وسنته ومنهاجه، وما كان عليه من سير في الحياة.
(الفتنة) البلاء بأنواع النقم أو بنعم تستدرج إلى النقم. هذا معنى الفتنة هنا لأنها ذكرت في مساق الوعيد.[/rtl]
[rtl](1/336)[/rtl]
المعنى:
لا تنزلوا دعاء الرسول لكم إذا دعاكم إلى الحضور عنده، منزلة دعاء بعضكم بعضاً للحضور؛ فتحسبون أنفسكم مخيرين إن شئتم أجبتم وإن شئتم تخلفتم! فتارة تجيبون وتارة تتخلفون. فإجابة دعوته، والإسراع إليه واجب محتم عليكم، والتخلف أو التباطؤ- لغير عذر واضح- محرم عليكم؛ ذلك لأنه إذا دعاكم لا يدعوكم إلاّ لمصلحة قطعية وخير محقق يعود عليكم في أمر الدين أو أمر الدنيا، ففي تخلفِكم أو [[تباطئِكم]] تفويت، أو تعطيل أو تثبيط.
وإذا حضرتم مجلسه فابقوا كلكم عنده ولا تذهبوا من مجلسه واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، يتستر بعضكم ببعض عند الخروج حتى لا يراه الناس، ولا يراه الرسول، فإن الله يعلم قطعاً أولئك الذين يخرجون متسللين متسترين بعضهم ببعض، فإذا نجوا من ملام الرسول، فإنهم لا ينجون من عذاب الله.
وإذا كان الله عالماً بصنعهم ومفارقتهم لمجلس رسوله، وثلمهم لجماعته وصدهم وإعراضهم عما هم عليه هو ومن معه- فهو معاقبهم على ما ارتكبوا بالبلايا، يصبّها عليهم في الدنيا، أو العذاب الأليم ينزله بهم في الأخرى، أو يجمع لهم ما بينهما.
فليجتنب أولئك المخالفون لأمره هذه الفتنة وهذا العذاب، وليحذروا منهما، وما ذلك إلاّ بترك المخالفة والإقلاع عنها، والرجوع إلى الموافقة والاتباع.
تنظير وتعميم:
أمراء المسلمين وقادتهم، ومن يتولون أمراً من أمورهم العامة، تجب دعوتهم إذا دعوا لأمر عام وشأن مما يرتبط بما في عهدتهم من أمر الناس، وشرع إليهم، ولا يتسلل من مجالسهم، ذلك لما لهم من حق الخلافة عن الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما كان يقوم به من أمر الناس، وتدبير شؤونهم، وضبط نظامهم، ورعاية مصالحهم.
ميزان:
كل الأقوال والأعمال توزن بأقواله وأعماله، وكل الأحوال والسير توزن بسيرته وحاله: فما وافقها فهو الحق والخير والهدى، وهو الذي يقبل من كائن من كان، وما خالفها فهو الباطل والشر والضلال، وهو الذي يرد على صاحبه كائناً من كان.
وقد ثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) .
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها البخاري في الصلح باب 5. ومسلم في الأقضية حديث 17 و18. وأبو داود في السنة باب 5. وابن ماجة في المقدمة باب 2. وأحمد في المسند (6/ 146) .[/rtl]
[rtl](1/337)[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]وجوه الفتنة وسببها:
مخالفة السنة النبوية والهدي المحمدي، وما كان عليه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في تنفيذ شرع الله وتطبيق أحكامه، وتمثيل الإسلام تمثيلاً عملياً- تلك المخالفة هي سبب كل بلاء لحق المسلمين حتى اليوم، بحكم صريح هذه الآية. وقد ذكر المفسرون في تفسير الفتنة أشياء على وجه التمثيل لا على وجه الحصر والتحديد، فذكروا الكفر، والقتل، والاستدراج بالنعم، وقسوة القلب من معرفة المعروف والمنكر، والطبع على القلب حتى لا يفقه شيئاً.
وكل هذا قد أصاب المسلمين بسبب مخالفتهم.
أعظم الفتنة:
غير أن أعظم الفتنة- فيما نرى- هو ما قاله الإمام جعفر الصادق: "أن يسلط عليهم سلطان جائر" فإنه إذا جار السلطان- وهو من له السلطة في تدبير أمر الأمة والتصرف في شؤونها- فسد كل شيء: فسدت القلوب والعقول والأخلاق والأعمال والأحوال، وانحطت الأمة في دينها ودنياها إلى أحط الدرجات، ولحقها من جرائه كل شر وبلاء وهلاك.
ثم يتفاوت ذلك الفساد بحسب ذلك الجور في قدره وسعته ومدة بقائه. هذا إذا كان ذلك الجائر من جنسها ويدين- بحسب ظواهره- دينها، فكيف إذا لم يكن من جنسها ولا دينها في شيء!!
حقاً إن أعظم ما لحق الأمم الإسلامية من الشر والهلاك كله جاءها على السلاطين الجائرين منها ومن غيرها.
وهذا ما يشهد به تاريخها في ماضيها وحاضرها.
فما أصدق كلمة جعفر الصادق، وما أعمق نظره فيها!!
ومن أحق بمثلها من بيت النبوة ومعدن الحكمة؟! عليهم الرضوان والرحمة.
تطبيق وتحذير:
من أبين المخالفة عن أمره وأقبحها الزيادة في العبادة التي تعبد لله بها على ما مضى من سنته فيها، وإحداث محدثات على وجه العبادة في مواطن مرت عليه ولم يتعبد بمثل ذلك المحدث فيها.
وكلا هذين زيادة وإحداث وابتداع مذموم، يكون مرتكبه كمن يرى أنه اهتدى إلى طاعة لم يهتد إليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسبق إلى فضيلة قصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عنها. وكفى بهذا وحده فتنة وبلاء، دع ما يجر (1) إليه من بلايا أخرى.
وقد طبق الإمام مالك- رضي الله عنه- هذه الآية الكريمة على هؤلاء المتزيدين، أحسن تطبيق وأبلغه وأردعه، لمن كان له فهم وإيمان.
__________
(1) كانت في الأصل المطبوع: "يجري" وهو خطأ طباعي.[/rtl]
[rtl](1/338)[/rtl]
[rtl]روى الإمام إبن العربي- رحمه الله- بسنده المتصل إلى سفيان بن عيينة رحمه الله، "قال: سمعت مالك بن أنس- وأتاه رجل- فقال:
يا أبا عبد الله من أين أحرم؛ قال: من ذي الحليفة (1) ، من حيث أحرم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تفعل.
قال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة.
قال وأي فتنة في هذا؛ إنما هي أميال أزيدها.
قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟! إني سمعت الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ".
فليتأمل المسلمون- وخصوصاً المنتسبين إلى مذهب مالك- في فقه هذا الإمام العظيم، ووقوفه عند حدود الله، وليحذروا من عاقبة المتزيدين المتغالين.
بوارق أمل:
لقد شعر المسلمون عموماً بالبلايا والمحن التي لحقتهم، وفي أولها سيف الجور المنصب على رؤوسهم، وأدرك المصلحون منهم أن سبب ذلك هو مخالفتهم عن أمر نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فأخذت صيحات الإصلاح ترتفع في جوانب العالم الإسلامي في جميع جهات المعمورة، تدعو الناس إلى معالجة أدوائهم بقطع سببها واجتثاث أصلها. وما ذلك إلاّ بالرجوع إلى ما كان عليه محمد عليه الصلاة والسلام، وما مضت عليه القرون الثلاثة المشهود لها منه بالخير في الإسلام (2) .
وقد حفظ الله علينا ذلك بما أن تمسكنا به لن نضل أبداً- كما في الحديث الصحيح- "الكتاب والسنة" (3) وذلك هو الإسلام الصحيح الذي أنقذ الله به العالم أولاً، ولا نجاة للعالم مما هو فيه اليوم إلاّ إذا أنقذه الله به ثانياً.
__________
(1) ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، ومنها ميقات أهل المدينة (معجم البلدان: 2/ 295) .
(2) جاء في الحديث من طريق جماعة من الصحابة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» رواه البخاري في الشهادات باب 9، وفضائل أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باب 1، والرقاق باب 7، والأيمان باب10 و27. والترمذي في الفتن باب 45، والشهادات باب 4، والمناقب باب 56. وابن ماجة في الأحكام باب 27. وأحمد في المسند (378/1، 417، 434، 438، 2442، 228/2، 410، 479، 267/4، 276، 277، 426، 427، 436، 440، 5/ 350) .
(3) في الموطأ (كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، حديث3) عن مالك: أنه بلغه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بها: كتاب الله وسنة نبيه» .[/rtl]
[rtl](1/339)[/rtl]
[rtl]وقد أخذ المسلمون يصيخون (*) أسماعهم ويستجيبون- أفواجاً أفواجاً- لداعي الإصلاح أينما دعاهم. وفي ذلك- والحمد لله- ما يقوي الرجاء والأمل، ويبعث على الجد والعمل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13] .
***
5- الود من إكرام الله لأولياء الله
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) } [مريم: 96] .
سبب النزول، ووعد السابقين:
كان السابقون الأولون من المؤمنين في أول الإسلام بمكة مبغوضين من أهل مكة المشركين، مهجورين منهم، مزهوداً فيهم.
ومن أشد الألام على النفس وأشقها أن يعيش الإنسان بين قومه مبغوضاً مهجوراً، مزهوداً فيه، خصوصاً مثل تلك النفوس الحية الأبية.
فأنزل الله هذه الآية تأنيساً لأولئك السادة، ووعداً لهم بأن تلك الحالة لا تدوم، وأنه سيجعل لهم وداً، فيصيرون محبوبين مرغوباً فيهم.
وقد حقق الله وعده: فكان أولئك النفر بعد، السادة المقدمين من أقوامهم وعشائرهم، لسبقهم وفضلهم. وكانوا- وهم قادة الجيوش في الفتوحات الإسلامية- المحبوبين هم وجيوشهم، المرغوب فيهم من الأمم التي فتحوها؛ لعدلهم ورحمتهم، ورفعهم لنير الاستعباد الديني والدنيوي، الذي كانت تئن تحته تلك الأمم.
وأثبت التاريخ أن بعض الأمم الأجنبية دعتهم إلى إنقاذها من أيدي رؤسائها.
فكانت هذه الآية من آيات الإعجاز بالإعلام بما يتحقق في الاستقبال مما هو كالمحال في الحال فكان على وفق ما قال.
عموم الوعد لعموم اللفظ:
الإيمان، وهو التصديق الصادق المثمر للأعمال. والأعمال الصالحة، وهي المستقيمة النافعة المبنية على ذلك الإيمان- هما اللذان جعلهما الله سبباً في تحقيق جعل هذا الود، لما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} فيعم ذلك كل أهل الإيمان والعمل الصالح، وهم أولياء الله و {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] .
سبب الود وسبب الجعل:
تكسب مودة الناس بأسباب متعارفة بينهم منها القرابة، ومنها الصداقة، ومنها صنائع المعروف، ومآثر الإحسان.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المعجم الوجيز [ ((أصاخ)) له، وإليه: استمع][/rtl]
[rtl](1/340)[/rtl]
[rtl]أما هذا الود الذي وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فسببه جعل من الله له في قلوب العباد لهم، دون تردد منهم ولا توقف على تلك الأسباب، فيودهم من لم يكن بينه وبينهم علاقة نسب أو صداقة، ولا وصل إليه منهم معروف، فهذا نوع من الود خاص يكرمهم الله به، وينعم عليهم به الرحمن من جملة نعمه التي يحدثها ويجددها لهم، زيادة على ما يقتضيه الإيمان والعمل الصالح- ومنه الإحسان- من مودة القلوب.
أما سبب هذا الجعل والوضع والإيجاد من الله لهذا الود والإكرام به، فهو الإيمان والعمل الصالح، وهما سبب لإكرامات كثيرة من الله تعالى، هذا الجعل للود منها.
بشارة وتثبيت:
في الآية من سبب نزولها بشارة لدعاة الحق، وأنصار السنة، ومرشدي الأمم، عندما يقومون بدعوة القرآن في عشائرهم، ويلقون منهم النفور والإعراض والبغض والإنكار، ويجدون أنفسهم غرباء بينهم يعاديهم من كانوا أحبابهم، ويقاطعهم أقرب الناس قرابة إليهم، ويصبح يؤذيهم من كان يحميهم ويدافع عنهم.
في الآية بشارة لهم بأن تلك الحالة لا تدوم، وأنهم سيكون لهم على كلمة الحق مؤيدون، وفي الله محبون، وسيكون لهم ود في القلوب، ممن يعرفون وممن لا يعرفون.
وفيها أيضاً تثبيت لهم في تلك الغربة ووحشة الإنفراد بما يكون لهم من أنس الود، وأي ود هو!! ود يكون من جعل الرحمن.
دفع إشكال:
الآية منظور فيها إلى مجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وغالبهم، فلا يشكل علينا أن منهم من يموت في غربة الحق، قبل أن يكون له على الحق أنصاره، ومنهم من يموت غير معروف من الناس.
كما أن الود الذي يجعل لهم غير منظور فيه للعموم.
فلا يشكل ببغض من يبغضهم تعصباً لهوى، أو تقليداً لضال، أو حرصاً على منفعة، ومحافظة على جاه أو منصب أو مال.
تفسير نبوي:
قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل. ثم ينادى في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً؛ دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل. ثم ينادي (جبريل) في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضو فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض» (1) .
__________
(1) من حديث أبي هريرة رواه مالك في الموطأ (كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله، حديث 15) . والبخاري في التوحيد باب 33، ومسلم في البر والصلة والآداب حديث 157.[/rtl]
[rtl](1/341)[/rtl]
[rtl]رواه بهذا اللفظ مسلم ورواه البخاري وغيرهما.
وزاد الطبراني: ثم قرأ رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} .
فارتبط الحديث بالآية بزيادة الطبراني. وبيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقراءة الآية أن هذا القبول الذي يجعل لمن أحبه الله في أهل الأرض- والمراد بهم من يعرفونه منهم- هو نوع الود المذكور في الآية، وبيّن أن أهل القبول في الأرض محبوبون في أهل السماء قبل أهل الأرض، وبين أن سبب ذلك القبول هو محبة الله لهم؛ فمن أحبهم حببهم لعباده.
ولما كان سبب القبول محبة الله لهم بيّن- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن بغض الله سبب في بغض الخلق لهم، إذ ما تسبب عن أحد الضدين يتسبب عن الآخر ضده.
ولما كانت محبة الله مسببة عن الإيمان والعمل الصالح، فبغض الله مسبب عن ضدهما؛ إذ ما تسبب عنه أحد الضدين يتسبب عن ضده الضد الآخر.
وكما كان ذلك الود والقبول يكون شيئاً زائداً على ما تقتضيه أسباب الود بين الناس، كذلك تكون هذه البغضاء التي يهين الله بها ويعاقب من يشاء، زيادة على ما تقتضيه أسباب البغضاء بينهم؛ فيكون هذا الذي وضعت له البغضاء- والعياذ بالله- مبغوضاً حتى ممن لم يكن منه إليه شيء من أسباب البغض.
تبيين وتعيين:
قد يكون الأتباع والمحبون والراغبون لأهل الحق ولأهل الباطل، لأئمة الهدى ولرؤوس الضلال، لدعاة الإتباع ولدعاة الإبتداع.
ولكن أهل المحبة من الله والود والقبول من العباد، هم أهل الحق، وأئمة الهدى، ودعاة الإتباع للكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالحون، لا لأنفسهم والتحزب لهم، وجلب النفع لهم، والذي يعينهم لهذه الكرامة دون غيرهم هو اتباعهم للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في سيرته ودعوته، وما كانت دعوته إلاّ للقرآن وبالقرآن، دون أن يسأل على ذلك من أجر. وهذا لأن الود والقبول عند العباد مسببان عن محبة الله للعبد، ومحبة الله لا تكون إلاّ للمتبعين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . فكرامة الود والقبول إنما هي للمتبعين له- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فأما غيرهم فما يكون لهم من قبول (1) عند أمثالهم، فهو فتنة وبلاء عليهم.
إرشاد:
أفادت الآية الكريمة والحديث الشريف، أن على المسلم أن يتمسك بالإيمان والعمل
__________
(1) كانت في الأصل: "قبل" وهو خطأ طباعي.[/rtl]
[rtl](1/342)[/rtl]
[rtl]الصالح، والاتباع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ولو كان في قوم انفرد بينهم بذلك وحده. ولا يستوحش من انفراده بينهم؛ فحسبه رضى الله ومحبته، وكفى بهما أنسًا.
وليثق بأنه- إن صدق وأمد الله في عمره- يكون له ود وقبول في عباد الله، وأنس بمن يحبهم ويحبونه لله، وتلك المحبة النافعة الدائمة والصلة المتينة الجامعة، التي تجمع بين أهلها في الدنيا والآخرة.
جعلنا الله والمسلمين من العاملين له المتحابين فيه.
***
6- حسن التلقي وطلب المزيد
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) } [طه: 114] .
من أدب المتعلم:
لا حياة إلاّ بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالماً إلاّ من كان متعلماً، كما لن يصلح معلماً إلاّ من قد كان متعلماً.
ومحمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي بعثه الله معلماً كان أيضاً متعلماً: علمه الله بلسان جبريل، فكان متعلماً عن جبريل عن رب العالمين، ثم كان معلماً للناس أجمعين.
أرأيت أصل العلم ومن معلموه ومتعلموه؟
ثم أرأيت شرف رتبة التعلم والتعليم؟!
لا جرم كان لرتبة التعلم آدابها ولرتبة التعليم آدابها. وكان محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل الخلق في آدابهما؛ بما أدبه الله، وأنزل عليه من الآيات فيهما، مثل آيتنا اليوم وغيرها.
لزوم الصمت عند السماع:
كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا أنزل عليه جبريل- عليه السلام- بالوحي وقوله عليه، قرأ معه وساوقه (1) في القراءة. وكان ذلك منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لحرصه على حفظه وعدم نسيانه، حتى يبلغه كما أنزل عليه.
ولأن تعلق قلبه بما يسمع من جبريل، وامتلاءه به، واستيلاء ذلك المسموع على لبه، يدعوه إلى النطق به، لما بين القلب واللسان من الارتباط، ولأن شوقه إلى ذلك المسموع ومحبته ورغبته فيه، تبعثه على التعجل بقراءته.
__________
(1) ساوقه: تابعه وسايره وجاراه (المعجم الوسيط: [ص:464] ) .[/rtl]
[rtl](1/343)[/rtl]
[rtl]غير أن القراءة عند السماع، وقبل تمام الإلقاء، تمنع تمام الوعي، لأن عمل اللسان بالنطق يضعف عمل القلب بالوعي والحفظ، فلذا نهى الله تعالى نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل، من قبل أن يقضى ويتمم إليه وحيه، فقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} .
تأكيد الصمت بكف اللسان:
لا يتم تفرغ القلب للوعي إلاّ بسكون اللسان، فلا يكفي في تفرغه ترك القراءة الجهرية عند السماع حتى ينكف اللسان عن الحركة، فلا تكون قراءة لا جهراً ولا سراً، فلذا أكد الله تعالى طلب ترك القراءة بالنهي عن تحريك اللسان فقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] .
ثم بين أن الله يجمعه في قلبه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالحفظ، وأنه يطلق بقراءته لسانه بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] . أي قراءتك إياه.
ثم أمره أن يتبع قراءة جبريل إذا قرأه عليه، فيقرأه كما قرأه بعد فراغه، بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] . أي فإذا قرأه جبريل وفرغ منه فاتبع قراءته فاقرأه كما قرأه. وأنه تعالى يبينه بأقوال نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأفعاله بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] .
هذا الأدب أدب عام:
إنما المقصود من الكلام البيان عن المراد، وإنما المقصود من السماع وعي الكلام ليفهم المراد. فكما كان على المتعلم أن يسكت حتى يفرغ معلمه من القدر المرتبط بعضه ببعض، مما يلقيه إليه المعلم، حتى يفرغ المعلم من لقائه، كذلك على المناظر أن يستمع لمناظره حتى يستوفي دعواه وحجته.
وعلى كل قارىء لكتاب أن يستوفي ما يرتبط بعضه ببعض منه، ثم يبدي رأيه فيه.
وعلى كل مستمع لمتكلم كذلك.
فبهذا الأدب يتم وعي المتعلم فيحفظ، وفهم المناظر فيرد ويقبل، وفهم القارىء فيعرف ما يأخذ ويترك، وفهم السامع لتحصل فائدة الاستماع.
وبترك هذا الأدب كثيراً ما يقع سوء الوعي أو سوء الفهم، وفوات القصد من المناظرة والقراءة أو الكلام.
دوام [[التعلم]] للازدياد من العلم
يتعلم الإنسان حتى يصير عالماً ويصير معلماً، ولكنه مهما حاز من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعليم وتوسع فيه وتكمل، فلن يزال بحاجة إلى العلم، ولن تزال أمامه فيما علمه أشياء مجهولة يحتاج إليها.[/rtl]
[rtl](1/344)[/rtl]
فعليه أبداً أن يتعلم، وأن يطلب المزيد، ولذا أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو المعلم الأعظم- أن يطلب من الله- وهو الذي علمه ما لم يكن يعلم- أن يزيده علماً فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] .
تحذير واقتداء:
ما أكثر ما رأينا من قطعهم ما حصلوا عليه من علم، عن العلم؛ فوقف بهم عند ما انتهوا إليه، [[فجمدوا]] وأكسبهم الغرور بما عندهم، فتعظموا وتكلموا فيما لم يعلموا، فضلوا وأضلوا، وكانوا على أنفسهم وعلى الناس شر فتنة وأعظم بلاء.
فبمثل هذه الآية الكريمة يداوي نفسه من ابتلى بهذا المرض، فيقلع عن جموده وغروره، ويزداد مما ليس عنده علم ما لم يعلم. ويحذر من أن يقف على طلب العلم ما دام فيه زمن من الحياة ويقتدي بهذا النبي الكريم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فلن يزال يطلب من الله تعالى أن يزيده علمًا (1) بما ييسر له من خزائن رحمته، وما يلقيه في قلبه من نور، وما يجعل له من فرقان، وما يوفقه الله إليه من أصل ذلك كله، وهو تقوى الله، والعمل بما علمه.
نسأل الله لنا والمسلمين العلم النافع، والعمل الصالح. فهو ولي الهداية والتوفيق.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]- من وعد الله للصالحين
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) } [الأنبياء: 105] .
لما مضى في السورة ذكر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وأممهم، وختم الحديث عنهم بذكر الساعة وقربها ومقدّماتها، وأحوال الخلق يوم القيامة- جاء في هذه الآية ذكر الأمة التي جاءت بعد تلك الأمم كلها، وهي أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وإنما كانت هذه الآية في أمة محمد؛ لأنه لما تكلم على الأمم الخالية لم يسبق الكلام إلاّ عليها؛ فخوطبت بما قضاه الله وكتبه من إرث الصالحين الأرض.
والمخاطبون بهذه الآية المكية هم المؤمنون بالله، الموحدون له، المتبعون لرسوله- محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- المصدق لجميع الرسل صلوات الله عليهم، وهم أصحاب النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهم الصالحون الموجودون يوم ذاك على وجه الأرض، فكانت الآية إعلاماً بما كتبه الله لهم، ووعداً بإرثهم الأرض.
{الزَّبُورِ} بمعنى المزبور أي المكتوب، والمراد به جنس ما أنزله الله من الوحي على رسله
__________
(1) روى الدارمي في مسنده (المقدمة، باب 32) عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «منهومان لا يشبعان: طالب العلم، وطالب الدنيا» .[/rtl]
[rtl]عليهم الصلاة والسلام، وأمر بكتابته. وقرأ حمزة: "الزُّبُور" جمع زُبُر، أي كتاب؛ فعينت هذه القراءة أن المراد بالزبور في القراءة الأولى الكتب المنزلة، لا خصوص زبور داود عليه السلام.
{الذكر} المراد به هنا اللوح المحفوظ، الذي كتب الله فيه كل شيء قبل أن يخلق الخلق. وجاءت تسميته بالذكر، فيما رواه البخاري في مواضع من صحيحه، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض» (1) .
ومما كتبه في الذكر ما أنزله على رسله عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى:
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] .
{الأرض} جنس الأرض الدنيوية، لأن هذا اللفظ موضوع لها، فإذا أطلق انصرف إليها، وبهذا فسرها ابن عباس من طريق علي بن [أبي] . (2) طلحة وهي أصح طرقه (3) .
{يرثها} تنتقل إليهم من يد غيرهم، وأصل الإرث الانتقال من سالف إلى خالف، وقد يطلق في غير هذا الموضع على أصل التمليك مجازاً.
{الصالحون} الصالح من كل شيء هو ما استقام نظامه، فحصلت منفعته. وضده الفاسد، وهو ما اختل نظامه فبطلت منفعته، ويظهر هذا من تتبع مواقع الاستعمال:
فإذا قالوا: هذه آلة صالحة، عنوا أنها محصلة للمنفعة المرادة منهاة لانتظام أجزائها.
وإذا قالوا: آلة فاسدة، عنوا أنها لا تحصل المنفعة لاختلال في تركيبها. والصالح في لسان الشرع- قرآنًا وسنة- لم يخرج عن هذا المعنى حيثما جاء: فالصالح هو من استنار قلبه بالإيمان والعقائد الحقة، وزكت نفسه بالفضيلة والأخلاق الحميدة، واستقامت أعماله وطابت أقواله؛ فكان مصدر خير ونفع لنفسه وللناس: استقام نظامه في عقده وخلقه وقوله وعمله، فعظمت وزكت منفعته، وهذا هو معنى الصالحين حيثما جاء، كما في قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (4) ، وكما في حديث التشهد "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (5) .
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق باب 1. والترمذي في تفسير سورة 5 باب 3، وسورة 11 باب 9. وأحمد في المسند (431/4) .
(2) ما بين حاصرتين زيادة من تفسير الطبري. انظر الحاشية التالية.
(3) انظر تفسير الطبري (98/9- الأثر رقم 24876) وهو من طريق أبي صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(4) الآية 69 من سورة النساء: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
(5) رواه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مالك في الموطأ (كتاب النداء، حديث 54. 55 أول كتاب=[/rtl]
[rtl]وقد بين القرآن من هم الصالحون بياناً شافياً كافياً بذكر صفاتهم، مثل قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114] .
المعنى:
يخبرنا الله تعالى أنه كتب في الكتب، التي أنزلها على رسله من بعد ما كتب في اللوح المحفوظ، الذي هو أصل تلك الكتب، أن الأرض يرثها ويملكها عباده الصالحون كل العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والأعمال المستقيمة، الذين ينفعون العباد والبلاد.
تطبيق:
خاطب الله بهذه الآية المؤمنين بمكة، وهم في قلة عَدَدٍ وعُدَدٍ، يعدهم بذلك- لا بطريق صريح- أنهم يرثون الأرض ويكون لهم فيها القوة والنفوذ، ويبعثهم بتعليق الوعد بوصف الصلاح على التمسك به والازدياد منه والاستمرار عليه.
ثم صرح لهم بالوعد بعد في سورة النور، وهي مدنية، بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .
وقد حقق الله لهم هذا الوعد: ففتح لهم الفتوح، وأورثهم ملك كسرى وقيصر، ومد ملكهم في الشرق والغرب، وأولئك الذين كانوا في قلة وخوف يوم نزلت الآية المكية هم الذين شاهدوا ذلك النصر وتلك الفتوح وترأسوا ذلك الملك العريض.
تعميم وتقييد:
علق الوعد بالوصف وهو الصلاح؛ ليعلم أنه وعد عام، ولتعلم كل أمة صالحة أنها نائلة حظها- ولا محالة- من هذا الوعد.
واقتضى هذا التعليق بالوصف أيضاً تقييده بأهله، فإذا زال وصف الصلاح من أمة زال من يدها ما ورثت.
__________
= السلام، حديث وأحمد في المسند (1/ 376، 386، 408، 413، 414، 422، 423، 427، 428، 431، 437، 439، 440، 450، 459، 464) والبخاري في الأذان باب 148 و150، والعمل في الصلاة باب 54، والاستئذان باب 3 و28، والدعوات باب 16، والتوحيد باب 5، ومسلم في الصلاة حديث 56 و60 و62. والترمذي في الصلاة باب 99 و100، والنكاح باب 17. والنسائي في التطببق باب 23 و100 و101- 104، والسهو باب 41 و43- 45 و 56. وابن ماجة في الإقامة باب 24، والنكاح باب 19. والدارمي في الصلاة باب 84 و 92.[/rtl]
[rtl]ونظير هذا التقييد قوله في آية النور: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
تنظير:
مثل هذه الآية فيما تضمنته من الوعد الذي يقوّي به قلوبهم، ويثبت إيمانهم، ويظهر به صدق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، بما أعلمه به من غيب، أحاديث صحيحة كقول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لخبّاب (1) رضي الله عنه وقد لقي الصحابة من المشركين شدة، فسأله أن يدعو. فقال له النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه. وليُتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلاّ الله» (2) .
وكقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لعدي بن حاتم رضي الله عنه: «فإن طالت بك حياة لترين الظغينة (3) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلاّ الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى» (4) .
وقد امتدت به الحياة حتى رأى ذلك. ومثل هذا أحاديث أخرى في الصحيح، فقد تطابقت الآيات والأحاديث في هذا الوعد.
وقد صدق الله وعده لعباده الصالحين، وصدق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، بما لم يكن يعلمه أحد، ولا يرى شيئاً من أسبابه، بل لا يرى إلاّ ما هو مناف له؛ ولكن العاقبة للمتقين.
إشكال وحله:
قال أناس: إن أرض الدنيا كما يستولي عليها الصالحون، ويستولي عليها غيرهم. والأرض التي لا يرثها إلاّ الصالحون هي أرض الجنة؛ فيجب تأويل الآية بها.
__________
(1) هو الصحابي الجليل خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد المتوفى سنة 19 أو 37هـ. انظر ترجمته في الإصابة (8/ 252) وأسد الغابة (4/ 112) وتجريد أسماء الصحابة (2/ 155) وأسماء الصحابة الرواة (ترجمة 89) وحلية الأولياء (1/ 143، 359) وشذرات الذهب (47/1) وسير أعلام النبلاء (323/2) والثقات (6/ 103) وتهذيب التهذيب (3/ 133) وتقريب التهذيب (2/ 221) وخلاصة تهذيب الكمال (287/1) وتاريخ البخاري الكبير (3/ 215) وتاريخ البخاري الصغير (78/1) والجرح والتعديل (3/ 1817) .
(2) رواه البحاري في المناقب باب 25، والإكراه باب 1. وأبو داود في الجهاد باب 97. وأحمد في المسند (5/ 109)
(3) كانت في الأصل المطبوع: "الضغينة". والصواب ما أثبتناه من مسند الإمام أحمد. انظر الحاشية التالية. والظعينة: الراحلة يرتحل عليها. والظعينة أيضاً: الزوجة.
(4) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد في المسند (257/4، 8378) .[/rtl]
[rtl]والجواب:
أن هذا التأويل إنما يحتاج إليه أن لو كانت الآية هكذا: "إن الأرض لا يرثها إلاّ عبادي الصالحون" بطريق الحصر فيهم.
أما لما كانت الآية لا حصر فيها فلا حاجة إلى هذا التأويل، بل في لفظ الإرث وربطه بوصف الصلاح دلالة على أنها كانت لغيرهم فانتقلت إليهم، وأنها تزول مع زوال وصف الصلاح. وقد جاء التنبيه على أن الأرض يرثها الصالحون وغيرهم، في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] .
فيرثها الصالحون نعمة، ويرثها غيرهم فتنة ونقمة، كل ذلك حسب مشيئة الحكيم الخبير.
إيراد وجوابه:
قد يقال: فما هي الفائدة إذاً في تخصيص الصالحين بالذكر في الآية؟.
والجواب:
1- إن هذه الآية خوطب بها أول الناس الصحابة بمكة، وهم الصالحون في الأرض، ليعلموا ما وعدهم الله به، وليعلموا أن قوة الباطل إلى ضعف وأن ضعف الحق إلى قوة.
2- ولأن شأن الصالحين -إذا كانوا- أن يكونوا قليلاً سيما أول أمرهم، فهم بحاجة إلى أن يعلموا هذا الوعد، ليزدادوا إيماناً وقوة وثباتاً.
3- ولأن الخلق مفتونون بالكثرة في العدد والعدة غافلون عن القوة الروحية والأخلاقية، وما ينشأ عنهما من استقامة، لا يحسبون لذلك حساباً؛ فيحتاجون إلى العلم بأن الصالحين نائلون حظهم من هذا الوعد، وإن كانوا قلة في الناس. و {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .
تحذير من تحريف:
رأى بعض الناس المدنية الغربية المسيطرة اليوم على الأرض- وهي مدنية مادية في نهجها وغايتها ونتائجها، فالقوة عندها فوق الحق والعدل والرحمة والإحسان- فقالوا: إن رجال هذه المدينة هم الصالحون الذين وعدهم الله بإرث الأرض، وزعموا أن المراد بـ {الصالحون} في الآية: الصالحون لعمارة الأرض.
فيالله للقرآن، وللإنسان، من هذا التحريف السخيف!! كان عمارة الأرض هي كل شيء؛ ولو ضلت العقائد، وفسدت الأخلاق، واعوجت الأعمال وساءت الأحوال، وعذبت الإنسانية بالأزمات الخانقة، وروعت بالفتن والحروب المخربة الجارفة، وهددت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها والمدنية من أساسها.
هذه هي بلايا الإنسانية التي يشكو منها أبناء هذه المدنية المادية التي عمرت الأرض وأفسدت[/rtl]
[rtl]الإنسان، ثم يريد هذا المحرف أن يطبق عليها آية القرآن: كتاب الحق والعدل والرحمة والإحسان، وإصلاح الإنسان ليصلح العمران.
فأما الصالحون، فهو لفظ قرآني كما قدمناه، وقد شرف أهله بإضافتهم إلى الله في قوله {عبادي} فحمله على الصالحين لعمارة الأرض تحريف للكلم عن مواضعه أبشع التحريف وأبطله، فليحذر المؤمن منه ومن مثله من تحريفات المبطلين والمفتونين.
موعظة وإرشاد:
فعلى الأمم التي تريد أن تنال حظها من هذا الوعد، أن تصلح أنفسها الصلاح الذي بينه القرآن. فأما إذا لم يكن لها حظ من ذلك الصلاح فلا حظ لها من هذا الوعد وإن دانت بالإسلام.
ولله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم: يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت به وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل وسعادة وشقاء وشدة ورخاء، وكل محاولة لصدها عن غايتها- وهو آخذ بها- مقضي عليها بالفشل.
سنة الله، ومن ذا يبدلها أو يحولها؛ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] ، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] ، {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] .
***
8- دفاع الله عن المؤمنين
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) } [الحج: 38] .
دفع الشيء، صده ورده، والدفاع عن الشرع، حمايته بصد ما يؤذيه عنه. وقرىء في المتواتر "يدفع"، وقرىء {يدافع} ، وهو بمعنى يدفع، ولكنه أريد قوة الدفع فجيء بـ"يفاعل"، الذي يقتضي المغالبة في أصله؛ لأن دفع المغالب أقوى وأبلغ، أو لأن ما يهيئه الله من أسباب الدفع التي يباشرونها، مقابلة لما يقصدهم به أضدادهم، فكان الدفع من الجانبين.
(خان) إذا ضيع ما جعل في حفظه وعدته، والخوّان الكثير التضييع لما استحفظ.
و (الكفور) الكثير الجحود للنعم، فلا يعزف بها أو لا يؤدي شكرها.
عندما يكون المؤمنون في قلة وضعف، وأعداؤهم قي كثرة وقوة- كالحالة التي كان عليها المؤمنون يوم نزلت الآية بعد الهجرة- تشك النفوس في سلامتهم من كيد عدوهم؛ فلذا جاء هذا الخبر مؤكداً بـ"إِنَّ ".
ولكون هذا الدفع متجدداً جيء بالفعل مضارعاً.[/rtl]
[rtl]ولبيان سبب الدفع جيء بالجملة المستأنفة بعد الجملة الأولى، وأكدتا بـ"إن"، لأن الأولى تحمل المخاطب على أن يسأل سؤال المتردد: هل هؤلاء المدفوعون أعداء مبغوضون؛ فأجيب بالتأكيد.
وحذف مفعول يدافع، ليعم كل ما يدفع؛ فشمل كيد جميع الكائدين.
التفسير:
هذا من الله- تعالى- خبر حق ووعد صدق للمؤمنين، بأنه يرد عنهم كيد أعدائهم، ويبطل مكرهم، ويكف ضرهم، وإن عظم ذلك منهم وكثر.
وإن هذا منه لهم متكرر متجدد؛ ذلك لأنهم بإيمانهم حافظوا على أمانة الله عندهم، وعهده لديهم، واعترفوا بنعمه وشكروها، فأحبهم الله ورضي عنهم، فأيدهم ونصرهم، ودافع عنهم. ولأن أعداءهم ضيعوا أمانة الله عندهم، بارتكاب المنهيات، وترك المأمورات، وجحدوا وحدانيته أو نبوة نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو ما جاءهم به من شرعه، فأبغضهم ورد كيدهم مغلوبين مدحورين.
تحرير في التعليل:
إن الحب من الله والبغض كسائر أفعاله لا تقع إلاّ على وجه الحق والعدل والسداد، وهذا أمر واجب لأفعال الرب الحكيم.
فالمؤمنون أحبهم ونصرهم لإيمانهم، وأعداؤهم أبغضهم وخذلهم لخيانتهم وكفرهم.
واقتضت هذه المقابلة أن الخيانة والكفر من صفات أضدادهم، وليست من صفاتهم.
فإيمانهم مستلزم لأمانتهم بحفظ عهد الله عندهم: في نفوسهم، وعقولهم، وأبدانهم، وجميع ما لديهم على جميع أحوالهم، ومستلزم لاعترافهم بنعم الله وشكره عليها، باستعمالها في طاعته وطلب المزيد من بره.
وأمانتهم هذه وشكره هي مظهر ايمانهم الذي يميزهم عن أضدادهم، ويدل على صدقهم في ذلك الإيمان، ورسوخه في قلوبهم.
فإذا عدمت منهم الأمانة فخانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم، وفشت الفواحش والمناكر والبدع فيهم، وصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وإذا بطروا نعم الله عندهم فعطلوا منها ما عطلوا بجهلهم وكسلهم وقعودهم عن الخير، وأسباب الحياة والسعادة، واستعملوا منها ما استعملوا في الشر والفساد واتباع الشهوات- إذا كانوا هكذا فقد استوجبوا غضب الله وبغضه ونقمته، وحرموا نصرته ودفاعه، وكانوا هم الظالمين.
خيانة دون خيانة وكفر دون كفر:
وإنما يخرج المرء عن أصل الإسلام بما كان في أصل العقيدة لا بما كان في الأعمال، إلاّ عملاً يدل دلالة ظاهرة على فساد العقيدة وانحلالها.[/rtl]
[rtl]وعلى هذا عقد البخاري- رحمه الله- في الجامع الصحيح أبوابًا في ظلم دون ظلم (1) ، وكفر دون كفر.
تطبيق:
لما كان المسلمون أهل الإيمان الصادق والشكر والأمانة، دافع الله عنهم، وقد شهد التاريخ بذلك من الله لهم فلما خانوا وكفروا تركهم ومَكَّنَ منهم.
ولكنه برحمته وعدله لم ينس لهم أصل إسلامهم، فأبقى لهم أصل وجودهم الذاتي، وهم لحم على وضم (2) بين الأمم، لا يستطيعون دفعاً عن أنفسهم.
وأبقى لهم أصل وجودهم الروحي بكتابه المتلو بين ظهرانيهم، رغم إعراضهم عن تدبره وهجرهم لما فيه- عساهم يرجعون.
تنبيه وتحذير:
كل عمل لا يحل فهو خيانة، وإن كان بأدنى إشارة، وقد نبه الله على هذا بقوله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} ، [غافر: 19] . وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل والإشارة بطرف العين فيما يحرم.
وأعظم الخيانة بعد الكفر خيانة العامة، لأن الذنب يعظم بعظم أثره وانتشار ضرره. ولهذا جاء ما جاء من الوعيد الشديد فيمن ولي أمراً من أمور المسلمين فغشهم ولم ينصح لهم.
فحق على المسلم أن يحذر من الخيانة دقيقها وجليلها، وخصوصاً ما اتصل بالناس منها، ويتنبه من أقل كلمة وأدنى إشارة توقعه في خطرها.
سؤال وجوابه:
فإن قيل: قد نجد من عباد الله المؤمنين من يصيبه البلاء والشدة، فيعذب وقد يقتل: "وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ" (3) .
وقد أصاب المؤمنين يوم أحد ويوم حنين ما أصابهم؟
فالجواب:
إن دفع الله يكون بأسباب وأنواع، وعلى وجوه تختلف بحسب الحكمة، ولا تخلو كلها من دفاع، فإن ما يصيب المؤمنين من البلاء في أفرادهم وجماعتهم هو ابتلاء يكسبهم القوة والجلد،
__________
(1) صحيح البخاري (كتاب الإيمان، باب 23- ظلم دون ظلم) وأورد فيه حديثاً عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أينا لم يظلم نفسه؛ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
(2) الوَضَمُ: كل ما يوضع عليه اللحم من خشب أو حصير أو نحو ذلك يوقى به من الأرض (المعجم الوسيط: [ص: 104] ) .
(3) كذا جاء في الأصل المطبوع "قُتل". والصواب "قاتل" كما في الآية الكريمة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} [آل عمران: 146] .
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما ذكره الإمام ابن باديس هي رواية ورش عن نافع، أما ما ذكره المعلق فرواية حفص عن عاصم[/rtl]
ويقوي فيهم خلق الصبر والثبات وينبههم إلى مواطن الضعف فيهم أو ناحية التقصي منهم، فيتداركوا أمرهم بالإصلاح والمتاب، فإذا هم بعد ذلك الابتلاء أصلب عوداً، وأطهر قلوباً، وأكثر خبرة، وأمنع جانباً.
وإن في صبر الصابر منهم وقد نزل به البلاء الذي لا يقدر على دفعه، والظلم الذي لا يقدر على إزالته.- لبعثًا للقوة في نفس غيره ممن يأتسي به، وضعفاً في قلب ظالمه، وفي كليهما دفع من الله عن المؤمنين.
مشاهدة وتوصية:
نعرف في حياتنا مواطن ما نجونا فيها إلاّ بدفع الله، وبطل كيد الكائدين فيها بمحض صنع الله، وقد كنا فيها- فيما نرى- على شيء من العمل لله. فكيف بمن كانت أعمالهم كلها لله؟
وهذه المشاهدة التي شاهدنا- ولا نشك أن من غيرنا من شاهد مثلنا أو أكثر منا- توجب علينا أن نوصي بالإيمان بالله والمحافظة على عهده والثقة به، فإن ذلك يحقق وعد الله بالدفع، وينيل أهله العزة والحفظ.
فعلى المسلم أن يعمل لذلك، ويعتد به ثقة بالله وصادق وعده. والله لا يخلف الميعاد.
***
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) } [الأنبياء: 105] .
لما مضى في السورة ذكر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وأممهم، وختم الحديث عنهم بذكر الساعة وقربها ومقدّماتها، وأحوال الخلق يوم القيامة- جاء في هذه الآية ذكر الأمة التي جاءت بعد تلك الأمم كلها، وهي أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وإنما كانت هذه الآية في أمة محمد؛ لأنه لما تكلم على الأمم الخالية لم يسبق الكلام إلاّ عليها؛ فخوطبت بما قضاه الله وكتبه من إرث الصالحين الأرض.
والمخاطبون بهذه الآية المكية هم المؤمنون بالله، الموحدون له، المتبعون لرسوله- محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- المصدق لجميع الرسل صلوات الله عليهم، وهم أصحاب النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهم الصالحون الموجودون يوم ذاك على وجه الأرض، فكانت الآية إعلاماً بما كتبه الله لهم، ووعداً بإرثهم الأرض.
{الزَّبُورِ} بمعنى المزبور أي المكتوب، والمراد به جنس ما أنزله الله من الوحي على رسله
__________
(1) روى الدارمي في مسنده (المقدمة، باب 32) عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «منهومان لا يشبعان: طالب العلم، وطالب الدنيا» .[/rtl]
[rtl](1/345)[/rtl]
{الذكر} المراد به هنا اللوح المحفوظ، الذي كتب الله فيه كل شيء قبل أن يخلق الخلق. وجاءت تسميته بالذكر، فيما رواه البخاري في مواضع من صحيحه، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض» (1) .
ومما كتبه في الذكر ما أنزله على رسله عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى:
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] .
{الأرض} جنس الأرض الدنيوية، لأن هذا اللفظ موضوع لها، فإذا أطلق انصرف إليها، وبهذا فسرها ابن عباس من طريق علي بن [أبي] . (2) طلحة وهي أصح طرقه (3) .
{يرثها} تنتقل إليهم من يد غيرهم، وأصل الإرث الانتقال من سالف إلى خالف، وقد يطلق في غير هذا الموضع على أصل التمليك مجازاً.
{الصالحون} الصالح من كل شيء هو ما استقام نظامه، فحصلت منفعته. وضده الفاسد، وهو ما اختل نظامه فبطلت منفعته، ويظهر هذا من تتبع مواقع الاستعمال:
فإذا قالوا: هذه آلة صالحة، عنوا أنها محصلة للمنفعة المرادة منهاة لانتظام أجزائها.
وإذا قالوا: آلة فاسدة، عنوا أنها لا تحصل المنفعة لاختلال في تركيبها. والصالح في لسان الشرع- قرآنًا وسنة- لم يخرج عن هذا المعنى حيثما جاء: فالصالح هو من استنار قلبه بالإيمان والعقائد الحقة، وزكت نفسه بالفضيلة والأخلاق الحميدة، واستقامت أعماله وطابت أقواله؛ فكان مصدر خير ونفع لنفسه وللناس: استقام نظامه في عقده وخلقه وقوله وعمله، فعظمت وزكت منفعته، وهذا هو معنى الصالحين حيثما جاء، كما في قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (4) ، وكما في حديث التشهد "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (5) .
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق باب 1. والترمذي في تفسير سورة 5 باب 3، وسورة 11 باب 9. وأحمد في المسند (431/4) .
(2) ما بين حاصرتين زيادة من تفسير الطبري. انظر الحاشية التالية.
(3) انظر تفسير الطبري (98/9- الأثر رقم 24876) وهو من طريق أبي صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(4) الآية 69 من سورة النساء: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
(5) رواه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مالك في الموطأ (كتاب النداء، حديث 54. 55 أول كتاب=[/rtl]
[rtl](1/346)[/rtl]
المعنى:
يخبرنا الله تعالى أنه كتب في الكتب، التي أنزلها على رسله من بعد ما كتب في اللوح المحفوظ، الذي هو أصل تلك الكتب، أن الأرض يرثها ويملكها عباده الصالحون كل العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والأعمال المستقيمة، الذين ينفعون العباد والبلاد.
تطبيق:
خاطب الله بهذه الآية المؤمنين بمكة، وهم في قلة عَدَدٍ وعُدَدٍ، يعدهم بذلك- لا بطريق صريح- أنهم يرثون الأرض ويكون لهم فيها القوة والنفوذ، ويبعثهم بتعليق الوعد بوصف الصلاح على التمسك به والازدياد منه والاستمرار عليه.
ثم صرح لهم بالوعد بعد في سورة النور، وهي مدنية، بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .
وقد حقق الله لهم هذا الوعد: ففتح لهم الفتوح، وأورثهم ملك كسرى وقيصر، ومد ملكهم في الشرق والغرب، وأولئك الذين كانوا في قلة وخوف يوم نزلت الآية المكية هم الذين شاهدوا ذلك النصر وتلك الفتوح وترأسوا ذلك الملك العريض.
تعميم وتقييد:
علق الوعد بالوصف وهو الصلاح؛ ليعلم أنه وعد عام، ولتعلم كل أمة صالحة أنها نائلة حظها- ولا محالة- من هذا الوعد.
واقتضى هذا التعليق بالوصف أيضاً تقييده بأهله، فإذا زال وصف الصلاح من أمة زال من يدها ما ورثت.
__________
= السلام، حديث وأحمد في المسند (1/ 376، 386، 408، 413، 414، 422، 423، 427، 428، 431، 437، 439، 440، 450، 459، 464) والبخاري في الأذان باب 148 و150، والعمل في الصلاة باب 54، والاستئذان باب 3 و28، والدعوات باب 16، والتوحيد باب 5، ومسلم في الصلاة حديث 56 و60 و62. والترمذي في الصلاة باب 99 و100، والنكاح باب 17. والنسائي في التطببق باب 23 و100 و101- 104، والسهو باب 41 و43- 45 و 56. وابن ماجة في الإقامة باب 24، والنكاح باب 19. والدارمي في الصلاة باب 84 و 92.[/rtl]
[rtl](1/347)[/rtl]
تنظير:
مثل هذه الآية فيما تضمنته من الوعد الذي يقوّي به قلوبهم، ويثبت إيمانهم، ويظهر به صدق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، بما أعلمه به من غيب، أحاديث صحيحة كقول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لخبّاب (1) رضي الله عنه وقد لقي الصحابة من المشركين شدة، فسأله أن يدعو. فقال له النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه. وليُتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلاّ الله» (2) .
وكقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لعدي بن حاتم رضي الله عنه: «فإن طالت بك حياة لترين الظغينة (3) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلاّ الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى» (4) .
وقد امتدت به الحياة حتى رأى ذلك. ومثل هذا أحاديث أخرى في الصحيح، فقد تطابقت الآيات والأحاديث في هذا الوعد.
وقد صدق الله وعده لعباده الصالحين، وصدق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، بما لم يكن يعلمه أحد، ولا يرى شيئاً من أسبابه، بل لا يرى إلاّ ما هو مناف له؛ ولكن العاقبة للمتقين.
إشكال وحله:
قال أناس: إن أرض الدنيا كما يستولي عليها الصالحون، ويستولي عليها غيرهم. والأرض التي لا يرثها إلاّ الصالحون هي أرض الجنة؛ فيجب تأويل الآية بها.
__________
(1) هو الصحابي الجليل خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد المتوفى سنة 19 أو 37هـ. انظر ترجمته في الإصابة (8/ 252) وأسد الغابة (4/ 112) وتجريد أسماء الصحابة (2/ 155) وأسماء الصحابة الرواة (ترجمة 89) وحلية الأولياء (1/ 143، 359) وشذرات الذهب (47/1) وسير أعلام النبلاء (323/2) والثقات (6/ 103) وتهذيب التهذيب (3/ 133) وتقريب التهذيب (2/ 221) وخلاصة تهذيب الكمال (287/1) وتاريخ البخاري الكبير (3/ 215) وتاريخ البخاري الصغير (78/1) والجرح والتعديل (3/ 1817) .
(2) رواه البحاري في المناقب باب 25، والإكراه باب 1. وأبو داود في الجهاد باب 97. وأحمد في المسند (5/ 109)
(3) كانت في الأصل المطبوع: "الضغينة". والصواب ما أثبتناه من مسند الإمام أحمد. انظر الحاشية التالية. والظعينة: الراحلة يرتحل عليها. والظعينة أيضاً: الزوجة.
(4) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد في المسند (257/4، 8378) .[/rtl]
[rtl](1/348)[/rtl]
أن هذا التأويل إنما يحتاج إليه أن لو كانت الآية هكذا: "إن الأرض لا يرثها إلاّ عبادي الصالحون" بطريق الحصر فيهم.
أما لما كانت الآية لا حصر فيها فلا حاجة إلى هذا التأويل، بل في لفظ الإرث وربطه بوصف الصلاح دلالة على أنها كانت لغيرهم فانتقلت إليهم، وأنها تزول مع زوال وصف الصلاح. وقد جاء التنبيه على أن الأرض يرثها الصالحون وغيرهم، في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] .
فيرثها الصالحون نعمة، ويرثها غيرهم فتنة ونقمة، كل ذلك حسب مشيئة الحكيم الخبير.
إيراد وجوابه:
قد يقال: فما هي الفائدة إذاً في تخصيص الصالحين بالذكر في الآية؟.
والجواب:
1- إن هذه الآية خوطب بها أول الناس الصحابة بمكة، وهم الصالحون في الأرض، ليعلموا ما وعدهم الله به، وليعلموا أن قوة الباطل إلى ضعف وأن ضعف الحق إلى قوة.
2- ولأن شأن الصالحين -إذا كانوا- أن يكونوا قليلاً سيما أول أمرهم، فهم بحاجة إلى أن يعلموا هذا الوعد، ليزدادوا إيماناً وقوة وثباتاً.
3- ولأن الخلق مفتونون بالكثرة في العدد والعدة غافلون عن القوة الروحية والأخلاقية، وما ينشأ عنهما من استقامة، لا يحسبون لذلك حساباً؛ فيحتاجون إلى العلم بأن الصالحين نائلون حظهم من هذا الوعد، وإن كانوا قلة في الناس. و {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .
تحذير من تحريف:
رأى بعض الناس المدنية الغربية المسيطرة اليوم على الأرض- وهي مدنية مادية في نهجها وغايتها ونتائجها، فالقوة عندها فوق الحق والعدل والرحمة والإحسان- فقالوا: إن رجال هذه المدينة هم الصالحون الذين وعدهم الله بإرث الأرض، وزعموا أن المراد بـ {الصالحون} في الآية: الصالحون لعمارة الأرض.
فيالله للقرآن، وللإنسان، من هذا التحريف السخيف!! كان عمارة الأرض هي كل شيء؛ ولو ضلت العقائد، وفسدت الأخلاق، واعوجت الأعمال وساءت الأحوال، وعذبت الإنسانية بالأزمات الخانقة، وروعت بالفتن والحروب المخربة الجارفة، وهددت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها والمدنية من أساسها.
هذه هي بلايا الإنسانية التي يشكو منها أبناء هذه المدنية المادية التي عمرت الأرض وأفسدت[/rtl]
[rtl](1/349)[/rtl]
فأما الصالحون، فهو لفظ قرآني كما قدمناه، وقد شرف أهله بإضافتهم إلى الله في قوله {عبادي} فحمله على الصالحين لعمارة الأرض تحريف للكلم عن مواضعه أبشع التحريف وأبطله، فليحذر المؤمن منه ومن مثله من تحريفات المبطلين والمفتونين.
موعظة وإرشاد:
فعلى الأمم التي تريد أن تنال حظها من هذا الوعد، أن تصلح أنفسها الصلاح الذي بينه القرآن. فأما إذا لم يكن لها حظ من ذلك الصلاح فلا حظ لها من هذا الوعد وإن دانت بالإسلام.
ولله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم: يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت به وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل وسعادة وشقاء وشدة ورخاء، وكل محاولة لصدها عن غايتها- وهو آخذ بها- مقضي عليها بالفشل.
سنة الله، ومن ذا يبدلها أو يحولها؛ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] ، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] ، {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] .
***
8- دفاع الله عن المؤمنين
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) } [الحج: 38] .
دفع الشيء، صده ورده، والدفاع عن الشرع، حمايته بصد ما يؤذيه عنه. وقرىء في المتواتر "يدفع"، وقرىء {يدافع} ، وهو بمعنى يدفع، ولكنه أريد قوة الدفع فجيء بـ"يفاعل"، الذي يقتضي المغالبة في أصله؛ لأن دفع المغالب أقوى وأبلغ، أو لأن ما يهيئه الله من أسباب الدفع التي يباشرونها، مقابلة لما يقصدهم به أضدادهم، فكان الدفع من الجانبين.
(خان) إذا ضيع ما جعل في حفظه وعدته، والخوّان الكثير التضييع لما استحفظ.
و (الكفور) الكثير الجحود للنعم، فلا يعزف بها أو لا يؤدي شكرها.
عندما يكون المؤمنون في قلة وضعف، وأعداؤهم قي كثرة وقوة- كالحالة التي كان عليها المؤمنون يوم نزلت الآية بعد الهجرة- تشك النفوس في سلامتهم من كيد عدوهم؛ فلذا جاء هذا الخبر مؤكداً بـ"إِنَّ ".
ولكون هذا الدفع متجدداً جيء بالفعل مضارعاً.[/rtl]
[rtl](1/350)[/rtl]
وحذف مفعول يدافع، ليعم كل ما يدفع؛ فشمل كيد جميع الكائدين.
التفسير:
هذا من الله- تعالى- خبر حق ووعد صدق للمؤمنين، بأنه يرد عنهم كيد أعدائهم، ويبطل مكرهم، ويكف ضرهم، وإن عظم ذلك منهم وكثر.
وإن هذا منه لهم متكرر متجدد؛ ذلك لأنهم بإيمانهم حافظوا على أمانة الله عندهم، وعهده لديهم، واعترفوا بنعمه وشكروها، فأحبهم الله ورضي عنهم، فأيدهم ونصرهم، ودافع عنهم. ولأن أعداءهم ضيعوا أمانة الله عندهم، بارتكاب المنهيات، وترك المأمورات، وجحدوا وحدانيته أو نبوة نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو ما جاءهم به من شرعه، فأبغضهم ورد كيدهم مغلوبين مدحورين.
تحرير في التعليل:
إن الحب من الله والبغض كسائر أفعاله لا تقع إلاّ على وجه الحق والعدل والسداد، وهذا أمر واجب لأفعال الرب الحكيم.
فالمؤمنون أحبهم ونصرهم لإيمانهم، وأعداؤهم أبغضهم وخذلهم لخيانتهم وكفرهم.
واقتضت هذه المقابلة أن الخيانة والكفر من صفات أضدادهم، وليست من صفاتهم.
فإيمانهم مستلزم لأمانتهم بحفظ عهد الله عندهم: في نفوسهم، وعقولهم، وأبدانهم، وجميع ما لديهم على جميع أحوالهم، ومستلزم لاعترافهم بنعم الله وشكره عليها، باستعمالها في طاعته وطلب المزيد من بره.
وأمانتهم هذه وشكره هي مظهر ايمانهم الذي يميزهم عن أضدادهم، ويدل على صدقهم في ذلك الإيمان، ورسوخه في قلوبهم.
فإذا عدمت منهم الأمانة فخانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم، وفشت الفواحش والمناكر والبدع فيهم، وصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وإذا بطروا نعم الله عندهم فعطلوا منها ما عطلوا بجهلهم وكسلهم وقعودهم عن الخير، وأسباب الحياة والسعادة، واستعملوا منها ما استعملوا في الشر والفساد واتباع الشهوات- إذا كانوا هكذا فقد استوجبوا غضب الله وبغضه ونقمته، وحرموا نصرته ودفاعه، وكانوا هم الظالمين.
خيانة دون خيانة وكفر دون كفر:
وإنما يخرج المرء عن أصل الإسلام بما كان في أصل العقيدة لا بما كان في الأعمال، إلاّ عملاً يدل دلالة ظاهرة على فساد العقيدة وانحلالها.[/rtl]
[rtl](1/351)[/rtl]
تطبيق:
لما كان المسلمون أهل الإيمان الصادق والشكر والأمانة، دافع الله عنهم، وقد شهد التاريخ بذلك من الله لهم فلما خانوا وكفروا تركهم ومَكَّنَ منهم.
ولكنه برحمته وعدله لم ينس لهم أصل إسلامهم، فأبقى لهم أصل وجودهم الذاتي، وهم لحم على وضم (2) بين الأمم، لا يستطيعون دفعاً عن أنفسهم.
وأبقى لهم أصل وجودهم الروحي بكتابه المتلو بين ظهرانيهم، رغم إعراضهم عن تدبره وهجرهم لما فيه- عساهم يرجعون.
تنبيه وتحذير:
كل عمل لا يحل فهو خيانة، وإن كان بأدنى إشارة، وقد نبه الله على هذا بقوله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} ، [غافر: 19] . وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل والإشارة بطرف العين فيما يحرم.
وأعظم الخيانة بعد الكفر خيانة العامة، لأن الذنب يعظم بعظم أثره وانتشار ضرره. ولهذا جاء ما جاء من الوعيد الشديد فيمن ولي أمراً من أمور المسلمين فغشهم ولم ينصح لهم.
فحق على المسلم أن يحذر من الخيانة دقيقها وجليلها، وخصوصاً ما اتصل بالناس منها، ويتنبه من أقل كلمة وأدنى إشارة توقعه في خطرها.
سؤال وجوابه:
فإن قيل: قد نجد من عباد الله المؤمنين من يصيبه البلاء والشدة، فيعذب وقد يقتل: "وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ" (3) .
وقد أصاب المؤمنين يوم أحد ويوم حنين ما أصابهم؟
فالجواب:
إن دفع الله يكون بأسباب وأنواع، وعلى وجوه تختلف بحسب الحكمة، ولا تخلو كلها من دفاع، فإن ما يصيب المؤمنين من البلاء في أفرادهم وجماعتهم هو ابتلاء يكسبهم القوة والجلد،
__________
(1) صحيح البخاري (كتاب الإيمان، باب 23- ظلم دون ظلم) وأورد فيه حديثاً عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أينا لم يظلم نفسه؛ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
(2) الوَضَمُ: كل ما يوضع عليه اللحم من خشب أو حصير أو نحو ذلك يوقى به من الأرض (المعجم الوسيط: [ص: 104] ) .
(3) كذا جاء في الأصل المطبوع "قُتل". والصواب "قاتل" كما في الآية الكريمة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} [آل عمران: 146] .
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما ذكره الإمام ابن باديس هي رواية ورش عن نافع، أما ما ذكره المعلق فرواية حفص عن عاصم[/rtl]
[rtl](1/352)[/rtl]
وإن في صبر الصابر منهم وقد نزل به البلاء الذي لا يقدر على دفعه، والظلم الذي لا يقدر على إزالته.- لبعثًا للقوة في نفس غيره ممن يأتسي به، وضعفاً في قلب ظالمه، وفي كليهما دفع من الله عن المؤمنين.
مشاهدة وتوصية:
نعرف في حياتنا مواطن ما نجونا فيها إلاّ بدفع الله، وبطل كيد الكائدين فيها بمحض صنع الله، وقد كنا فيها- فيما نرى- على شيء من العمل لله. فكيف بمن كانت أعمالهم كلها لله؟
وهذه المشاهدة التي شاهدنا- ولا نشك أن من غيرنا من شاهد مثلنا أو أكثر منا- توجب علينا أن نوصي بالإيمان بالله والمحافظة على عهده والثقة به، فإن ذلك يحقق وعد الله بالدفع، وينيل أهله العزة والحفظ.
فعلى المسلم أن يعمل لذلك، ويعتد به ثقة بالله وصادق وعده. والله لا يخلف الميعاد.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]- أكل الحلال والعمل الصالح
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) } [المؤمنون: 51] .
(الطيب) ما صلح واعتدل في نفسه، وسلم من كل ما يفسده ويخرجه عن اعتداله وأصل خلقته، فكان مستلذاً للنفوس، سواء أكان مما يدرك بالسمع، أو بالبصر، أو بالذوق، أو بالشم، أو باللمس، أو بالعقل.
فالطيب هو اللذيذ لذة حسية أو عقلية، ويقابله الخبيث وهو المستقذر حساً أو عقلاً، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . فما أحل الله إلاّ الطيب المستلذ، وما حرم إلاّ الخبيث المستقذر.
فلهذا صار الطيب في لسان الشرع يجيء كثيراً بمعنى الحلال، ويكون ضده الخبيث بمعنى الحرام، ومنه {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي المحللات، فملك غيرك وإن كان مستلذاً في الحس، فإنه ليس طيباً لك شرعاً؛ وذلك لأنه مستقذر من العقل بما فيه عند تناوله بدون إذن صاحبه من التعدي المستقبح في العقل.
وقد يجيء الطيب بمعنى الجيد والخبيث بمعنى الرديء وعليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] .[/rtl]
[rtl](الصالح) هو المستقيم النافع وهو فعل المأمورات وترك المنهيات، وتناول المباحات من حيث أنها مباحات، أو وسائل لفعل المأمورات وترك المنهيات.
للاهتمام بالمأمور به قدمت قبل الأمر جملة النداء، ولأن هذا المأمور به مما يجب عليهم تبليغه نودوا بلفظ الرسل.
ولأن كل واحد منهم أوحى الله إليه بهذا النداء والأمر في زمانه كان النداء والأمر للجميع.
وقد دخل في الجمع عيسى- عليه الصلاة والسلام- الذي كان الحديث عليه في الآية التي قبل هذه وهي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] .
كما دخل في الجمع محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي نزلت عليه هذه الآية.
ولأن المقصود من الأكل- وهو الغذاء واللذة- يحصل ببعض قيل "من الطيب" بـ"من" التبعيضية.
ولما كان المخاطب بأكل الحلال والعمل الصالح شأنه أن تستشرف (1) نفسه لتعيين ثمرة ذلك، جاء الخبر مؤكداً بـ" إنّ" في {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
وعلم الله مستلزم لجزائه للعاملين، فكان كناية عن الجزاء وفي الكناية عن الجزاء بالعلم تفخيم لهذا الجزاء وتعظيم، فهو جزاء الله العليم وكفى به.
التفسير:
خلق الإنسان مركباً من روح وبدن، وإنما بقاء بدنه بالغذاء وإنما كمال روحه بالعمل.
فأمر الله بالأكل لبقاء البدن، واشترط أن يكون من الطيبات، لأنها هي التي تغذي ولا تؤذي، أما الخبائث ففيها الأذى ويتفه أو يعدم منها الغذاء.
وأمر بالعمل الصالح الذي فيه ذكاء للنفس ونفع لها في العاجل والآجل وخير للعباد والبلاد.
وأخبر بعلمه بعمل العاملين؛ ليجتهدوا في العمل ويخلصوا له فيه، وينتظروا جزاءهم من عنده.
والدين كله عمل صالح وتوحيد خالص، وقد انتظمتهما الآية تصريحاً في العمل واستلزاماً في التوحيد، وبين- تعالى- بهذه الآية أن هذا الذي اشتملت عليه هو دين الله لجميع الأمم، أوصى به رسله- صلوات الله وسلامه عليهم- ليبلغوه لخلقه، فهو حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه.
__________
(1) تستشرف: تتطلّع.[/rtl]
[rtl]توجيه الترتيب:
تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل.
فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلها الله كما حرم غلاة المتصوفة اللحم.
وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها كما يفعله متصوفة الهنادك، ومن قلدهم من المنتسبين للإسلام.
والميزان العدل في ذلك هو ما كان عليه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه رضي الله عنهم، وقد بين ذلك أئمة السنة والأثر رحمهم الله، وقد جوده مالك رضي الله عنه فى كتاب الجامع (1) من الموطأ.
وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح تنبيه على أنه هو الذي يثمرها لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن، فتصلح الأعمال، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن، فتفسد الأعمال.
بيان نبوي:
خرج مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «أيها الناس، إن الله تعالى طيب لا يقبل إلاّ طيباً. وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» (2) .
فبين الحديث الشريف أن الله طيب أي منزه عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله، تنعم العقول والأرواح بمعرفته- كما يليق به- ومحبته.
وأنه لا يقبل من الأعمال إلاّ طيباً أي صالحاً في نفسه خالصاً من شوائب المخالفة والرياء والشرك.
وبين أن الشرع عام للرسل وللأمم، ولا يستثنى من هذا إلاّ ما دل الدليل على اختصاصه بالرسل.
وبين أن أكل الحلال هو الذي يثمر قبول الدعاء «الدعاء هو مخ العبادة» (3) ، فإذا رُدّ عليه
__________
(1) وهو الكتاب رقم 45 من الموطأ.
(2) صحيح مسلم (كتاب الزكاة، حديث رقم 65) . وأخرجه أيضاً الترمذي في تفسير سورة البقرة باب 36، والأدب باب 41. والدارمي في الرقاق باب 9. وأحمد في المسند (328/2) .
(3) حديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرجه الترمذي في الدعوات باب 1 حديث رقم 3371 من طريق أنس بن مالك.[/rtl]
[rtl]فقد ردت عليه عبادته، فكان هذا البيان النبوي على مقتضى ما أفاده ترتيب الأمرين في الآية.
تكميل:
في آية الرسل (1) الأمر بالأكل من الطيبات، والأمر بالعمل الصالح، واستلزام الأمر بالإخلاص.
وفي آية المؤمنون (2) الأمر بالأكل من الطيبات والأمر بالشكر، والتصريح بلزوم توحيده تعالى في العبادة، لأن تمامها هكذا: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] .
واقتصر في الحديث على الأمر بالأكل من الطيبات، إما لأن الكلام كان في الحث على أكل الحلال، وإما لأن الراوي اختصر الرواية.
الإهتداء:
على المؤمن أن يتحرى في مأكله ومشربه- وكل ما به قوام ذاته- الحلال الطيب، يمتثل بذلك أمر الله، ويقصد التوصل به إلى العمل الصالح.
وعليه أن يتحرى في فعله وتركه أمر الله ونهيه، حتى يكون عمله عملًا صالحاً طيباً متقبلاً.
يمتثل بذلك أمر الله، ويقصد قبول عبادته ودعائه لديه.
والمتحري للحق والخير جدير بالتوفيق إليه وكثرة إصابته.
رزقنا الله والمسلمين التحري لطاعته، والتوفيق لمرضاته، والتأدب بكتابه آمين.
***
10- الفرار إلى الله
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) } [الذاريات: 47- 50] .
تمهيد:
المقصود الأساسي من الآيات هو تحذير الخلق من الهلاك، وترغيبهم في النجاة، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالفرار إلى الله، فمهد لذلك بالآيات الثلاث الأول للترغيب فيه، وختم بالخامسة لبيان الفرار الصحيح المنجي عند الله.
الآية الأولى:
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}
__________
(1) الآية 51 من سورة المؤمنون.
(2) الآية 72 من سورة البقرة.[/rtl]
[rtl]{السماء} هي الجرم الأعظم الذي أحاط بالأجرام السابحة في الفضاء كلها، وعلا عليها.
{بنيناها} ضممنا أجزاءها بعضها إلى بعض بغاية الدقة والإحكام، فكانت كالقبة فوق الجمع.
{بأيد} بقوة.
{لموسعون} ، لمقتدرون ومطيقون؛ على احتمال أن يكون من الوسع بمعنى القدرة والطاقة، أو لموسعون ومبعدون بين أرجائها على احتمال أن يكون من السعة.
وقدمت السماء، لأنها المشاهد المحسوس الذي تقم به الحجة، وليقع البناء عليها مرتين:
على لفظها وعلى ضميرها، لأن الأصل: وبنينا السماء بنيناها، لتحقيق أنها مبنية، وأن بناءها لم يكن إلاّ من الله القادر الحكيم، ولذلك علق بالفعل قوله: {بأيد} .
والجملة الحالية تدل على أن الإيساع ثابت له عند البناء، فذلك البناء العظيم لم ينقص من قدرته، أو يمنع من توسيعه.
المعنى:
إن هذه القبة التي أحاطت بكم من جميع الأرجاء، نحن بنيناها بقدرتنا ذلك البناء المحكم المتقن، بنيناها ونحن على قوتنا وقدرتنا نقدر على بناء أعظم منها لو شئنا، ونحن على قدرتنا وطاقتنا في إفاضة الخيرات والبركات منها عليكم.
هذا على أنه من الوسع.
أو بنيناها وقد وسعنا أديمها حتى أحاطت بهذه الأجرام السابحة التي منها ما لا يكون معه جرم الكرة الأرضية إلاّ كحمصة فوق مائدة كبيرة.
هذا على أنه من السعة.
تحقيق آية كونية من الآيات القرآنية:
السماء في اللغة هي كل ما علاك؛ فكل ما علا الأرض من سحب وطبقات هواء وكواكب تسبح في الفضاء، وما وراء ذلك من القبة المحيطة الكبرى هو للأرض سماء، وكل هذه متقنة الصنع محكمة الوضع متلاحمة الأجزاء، مرتبط بعضها ببعض ارتباطاً مقدراً بالمسافات المدققة التي لا يكون معها تصادم ولا ارتخاء. ووضعها على هذه الصورة المنظمة المحكمة هو البناء، وعليها كلها ينبغي أن يحمل لفظ الآية المتقدمة.
وقد جاء لفظ السماء في القرآن مراداً به القبة المحيطة في مثل:
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] ، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] .
وجاء مراداً به السحاب في مثل {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف: 11] . فإن[/rtl]
[rtl]المطر ينزل من السحاب لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: 43] .
وجاء مراداً به طبقات الجو في مثل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] . والبرد يتكون في طبقات الجو.
والمتتبع لمواقع لفظة السماء من الكتاب العزيز يتحقق هذا.
***
الآية الثانية:
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} .
{الأرض} هي هذه الكرة التي نعيش عليها.
{فرشناها} بسطناها بزينتها ومنافعها.
{الماهدون} من مهد الشيء وضعه وسواه وهيأه للنوم والجلوس والراحة.
ويجري في تقديم الأرض ما تقدم في تقديم السماء.
ومن يسير على هذا البساط المفروش (1) ، ويطلع على ما هي فيه من أسباب الحياة لكل ما فيه من حيوان لا يتمالك أن ينطق بالمدح والثناء على من هيأ هذه التهيئة، ومهد هذا التمهيد، ولذا قرنت الجملة الأخيرة بالفاء فقيل: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} .
ولا يعني فرش الأرض عن مهدها؛ لأن المهد يتضمن ما حصل فيها من مرافق ومواد وأسباب للعيش على أديمها والتنعم بخيراتها.
المعنى:
إن الأرض التي أنتم متمكنون من الوجود على ظهرها، والسير في مناكبها والانتفاع بخيراتها، نحن فرشناها لكم، وهيأنا لكم أسباب الحياة والسعادة فيها، على أكمل وجه وأنفعه وأبدعه، مما نستحق به منكم الحمد والثناء.
دقيقة كونية في الآية القرآنية:
شأن الفراش أن يكون ما تحته لا يصلح للجلوس والنوم عليه. وما تحت وجه الأرض هو كذلك لا يصلح للحياة فيه؛ فإن تحت القشرة العليا من الأرض، المواد المصهورة، والمياه المعدنية، والأبخرة الحارة، مما تنطق به البراكين المنتشرة على وجه الأرض في أماكن عديدة؛ فكانت القشرة العليا من الأرض مثل الفراش تماماً.
__________
(1) كانت في الأصل: "المفروض" وهو خطأ طباعي.[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]الآية الثالثة:
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
{من كل شيء} من كل جنس من الأجناس.
{خلفنا} كونا.
{زوجين} فردين متباينين، يكمل أحدهما الآخر، في عالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الجماد.
{تذكرون} تذكرون ما أودع في فطرته من المعرفة، لما تنظرون بعقولكم في عجائب الخلق؛ فتدركون ما له جل جلاله من الألوهية والربوبية والوحداينة.
وقدم {من كل شيء} لأن الأشياء هي المستبدل بها، ولبعث الهمم على النظر فيها.
المعنى:
إنا خلقنا الأشياء التي تشاهدونها على الزوجية والتركيب من شيئين متضادين، لتكونوا بحيث يرجى منكم أن تعلموا أن النقص والعجز عَمَّ المخلوقات كلها، لحاجة كل شيء منها إلى ضده، وقصوره بنفسه.
فالقدرة والكمال للخالق وحده، فلا يستحق العبادة سواه، فاعبدوه ووحدوه.
توسع في التذكر:
النظر في الأزواج مُفْضٍ للعلم بما ذكرنا، وللعلم بأن الخلق غير صادر عن طبيعة الأشياء:
فإن النار- مثلا- لا يصدر عنها التبريد والتسخين؛ لأن السبب لا ينتج الضدين.
فالمخلوقات كلها صادرة بطريق الخلق عن فاعل مختار.
وللعلم بوجوه كثيرة من إحاطة علمه، وشمول حكمته، وعموم نعمته.
إذا نظر العاقل في هذه الأزواج وفكر انكشفت له وجوه سر دلائل الربوبية والألوهية والتوحيد، وإذا حصل الانكشاف الأول تبعته انكشافات، فإذا حصل منه التذكر أفضى به إلى تلك الوجوه الكثيرة. ولهذا نزل الفعل منزلة اللازم لا يراد منه إلاّ حصول الحدث.
***
[/b]
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) } [المؤمنون: 51] .
(الطيب) ما صلح واعتدل في نفسه، وسلم من كل ما يفسده ويخرجه عن اعتداله وأصل خلقته، فكان مستلذاً للنفوس، سواء أكان مما يدرك بالسمع، أو بالبصر، أو بالذوق، أو بالشم، أو باللمس، أو بالعقل.
فالطيب هو اللذيذ لذة حسية أو عقلية، ويقابله الخبيث وهو المستقذر حساً أو عقلاً، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . فما أحل الله إلاّ الطيب المستلذ، وما حرم إلاّ الخبيث المستقذر.
فلهذا صار الطيب في لسان الشرع يجيء كثيراً بمعنى الحلال، ويكون ضده الخبيث بمعنى الحرام، ومنه {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي المحللات، فملك غيرك وإن كان مستلذاً في الحس، فإنه ليس طيباً لك شرعاً؛ وذلك لأنه مستقذر من العقل بما فيه عند تناوله بدون إذن صاحبه من التعدي المستقبح في العقل.
وقد يجيء الطيب بمعنى الجيد والخبيث بمعنى الرديء وعليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] .[/rtl]
[rtl](1/353)[/rtl]
للاهتمام بالمأمور به قدمت قبل الأمر جملة النداء، ولأن هذا المأمور به مما يجب عليهم تبليغه نودوا بلفظ الرسل.
ولأن كل واحد منهم أوحى الله إليه بهذا النداء والأمر في زمانه كان النداء والأمر للجميع.
وقد دخل في الجمع عيسى- عليه الصلاة والسلام- الذي كان الحديث عليه في الآية التي قبل هذه وهي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] .
كما دخل في الجمع محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي نزلت عليه هذه الآية.
ولأن المقصود من الأكل- وهو الغذاء واللذة- يحصل ببعض قيل "من الطيب" بـ"من" التبعيضية.
ولما كان المخاطب بأكل الحلال والعمل الصالح شأنه أن تستشرف (1) نفسه لتعيين ثمرة ذلك، جاء الخبر مؤكداً بـ" إنّ" في {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
وعلم الله مستلزم لجزائه للعاملين، فكان كناية عن الجزاء وفي الكناية عن الجزاء بالعلم تفخيم لهذا الجزاء وتعظيم، فهو جزاء الله العليم وكفى به.
التفسير:
خلق الإنسان مركباً من روح وبدن، وإنما بقاء بدنه بالغذاء وإنما كمال روحه بالعمل.
فأمر الله بالأكل لبقاء البدن، واشترط أن يكون من الطيبات، لأنها هي التي تغذي ولا تؤذي، أما الخبائث ففيها الأذى ويتفه أو يعدم منها الغذاء.
وأمر بالعمل الصالح الذي فيه ذكاء للنفس ونفع لها في العاجل والآجل وخير للعباد والبلاد.
وأخبر بعلمه بعمل العاملين؛ ليجتهدوا في العمل ويخلصوا له فيه، وينتظروا جزاءهم من عنده.
والدين كله عمل صالح وتوحيد خالص، وقد انتظمتهما الآية تصريحاً في العمل واستلزاماً في التوحيد، وبين- تعالى- بهذه الآية أن هذا الذي اشتملت عليه هو دين الله لجميع الأمم، أوصى به رسله- صلوات الله وسلامه عليهم- ليبلغوه لخلقه، فهو حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه.
__________
(1) تستشرف: تتطلّع.[/rtl]
[rtl](1/354)[/rtl]
تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل.
فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلها الله كما حرم غلاة المتصوفة اللحم.
وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها كما يفعله متصوفة الهنادك، ومن قلدهم من المنتسبين للإسلام.
والميزان العدل في ذلك هو ما كان عليه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه رضي الله عنهم، وقد بين ذلك أئمة السنة والأثر رحمهم الله، وقد جوده مالك رضي الله عنه فى كتاب الجامع (1) من الموطأ.
وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح تنبيه على أنه هو الذي يثمرها لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن، فتصلح الأعمال، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن، فتفسد الأعمال.
بيان نبوي:
خرج مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «أيها الناس، إن الله تعالى طيب لا يقبل إلاّ طيباً. وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» (2) .
فبين الحديث الشريف أن الله طيب أي منزه عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله، تنعم العقول والأرواح بمعرفته- كما يليق به- ومحبته.
وأنه لا يقبل من الأعمال إلاّ طيباً أي صالحاً في نفسه خالصاً من شوائب المخالفة والرياء والشرك.
وبين أن الشرع عام للرسل وللأمم، ولا يستثنى من هذا إلاّ ما دل الدليل على اختصاصه بالرسل.
وبين أن أكل الحلال هو الذي يثمر قبول الدعاء «الدعاء هو مخ العبادة» (3) ، فإذا رُدّ عليه
__________
(1) وهو الكتاب رقم 45 من الموطأ.
(2) صحيح مسلم (كتاب الزكاة، حديث رقم 65) . وأخرجه أيضاً الترمذي في تفسير سورة البقرة باب 36، والأدب باب 41. والدارمي في الرقاق باب 9. وأحمد في المسند (328/2) .
(3) حديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرجه الترمذي في الدعوات باب 1 حديث رقم 3371 من طريق أنس بن مالك.[/rtl]
[rtl](1/355)[/rtl]
تكميل:
في آية الرسل (1) الأمر بالأكل من الطيبات، والأمر بالعمل الصالح، واستلزام الأمر بالإخلاص.
وفي آية المؤمنون (2) الأمر بالأكل من الطيبات والأمر بالشكر، والتصريح بلزوم توحيده تعالى في العبادة، لأن تمامها هكذا: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] .
واقتصر في الحديث على الأمر بالأكل من الطيبات، إما لأن الكلام كان في الحث على أكل الحلال، وإما لأن الراوي اختصر الرواية.
الإهتداء:
على المؤمن أن يتحرى في مأكله ومشربه- وكل ما به قوام ذاته- الحلال الطيب، يمتثل بذلك أمر الله، ويقصد التوصل به إلى العمل الصالح.
وعليه أن يتحرى في فعله وتركه أمر الله ونهيه، حتى يكون عمله عملًا صالحاً طيباً متقبلاً.
يمتثل بذلك أمر الله، ويقصد قبول عبادته ودعائه لديه.
والمتحري للحق والخير جدير بالتوفيق إليه وكثرة إصابته.
رزقنا الله والمسلمين التحري لطاعته، والتوفيق لمرضاته، والتأدب بكتابه آمين.
***
10- الفرار إلى الله
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) } [الذاريات: 47- 50] .
تمهيد:
المقصود الأساسي من الآيات هو تحذير الخلق من الهلاك، وترغيبهم في النجاة، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالفرار إلى الله، فمهد لذلك بالآيات الثلاث الأول للترغيب فيه، وختم بالخامسة لبيان الفرار الصحيح المنجي عند الله.
الآية الأولى:
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}
__________
(1) الآية 51 من سورة المؤمنون.
(2) الآية 72 من سورة البقرة.[/rtl]
[rtl](1/356)[/rtl]
{بنيناها} ضممنا أجزاءها بعضها إلى بعض بغاية الدقة والإحكام، فكانت كالقبة فوق الجمع.
{بأيد} بقوة.
{لموسعون} ، لمقتدرون ومطيقون؛ على احتمال أن يكون من الوسع بمعنى القدرة والطاقة، أو لموسعون ومبعدون بين أرجائها على احتمال أن يكون من السعة.
وقدمت السماء، لأنها المشاهد المحسوس الذي تقم به الحجة، وليقع البناء عليها مرتين:
على لفظها وعلى ضميرها، لأن الأصل: وبنينا السماء بنيناها، لتحقيق أنها مبنية، وأن بناءها لم يكن إلاّ من الله القادر الحكيم، ولذلك علق بالفعل قوله: {بأيد} .
والجملة الحالية تدل على أن الإيساع ثابت له عند البناء، فذلك البناء العظيم لم ينقص من قدرته، أو يمنع من توسيعه.
المعنى:
إن هذه القبة التي أحاطت بكم من جميع الأرجاء، نحن بنيناها بقدرتنا ذلك البناء المحكم المتقن، بنيناها ونحن على قوتنا وقدرتنا نقدر على بناء أعظم منها لو شئنا، ونحن على قدرتنا وطاقتنا في إفاضة الخيرات والبركات منها عليكم.
هذا على أنه من الوسع.
أو بنيناها وقد وسعنا أديمها حتى أحاطت بهذه الأجرام السابحة التي منها ما لا يكون معه جرم الكرة الأرضية إلاّ كحمصة فوق مائدة كبيرة.
هذا على أنه من السعة.
تحقيق آية كونية من الآيات القرآنية:
السماء في اللغة هي كل ما علاك؛ فكل ما علا الأرض من سحب وطبقات هواء وكواكب تسبح في الفضاء، وما وراء ذلك من القبة المحيطة الكبرى هو للأرض سماء، وكل هذه متقنة الصنع محكمة الوضع متلاحمة الأجزاء، مرتبط بعضها ببعض ارتباطاً مقدراً بالمسافات المدققة التي لا يكون معها تصادم ولا ارتخاء. ووضعها على هذه الصورة المنظمة المحكمة هو البناء، وعليها كلها ينبغي أن يحمل لفظ الآية المتقدمة.
وقد جاء لفظ السماء في القرآن مراداً به القبة المحيطة في مثل:
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] ، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] .
وجاء مراداً به السحاب في مثل {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف: 11] . فإن[/rtl]
[rtl](1/357)[/rtl]
وجاء مراداً به طبقات الجو في مثل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] . والبرد يتكون في طبقات الجو.
والمتتبع لمواقع لفظة السماء من الكتاب العزيز يتحقق هذا.
***
الآية الثانية:
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} .
{الأرض} هي هذه الكرة التي نعيش عليها.
{فرشناها} بسطناها بزينتها ومنافعها.
{الماهدون} من مهد الشيء وضعه وسواه وهيأه للنوم والجلوس والراحة.
ويجري في تقديم الأرض ما تقدم في تقديم السماء.
ومن يسير على هذا البساط المفروش (1) ، ويطلع على ما هي فيه من أسباب الحياة لكل ما فيه من حيوان لا يتمالك أن ينطق بالمدح والثناء على من هيأ هذه التهيئة، ومهد هذا التمهيد، ولذا قرنت الجملة الأخيرة بالفاء فقيل: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} .
ولا يعني فرش الأرض عن مهدها؛ لأن المهد يتضمن ما حصل فيها من مرافق ومواد وأسباب للعيش على أديمها والتنعم بخيراتها.
المعنى:
إن الأرض التي أنتم متمكنون من الوجود على ظهرها، والسير في مناكبها والانتفاع بخيراتها، نحن فرشناها لكم، وهيأنا لكم أسباب الحياة والسعادة فيها، على أكمل وجه وأنفعه وأبدعه، مما نستحق به منكم الحمد والثناء.
دقيقة كونية في الآية القرآنية:
شأن الفراش أن يكون ما تحته لا يصلح للجلوس والنوم عليه. وما تحت وجه الأرض هو كذلك لا يصلح للحياة فيه؛ فإن تحت القشرة العليا من الأرض، المواد المصهورة، والمياه المعدنية، والأبخرة الحارة، مما تنطق به البراكين المنتشرة على وجه الأرض في أماكن عديدة؛ فكانت القشرة العليا من الأرض مثل الفراش تماماً.
__________
(1) كانت في الأصل: "المفروض" وهو خطأ طباعي.[/rtl]
[rtl](1/358)[/rtl]
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
{من كل شيء} من كل جنس من الأجناس.
{خلفنا} كونا.
{زوجين} فردين متباينين، يكمل أحدهما الآخر، في عالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الجماد.
{تذكرون} تذكرون ما أودع في فطرته من المعرفة، لما تنظرون بعقولكم في عجائب الخلق؛ فتدركون ما له جل جلاله من الألوهية والربوبية والوحداينة.
وقدم {من كل شيء} لأن الأشياء هي المستبدل بها، ولبعث الهمم على النظر فيها.
المعنى:
إنا خلقنا الأشياء التي تشاهدونها على الزوجية والتركيب من شيئين متضادين، لتكونوا بحيث يرجى منكم أن تعلموا أن النقص والعجز عَمَّ المخلوقات كلها، لحاجة كل شيء منها إلى ضده، وقصوره بنفسه.
فالقدرة والكمال للخالق وحده، فلا يستحق العبادة سواه، فاعبدوه ووحدوه.
توسع في التذكر:
النظر في الأزواج مُفْضٍ للعلم بما ذكرنا، وللعلم بأن الخلق غير صادر عن طبيعة الأشياء:
فإن النار- مثلا- لا يصدر عنها التبريد والتسخين؛ لأن السبب لا ينتج الضدين.
فالمخلوقات كلها صادرة بطريق الخلق عن فاعل مختار.
وللعلم بوجوه كثيرة من إحاطة علمه، وشمول حكمته، وعموم نعمته.
إذا نظر العاقل في هذه الأزواج وفكر انكشفت له وجوه سر دلائل الربوبية والألوهية والتوحيد، وإذا حصل الانكشاف الأول تبعته انكشافات، فإذا حصل منه التذكر أفضى به إلى تلك الوجوه الكثيرة. ولهذا نزل الفعل منزلة اللازم لا يراد منه إلاّ حصول الحدث.
***
[/b]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]آية كونية في الآية القرآنية:
من الأزواج ما هو ظاهر مشاهد معلوم من قديم مثل السماء والأرض، والليل والنهار، والحر والبرد، والذكر والأنثى في الحيوان وبعض النبات.
ومنها ما كشفه العلم بما مهد الله له من أسباب كالجزء الموجب والجزء السالب في القوة الكهربائية وفي الذرة التي هي أصل التكوين، فلا فردية إلاّ لخالق هذه الأزواج كلها، الذي أنبأنا[/rtl]
[rtl]بها قبل أن تصل إلى تمام معرفتها العقول، فكان من معجزات القرآن العلمية التي يفسرها الزمان بتقدم الإنسان في العلم والعمران.
لما كانت السماء متلاحمة الأجزاء في العلاء، ثابتة على حالة مستمرة في هذه الدنيا على البقاء، ناسبها لفظ البناء.
ولما كانت مظهر العظمة (1) والجلال، ناسبها لفظ القوة (2) .
ولما كانت الأرض يطرأ عليها التبديل والتغيير بما ينقص البحر من أطرافها، وبما قد يتحول من سهولها وجبالها، وبما يتعاقب عليها من حرث وغراسة وخصب وجدب، ناسبها لفظ الفراش الذي يبسط ويطوى، ويبدل ويغير.
ولما كانت أسباب الانتفاع بها الميسرة ضرورية للحياة عليها وكلها مهيأة، وكثير منها مشاهد، وغيره معد يتوصل إليه بالبحث والاستنباط ناسب ذكر التمهيد.
ولما كانت الأزواج مكونًا بعضها من بعض ناسبها لفظ الخلق.
ولما كان النظر في الزوجين هو نظر في أساس التكوين لتلك المذكورات السابقة- وهو محصل للعلم الذي يحصل من النظر فيها- قرن بلفظ التذكر.
***
الآية الرابعة:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
(الفاء) للترتيب، لأن ما قبلها على ما فيه من عظمة وكمال وجمال، فهي مخلوقة موسومة بسمة العجز والنقصان، فلا يصلح شيء منها للتعويل عليه، فلم يبق إلاّ الخالق القادر ذو الجلال والإكرام، فهو الذي يفر إليه دون جميع المخلوقات.
(فروا) اهربوا. (النذير) المعلم بما فيه هلاك لتجنب الأسباب المؤدية إليه.
(المبين) الذين يوضح ما أنذر منه والأسباب المؤدية إليه، والوسائل المنجية منه، مع إقامة الحجة على صدقه ونصحه.
وقدم {لكم} ليفيد اهتمامه بهم، وذلك ليجلبهم إليه فيستمعوا لنصحه، وبعده {منه} ليبين مصدر رسالته، وذلك ليبين لهم أنه مأمور، فلا يستكبروا عن قبول دعوته.
وأكد الجملة (3) لأنهم في مقام التردد أو الإنكار.
__________
(1) كانت في الأصل: "معظمة" وهو خطأ طباعي.
(2) المستفاد من قوله تعالى: {بِأَيْدٍ} .
(3) بلفظة: "إنّي".[/rtl]
[rtl]المعنى:
هذه المخلوقات كلها عاجزة في نفسها مفتقرة- ابتداء ودواماً- إلى خالقها، فاهربوا من شرها إلى خالقها، فهو الذي ينجيكم من شرها ويهديكم إلى خيرها، ولا تغتروا بشيء منها، فإنها لاتملك حفظاً لنفسها فكيف تملكه لغيرها.
إنني أحذركم الهلاك إذا اغتررتم بها، وقطعتكم عن خالقها ولم تهربوا إلى الله منها، وقد أبنت لكم مصدر الهلاك وطريق النجاة.
نكتة التنويع:
جاءت الثلاث آيات الأول كما يكون قولها من الله.
وجاءت هذه الآية كما يكون قولها من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنويعاً للخطاب وتفنناً، فإنه لما كان في هذه الآية، هو المقصود حول أسلوب الكلام من الإخبار إلى الأمر؛ تجديداً لنشاط [[السامع]] ، وبعثاً لاهتمام المخاطبين، وحَثًّا لهم وتوكيداً عليهم.
وفيه تنبيه على أن ما يقوله النبي- صلى اله عليه وآله وسلم- مثل ما يقوله الله في وجوب الإيمان والامتثال.
بيان وتوحيد:
هذا العالم بسمائه وأرضه وأزواجه، هو فتنة للإنسان بما فيه من لذائذ ومن جمال، وما فيه من قوة وما فيه من سلطان.
وقد ركبت في الإنسان شهواته وأهواؤه، وسلط عليه الشيطان يغويه ويزين له.
فكل هذا العالم إذا ذهب فيه الإنسان مع أهوائه وشهواته تحت إغواء الشيطان وتزيينه، فإنه يحط إلى أسفل سافلين، ويصير عبداً لأهوائه وشهواته وشيطانه، ولكل ما فتنه من العالم وذهب بلبه، وقد ينتهي به ذلك إلى عبادته من دون خالقه.
فالعالم بهذا الاعتبار شر وبلاء وهلاك يجب الفرار والهروب منه، ولا يكون هذا الفرار منه إلاّ إلى خالقه بالإيمان به، والتصديق لرسله، والدخول تحت شرعه، فبذلك يعرف الإنسان كيف يجعل حداً لأهوائه وشهواته، وكيف يضبطها بنطاق الشرع وزمامه، وكيف يدفع عنه كيد شيطانه، وكيف يتناول سماء العالم وأرضه وأزواجه بيد الشرع، فيعرف ما فيها من نعمة وحكمة، فيستغلها بهداية الشرع مفرقاً علمياً وعملياً بين منافعها ومضارها، فيعظم بها انتفاعه ويزداد فيها اطلاعه واكتشافه، فتتضاعف عليه منها الخيرات والبركات، ويزداد علمه وعرفانه، ويقوى يقينه وإيمانه، ويعظم لله بره وشكرانه.
فيكون له ذلك العالم جنة الدنيا، وقنطرة لجنة الأخرى، ويفوز من الدارين بالمبتغى. كل هذا بفراره من المخلوقات إلى خالقها، فسلم من شرها، وفاز بخيرها.[/rtl]
[rtl]فمن هرب من المخلوقات إلى خالقها نجا، ومن فر من الخالق إلى شيء من مخلوقاته كان من الهالكين.
إرشاد وتعميم:
كل ما يصيب الإنسان من محن الدنيا ومصائبها وأمراضها وخصوماتها ومن جميع بلائها، لا ينجيه من شيء منه إلاّ فراره إلى الله.
ففي العدالة الشرعية ما يقطع كل نزاع، وفي المواعظ الدينية ما يهون كل مصاب، وفي الهداية القرآنية والسيرة النبوية ما ينير كل سبيل من سبل النجاة والسعادة في الحياة.
يعرف ذلك الفقهاء القرآنيون السنيون.
واسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
تنبيه على وهم:
ليس الفرار من الأمراض بمعالجتها ومن المصائب بمقاومتها فراراً من الله؛ لأن الأمراض هو قدّرها والأدوية هو وضعها، ودعا إلى استعمالها، والتعالج بها.
وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مقاومتها، فكلها منه بقدره، والإنسان مأمور منه بأن يعالج ويقاوم، فما فر من قدره إلاّ إلى قدره.
ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر- رضي الله عنهما- في قصة الوباء: "أفراراً من قدر الله يا عمر؟
قال عمر: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله" (1) وفي الحقيقة كان الفرار من شر في مخلوق إلى الله يرجو منه الخير في غيره.
تحذير من جهالة:
ليس المقصود بالفرار من الدنيا ترك السعي والعمل، وتعاطي الأسباب المشروعة لتحصيل القوت، ورغد العيش، وتوسيع العمران، وتشييد المدنية.
بل المقصود الفرار من شرورها وفتنتها، وتناول ذلك كله على الوجه المشروع هو من الفرار إليه، والدخول تحت شرعه كما قدمناه.
وقد ضل قوم فزعموا ذلك طاعة وعبادة، فعطلوا الأسباب، وخالفوا الشريعة، وحادوا عما ثبت من السنة، وفيهم سئل إمام الحديث والسنة أحمد بن حنبل رحمه الله؛ سئل عن القائل: أجلس لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي؛ فقال: "هذا رجل جهل العلم: أما سمع قول النبي-
__________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه مالك في الموطأ (كتاب الجامع باب ما جاء في الطاعون، حديث 22) والبخاري في الطب باب 30، ومسلم في السلام حديث 98.[/rtl]
[rtl]صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي» " (1) "؛ وقوله: «تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (3) .
وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم وبهم القدوة.
تطبيق:
إذا رأينا طائفتين من المؤمنين تنازعتا فأما إحداهما فالتجأت إلى السلطان تستغيثه، وتستعين به، وتحطب في حبله، فأغاثها وانتقم لها، وأمدها وقربها وأدناها.
وأما الأخرى فلم تستغث إلاّ بالله ولم تستنصر إلاّ به، ولم تعتمد إلاّ عليه، ولم تعمل إلاّ فيما يرضيه من نشر هداية الإسلام، وما فيها من خير عام لجميع الأنام، وتحملت في سبيل ذلك كل ما تسببت لها فيه الطائفة الأخرى ومن تولته وهربت إليه.
إذا رأينا هاتين الطائفتين عرفنا منهما- يقيناً- الفارة من الله، والفارة إليه؛ فكنا- إن كنا مؤمنين- مع من فر إلى الله.
الآية الخامسة:
{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{ولا تجعلوا} ولا تضعوا من عند أنفسكم ما لا وجود له.
{إلها} معبوداً تخضعون له، وترجون منه التصرف في الكون، ليجلب لكم النفع ويدفع عنكم الضر. وتقدمت ألفاظ ما بَعْدُ في الآية السابقة.
المعنى:
ولا تجعلوا في فراركم إلى الله شيئاً معه من مخلوقات تعتمدون عليه، وتلتجئون إليه، فتكونوا قد أشركتم به سواه. فإنني أحذركم ما في ذلكم من هلاككم بالشرك الذي لا يقبل الله معه من عمل، وإنني قد أبنت لكم لزوم توحيده في الفرار إليه، كما بينت لكم لزوم ذلك الفرار.
أعاد {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} مع الآية الخامسة، ليبين لهم أن عبادة الله مع الإشراك به كتعطيل عبادته؛ فهلاك المشرك كهلاك الجاحد، والنجاة أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا لا في ربوبيته ولا في ألوهيته.
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد باب 88، وأحمد في المسند (2/ 50) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلّة والصغار على من خالف أمري؛ ومن تشبّهَ بقع فهو منهم» .
(2) رواه الترمذي في الزهد باب 33، وابن ماجة في الزهد باب 14، وأحمد في المسند (1/ 30، 52) من حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانًا» .[/rtl]
[rtl]تنبيه وتحذير:
جاء في الحديث فيما رواه أصحاب السنن: "أن الدعاء هو العبادة" (1) ، فمن دعا غير الله فقد عبده ومن دعا مخلوقاً مع الخالق فقد أشرك.
فإذا دعوت فادع ربك ولا تدع معه أحداً.
وكيف تدعو من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟!
وإذا توسلت فتوسل بأعمالك بإيمانك وتوحيدك، وباتباعك لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ومحبتك فيه، واعتقادك ما له عند الله من عظيم المنزلة وسمو المقام عليه وعلى آله الصلاة وا لسلام.
بيان نبوي قولي:
قال عليه الصلاة والسلام فيما يقال عند النوم:
«لا ملجأ ولا منجى منك إلاّ إليك» (2) .
والملجأ هو المهرب الذي يهرب إليه، والمنجى هو مكان النجاة؛ فبين لنا أنه لا يكون الهرب إلاّ إلى الله، ولا تكون النجاة إلاّ بالهرب إليه، فمن هرب لغيره كان من الهالكين.
كما بين لنا أن كل ما يجري في هذا العالم، فهو بخلقه بقدره؛ فلا مهرب ولا نجاة مما خلق وقدر إلاّ إليه.
بيان نبوي عملي:
روى أحمد وابن جرير عن حذيفة بن اليمان، أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان إذا حزبه أمر صلى وفزع للصلاة (3) ؛ يعني إذا نزل به مهم أو أصابه غم فزع للصلاة.
فبين لنا بالفعل أن الفرار إلى الله بالتلبس بطاعته، وصدق التوجه إليه والدعاء والتضرع والخشوع له، والاستسلام لدينه وشرعه والإخلاص في عبادته والاعتماد عليه.
وذلك كله موجود على أكمله في الصلاة التي هي عمود الدين، ومظهر كماله.
جعلنا الله والمسلمين من الفارين إليه والمقبولين لديه. آمين.
__________
(1) رواه من حديث النعمان بن بشير الترمذي في تفسير سورة البقرة باب 16، وابن ماجة في الدعاء باب 1، وأحمد في المسند (4/ 267، 271، 276) .
(2) رواه من حديث البراء بن عازب البخاري في الوضوء باب 75، والدعوات باب 6 و7 و 9، والتوحيد باب 34. ومسلم في الذكر حديث 56 و57. وأبو داود في الأدب باب 98. والترمذي في الدعاء باب 16 و32 و116. وابن ماجة في الدعاء باب 15. والدارمي في الاستثذان باب 51. وأحمد في المسند (285/4، 290، 292، 296، 299، 300، 302) .
(3) أخرجه أحمد في المسند (388/5) .[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"](1/364)[/b]
من الأزواج ما هو ظاهر مشاهد معلوم من قديم مثل السماء والأرض، والليل والنهار، والحر والبرد، والذكر والأنثى في الحيوان وبعض النبات.
ومنها ما كشفه العلم بما مهد الله له من أسباب كالجزء الموجب والجزء السالب في القوة الكهربائية وفي الذرة التي هي أصل التكوين، فلا فردية إلاّ لخالق هذه الأزواج كلها، الذي أنبأنا[/rtl]
[rtl](1/359)[/rtl]
لما كانت السماء متلاحمة الأجزاء في العلاء، ثابتة على حالة مستمرة في هذه الدنيا على البقاء، ناسبها لفظ البناء.
ولما كانت مظهر العظمة (1) والجلال، ناسبها لفظ القوة (2) .
ولما كانت الأرض يطرأ عليها التبديل والتغيير بما ينقص البحر من أطرافها، وبما قد يتحول من سهولها وجبالها، وبما يتعاقب عليها من حرث وغراسة وخصب وجدب، ناسبها لفظ الفراش الذي يبسط ويطوى، ويبدل ويغير.
ولما كانت أسباب الانتفاع بها الميسرة ضرورية للحياة عليها وكلها مهيأة، وكثير منها مشاهد، وغيره معد يتوصل إليه بالبحث والاستنباط ناسب ذكر التمهيد.
ولما كانت الأزواج مكونًا بعضها من بعض ناسبها لفظ الخلق.
ولما كان النظر في الزوجين هو نظر في أساس التكوين لتلك المذكورات السابقة- وهو محصل للعلم الذي يحصل من النظر فيها- قرن بلفظ التذكر.
***
الآية الرابعة:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
(الفاء) للترتيب، لأن ما قبلها على ما فيه من عظمة وكمال وجمال، فهي مخلوقة موسومة بسمة العجز والنقصان، فلا يصلح شيء منها للتعويل عليه، فلم يبق إلاّ الخالق القادر ذو الجلال والإكرام، فهو الذي يفر إليه دون جميع المخلوقات.
(فروا) اهربوا. (النذير) المعلم بما فيه هلاك لتجنب الأسباب المؤدية إليه.
(المبين) الذين يوضح ما أنذر منه والأسباب المؤدية إليه، والوسائل المنجية منه، مع إقامة الحجة على صدقه ونصحه.
وقدم {لكم} ليفيد اهتمامه بهم، وذلك ليجلبهم إليه فيستمعوا لنصحه، وبعده {منه} ليبين مصدر رسالته، وذلك ليبين لهم أنه مأمور، فلا يستكبروا عن قبول دعوته.
وأكد الجملة (3) لأنهم في مقام التردد أو الإنكار.
__________
(1) كانت في الأصل: "معظمة" وهو خطأ طباعي.
(2) المستفاد من قوله تعالى: {بِأَيْدٍ} .
(3) بلفظة: "إنّي".[/rtl]
[rtl](1/360)[/rtl]
هذه المخلوقات كلها عاجزة في نفسها مفتقرة- ابتداء ودواماً- إلى خالقها، فاهربوا من شرها إلى خالقها، فهو الذي ينجيكم من شرها ويهديكم إلى خيرها، ولا تغتروا بشيء منها، فإنها لاتملك حفظاً لنفسها فكيف تملكه لغيرها.
إنني أحذركم الهلاك إذا اغتررتم بها، وقطعتكم عن خالقها ولم تهربوا إلى الله منها، وقد أبنت لكم مصدر الهلاك وطريق النجاة.
نكتة التنويع:
جاءت الثلاث آيات الأول كما يكون قولها من الله.
وجاءت هذه الآية كما يكون قولها من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنويعاً للخطاب وتفنناً، فإنه لما كان في هذه الآية، هو المقصود حول أسلوب الكلام من الإخبار إلى الأمر؛ تجديداً لنشاط [[السامع]] ، وبعثاً لاهتمام المخاطبين، وحَثًّا لهم وتوكيداً عليهم.
وفيه تنبيه على أن ما يقوله النبي- صلى اله عليه وآله وسلم- مثل ما يقوله الله في وجوب الإيمان والامتثال.
بيان وتوحيد:
هذا العالم بسمائه وأرضه وأزواجه، هو فتنة للإنسان بما فيه من لذائذ ومن جمال، وما فيه من قوة وما فيه من سلطان.
وقد ركبت في الإنسان شهواته وأهواؤه، وسلط عليه الشيطان يغويه ويزين له.
فكل هذا العالم إذا ذهب فيه الإنسان مع أهوائه وشهواته تحت إغواء الشيطان وتزيينه، فإنه يحط إلى أسفل سافلين، ويصير عبداً لأهوائه وشهواته وشيطانه، ولكل ما فتنه من العالم وذهب بلبه، وقد ينتهي به ذلك إلى عبادته من دون خالقه.
فالعالم بهذا الاعتبار شر وبلاء وهلاك يجب الفرار والهروب منه، ولا يكون هذا الفرار منه إلاّ إلى خالقه بالإيمان به، والتصديق لرسله، والدخول تحت شرعه، فبذلك يعرف الإنسان كيف يجعل حداً لأهوائه وشهواته، وكيف يضبطها بنطاق الشرع وزمامه، وكيف يدفع عنه كيد شيطانه، وكيف يتناول سماء العالم وأرضه وأزواجه بيد الشرع، فيعرف ما فيها من نعمة وحكمة، فيستغلها بهداية الشرع مفرقاً علمياً وعملياً بين منافعها ومضارها، فيعظم بها انتفاعه ويزداد فيها اطلاعه واكتشافه، فتتضاعف عليه منها الخيرات والبركات، ويزداد علمه وعرفانه، ويقوى يقينه وإيمانه، ويعظم لله بره وشكرانه.
فيكون له ذلك العالم جنة الدنيا، وقنطرة لجنة الأخرى، ويفوز من الدارين بالمبتغى. كل هذا بفراره من المخلوقات إلى خالقها، فسلم من شرها، وفاز بخيرها.[/rtl]
[rtl](1/361)[/rtl]
إرشاد وتعميم:
كل ما يصيب الإنسان من محن الدنيا ومصائبها وأمراضها وخصوماتها ومن جميع بلائها، لا ينجيه من شيء منه إلاّ فراره إلى الله.
ففي العدالة الشرعية ما يقطع كل نزاع، وفي المواعظ الدينية ما يهون كل مصاب، وفي الهداية القرآنية والسيرة النبوية ما ينير كل سبيل من سبل النجاة والسعادة في الحياة.
يعرف ذلك الفقهاء القرآنيون السنيون.
واسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
تنبيه على وهم:
ليس الفرار من الأمراض بمعالجتها ومن المصائب بمقاومتها فراراً من الله؛ لأن الأمراض هو قدّرها والأدوية هو وضعها، ودعا إلى استعمالها، والتعالج بها.
وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مقاومتها، فكلها منه بقدره، والإنسان مأمور منه بأن يعالج ويقاوم، فما فر من قدره إلاّ إلى قدره.
ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر- رضي الله عنهما- في قصة الوباء: "أفراراً من قدر الله يا عمر؟
قال عمر: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله" (1) وفي الحقيقة كان الفرار من شر في مخلوق إلى الله يرجو منه الخير في غيره.
تحذير من جهالة:
ليس المقصود بالفرار من الدنيا ترك السعي والعمل، وتعاطي الأسباب المشروعة لتحصيل القوت، ورغد العيش، وتوسيع العمران، وتشييد المدنية.
بل المقصود الفرار من شرورها وفتنتها، وتناول ذلك كله على الوجه المشروع هو من الفرار إليه، والدخول تحت شرعه كما قدمناه.
وقد ضل قوم فزعموا ذلك طاعة وعبادة، فعطلوا الأسباب، وخالفوا الشريعة، وحادوا عما ثبت من السنة، وفيهم سئل إمام الحديث والسنة أحمد بن حنبل رحمه الله؛ سئل عن القائل: أجلس لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي؛ فقال: "هذا رجل جهل العلم: أما سمع قول النبي-
__________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه مالك في الموطأ (كتاب الجامع باب ما جاء في الطاعون، حديث 22) والبخاري في الطب باب 30، ومسلم في السلام حديث 98.[/rtl]
[rtl](1/362)[/rtl]
وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم وبهم القدوة.
تطبيق:
إذا رأينا طائفتين من المؤمنين تنازعتا فأما إحداهما فالتجأت إلى السلطان تستغيثه، وتستعين به، وتحطب في حبله، فأغاثها وانتقم لها، وأمدها وقربها وأدناها.
وأما الأخرى فلم تستغث إلاّ بالله ولم تستنصر إلاّ به، ولم تعتمد إلاّ عليه، ولم تعمل إلاّ فيما يرضيه من نشر هداية الإسلام، وما فيها من خير عام لجميع الأنام، وتحملت في سبيل ذلك كل ما تسببت لها فيه الطائفة الأخرى ومن تولته وهربت إليه.
إذا رأينا هاتين الطائفتين عرفنا منهما- يقيناً- الفارة من الله، والفارة إليه؛ فكنا- إن كنا مؤمنين- مع من فر إلى الله.
الآية الخامسة:
{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{ولا تجعلوا} ولا تضعوا من عند أنفسكم ما لا وجود له.
{إلها} معبوداً تخضعون له، وترجون منه التصرف في الكون، ليجلب لكم النفع ويدفع عنكم الضر. وتقدمت ألفاظ ما بَعْدُ في الآية السابقة.
المعنى:
ولا تجعلوا في فراركم إلى الله شيئاً معه من مخلوقات تعتمدون عليه، وتلتجئون إليه، فتكونوا قد أشركتم به سواه. فإنني أحذركم ما في ذلكم من هلاككم بالشرك الذي لا يقبل الله معه من عمل، وإنني قد أبنت لكم لزوم توحيده في الفرار إليه، كما بينت لكم لزوم ذلك الفرار.
أعاد {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} مع الآية الخامسة، ليبين لهم أن عبادة الله مع الإشراك به كتعطيل عبادته؛ فهلاك المشرك كهلاك الجاحد، والنجاة أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا لا في ربوبيته ولا في ألوهيته.
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد باب 88، وأحمد في المسند (2/ 50) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلّة والصغار على من خالف أمري؛ ومن تشبّهَ بقع فهو منهم» .
(2) رواه الترمذي في الزهد باب 33، وابن ماجة في الزهد باب 14، وأحمد في المسند (1/ 30، 52) من حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانًا» .[/rtl]
[rtl](1/363)[/rtl]
جاء في الحديث فيما رواه أصحاب السنن: "أن الدعاء هو العبادة" (1) ، فمن دعا غير الله فقد عبده ومن دعا مخلوقاً مع الخالق فقد أشرك.
فإذا دعوت فادع ربك ولا تدع معه أحداً.
وكيف تدعو من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟!
وإذا توسلت فتوسل بأعمالك بإيمانك وتوحيدك، وباتباعك لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ومحبتك فيه، واعتقادك ما له عند الله من عظيم المنزلة وسمو المقام عليه وعلى آله الصلاة وا لسلام.
بيان نبوي قولي:
قال عليه الصلاة والسلام فيما يقال عند النوم:
«لا ملجأ ولا منجى منك إلاّ إليك» (2) .
والملجأ هو المهرب الذي يهرب إليه، والمنجى هو مكان النجاة؛ فبين لنا أنه لا يكون الهرب إلاّ إلى الله، ولا تكون النجاة إلاّ بالهرب إليه، فمن هرب لغيره كان من الهالكين.
كما بين لنا أن كل ما يجري في هذا العالم، فهو بخلقه بقدره؛ فلا مهرب ولا نجاة مما خلق وقدر إلاّ إليه.
بيان نبوي عملي:
روى أحمد وابن جرير عن حذيفة بن اليمان، أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان إذا حزبه أمر صلى وفزع للصلاة (3) ؛ يعني إذا نزل به مهم أو أصابه غم فزع للصلاة.
فبين لنا بالفعل أن الفرار إلى الله بالتلبس بطاعته، وصدق التوجه إليه والدعاء والتضرع والخشوع له، والاستسلام لدينه وشرعه والإخلاص في عبادته والاعتماد عليه.
وذلك كله موجود على أكمله في الصلاة التي هي عمود الدين، ومظهر كماله.
جعلنا الله والمسلمين من الفارين إليه والمقبولين لديه. آمين.
__________
(1) رواه من حديث النعمان بن بشير الترمذي في تفسير سورة البقرة باب 16، وابن ماجة في الدعاء باب 1، وأحمد في المسند (4/ 267، 271، 276) .
(2) رواه من حديث البراء بن عازب البخاري في الوضوء باب 75، والدعوات باب 6 و7 و 9، والتوحيد باب 34. ومسلم في الذكر حديث 56 و57. وأبو داود في الأدب باب 98. والترمذي في الدعاء باب 16 و32 و116. وابن ماجة في الدعاء باب 15. والدارمي في الاستثذان باب 51. وأحمد في المسند (285/4، 290، 292، 296، 299، 300، 302) .
(3) أخرجه أحمد في المسند (388/5) .[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"](1/364)[/b]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القسم السادس تفسير المعوذتين
في هذا القسم:
1- استهلال، وتمهيد.
2- من المعوذات.
3- فضل المعوذتين، وسر الختم بهما.
4- رب الفلق.
5- الشر وأقسامه.
6- الغاسق وقيده. والنفاثات في العقد.
7- الحاسد والحسد.
8- لفظ الناس ولم اختير.
9- الخناس ضعيف.
10- شيطان الإنس وشيطان الجن.
11- الوسوسة، ومحلها.[/rtl]
[rtl](1/365)[/rtl]
[rtl]سورة الفلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } [سورة الفلق] .
إستهلال:
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله، إن الحمد لله نحمده ونشكره ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد فما له من مضل.
ونشهد أن لا إله إلاّ الله، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تمهيد:
بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا، وأن يشتبها، وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته، فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بهما، دائرة بينهما، موصوفة بأحدهما. ولا بد في ذلك من قدر الله، ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني.
وحكمته المبينة في وحيه: هي ابتلاء خلقه، ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم، بعد أن وهبهم العقل والتمييز، وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلاً منه تعالى ورحمة.
وحكمة أخرى: وهي تمرين هذا الإنسان في حياته، العلمية والعملية، وتدريب فكره على اختيار الأنفع على النافع، والنافع على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب وترويضها عليه.
والإنسان يكتسب القوة والدربة بتمرسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره.
وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة، وسائق لها ومهيء لما يظهر أنه من بدواتها.[/rtl]
[rtl](1/367)[/rtl]
[rtl]وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح: منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر، وأدق منه التمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين؛ فإن الخير درجات وأنواع؛ والشر كذلك دركات وأنواع. والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر، وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق. ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد.
وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة، والمبصرات عند عروض الشبهة، والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان، وطواف طائفة.
ومن هذه المعوذات:
عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك، وهي شر.
وحقائق تقي صاحبها الوهم، وهو شر.
وعبادات تربي مقيمها على الخير، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر.
وأعمال تثبت فاعلها على الحق.
وأقوال يمليها القلب- العامر بتقوى الله والخوف من مقامه- على الألسنة لتكون شهادة لها، أو عنواناً عليها، والألسنة تراجمة القلوب.
فكان مما شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل.
وأنزل الله عليه هاتين السورتين وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن.
وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ باسم الله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة.
فضل المعوذتين:
أما السورتان فيكفي في فضلهما ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير خير منهن قط؛ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس» (1) .
وفي رواية أخرى في مسلم (2) عنه تسميتهما بالمعوذتين، وفي رواية أبي أسامة في مسلم أيضاً وصف عقبة ابن عامر، بأنه كان من رفعاء أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) ؛ فتسمية هاتين السورتن بالمعوذتين تسمية نبوية مأثورة، كأسماء جميع سور القرآن.
__________
(1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 264.
(2) في صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 265.
(3) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 265.[/rtl]
[rtl](1/368)[/rtl]
[rtl]وقد يقال: المعوذات ويراد بها ما يشمل سورة الإخلاص.
وكفى بما فيها من أصول العقائد معاذاً من الشرك، وهو أصل الشرور كلها.
وحديث مسلم هو أصح ما ورد في نزولهما.
وأما ما يذكر في نزولها في قصة سحر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فإن ذلك لم يصح سبباً لنزولها. وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن الأعصم أصل ثابت في الصحيح. وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما، ولنا فيما صح غنية فيما لم يصح.
وهذه الخيرية التي أثبتها لهما حديث عقبة عند مسلم هي خيرية نسبية في ناحية مخصوصة، وهي ناحية التعوذ بهما من الشرور العامة والخاصة المذكورة فيها.
ودليل هذه النسبية ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عابس الجهني أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال له: «يا ابن عابس، ألا أدلك (أو ألا أخبرك) بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؛ قال: بلى يا رسول الله. قال: قل: أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس هاتين السورتين» (1) .
فبين- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن خيريتهما وأفضليتهما من جهة ما تشتملان عليه من معنى التعوذ وهو من المعاني الداخلة في دائرة ما كلفنا الله به.
سر الختم بهما:
ولهاتين السورتين خصوصية غير المناسبات التي يذكرونها في ارتباط بعض السور بالبعض، ويستخرجون منها بالتدبر ما لا يحصى من الأنواع، وهذه الخصوصية هي ختم القرآن بهما. وترتيب السور توقيفي، ليس من صنيع جامعي المصحف كما ذكره السيوطي في الإتقان وجماعة.
يستطيع دارس القرآن ومتدبره ومتقلبه، بالذهن المشرق والقريحة الصافية، أن يستخرج من الحكم في هذا الختم بهما أنواعاً.
ولكن أجلاها وأوضحها: أنهما ختم على كنوز القرآن في نفس المؤمن، وتحصين لهذه النعم المنشأة له من القرآن عليه أن يكدرها عليه كيد كائد، أو حسد حاسد، فإن من أوتي الشيء الكريم، ورزق النعمة الهنية، هو الذي تمتد إليه أيدي الأشرار وألسنتهم بالسوء، وتقذفه عيونهم بالشرر، وتتطلع إليه نفوسهم بالحسد والبغضاء، ويشتد عليه تكالبهم، سعياً في سلبه منه، أو تكديره عليه.
وبقدر النعمة يكون الحسد، وعلى مقدار [[نفاسة]] ما تملك، تكون هدفاً لمكائد الكائدين، وتأتيك البلايا من حيث تدري ولا تدري.
__________
(1) أخرجه النسائي في الاستعاذة باب 1، وأحمد في المسند (417/3) .[/rtl]
[rtl](1/369)[/rtl]
[rtl]ومن أوتي القرآن فقد طوي الوحي بين جنبيه، وأتي الخير الكثير، فهو لذلك مرمى أعين الحاسدين، ومهوى أفئدة الكائدين؛ فكان حقيقاً، وقد ختم القرآن حفظاً أو مدارسة أو تلاوة، أن يلتجىء إلى الله طالباً منه الحفظ والتحصين من شر كل كيد وحسد يصيبه على هذا الخير العظيم، الذي كمل له هذه النعمة الشاملة التي تمت عليه.
هذه حكمة.
ب- والأخرى: هي أن من أوتي القرآن وتفقه فيه، فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأحاط بالعلم من أطرافه، وملك كنزه الذي لا ينفد.
وأن من آفات العلم اغترار صاحبه به، وقد يتمادى به الغرور حتى يسول له أن ما أوتيه من العلم كافٍ في وقايته من الأضرار، ونجاته من الأشرار، فكان من رحمة الله بصاحب القرآن، ولطف تأديبه له، وحسن عنايته به، أن ختم بهاتين السورتين كتابه؛ لتكونا آخر ما يستوقف القارىء المتفقه، وينبهه إلى أن في العلم والحكمة مسألة لم يتعلمها إلى الآن، وهي: أنه مهما امتد في العلم باعه، واشتد بالحكمة اطلاعه: فإنه لا يستغني عن الله، ولا بد له من الالتجاء إليه، والاعتصام به، يستدفع به شر الأشرار، وحسد الحاسد. وكفى بهذه التربية قامعاً للغرور، وإنه لشر الشرور.
هذه هي المناسبة العامة بين جميع القرآن مرتباً ترتيبه التوقيفي، وبين هاتين السورتين في اتحاد موضعهما.
وأما المناسبة الخاصة بين السورتن وبين سورة الاخلاص، فهي:
أن سورة الإخلاص قد عرفت الخلق بخالقهم بما فيها من التوحيد والتنزيه والتمجيد؛ فإذا قرأت القرآن وتدبرته على ترتيبه، ووجدت توحيد الله منبثاً في آياته وسوره، متجلياً ذلك التجلي الباهر بما عرضه وصوره، ساداً ببراهينه على النفوس كل ثنية وكل مطلع- كانت آخر مرحلة يقطعها فكرك من مراحل التوحيد في القرآن، هذه السورة المعجزة على قصرها، فكأنها توكيد لما امتلأت به نفسك من معاني التوحيد، وكأنها وصية مودع مشفق بمهم يخشى عليك نسيانه؛ فيعمد فيها من الكلام إلى ما قل ودل ولم يمل.
ومن صدقك في توحيدك لله في ربوبيته وإلهيته أن تنقطع عن هذا الكون وتكون منه وكأنك لست منه بصدق معاملتك لله، وإخلاص توحيدك إياه، فأنت وقد آمنت وصدقت، وخرجت من سورة الإخلاص متشبعا بمعانيها، ومنها معنى الصمد- تستشعر أن العالم كله عجز وقصور، وأن خيراته مكدرة بالشرور، وأن لا ملجأ إلاّ ذلك الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فتجيء المعوذتان بعد الإخلاص مبينتين لذلك الإلتجاء الذي هو من تمام التوحيد. ولأجل هذه المناسبة والارتباط بين السور الثلاثة جمع بينهن في التسمية:[/rtl]
[rtl](1/370)[/rtl]
[rtl]ففي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- "أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفث عن نفسه بالمعوذات" (1) .
وسياق النسائي (2) لحديث عقبة بن عامر المتقدم: "أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ وقرأت معه في الإخلاص، ثم: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. فلما ختمهن، قال: «ما تعوذ بمثلهن أحد» ".
وكما جمع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهن في التسمية والتعوذ، جمع بينهن عملياً في قراءة الوتر.
هذا إجمال المناسبة الخاصة بين السور الثلاث.
***
رب الفلق:
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
الأمر المفرد للنبي عليه السلام.
ومن حسن الأدب في مقدرات القرآن، أن تقدر في مثل هذا الأمر: أيها الرسول، أو أيها النبي، لأنهما الوصفان اللذان نطق بهما القرآن في نداء النبي عليه الصلاة والسلام، وأن لا نقدر يا محمد كما هو جار على الألسنة وفي التصانيف؛ فإن القرآن لم يخاطبه باسمه.
والأمر لنبينا أمر لنا، لأننا المقصودون بالتكليف، ولا دليل على الخصوصية، فهو في قوة: قل أنت، وقل لأمتك يقولون.
و {أعوذ} أستجير وألتجىء، ويتعدى هو وجميع تصاريفه بالباء كـ"أستجير". والعوذ والعياذ مصدران منه كالصوم والصيام. وفي القرآن مما جاء على المعنى اللغوي: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] . ومن كلام العرب: قد استعذت بمعاذ.
و (الرب) الخالق المكون المربي، ومواقع استعمال هذه الكلمة في القرآن هي التي تكشف كل الكشف عن معناها الكامل.
و {الفلق} الفجر المفلوق المفري.
ومن لطائف هذه اللغة الشريفة: أن الفتح، والفلح، والفجر، والفلق، والفرق، والفتق، والفرى والفأ، والفقأ، والفقه ... كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم.
__________
(1) أخرجه مالك في العين حديث 1. والبخاري في فضائل القرآن باب 14. ومسلم في السلام حديث 51. وأبو داود في الطب باب10. وابن ماجة في الطب باب 38. وأحمد في المسند (6/ 104، 114، 124، 181، 256، 263) .
(2) في كتاب الاستعاذة باب 1.[/rtl]
[rtl](1/371)[/rtl]
[rtl]ومما وصف به ربنا نفسه في القرآن {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] ، و {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95] ، فهما من أسمائه تعالى.
ومواقع هذه الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب في القرآن، كمواقع أسماء المخلوقات التي أقسم بها الله؛ كلاهما عجيب معجز.
فكل لفظة تستعمل في المقام الذي يناسبها وتناسبه، وكل لفظة تبعث في الأسلوب الذي وقعت فيه متانة وقوة، وفي معناها وضوحاً وجلاء.
وسر إضافة الفلق إلى "رب" هنا: أن الفجر بمعناه العرفي هو تشقق الظلمة عن النور، فإن الليل يكون مجتمع الظلمات مسدول الأوراق، فإذا جاء الصبح حصل الانفراق، والذي يبقى بعد ذلك الانفلاق هو النور الذي نفى الظلمة، ولا ينفي ظلمات الشر والضلال والباطل إلاّ أنوار الخير والهدى والحق من خالقها وفالق أنوارها.
وكما أضيف الفلق بمعنى الفجر إلى كلمة "رب" هنا، أقسم به في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} .
***
الشر:
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} .
من كل مخلوق فيه شر، فلا يدخل في عمومه إلاّ كل شرير من أي العوالم كان، كما يدخل في عموم المناطق كل ذي نطق، أو من شر كل مخلوق.
ومن مخلوقات الله ما هو خير محض كالأنبياء والملائكة.
ومعلوم أن المخلوقات كلها خلقت بحق ولحكمة، فهي في نفسها خير. فإن كان لا ينشأ من أعمالها أو آثارها إلاّ الخير فهي الخير المحض، وإن كان ينشأ عنها الشر أحياناً أو دائماً، فعملها هو الشر، وهو المستعاذ منه.
وتصبح نسبة هذا القسم إلى الله من حيث الخلق والحكمة، ونسبة أعماله إليه من حيث التقدير والتكوين؛ لا من حيث الرضا والتكليف؛ فالله لا يرضى بالشر ولا يكلف به.
وقصارى إبليس وهو مادة الشر في هذا الوجود، أن يزين الشر ويلبسه بالخير. فالشر بيد الله خلقة وحكمة، لا رضا وتكليفاً. والخير بيد الله خلقة وحكمة ونعمة وأمراً.
وقد يكون الشر ذاتياً لا ينفك، وقد يكون نسبياً: باعتبار حالة تعرض واتجاه بقصد.
ونعم الله على عباده قد تنقلب عليهم شراً وبلاء بسبب سوء تصرفهم فيها:
كالمال الذي سماه الله خيراً في القرآن- يكسبه صاحبه من الوجوه المشروعة، ويتحرى رضا الله في جمعه وتفريقه؛ فيكون خيراً بذاته وبعمل صاحبه.[/rtl]
[rtl](1/372)[/rtl]
ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شراً لا من ذاته، بل من عمل صاحبه.
وهذا العالم الإنساني المكلف، هو الذي يتجلى الخير والشر في أعماله، ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقاً.
وإنما عيب عليه وقبح منه، لأنه قادر على تمييزه واجتنابه، ومكلف بذلك. وقد وضح له الدين قوانين ثابتة للخير والشر، وأوضح له أن الخير ما نفع، وأن الشر ما أضر. ولكنه وإن أوتي قوة التمييز لم يؤت قوة الاستعصام، ابتلاءً من الله. فأما المخذول فيأتي الشر عامداً متعمداً، هو يعلم أنه شر، وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز.
والخير والشر لا يوزنان بميزان حسي يستوي الناس كلهم في إدراكه، وقد تدق الفوارق بينهما حتى تخفى.
وفي هذه المواقف يجب الإلتجاء إلى الله ليرينا الخير خيراً، ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر فلا يلتبس علينا شيء بشيء.
وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح، تندفع ألسنتنا وتقول: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين "ربّ" و"الفلق".
1- فإن رب الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم، هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم، والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فترى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالما فقد تخفى عليه حقائق من المعقولات فيزيغ فكره ويطغى.
2- ومناسبة أخرى، وهي أن الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام، وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام: ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له، هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه، هو عين ما يضايقهم من ذلك الشر.
هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر، لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيباً بديعاً لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في عرض الأذهان.
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]هذه هي الثلاثة:
الغاسق إذا وقب.
والنفاثات في العقد.
والحاسد إذا حسد.
و (الغاسق) الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلاً وعلى غرة.[/rtl]
[rtl]و {وقب} دخل في الوقب وهو النقرة في الشيء.
و {النفاثات} السواحر ينفثن الريق، واللفظ جمع نفاثة كثيرة النفث.
و {العقد} جمع عقدة بيان لعادة السواحر المعروفة، من عقد الخيوط ونفث الريق عليها.
والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء: فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الاخفاء تحييلاً وإبهاماً، والحسد داء دفين.
فالثلاثة كما ترون شرها خفي، وكل شر يخفى عمله أو يخفى أثره يجل خطبه ويعظم خطره، فيعسر التوقي منه والاحتياط له، لأنك تتَّقي ما يظهر ويستعلن، لا ما يخفى ويستتر، لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص.
أما نكتة الترتيب: فإن الليل ليس شراً في نفسه، ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور، والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس قوية في الاعتبار، مسببة للحكم على أحدهما بحكم الآخر.
بخلاف النفاثات والحساد، فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتياً لهما، ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي.
كما أن بين الإثنين تفاوتاً في ذاتية الشر وقوته، وعسر التوقي منه:
فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن، ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه- بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير فشره أشد، والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترق من الأخف إلى الأشد.
ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهراً بين الثلاثة: الغاسق والنفاثات والحاسد، فإن الجميع ظلام: ظلام الزمن، وظلام السحر، وظلام الحسد.
وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد المراد:
الأول: أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظلم وتكاثفها فكان بعض أجزائها يدخل بعضاً. والظلام يبدأ خفيفاً مشوباً بأسفار من الشفق، أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويَحْلَوْلِكُ حتى يغطي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب.
والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني.
وفائدة القيد حينئذ، أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة، هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم، فالطارق يطرق، والسارق يسرق، والحيات تنهش، والضواري تفترس، وظلام الليل يستر ذلك كله، ويعين عليه، ويعوق عن الاستصراخ والاستنجاد.
والعرب تقول فيما يشير إلى هذا: "اللَّيْلِ أَخْفَى لِلْوَيْلِ".[/rtl]
[rtl]فالمستعاذ منه على هذا الاحتمال: شر يقع في زمان.
والاحتمال الثاني: أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسياً، فيقتضي ظرفاً مكانياً، وما هذا الظرف إلاّ الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها، ويكون دخوله فيها أبين من دخوله في الفضاء، وملؤه إياها أشد.
فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء، خصوصاً من الآدميين، والمستعاذ منه على هذا الاحتمال شر يقع في مكان.
وعلى الاحتمالين لما كان الليل معواناً لذوي الشر على شرهم، أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه.
النفاثات:
و (النفاثات) صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء، وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلاً كان أو امرأة، وإما للنساء. وخصصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهن به أشهر.
والنفث إخراج الهواء من الفم مدفوعاً بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل.
والنفث وإن كان عاماً لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطاً ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم، وينفثون على عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور، وما هم بضارين به من أحد إلاّ بإذن الله.
وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلاّ لأنه يؤثر في بعض النفوس القابلة للتأثر به حاشا النفوس المعصومة، كنفوس الأنبياء فإن شرور الدنيا وأسواءها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم. ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وما يوهمه لفظ الرواية، فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني.
الإعتقاد الصحيح:
ونحن نعتقد ديناً أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده.
ونقطع علماً وتجربة أن للقوى النفسية تأثيراً أعظم من تأثير القوى الجسمانية.
وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون، وتأثير التنويم في المنوم.
وأن التأثير والتأثر النفسانيين يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوة وضعفاً.
وأن تأثير العين ليس من ذاتها، وإنما هو من النفس التي من وراء العين.[/rtl]
[rtl]ولو كان التأثير من ذات العين لكانت كل عين ناظرة تحدث ذلك الأثر، وأن هذا التأثير لون من ألوان النفس: فإن كانت خيرة كان تأثيرها خيراً، وإن كانت شريرة كان شراً.
فالنفث المذكور في الآية إن أثر فإنما يؤثر بالقوة النفسية التي من ورائه. والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلاّ نفث الشر؛ لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق، وإنما تنفث السم، وكالعدو يلقاك بطعن الأسل لا بطعم العسل؛ إذ كان ذلك من طبيعة العداوة.
هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة.
وأما النفوس الخيرة الطيبة، كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير.
وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان إذا أوى إلى فراشه جمع بين كفيه ثم نفث فيهما وهو يقرأ المعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من بدنه يبدأ برأسه ووجهه يفعل ذلك ثلاث مرات" (1) . فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله.
ثم قالت في تمامه: "فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك" (2) .
وفي رواية: "كان يقرأ بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهذا، وأمسح بيد نفسه رجاء بركتها" (3) .
وفي رواية مسلم (4) عنه "أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله".
فهذه الأحاديث- ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ المعوذات، وينفث حين القراءة نفث الخير قطعاً.
وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها.
وأن النفث إيصال للقوة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيراً وشراً، ولولاها لما كان النفث إلاّ من فعل السحرة.
والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها، تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءاً من روحانيتها على نفس أخرى، أو على بدن.
وكأن تحريك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية، واستدعاء لها، حتى تتصل بالريق الذي ينفث، كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادي.
وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثاً مجرداً، بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة.
__________
(1) تقدم تخريجه ( [ص:267] حاشية (1)) .
(2) كذا في الأصل؛ ولفظه كما في مصادر تخريجه: "فلما اشتكى جعلت أقرأ عليه وأمسحه بكفه رجاء بركة يده".
(3) لفظ البخاري في فضائل القرآن باب 14.
(4) في السلام، حديث 50.[/rtl]
[rtl]ومن الشواهد لنفث الريق، ما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها:
أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان إذا إشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة، أو جرح، قال النبي بإصبعه هكذا:- تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل (1) - ثم رفعها، وقال:
"بسم الله تربة أرضنا بريقة (2) بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا" (3) .
***
(بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث، سكت لحظة كمن يستجمع خواطره، ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع) (4) :
إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة، فلا يستقل بتفسيره إلاّ الزمن.
وكذلك كلام نبينا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- المبين له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع، لم تفهم أسرارها ومغازيها إلاّ بتعاقب الأزمنة، وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون. وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن، ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في وصف القرآن: «لا تنقضي عجائبه» (5) .
والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونها بالفكر الخامد والفهم الجامد، إنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم.
وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات: لم يأت مصداقها أو تأويلها بعدة يعنون أنه آت، وأن الآتي به حوادث الزمان، ووقائع الأكوان، وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه.
__________
(1) لفظ مسلم: "ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها".
(2) قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها. والريقة: أقل من الريق. ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح.
(3) صحيح مسلم (كتاب السلام، حديث رقم 54) . وأخرجه أيضاً البخاري في الطب باب 38، وأبو داود في الطب باب 19، وابن ماجة في الطب باب 36، وأحمد في المسند (93/6) .
(4) ما بين القوسين من كلام العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله (حاشية المطبوع: [ص:636] ) .
(5) روى الإمام أحمد في المسند (91/1) من طريق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إن أمتك مختلفة بعدك. قال: فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: كتاب الله تعالى، به يقصم الله كل جبّار، من اعتصم به نجا ومن تركه هلك- مرتين- قول مفصل وليس بالهزل، لا تختلقه الألسن ولا تفنى أعاجيبه، فيه نبأ ما كان قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما هو كائن بعدكم» .[/rtl]
[rtl]هذا الخبر عند الناس:
ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم: أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أسبابه في هذا الحديث؟
فماذا تراهم يقولون؟
1- يقول المتخلف القاصر: تربة المدينة بريق النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شفاء ما بعده من شفاء.
2- ويقول الطبيب المستغرب: هذا محال، في التراب مكروب، وفي الريق مكروب، فأنى يشفيان مريضاً أو ينفسان عن مكروب؟!
3- ويقول الكيماوي: ها هنا تفاعل بين عنصرين، ودعوا التعليل، فالقول ما يقول التحليل.
4- ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية، ولو كانوا يدينون بالوثنية: آمنا بأن محمداً رسول الله، فقد علم الناس من قبل أربعة عشر قرناً أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه، تشفي من القروح والجروح، ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقداً من المحبة والإخلاص له، وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به، وليقرر لهم من منن الوطن منّة كانوا عنها غافلين، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تغذي وتروي، فجاءهم من علم النبوة أنها تشفي فليس هذا الحديث إرشاداً لمعنى طبي، ولكنه درس في الوطنية عظيم.
ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى والطب، فإنه بباب "حب الوطن" أشبه.
وما نرى رافع العقيرة بقوله:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِيْ هَلْ أَبِيْتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيْلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيْلُ (1)
إلاّ سائرًا على شعاعه.
وما ترى ذلك الغريب المريض الذي سئل فيم شفاؤك؟
__________
(1) هذان البيتان تمثل بها بلال رضي الله عنه. ورد في الصحاح عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وُعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول: إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلة ... البيتن.
رواه البخاري في فضائل المدينة باب 12 (وهذا لفظه) . ومناقب الأنصار باب 46، والمرضى باب 8 و 22؛ ومسلم في الحج حديث 480. وأحمد في المسند (65/6، 83، 222، 240، 260) . وهو في موطأ الإمام مالك (كتاب الجامع، حديث 14) .[/rtl]
[rtl]فقال: شمة من تربة إصطخر، وشربة من ماء نهاوند، إلاّ من تلامذة هذا الدرس.
ولقد زادنا (1) إيماناً به بعد إيمان أنه يقول: تربة أرضنا، بريقة بعضنا. ولم يقل: تربة الأرض بريق بني آدم فليس السر في تربة وريق ومرض. ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا- فهذه- والله ربنا- صخرة الأساس في بناء الوحدة الوطنية والقومية، لا ما يتبجح به المفتونون.
5- ويقول الروحانيون: إن هناك روحاً طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خلق المريض منها، وتغذى بنباتها ومائها، وتنفس كبده في جوها وهوائها، من ريقه منفوثة نفث الخير، من نفس مؤمنة قوية الروحانية طيبتها، فيكمل التكوين بين الريق والتربة مع اسم الله الذي قامت به السموات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني. وإذا تجلت النفس بعجائبها لم يبق في الوجود عجيب.
6- ويقول غير هؤلاء ما يقول، وهذه المتون كاسمها متون، وهذه الأصول كاسمها أصول. وهكذا، تأتي بعض المتون من كلام الله، وكلام رسوله، معجزة للعقول فتتطاير من حولها الفهوم والآراء تطاير الشعراء، ويظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون- والعلوم حرف العقول.
والزمان من وراء الكل يصيح: أن انتظروا....
***
الحاسد والحسد:
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
الحاسد، الذي قامت به صفة الحسد، وهو الذي يحب أن تسلب النعم من غيره، وقد تلج به هذه الصفة الذميمة فتزيد له سلب النعم حتى من نفسه إذا توقف على ذلك سلبها من غيره، فهو لا يحب الخير لأحد ويتمنى ألا يبقى على وجه الأرض منعم عليه.
وإنما ينشأ الحسد من العجب وحب الذات، فتسول له نفسه أن غيره ليس أهلاً لنعم الله، وكفى بهذا معاداة للمنعم.
والحسد شر تلازمه شرور: العجب، والاحتقار، والكبر. وقد جمع إبليس هذه الشرور كلها:
حسد آدم عجباً بنفسه فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} .
ورآه لا يستحق السجود احتقاراً له، فقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} ؟! [الإسراء: 62] .
__________
(1) لا يزال الكلام للوطنيين والقوميين.[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]ثم تكبر ولم يسجد ورضي باللعنة والخزي.
ولا أشنع من صفة يكون إبليس فيها إماماً!!
والحسد شر على صاحبه قبل غيره، لأنه يأكل قلبه، ويؤرق جفنه، ويقضّ مضجعه ولا يكون شراً على غيره، إلاّ إذا ظهرت آثاره بأن كان قادراً على الإضرار، أو ساعياً فيه، ولهذا قال تعالى: {إِذَا حَسَدَ} والمتمني للشيء لا يمنعه من إتيانه إلاّ العجز.
وأعظم ما ينمي الحسد ويغذيه امتداد العين إلى ما متع الله به عباده من متاع المال والبنين ونعمة العافية والعلم والجاه والحكم.
وقد نهى الله نبيه عن مد العين إلى ما عند الغير فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .
وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج.
وقد وصف الحكماء له أنواعاً من العلاج، فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء (1) للغزالي.
***
[/b]
الغاسق إذا وقب.
والنفاثات في العقد.
والحاسد إذا حسد.
و (الغاسق) الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلاً وعلى غرة.[/rtl]
[rtl](1/373)[/rtl]
و {النفاثات} السواحر ينفثن الريق، واللفظ جمع نفاثة كثيرة النفث.
و {العقد} جمع عقدة بيان لعادة السواحر المعروفة، من عقد الخيوط ونفث الريق عليها.
والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء: فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الاخفاء تحييلاً وإبهاماً، والحسد داء دفين.
فالثلاثة كما ترون شرها خفي، وكل شر يخفى عمله أو يخفى أثره يجل خطبه ويعظم خطره، فيعسر التوقي منه والاحتياط له، لأنك تتَّقي ما يظهر ويستعلن، لا ما يخفى ويستتر، لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص.
أما نكتة الترتيب: فإن الليل ليس شراً في نفسه، ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور، والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس قوية في الاعتبار، مسببة للحكم على أحدهما بحكم الآخر.
بخلاف النفاثات والحساد، فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتياً لهما، ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي.
كما أن بين الإثنين تفاوتاً في ذاتية الشر وقوته، وعسر التوقي منه:
فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن، ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه- بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير فشره أشد، والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترق من الأخف إلى الأشد.
ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهراً بين الثلاثة: الغاسق والنفاثات والحاسد، فإن الجميع ظلام: ظلام الزمن، وظلام السحر، وظلام الحسد.
وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد المراد:
الأول: أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظلم وتكاثفها فكان بعض أجزائها يدخل بعضاً. والظلام يبدأ خفيفاً مشوباً بأسفار من الشفق، أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويَحْلَوْلِكُ حتى يغطي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب.
والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني.
وفائدة القيد حينئذ، أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة، هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم، فالطارق يطرق، والسارق يسرق، والحيات تنهش، والضواري تفترس، وظلام الليل يستر ذلك كله، ويعين عليه، ويعوق عن الاستصراخ والاستنجاد.
والعرب تقول فيما يشير إلى هذا: "اللَّيْلِ أَخْفَى لِلْوَيْلِ".[/rtl]
[rtl](1/374)[/rtl]
والاحتمال الثاني: أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسياً، فيقتضي ظرفاً مكانياً، وما هذا الظرف إلاّ الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها، ويكون دخوله فيها أبين من دخوله في الفضاء، وملؤه إياها أشد.
فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء، خصوصاً من الآدميين، والمستعاذ منه على هذا الاحتمال شر يقع في مكان.
وعلى الاحتمالين لما كان الليل معواناً لذوي الشر على شرهم، أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه.
النفاثات:
و (النفاثات) صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء، وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلاً كان أو امرأة، وإما للنساء. وخصصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهن به أشهر.
والنفث إخراج الهواء من الفم مدفوعاً بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل.
والنفث وإن كان عاماً لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطاً ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم، وينفثون على عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور، وما هم بضارين به من أحد إلاّ بإذن الله.
وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلاّ لأنه يؤثر في بعض النفوس القابلة للتأثر به حاشا النفوس المعصومة، كنفوس الأنبياء فإن شرور الدنيا وأسواءها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم. ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وما يوهمه لفظ الرواية، فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني.
الإعتقاد الصحيح:
ونحن نعتقد ديناً أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده.
ونقطع علماً وتجربة أن للقوى النفسية تأثيراً أعظم من تأثير القوى الجسمانية.
وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون، وتأثير التنويم في المنوم.
وأن التأثير والتأثر النفسانيين يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوة وضعفاً.
وأن تأثير العين ليس من ذاتها، وإنما هو من النفس التي من وراء العين.[/rtl]
[rtl](1/375)[/rtl]
فالنفث المذكور في الآية إن أثر فإنما يؤثر بالقوة النفسية التي من ورائه. والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلاّ نفث الشر؛ لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق، وإنما تنفث السم، وكالعدو يلقاك بطعن الأسل لا بطعم العسل؛ إذ كان ذلك من طبيعة العداوة.
هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة.
وأما النفوس الخيرة الطيبة، كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير.
وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان إذا أوى إلى فراشه جمع بين كفيه ثم نفث فيهما وهو يقرأ المعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من بدنه يبدأ برأسه ووجهه يفعل ذلك ثلاث مرات" (1) . فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله.
ثم قالت في تمامه: "فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك" (2) .
وفي رواية: "كان يقرأ بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهذا، وأمسح بيد نفسه رجاء بركتها" (3) .
وفي رواية مسلم (4) عنه "أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله".
فهذه الأحاديث- ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ المعوذات، وينفث حين القراءة نفث الخير قطعاً.
وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها.
وأن النفث إيصال للقوة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيراً وشراً، ولولاها لما كان النفث إلاّ من فعل السحرة.
والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها، تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءاً من روحانيتها على نفس أخرى، أو على بدن.
وكأن تحريك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية، واستدعاء لها، حتى تتصل بالريق الذي ينفث، كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادي.
وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثاً مجرداً، بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة.
__________
(1) تقدم تخريجه ( [ص:267] حاشية (1)) .
(2) كذا في الأصل؛ ولفظه كما في مصادر تخريجه: "فلما اشتكى جعلت أقرأ عليه وأمسحه بكفه رجاء بركة يده".
(3) لفظ البخاري في فضائل القرآن باب 14.
(4) في السلام، حديث 50.[/rtl]
[rtl](1/376)[/rtl]
أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان إذا إشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة، أو جرح، قال النبي بإصبعه هكذا:- تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل (1) - ثم رفعها، وقال:
"بسم الله تربة أرضنا بريقة (2) بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا" (3) .
***
(بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث، سكت لحظة كمن يستجمع خواطره، ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع) (4) :
إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة، فلا يستقل بتفسيره إلاّ الزمن.
وكذلك كلام نبينا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- المبين له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع، لم تفهم أسرارها ومغازيها إلاّ بتعاقب الأزمنة، وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون. وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن، ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في وصف القرآن: «لا تنقضي عجائبه» (5) .
والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونها بالفكر الخامد والفهم الجامد، إنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم.
وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات: لم يأت مصداقها أو تأويلها بعدة يعنون أنه آت، وأن الآتي به حوادث الزمان، ووقائع الأكوان، وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه.
__________
(1) لفظ مسلم: "ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها".
(2) قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها. والريقة: أقل من الريق. ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح.
(3) صحيح مسلم (كتاب السلام، حديث رقم 54) . وأخرجه أيضاً البخاري في الطب باب 38، وأبو داود في الطب باب 19، وابن ماجة في الطب باب 36، وأحمد في المسند (93/6) .
(4) ما بين القوسين من كلام العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله (حاشية المطبوع: [ص:636] ) .
(5) روى الإمام أحمد في المسند (91/1) من طريق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إن أمتك مختلفة بعدك. قال: فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: كتاب الله تعالى، به يقصم الله كل جبّار، من اعتصم به نجا ومن تركه هلك- مرتين- قول مفصل وليس بالهزل، لا تختلقه الألسن ولا تفنى أعاجيبه، فيه نبأ ما كان قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما هو كائن بعدكم» .[/rtl]
[rtl](1/377)[/rtl]
ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم: أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أسبابه في هذا الحديث؟
فماذا تراهم يقولون؟
1- يقول المتخلف القاصر: تربة المدينة بريق النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شفاء ما بعده من شفاء.
2- ويقول الطبيب المستغرب: هذا محال، في التراب مكروب، وفي الريق مكروب، فأنى يشفيان مريضاً أو ينفسان عن مكروب؟!
3- ويقول الكيماوي: ها هنا تفاعل بين عنصرين، ودعوا التعليل، فالقول ما يقول التحليل.
4- ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية، ولو كانوا يدينون بالوثنية: آمنا بأن محمداً رسول الله، فقد علم الناس من قبل أربعة عشر قرناً أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه، تشفي من القروح والجروح، ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقداً من المحبة والإخلاص له، وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به، وليقرر لهم من منن الوطن منّة كانوا عنها غافلين، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تغذي وتروي، فجاءهم من علم النبوة أنها تشفي فليس هذا الحديث إرشاداً لمعنى طبي، ولكنه درس في الوطنية عظيم.
ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى والطب، فإنه بباب "حب الوطن" أشبه.
وما نرى رافع العقيرة بقوله:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِيْ هَلْ أَبِيْتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيْلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيْلُ (1)
إلاّ سائرًا على شعاعه.
وما ترى ذلك الغريب المريض الذي سئل فيم شفاؤك؟
__________
(1) هذان البيتان تمثل بها بلال رضي الله عنه. ورد في الصحاح عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وُعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول: إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلة ... البيتن.
رواه البخاري في فضائل المدينة باب 12 (وهذا لفظه) . ومناقب الأنصار باب 46، والمرضى باب 8 و 22؛ ومسلم في الحج حديث 480. وأحمد في المسند (65/6، 83، 222، 240، 260) . وهو في موطأ الإمام مالك (كتاب الجامع، حديث 14) .[/rtl]
[rtl](1/378)[/rtl]
ولقد زادنا (1) إيماناً به بعد إيمان أنه يقول: تربة أرضنا، بريقة بعضنا. ولم يقل: تربة الأرض بريق بني آدم فليس السر في تربة وريق ومرض. ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا- فهذه- والله ربنا- صخرة الأساس في بناء الوحدة الوطنية والقومية، لا ما يتبجح به المفتونون.
5- ويقول الروحانيون: إن هناك روحاً طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خلق المريض منها، وتغذى بنباتها ومائها، وتنفس كبده في جوها وهوائها، من ريقه منفوثة نفث الخير، من نفس مؤمنة قوية الروحانية طيبتها، فيكمل التكوين بين الريق والتربة مع اسم الله الذي قامت به السموات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني. وإذا تجلت النفس بعجائبها لم يبق في الوجود عجيب.
6- ويقول غير هؤلاء ما يقول، وهذه المتون كاسمها متون، وهذه الأصول كاسمها أصول. وهكذا، تأتي بعض المتون من كلام الله، وكلام رسوله، معجزة للعقول فتتطاير من حولها الفهوم والآراء تطاير الشعراء، ويظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون- والعلوم حرف العقول.
والزمان من وراء الكل يصيح: أن انتظروا....
***
الحاسد والحسد:
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
الحاسد، الذي قامت به صفة الحسد، وهو الذي يحب أن تسلب النعم من غيره، وقد تلج به هذه الصفة الذميمة فتزيد له سلب النعم حتى من نفسه إذا توقف على ذلك سلبها من غيره، فهو لا يحب الخير لأحد ويتمنى ألا يبقى على وجه الأرض منعم عليه.
وإنما ينشأ الحسد من العجب وحب الذات، فتسول له نفسه أن غيره ليس أهلاً لنعم الله، وكفى بهذا معاداة للمنعم.
والحسد شر تلازمه شرور: العجب، والاحتقار، والكبر. وقد جمع إبليس هذه الشرور كلها:
حسد آدم عجباً بنفسه فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} .
ورآه لا يستحق السجود احتقاراً له، فقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} ؟! [الإسراء: 62] .
__________
(1) لا يزال الكلام للوطنيين والقوميين.[/rtl]
[rtl](1/379)[/rtl]
ولا أشنع من صفة يكون إبليس فيها إماماً!!
والحسد شر على صاحبه قبل غيره، لأنه يأكل قلبه، ويؤرق جفنه، ويقضّ مضجعه ولا يكون شراً على غيره، إلاّ إذا ظهرت آثاره بأن كان قادراً على الإضرار، أو ساعياً فيه، ولهذا قال تعالى: {إِذَا حَسَدَ} والمتمني للشيء لا يمنعه من إتيانه إلاّ العجز.
وأعظم ما ينمي الحسد ويغذيه امتداد العين إلى ما متع الله به عباده من متاع المال والبنين ونعمة العافية والعلم والجاه والحكم.
وقد نهى الله نبيه عن مد العين إلى ما عند الغير فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .
وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج.
وقد وصف الحكماء له أنواعاً من العلاج، فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء (1) للغزالي.
***
[/b]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]سورة الناس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } [سورة الناس] .
تمهيد:
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان) ، وعلمنا أنها تسمية نبوية، وقد جرت هذه الصفة مجرى الإسم لها.
أما الإسم الخاص بهذه السورة فهو (الناس) كما أن الإسم الخاص بالسورة الأولى (الفلق) . والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف، وهو المعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام، ومن ثلاثة أنواع (2) منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة.
__________
(1) كتاب "إحياء علوم الدين".
(2) هي: شر ما خلق، وشر الغاسق إذا وقب، وشر النفاثات في العقد.[/rtl]
[rtl](1/380)[/rtl]
[rtl]النفوس الشريرة:
والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام:
1- قسم يصدر عنه الضرر ويعمله.
2- وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه، وهو شر من الأول.
3- وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح، ومالك هديها، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (1) .
فهو يحسن له الأشياء القبيحة ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح وإرادة الخير.
ويزين للإنسان كل ما يرد به من القبائح، ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله قريباً منه متصلاً بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح، حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك.
ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطراً، وأكثر شراً، وأخسر عاقبة، خصص التعوذ منه بسورة كاملة.
{رَبِّ النَّاسِ} هو مربيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود وما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما مَنَّ به عليهم فيما ينفعهم: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 5] .
وأصله من رَبَّهُ يَرُبُّهُ ربًّا إذا قام على نشأته وتعهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال، ولفظه لفظ المصدر، ولكن معناه معنى اسم الفاعل: كالعدل يراد به العادل.
و {مَلِكِ النَّاسِ} هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والآخروية.
و {إِلَهِ النَّاسِ} هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية.
وبلاغة الترتيب، إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني.
فالأول: طور التربية والإعداد وهما من مظاهر الربوبية.
والثاني: طور القوة والتدبير وهما من مظاهر الملك.
والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية.
__________
(1) ألا وهو القلب، كما جاء في الحديث من طريق النعمان بن بشير عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: « ... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، واذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» . رواه البخاري
في الإيمان باب 39، ومسلم في المساقاة حديث 107، وابن ماجة في الفتن باب 14، والدارمي في البيوع باب 1.[/rtl]
[rtl](1/381)[/rtl]
[rtl]المستعاذ منه:
المستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه، وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته. وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها، وبما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوة الموسوسة.
مثل قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] .
أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وبين خالقه، كقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] .
وكقوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62] .
وكقوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] .
فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله؛ بإفساد العقيدة الصحيحة فيه أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها.
و (الرب) رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين. وإنما خص الناس بالذكر:
1- لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته، ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجه الخطاب، وإليهم يساق التحذير.
وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما؛ فأمر الله بالاستعاذة منها هو تصليح إلهي لبني آدم، لتثبيت سنة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم.
2- ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربوبين، وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال.
وقد ضلوا بالفعل في ربوبية الله وفي ألوهيته:
ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين، ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ويصدونهم بذلك عما شرع الله.
وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء.
واختير لفظ الناس، من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية، لأنه ينوس ويضطرب وينساق. وهي صفات يلزمها التوجه، ويسهل التوجيه، فلا غنى لصاحبها عن توفيق[/rtl]
[rtl](1/382)[/rtl]
[rtl]الله للوجهة الصالحة، والتسديد فيها، ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسباً عليه، وما دامت هناك قوة مسلطة تنزع به إلى الشر.
ففي تخصيص الناس بالذكر، تنبيه إلى أنهم أحوج المربوبين إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه؛ وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد.
ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه، لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم، وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنّة من استعباد الأقوياء.
ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل والأخيار منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب: فإنهم كثيرا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد، أو الأفراد الكاملين في حقيقته، وإن كان هذا من المجاز في كلامهم؛ وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] .
ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس توضيح المعنى، وإلفات النفس إليه، وإيقاظ شعورها به، والتسجيل على الناس بأن لهم ربا هو مالكهم وإلههم.
من شر الوسواس:
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} .
(الوسواس) هنا صفة الموسوس، وإن خالف المعهود في أبنية الصفات أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال والزلزلة.
وأصل هذه الكملة دائر على معنى الخفاء والعرب تسمي حركة الحلي وسواساً (1) وهذا المعنى واضح في المراد هنا؛ فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع ويحكم الحيلة في ذلك، ولا يرمي رميته إلاّ في الخلوات.
وان الناس ليعرفون عرفاناً ضرورياً من الفرق بين المصلحين والمفسدين:
أن الأولين يصدعون بكملة الحق مجلجلة، ويرسلون صيحته داوية، ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق.
وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا، ويستترون إذا فعلوا، ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية، ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات.
__________
(1) ومنه قول الأعشى:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاساً إِذَا انْصَرَفَتْ ... كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحِ عِشْرِقٌ زَجِلُ
(انظر لسان العرب: 6/ 225- مادة وسس) .[/rtl]
[rtl](1/383)[/rtl]
[rtl]الخناس:
{الْخَنَّاسِ} وصف مبالغة في الخانس من الخنوس، وهو التأخر بعد التقدم، ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس: أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقاً في الكيد، وتقصياً في التطور، حتى يبلغ مراده. فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كراً وفراً، وهجوماً وانتهازاً. واستطراداً على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] . يرشدنا بذلك لنعد لكل حالة من حالاته عدتها، ولنضيق عليه المسالك التي يسلكها.
كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد، لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب: تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية، ثم دواليك حتى تمل أو يمل.
وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد، فهو مبالغة في التحذير منه؛ لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره.
***
الوسوسة ومحلها:
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} .
قال: "يُوَسْوِسُ" بالمضارع إشعاراً بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها.
وقال: "فِي صُدُورِ النَّاسِ" والصدر ملتقى حنايا الأضلع ومستوح القوى التي كان الإنسان إنساناً بها، ومجمع المُضَغ (1) التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفرداً وجمعاً- فالحكم عليها بالشرح، والحرج، والضيق، والشفاء، والإخفاء، والإكناد- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية، ولا أجزاءها المادية، إنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس، يوجه كيده ووسوسته دائما إلى هذه القلعة التي هي الصدر؛ لأنها مجمع القوى.
وقال: "فِي صُدُورِ النَّاسِ"، ولم يقل في قلوب الناس؛ لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره ولا يستطيع له نقباً.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .
{الْجِنَّةِ} جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس، لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين (2) .
__________
(1) المضغ: جمع مُضْغة، وهي القطعة التي تمضغ من لحم وغيره (المعجم الوسيط: [ص:875] ) .
(2) كما قال تعالى في الآية 14 من سورة الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} .[/rtl]
[rtl](1/384)[/rtl]
[rtl]واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون، في قوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] .
ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر، ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة، ليلتئم طرفا الكلام، ويحصل التقصي الوصفي المستعاذ به والمستعاذ منه.
وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة إلى قسمين:
شياطن الإنس، وشياطين الجن. وذكر بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول. وشياطن الجن ميسر للشر. فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله. ومن شياطن الإنس بطانة السوء وقرين السوء.
القرين:
وورد في الآثار أن لكل إنسان قريناً من الجن (1) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] . وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [الزخرف: 67] . وهو من باب توزيع الجمع على الجمع: أي لكل واحد قرين.
فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن، ثم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس، يزينون له ما بين يديه وما خلفه، ويصدونه عن ذكر الله. فماذا يصنع؛ ما عليه إلاّ أن يلتجيء إلى الله، ويستعيذ به ويتذكر، فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ، وإنما يؤخذ إذا كان غافلاً، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] .
دقائق بلاغية:
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة، أنه يقدم أولاً الإسمين المتلازمين في آية، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ولا يؤخر ذلك المقام في آية أخرى، لسر آخر: فيقدم السماء على الأرض في مقام، ويؤخرها عليها في مقام آخر.
ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن في آية الأنعام (2) ، لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء، وهي من الإنس أظهر، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح.
وفي آية "الناس" قدم الجنة على الناس، لأن الحديث عن الوسوسة، وهي من شياطين الجن
__________
(1) في صحيح مسلم (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم 69) عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما منكم من أحد إلاّ وقد وُكل به قرينه من الجنّ» . قالوا: وإياك يا رسول الله؛ قال: «وإيَّاي، إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلاّ بخير» . وأخرجه أيضاً أحمد في المسند (1/ 385، 397، 401، 460) والدارمي في مسنده (كتاب الرقاق، باب 25) .
(2) الآية 112: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} .[/rtl]
[rtl](1/385)[/rtl]
[rtl]أخفى وأدق، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر: فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد، فيربى عليه ويكون شراً منه، لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي، ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولد منها فتن، ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل.
وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفل كان شراً محضاً، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى، وأوشك أن يكون خيراً محضاً، لولا أن العصمة لم تكتب إلاّ لطائفة منه، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فالإنسان إذا انحط يكون شراً من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس، كان محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال.
وأخيراً {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .[/rtl]
[rtl](1/386)[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القسم السابع العرب في القرآن
في هذا القسم:
وفي هذه المحاضرة (1) القيمة:
1- واجب المسلمين العناية بتاريخهم ومدنيتهم.
2- خصائص الطبيعة العربية.
3- السر في اختيار العرب للرسالة.
4- معلومات مغلوطة عن العرب.
5- إرم ذات العماد وحضارتها.
6- أمة ثمود وحضارتها.
7- قصة ملكة سبأ، والعبرة منها.
__________
(1) العرب في القرآن: محاضرة ارتجلها الإمام عبد الحميد بن باديس في نادي الترقي بالعاصم الجزائرية في غرة ربيع الأول سنة 1358هـ (إبريل سنة 1939م) . ونشرت في مجلة الشهاب في المجلد الخامس عشر (حاشية المطبوع: [ص:657] ) .[/rtl]
[rtl]واجب المسلمين العناية بتاريخهم ومدنيتهم:
حق على كل من يدين بالإسلام ويهتدي بهدي القرآن أن يعتني بتاريخ العرب ومدنيتهم، وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام، وذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام، ولعناية القرآن بهم، ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام، وما فيه من آداب وحكم وفضائل إلى أمم الأرض.
فأما أنهم قد ارتبط تاريخهم بالإسلام، فلأن العرب هيئوا تاريخياً لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية، ولأن الله- الحكم العدل الذي يضع الأشياء في مواضعها بحكمة، ويأمرنا أن ننزل الناس منازلهم في شريعته- ما كان ليجعل هذه الرسالة العظيمة لغير أمة عظيمة: إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلاّ الجليل من الأمم والرجال، ولا يقوم بالعظائم إلاّ العظام من الناس.
وأما عناية القرآن بالعرب، فلأجل تربيتهم، لأنهم هم الذين هيئوا لتبليغ الرسالة، فيجب أن يأخذوا حظهم كاملاً من التربية قبل الناس كلهم، ولهذا نجد كثيرا من الآيات القرآنية في مراميها البعيدة.. إصلاحاً لحال العرب، وتطهيراً لمجتمعهم، وإثارة لمعاني العزة والشرف في نفوسهم.
ومن هذا الباب: الآيات التي يذكر بها العرب أن القرآن أنزل بلسانهم مثل:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] .
والذين يعقلون القرآن قبل الناس كلهم هم العرب. ومن أولى القصد إلى العرب والعناية بلسانهم، وتنبيههم إلى أن القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة- جلبًا لهم، حتى يعلموا أنه أنزل لهم وفيهم، قبل الناس كلهم.
إن العرب قوم يعتزون بقوميتهم، وهم قوم ذوو عزة وإباء، خصوصاً في الجاهلية؛ فكان من حكمة القرآن أن يجلب نافرهم، ويقرب بعيدهم؛ بأن هذا القرآن أنزل بلسانهم.
ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف، وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية، وتختلف في غير ذلك. وسع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها؛ لأن اللسان الذي نزل به لسانها. وهذا هو ما يقصده القرآن.
ومن هذا الباب أيضاً إشعارهم بأن صاحب الرسالة منهم:[/rtl]
[rtl]{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] .
خصائص الطبيعة العربية:
فمن الطبيعة العربية الخالصة: أنها لا تخضع للأجنبي في شيء، لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها.
ولذلك نرى القرآن يذكرها بالشرف، ويحدثها كثيراً عن أمة اليهود التي لا يناديها إلاّ بيا بني إسرائيل؛ تذكيراً لها بجدها الذي هو مناط فخرها كل ذلك لأنها أمة تحيا بالشرف والسمو والعلو.
ويذكرها بالذكر وهو في لسانها الشهرة الطائرة والثناء المستفيض، يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن:
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 43، 44] .
والأنبياء لم يبعثوا إلاّ في مناسب الشرف، ومنابع القوة، ومنابت العزة ليبنى المجد الطريف من الدين على المجد التليد من أحساب الأمة وأنسابها وشرفها وعزتها، وما كان لها من مناقب تلتئم مع أصول الدين.
فقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] ، ليشعرهم أن عليهم من الواجبات في مقابلة هذا الشرف الذي أعطوه ما ليس على غيرهم، ولا شك أن ثمن المجد غال!!
وهذا الشرط الذي ذكره الله، وذكر به العرب هو شرط واجب الاعتبار والتنفيذ، لأن الأمة التي لا تؤدي ثمن المجد لا تحافظ عليه، ثم هي أمة لا يعتمد عليها في النهوض بنفسها ولا بغيرها.
وإنما ذكرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس، وهو إحياء الشرف الإنساني في نفوسها، وليعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرحمة والتكريم.
وما ذكر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم، إلاّ ليعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق.
وإن أعداء البشرية اليوم وقبل اليوم، يعمدون إلى قتل الشرف من النفوس، ليستذلوا من هذا النوع ما أعز الله، ويهينوا منه ما كرم الله.
والخلاصة:
أن عناية القرآن بإحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم لما هيئوا له من سياسة البشر.[/rtl]
[rtl]وبهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله للعرب للنهوض بهذه الرسالة الإسلامية العالمية، واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل.
وهذا السر هو أن ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك، ولو كانوا أذلاء لما تهيأوا لذلك العمل العظيم.
الفروق بين العرب وإسرائيل:
وانظروا واعتبروا ذلك، بحال أمة هي أقرب أمة إلى العرب، وهي أمة إسرائيل: فإنها لم تُهيَّأ لانقاذ غيرها، وانما هيئت لإنقاذ نفسها فقط؛ لأن مقوماتها النفسية لم تصل بها إلى الدرجة العليا؛ ولذلك عانى موسى ما عانى مما قصه القرآن علينا؛ لنعتبر به في الحكم على الأمم.
ولا حاجة إلى التطويل في الحديث عن بني إسرائيل، فإن القرآن قد فصل لنا شؤونهم تفصيلاً، وإنما أنبهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمتين.
وقد تقولون: إن بني إسرائيل اختارهم الله وفضلهم على العالمين.
والجواب الذي يشهد له الواقع أنه اختارهم لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون، وليكونوا مظهراً للنبوة والدين في أول أطوارهما، وأضيق أدوارهما؛ وهذا هو الواقع. فإن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله، وأن تظهر دين الله على الدين كله. وأما بنو إسرائيل فإنهم ما استطاعوا أن ينهضوا بأنفسهم إلاّ بعد موسى بزمن، مع اتصال حبل النبوة ومعاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.
فالأمتان العربية والإسرائيلية متمايزتان بالأثر، ومتمايزتان بحديث القرآن عنهما.
وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة، وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان، في قوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5، 6] . فالسر المتجلي من هذه الآية: هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا الإنسان من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم، وهو إخراج الضد من الضد، وإخراج الحي من الميت، وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئاً من وسائل القوة الروحية، ولا من وسائل القوة المادية- من استعباد الأقوياء المتألهين.
فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخلب أقوى الأقوياء.
وجعل المستضعفين أئمة وارثين، وسادة غالبين. والتمكين لهم في الأرض، وإرادة الأقوياء المستعلين في الأرض عاقبة باطلهم، لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله.
وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكيناً لهذا المعنى في نفوسهم:[/rtl]
[rtl]{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] .
وإلى هذا المثل العملي تشير الآية:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] .
السر في اختيار العرب للرسالة العامة:
وأما العرب فإنهم اختيروا لوظيفة عالمية عامة لما فيهم شرف متأصل، واستعداد كامل، وصفات مهيأة.
ولهذا كان منبع الرسالة بمكة، وشأنها عند العرب هو شأنها!! فهم مجمعون على تقديسها.
ولأنها في وسط الجزيرة وصميمها، ووسط الجزيرة بعيد كل البعد عن المؤثرات الخارجية في الطباع والألسنة، تلك المؤثرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم.
وكل أطراف الجزيرة لم تخل من لوثة في الطباع، وعجمة في الألسنة جاءت من الاختلاط بالأجنبي، ولا أضر على مقومات الأمم من العروق الدساسة.
فاليمن دخلتها الدخائل الأجنبية من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم. والشام ومشارفه كانت مشرفة على الاستعجام. والعراق والجزيرة لم يسلما من التأثر بالطباع الفارسية. فكانت هذه الأطراف تنطوي على عروبة مزعزعة للمقومات، ولم يحافظ على الطبع العربي الصميم إلاّ صميم الجزيرة ومنه مكة التي ظهر فيها الإسلام.
وهذا الوسط وإن كان عريقاً في الصفات التي تسمى العصر لأجلها جاهلياً؛ ولكنه كان بعيداً عن الذل الذي يقتل العزة والشرف من النفوس؛ والجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه.. ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال.
هذا توجيه موجز مقرب لاختيار الله تعالى العرب للنهوض بالرسالة العامة.
وشيء آخر يرتبط بهذا:
وهو أن الله كما اختار العرب للنهوض بالعالم كذلك اختار لسانهم ليكون لسان هذه الرسالة، وترجمان هذه النهضة، ولا عجب في هذا؛ فاللسان الذي اتسع للوحي الإلهي لا يضيق أبداً بهذه النهضة العالمية مهما اتسعت آفاقها وزخرت علومها.[/rtl]
[rtl]وهذا جانب لا أتحدث عنه فقد كفانا مؤنته أخونا الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في محاضرته التي سمعتموها بالأمس (1) .
معلومات مغلوطة عن العرب:
قلنا في أول كلمتنا: إن العناية بالعرب حق على كل مسلم لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام. فما هو حظ العرب من القرآن من الناحية التاريخية بعد أن سمعتم هذه التوجيهات العامة؟
العرب مظلومون في التاريخ، فإن الناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجاً لا يصلحون لدنيا ولا دين حتى جاء الإسلام فاهتدوا به، فأخرجهم من الظلمات [[إلى]] النور.
هكذا يتخيل الناس العرب بهذه الصورة المشوهة، ويزيد هذا التخيل رسوخاً، ما هو مستفيض في آيات القرآن من تقبيح ما كان عليه العرب؛ ليحذرنا من جاهلية أخرى بعد جاهليتهم.
حقيقة العرب:
والحقيقة التي يجب أن أذيعها في هذا الموقف هي:
إن القرآن وحده هو الذي أنصف العرب، والناس بعد نزول القرآن قصروا في نظرتهم التاريخية إلى العرب، فنشأ ذلك التخيل الجائر عن القصد.
والتاريخ يجب ألا ينظر من جهة واحدة، بل ينظر من جهات متعددة وفي العرب نواح تجتبى ونواح تجتنب، وجهات تذم [[وتقبح]] ، وجهات يثنى عليها وتمدح.
وهذه هي طريقة القرآن بعينها: فهو يعيب على العرب رذائلهم النفسية كالوثنية، ونقائصهم الفعلية كالقسوة والقتل، وينوّه بصفاتهم الإنسانية التي شادوا بها مدنياتهم السالفة، واستحقوا بها النهوض بمدنية المدنيات.
1- أمة عاد
ولنذكر عاداً: فهي أمة عربية ذات تاريخ قديم، ومدنية باذخة ذكرها القرآن، فذكرها بالقوة والصولة وعزة الجانب، ونعى عليها الصفات الذميمة التي تنشأ عن القوة، قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] .
__________
(1) نشرت هذه المحاضرة للعلامة الإبراهيمي في الجزء الأول من المجلد الخامس عشر من مجلة الشهاب الصادرة في غرة المحرم سنة 1358هـ (حاشية المطبوع: [ص: 666] ) .[/rtl]
[rtl]فالنظرة التاريخية المجردة في هذه الآية وفيما ورد في موضوعها ترينا أن عاداً بلغت من القوة والعظمة مبلغاً لم تبلغه أمة من أمم الأرض في زمنها. حتى أن الله جل شأنه لم يتحدى قولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} إلاّ بقوته الإلهية، التي تذعن كل مخلوق ولو كانت في أمم الأرض إذ ذاك أمة أقوى منهم ... لكان الأبلغ أن يتحداهم بها.
وإن أمة تقول هذه الكلمة بحالها أو مقالها.. لهي أمة معتدة بقوتها وعظمتها!!
ومن هذه الآية وحدها نستفيد أن عاداً كانت أشد الأمم قوة، وأنها ما بلغت هذه الدرجة من القوة إلاّ بمؤهلات جنسية طبيعية للملك، وتعمير الأرض، وأن تلك المؤهلات فيها وفي غيرها من شعوب العرب هي التي أعدتهم للنهوض بالرسالة الإلهية.
وإن القرآن لا ينكر عليهم هذه المؤهلات، وإنما ينكر عليهم لوازمها ولا ينكر عليهم القوة والعظمة، وإنما ينكر عليهم أن يجعلوها ذرائع للباطل والبغي ومحادة الله؛ بدليل قوله لهذه الأمة: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] .؛ فهو يضمن لهم أنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات يزيد قوتهم تمكيناً وبقاء.
ومحال أن ينكر القرآن على الناس القوة وهو الداعي إليها والمنفر من الضعف، وإنما شرع القرآن بجنب الدعوة إلى القوة أن تكون للحق وللخير وللرحمة والعدل.
وكذلك قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128- 131] .
فإن هذه الآية- زيادة عن إفادتها لمعنى ما قدمناه- تكشف لنا نواحي من تاريخ هذه الأمة العربية، ومبلغ مدنيتها وتعميرها: فهي تدل على أنهم كانوا بصراء بعلم تخطيط المدن والأبنية، وهو علم لا يستحكم إلاّ باستحكام الحضارة في الأمة، ومأخذ هذا من قوله: {بِكُلِّ رِيعٍ ... } .
والآية في قوله: {آيَةً} هي بناء شامخ، يدل على قوتهم، أو هي آية هادية للسائرين؛ وهي على كل حال بناء عظيم يدل على عظمتهم وقوتهم، وما زالت عظمة البناء تدل على عظمة الباني.
ولم ينكر عليهم نبيهم نفس البناء الذي هو مظهر القوة، وإنما أنكر عليهم الغاية المقصودة لهم من ذلك البناء الشامخ. فمحط الإنكار قوله: {تَعْبَثُونَ} .
ولا شك أن كل بناء شامخ لا يكون لغاية شريفة محمودة، فهو عبث ولهو باطل.
و"المصانع" يقول المفسرون: إنها مجاري المياه، أو هي القصور، وعلى القولين فهي دليل معرفتهم بفن التعمير علماً وعملاً، وبلوغهم فيه مبلغاً عظيماً، فهي من شواهدنا على ما سقنا الحديث إليه.
ولكن ليت شعري، ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن معنى (المصنع) اللفظي الاشتقاقي؟![/rtl]
[rtl]والذي أفهمه ولا أعدل عنه، هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع، كالمعامل جمع معمل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران.
وهل كثير على أمة أن توصف بما وصفت فيه في الآية- أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؛ بلى؛ وإن المصانع لأول لازم من لوازم العمران، وأول نتيجة من نتائجه.
ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع، إلاّ تفسير بعضهم للسائحين والسائحات: بالصائمين والصائمات!
والحق: أن السائحين هم الرحالون والرواد للاطلاع والاكتشاف والاعتبار.
والقرآن الذي يحث على السير في الأرض والنظر في آثار الأمم الخالية.. حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين والحامدين والراكعين والساجدين. فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع والسجود.
ولا يقولن قائل: إذا كانت المصانع ما فهمتم.. فلماذا يقبحها لهم وينكرها عليهم؟
والجواب:
فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها، وإنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها، فإن المصانع التي تشيد على القسوة لا تحمد في مبدأ ولا غاية. وأي عاقل يرتاب في أن غالبية المصانع اليوم هي أدوات عذاب لا رحمة، ووسائل تدمير لا تعمير؟؟
فهل تحمدها على عمومها؛ وإن كانت دلائل حضارة ومدنية؟؟!!
ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر ولرحمتهم، ومن لوازم ذلك أن نراعي فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة!!
***
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}
لا بد لكل أمة تسود وتقوى من بطش.
ولكن البطش فيه ما هو حق، بأن يكون انتصافاً وقصاصاً، وإقامة لقسطاس العدل بين الناس.
وفيه ما هو بطش الجبارين، والجبار هو الذي يجبرك على أن تعمل بإرادته لا بإرادتك، فبطشه إنما يكون انتقاما لكبريائه وجبروته وإرضاء لظلمه وعتوه، وتنفيذا لإرادته الجائرة التي لا تبنى على شورى، وإنما تبنى على التشهي وهوى النفس؛ لذلك لم ينقم منهم البطش لأنه بطش ... وإنما نقم بطش الجبابرة الذي كله ظلم.[/rtl]
[rtl]2- إرم ذات العماد وحضارتها
وفي القرآن ما هو كالتتمة لبحثنا عن حضارة العرب، وكالعلاقة لحضارة عاد بعينها، وهي حكاية عاد إرم ذات العماد.
فهذا الوصف البليغ الذي تقرؤه في سورة الفجر صريح بألفاظه ومعانيه في أنه وصف لحضارة عمرانية لا نظير لها: فالعماد لا تكون إلاّ في القصور والأبنية الباذخة والمدن المخططة على نظام محكم.
وقد قال تعالى وهو العالم بكل شيء إنه لم يخلق مثلها في البلاد.
ومدينة هذا وصفها لا تشيدها إلاّ أمة لا نظير لها في القوة وآثار الحضارة، يتبع بعضها بعضاً في الضخامة والعظم والوصف القرآني لها، وإن سيق للاتعاظ بعاقبتهم، يدل البحث التاريخي على أنهم بلغوا في الحضارة غاية لا وراءها.
وهم أمة عربية، فهذه المدينة شيدت في جزيرة العرب لا محالة.
وإن الأقرب في التذكير بهم والاتعاظ بمصيرهم أن تكون الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} علمية؛ لأن التذكير عام لمن تتيسر له رؤية العين ولمن لم تتيسر له.
ولو ائتمرت الأمم الإسلامية بأوامر القرآن، لنشأ فيها رواد يرودون الجزيرة، ويجوبون مجاهلها، ولو فعلوا لأمكن أن يعزوا على آثار هذه المدينة في أرض عاد، وهي معروفة، ويجمعوا بين الرؤية البصرية، والرؤية العلمية، وبين العلم والاتعاظ.
وإننا لا نعبأ في مقام البحث العلمي بما حف هذه الحكاية من أساطير، ولا بما وقع فيه شيخ المؤرخين ابن خلدون حينما تعرض لنقض تلك الأساطير.
3- أمة ثمود وحضارتها
وأمة أخرى من الأمم العربية، وهي (ثمود) ، وهي أمة عربية، نلعنها بلعن القرآن لها، ولكننا نذكرها بما ذكرها به القرآن من قوة وتعمير وحضارة.
فصالح رسول هذه الأمة- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في دعوتها إلى الله وتعريفها بنعمه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] .
فآية أمة لا تعمر الأرض إلاّ إذا ملكت وسائل التعمير وهى كثيرة، ومجموعها هو ما نسميه الحضارة أو المدنية.
وقد كشفت لنا عن هذا الاستعمار الثمودي عدة آيات بليغة الوصف، ولكن أبلغها وصفاً وأدقها تصويراً قوله تعالى:[/rtl]
[rtl]{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} ؟ [الشعراء: 146- 149] .
أما المغزى الذي سيقت هذه الآية لأجله فهو الإنكار عليهم:
كيف يستعينون بنعم الله التي يسرها لهم على الكفر به؟.
وإنذارهم أن الكفر بها وبمؤتيها.. سيكون سبباً في زوالها.
وفي ضمن هذا عرفنا حالتهم التي كانوا عليها في تعمير الأرض: وهي حالة أمة بلغت النهاية في الحضارة المادية وفنونها.
من زرع الأرض وتلوينها بأصناف الشجر منظمة.
وتقسيم المياه على تلك الغروس إلى ما يستلزمها كل ذلك من علم بحال الأرض وطبائعها.
وأحوال الأشجار المغترسة وطبائعها.
وأحوال الفصول الزمنية، وأحوال الجو، وأحوال التلقيح والآبار والجَني.
وعلم بأصناف التمتع من مناظر، ومجالس، ومقامات ومآكل.
ثم القيام على حفظ ذلك العمران من إفساد الأيدي السارقة.
وكل هذا مما يستلزمه وصف القرآن لحالهم، لأجل تذكيرهم والتذكير بهم.
وقد ذكرهم القرآن في مواضع بإتقانهم لنحت الحجر والشجر آيتا الحضارة المبصرتان. ومن يعرف الحضارة الرومانية بهذا الوطن يعرف أنها ما قامت إلاّ على نحت الحجر وغرس الشجر.
وإن نحت الحجر ليستدعي حاسة فنية خاصة، ويستدعي مع ذلك قوة بدنية؛ وقد نعتهم القرآن في نحتهم للحجر بحالة ملابسة:
فوصفهم مرة بأنهم "آمنون" ومرة بأنهم "فرهون" والفاره هو الذي يعمل بنشاط وخفة، ولا يأتيه ذلك إلاّ من خبرته بما يعمل، وعلمه بدقائقه واعتياده له. ومعنى هذا أن أصول هذه الصناعة التي اشتهر بها المصريون القدماء، والرومان، قد رسخت فيهم.
ولكن التاريخ المنقول ظلم العرب وبخسهم حقهم كما قلت لكم!!
هاتان أمتان من الأمم العربية أثبت القرآن حالهما، فكان لنا مصدراً تاريخياً معصوماً في إثبات حضارة الشعوب العربية التي برزت فيها الأمم.
***
حضارة اليمن
ولننتقل الآن إلى ناحية أخرى من نواحي الجزيرة، وهي اليمن التي عرفها اليونان وغيرهم، وعرفوا المدنيات التي قامت فيها، فسموها بالعربية السعيدة.[/rtl]
[rtl]وإننا إذا انتقلنا إلى هذه الناحية من الجزيرة: نجد العز القدموس (1) ، والمجد الباذخ، والماضي الزاهر لهذه الأمة التي نفتخر بالانتساب إليها، ونباهي الأمم بمدنياتها بالحق والبرهان.
وإننا في حديثنا عن اليمن لا نخرج عن شواهد القرآن:
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) } [سبأ: 15- 19] .
ليس المقام مقام تبسط في وجوه البلاغة المعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات:
فقد استوعبت تاريخ أمة في سطور، وصورت لنا أطواراً اجتماعية كاملة في جمل قليلة أبدع تصوير، ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة، لا أظن غير اللسان العربب يتسع لحملها: كقوله {قُرًى ظَاهِرَةً} ، وكقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} ، وكقوله: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} . حتى إذا وصل القارىء إلى مصير الأمة التي سمع ما هاله من وصفها، واجهه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} . وأدركه الغرق في لجج البلاغة الزاخرة.
اللهم إن السلامة في الساحل، وإننا لا نعدو موضوعنا، وهو تصوير حضارة العرب مما يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرسله.
الآيات صريحة في أن مدنية سبأ كانت مدنية زاهرة مستكملة الأدوات.
ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته، وعلم ما نعلم أن مدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال. ويمين من؛ وشمال من؛ إنه ولا شك يمين السائر في تلك المدن أو الأراضي وشماله.
ومعنى هذا: أن طرق السير كانت منظمة تبعاً لتنظيم الغروس عن يمينها وشمالها. والاكتشافات الأثرية اليوم التي كان لليمن حظ ضئيل منها- وإن كان على غير يد أهلها- تشهد بأن أمم الحضارات اليمنية كانت من أسبق الأمم إلى بناء السدود المنيعة، لحصر المياه والانتفاع بها في تعمير الأرض، وإقامة السدود لا تتم بالفكر البدوي، والعمل اليدوي، بل تتوقف على علوم
__________
(1) القدْمُوس والقُدموسة: الصخرة العظيمة. وجيش قدموس: عظيم. والقدموس: الملك الضخم. وقيل: هو السيد. والقدموس: القديم. وعز قدموس وقدماس: قديم، يقال: حسب قدموس أي قديم. والقدموس: المتقدم. وقدموس العسكر: مقدمه. والقدموس والقدامس: الشديد. انظر لسان العرب (6/ 170- مادة قدمس) .[/rtl]
[rtl]فكرية.. منها الهندسة، والهندسة تتوقف ثمراتها على علم كثيرة، وعلوم العمران كعروق البدن يمد بعضها بعضاً، فهي مترابطة متماسكة متلاحمة، فما يكون السبئيون بلغوا في الهندسة مبلغاً أقاموا به سد مأرب؛ حتى يبلغوا في غيره من علوم العمران ذلك المبلغ.
ولكن لما كفروا بأنعم الله واستعملوها في ما يسخطه، سلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم، وأباد حضارتهم، وذلك قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . ويقول في وصف عمرانهم: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} يعني أن عمرانهم لم يكن محدوداً وإنما كان متصلاً بعضه ببعضه.
فالقرى والمدن يظهر بعضها من بعضها لقربها وتلاحمها، فلا يكاد المسافر يبرح مدينة حتى تبدو له أعلام الأخرى، ولا يكون هذا إلاّ إذا كان العمران متصلاً، وهذا هو معنى الظهور في الآية فهو ظهور خاص.
وتقدير السير هو أن يكون منظماً ومن لوازمه أن تكون الأوقات مضبوطة بالساعات، والطرق محدودة بالعلامات التي تضبط المسافة.
وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} يرشدنا إلى امتداد العمران مسافة الليالي والأيام، وأن الأمن كان ماداً رواقه على هذا العمران ولا يتم العمران إلاّ بالأمن.
ولكن فات القوم أن يحصنوا هذه المدنية الزاخرة بسياج الإيمان، والشكر، والفضيلة، والعدل- وكل مدنية لم تحصن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب.
والناس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر، يحسبون أنها خالدة بعظمتها باقية بذاتها، فالقرآن يذكر لنا كثيراً من مصائر الأمم، حتى لا نغتر بمظاهرها، وحتى نعلم أن سنة الله لا تتخلف في الآخرين، كما لم تتخلف في الأولين.
وأما قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟!
والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، وإنما هو نتيجة أعمالهم، ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة؛ فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله، وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة.
ولا زال الناس- على عاميتهم- يقولون فيمن عمل عملاً يستحق عليه الضرب أو القتل:
إنه يقول اقتلني أو اضربني وهو لم يقل ذلك، وإنما أعماله هي التي تدعو إلى ذلك.
فالمعنى: أن أعمالهم هي التي طلبت جزاءها اللازم لها المرتبط بها ارتباط اللازم بالملزوم والدال بالمدلول، فكأن ألسنتهم قالت ذلك، ويؤيد هذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ} [الأنعام: 138، 139] .؛ لأن الجزاء أثر للفعل فهو مرتبط به.
ولا يقولن قائل: إن القول يقع مدلوله قي القلب حالاً، ولا كذلك العمل، فقد يتأخر[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]جزاؤه طويلًا؛ لأن الجزاء إذا كان محقق الوقوع يصير كأنه حاصل بالفعل، وكل عاقل يقطع بأنه إذا وقع الظلم من الظالم ... فقد استحق عليه الجزاء، ولا يلاحظ مسافة ما بين الظلم وجزائه. أما المباعدة بين أسفارهم التي اقتضاها كفرهم بأنعم الله فهي كناية عن محو العمران، وخراب القرى التي كانت ظاهرة متقاربة، حتى لا يبقى منها إلاّ القليل فيتباعد ذلك القليل بالطبع بخراب الكثير.
وأين العمران المتلاحم الذي يرتاح فيه المسافر لضبط المسافة، وتعدد المشاهد ... من الخراب الذي يوحش النفس فيزيد المسافة بعداً على بعد؟؟!!.
***
[/b]
في هذا القسم:
وفي هذه المحاضرة (1) القيمة:
1- واجب المسلمين العناية بتاريخهم ومدنيتهم.
2- خصائص الطبيعة العربية.
3- السر في اختيار العرب للرسالة.
4- معلومات مغلوطة عن العرب.
5- إرم ذات العماد وحضارتها.
6- أمة ثمود وحضارتها.
7- قصة ملكة سبأ، والعبرة منها.
__________
(1) العرب في القرآن: محاضرة ارتجلها الإمام عبد الحميد بن باديس في نادي الترقي بالعاصم الجزائرية في غرة ربيع الأول سنة 1358هـ (إبريل سنة 1939م) . ونشرت في مجلة الشهاب في المجلد الخامس عشر (حاشية المطبوع: [ص:657] ) .[/rtl]
[rtl](1/387)[/rtl]
حق على كل من يدين بالإسلام ويهتدي بهدي القرآن أن يعتني بتاريخ العرب ومدنيتهم، وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام، وذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام، ولعناية القرآن بهم، ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام، وما فيه من آداب وحكم وفضائل إلى أمم الأرض.
فأما أنهم قد ارتبط تاريخهم بالإسلام، فلأن العرب هيئوا تاريخياً لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية، ولأن الله- الحكم العدل الذي يضع الأشياء في مواضعها بحكمة، ويأمرنا أن ننزل الناس منازلهم في شريعته- ما كان ليجعل هذه الرسالة العظيمة لغير أمة عظيمة: إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلاّ الجليل من الأمم والرجال، ولا يقوم بالعظائم إلاّ العظام من الناس.
وأما عناية القرآن بالعرب، فلأجل تربيتهم، لأنهم هم الذين هيئوا لتبليغ الرسالة، فيجب أن يأخذوا حظهم كاملاً من التربية قبل الناس كلهم، ولهذا نجد كثيرا من الآيات القرآنية في مراميها البعيدة.. إصلاحاً لحال العرب، وتطهيراً لمجتمعهم، وإثارة لمعاني العزة والشرف في نفوسهم.
ومن هذا الباب: الآيات التي يذكر بها العرب أن القرآن أنزل بلسانهم مثل:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] .
والذين يعقلون القرآن قبل الناس كلهم هم العرب. ومن أولى القصد إلى العرب والعناية بلسانهم، وتنبيههم إلى أن القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة- جلبًا لهم، حتى يعلموا أنه أنزل لهم وفيهم، قبل الناس كلهم.
إن العرب قوم يعتزون بقوميتهم، وهم قوم ذوو عزة وإباء، خصوصاً في الجاهلية؛ فكان من حكمة القرآن أن يجلب نافرهم، ويقرب بعيدهم؛ بأن هذا القرآن أنزل بلسانهم.
ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف، وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية، وتختلف في غير ذلك. وسع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها؛ لأن اللسان الذي نزل به لسانها. وهذا هو ما يقصده القرآن.
ومن هذا الباب أيضاً إشعارهم بأن صاحب الرسالة منهم:[/rtl]
[rtl](1/389)[/rtl]
خصائص الطبيعة العربية:
فمن الطبيعة العربية الخالصة: أنها لا تخضع للأجنبي في شيء، لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها.
ولذلك نرى القرآن يذكرها بالشرف، ويحدثها كثيراً عن أمة اليهود التي لا يناديها إلاّ بيا بني إسرائيل؛ تذكيراً لها بجدها الذي هو مناط فخرها كل ذلك لأنها أمة تحيا بالشرف والسمو والعلو.
ويذكرها بالذكر وهو في لسانها الشهرة الطائرة والثناء المستفيض، يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن:
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 43، 44] .
والأنبياء لم يبعثوا إلاّ في مناسب الشرف، ومنابع القوة، ومنابت العزة ليبنى المجد الطريف من الدين على المجد التليد من أحساب الأمة وأنسابها وشرفها وعزتها، وما كان لها من مناقب تلتئم مع أصول الدين.
فقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] ، ليشعرهم أن عليهم من الواجبات في مقابلة هذا الشرف الذي أعطوه ما ليس على غيرهم، ولا شك أن ثمن المجد غال!!
وهذا الشرط الذي ذكره الله، وذكر به العرب هو شرط واجب الاعتبار والتنفيذ، لأن الأمة التي لا تؤدي ثمن المجد لا تحافظ عليه، ثم هي أمة لا يعتمد عليها في النهوض بنفسها ولا بغيرها.
وإنما ذكرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس، وهو إحياء الشرف الإنساني في نفوسها، وليعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرحمة والتكريم.
وما ذكر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم، إلاّ ليعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق.
وإن أعداء البشرية اليوم وقبل اليوم، يعمدون إلى قتل الشرف من النفوس، ليستذلوا من هذا النوع ما أعز الله، ويهينوا منه ما كرم الله.
والخلاصة:
أن عناية القرآن بإحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم لما هيئوا له من سياسة البشر.[/rtl]
[rtl](1/390)[/rtl]
وهذا السر هو أن ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك، ولو كانوا أذلاء لما تهيأوا لذلك العمل العظيم.
الفروق بين العرب وإسرائيل:
وانظروا واعتبروا ذلك، بحال أمة هي أقرب أمة إلى العرب، وهي أمة إسرائيل: فإنها لم تُهيَّأ لانقاذ غيرها، وانما هيئت لإنقاذ نفسها فقط؛ لأن مقوماتها النفسية لم تصل بها إلى الدرجة العليا؛ ولذلك عانى موسى ما عانى مما قصه القرآن علينا؛ لنعتبر به في الحكم على الأمم.
ولا حاجة إلى التطويل في الحديث عن بني إسرائيل، فإن القرآن قد فصل لنا شؤونهم تفصيلاً، وإنما أنبهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمتين.
وقد تقولون: إن بني إسرائيل اختارهم الله وفضلهم على العالمين.
والجواب الذي يشهد له الواقع أنه اختارهم لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون، وليكونوا مظهراً للنبوة والدين في أول أطوارهما، وأضيق أدوارهما؛ وهذا هو الواقع. فإن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله، وأن تظهر دين الله على الدين كله. وأما بنو إسرائيل فإنهم ما استطاعوا أن ينهضوا بأنفسهم إلاّ بعد موسى بزمن، مع اتصال حبل النبوة ومعاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.
فالأمتان العربية والإسرائيلية متمايزتان بالأثر، ومتمايزتان بحديث القرآن عنهما.
وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة، وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان، في قوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5، 6] . فالسر المتجلي من هذه الآية: هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا الإنسان من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم، وهو إخراج الضد من الضد، وإخراج الحي من الميت، وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئاً من وسائل القوة الروحية، ولا من وسائل القوة المادية- من استعباد الأقوياء المتألهين.
فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخلب أقوى الأقوياء.
وجعل المستضعفين أئمة وارثين، وسادة غالبين. والتمكين لهم في الأرض، وإرادة الأقوياء المستعلين في الأرض عاقبة باطلهم، لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله.
وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكيناً لهذا المعنى في نفوسهم:[/rtl]
[rtl](1/391)[/rtl]
وإلى هذا المثل العملي تشير الآية:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] .
السر في اختيار العرب للرسالة العامة:
وأما العرب فإنهم اختيروا لوظيفة عالمية عامة لما فيهم شرف متأصل، واستعداد كامل، وصفات مهيأة.
ولهذا كان منبع الرسالة بمكة، وشأنها عند العرب هو شأنها!! فهم مجمعون على تقديسها.
ولأنها في وسط الجزيرة وصميمها، ووسط الجزيرة بعيد كل البعد عن المؤثرات الخارجية في الطباع والألسنة، تلك المؤثرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم.
وكل أطراف الجزيرة لم تخل من لوثة في الطباع، وعجمة في الألسنة جاءت من الاختلاط بالأجنبي، ولا أضر على مقومات الأمم من العروق الدساسة.
فاليمن دخلتها الدخائل الأجنبية من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم. والشام ومشارفه كانت مشرفة على الاستعجام. والعراق والجزيرة لم يسلما من التأثر بالطباع الفارسية. فكانت هذه الأطراف تنطوي على عروبة مزعزعة للمقومات، ولم يحافظ على الطبع العربي الصميم إلاّ صميم الجزيرة ومنه مكة التي ظهر فيها الإسلام.
وهذا الوسط وإن كان عريقاً في الصفات التي تسمى العصر لأجلها جاهلياً؛ ولكنه كان بعيداً عن الذل الذي يقتل العزة والشرف من النفوس؛ والجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه.. ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال.
هذا توجيه موجز مقرب لاختيار الله تعالى العرب للنهوض بالرسالة العامة.
وشيء آخر يرتبط بهذا:
وهو أن الله كما اختار العرب للنهوض بالعالم كذلك اختار لسانهم ليكون لسان هذه الرسالة، وترجمان هذه النهضة، ولا عجب في هذا؛ فاللسان الذي اتسع للوحي الإلهي لا يضيق أبداً بهذه النهضة العالمية مهما اتسعت آفاقها وزخرت علومها.[/rtl]
[rtl](1/392)[/rtl]
معلومات مغلوطة عن العرب:
قلنا في أول كلمتنا: إن العناية بالعرب حق على كل مسلم لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام. فما هو حظ العرب من القرآن من الناحية التاريخية بعد أن سمعتم هذه التوجيهات العامة؟
العرب مظلومون في التاريخ، فإن الناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجاً لا يصلحون لدنيا ولا دين حتى جاء الإسلام فاهتدوا به، فأخرجهم من الظلمات [[إلى]] النور.
هكذا يتخيل الناس العرب بهذه الصورة المشوهة، ويزيد هذا التخيل رسوخاً، ما هو مستفيض في آيات القرآن من تقبيح ما كان عليه العرب؛ ليحذرنا من جاهلية أخرى بعد جاهليتهم.
حقيقة العرب:
والحقيقة التي يجب أن أذيعها في هذا الموقف هي:
إن القرآن وحده هو الذي أنصف العرب، والناس بعد نزول القرآن قصروا في نظرتهم التاريخية إلى العرب، فنشأ ذلك التخيل الجائر عن القصد.
والتاريخ يجب ألا ينظر من جهة واحدة، بل ينظر من جهات متعددة وفي العرب نواح تجتبى ونواح تجتنب، وجهات تذم [[وتقبح]] ، وجهات يثنى عليها وتمدح.
وهذه هي طريقة القرآن بعينها: فهو يعيب على العرب رذائلهم النفسية كالوثنية، ونقائصهم الفعلية كالقسوة والقتل، وينوّه بصفاتهم الإنسانية التي شادوا بها مدنياتهم السالفة، واستحقوا بها النهوض بمدنية المدنيات.
1- أمة عاد
ولنذكر عاداً: فهي أمة عربية ذات تاريخ قديم، ومدنية باذخة ذكرها القرآن، فذكرها بالقوة والصولة وعزة الجانب، ونعى عليها الصفات الذميمة التي تنشأ عن القوة، قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] .
__________
(1) نشرت هذه المحاضرة للعلامة الإبراهيمي في الجزء الأول من المجلد الخامس عشر من مجلة الشهاب الصادرة في غرة المحرم سنة 1358هـ (حاشية المطبوع: [ص: 666] ) .[/rtl]
[rtl](1/393)[/rtl]
وإن أمة تقول هذه الكلمة بحالها أو مقالها.. لهي أمة معتدة بقوتها وعظمتها!!
ومن هذه الآية وحدها نستفيد أن عاداً كانت أشد الأمم قوة، وأنها ما بلغت هذه الدرجة من القوة إلاّ بمؤهلات جنسية طبيعية للملك، وتعمير الأرض، وأن تلك المؤهلات فيها وفي غيرها من شعوب العرب هي التي أعدتهم للنهوض بالرسالة الإلهية.
وإن القرآن لا ينكر عليهم هذه المؤهلات، وإنما ينكر عليهم لوازمها ولا ينكر عليهم القوة والعظمة، وإنما ينكر عليهم أن يجعلوها ذرائع للباطل والبغي ومحادة الله؛ بدليل قوله لهذه الأمة: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] .؛ فهو يضمن لهم أنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات يزيد قوتهم تمكيناً وبقاء.
ومحال أن ينكر القرآن على الناس القوة وهو الداعي إليها والمنفر من الضعف، وإنما شرع القرآن بجنب الدعوة إلى القوة أن تكون للحق وللخير وللرحمة والعدل.
وكذلك قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128- 131] .
فإن هذه الآية- زيادة عن إفادتها لمعنى ما قدمناه- تكشف لنا نواحي من تاريخ هذه الأمة العربية، ومبلغ مدنيتها وتعميرها: فهي تدل على أنهم كانوا بصراء بعلم تخطيط المدن والأبنية، وهو علم لا يستحكم إلاّ باستحكام الحضارة في الأمة، ومأخذ هذا من قوله: {بِكُلِّ رِيعٍ ... } .
والآية في قوله: {آيَةً} هي بناء شامخ، يدل على قوتهم، أو هي آية هادية للسائرين؛ وهي على كل حال بناء عظيم يدل على عظمتهم وقوتهم، وما زالت عظمة البناء تدل على عظمة الباني.
ولم ينكر عليهم نبيهم نفس البناء الذي هو مظهر القوة، وإنما أنكر عليهم الغاية المقصودة لهم من ذلك البناء الشامخ. فمحط الإنكار قوله: {تَعْبَثُونَ} .
ولا شك أن كل بناء شامخ لا يكون لغاية شريفة محمودة، فهو عبث ولهو باطل.
و"المصانع" يقول المفسرون: إنها مجاري المياه، أو هي القصور، وعلى القولين فهي دليل معرفتهم بفن التعمير علماً وعملاً، وبلوغهم فيه مبلغاً عظيماً، فهي من شواهدنا على ما سقنا الحديث إليه.
ولكن ليت شعري، ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن معنى (المصنع) اللفظي الاشتقاقي؟![/rtl]
[rtl](1/394)[/rtl]
وهل كثير على أمة أن توصف بما وصفت فيه في الآية- أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؛ بلى؛ وإن المصانع لأول لازم من لوازم العمران، وأول نتيجة من نتائجه.
ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع، إلاّ تفسير بعضهم للسائحين والسائحات: بالصائمين والصائمات!
والحق: أن السائحين هم الرحالون والرواد للاطلاع والاكتشاف والاعتبار.
والقرآن الذي يحث على السير في الأرض والنظر في آثار الأمم الخالية.. حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين والحامدين والراكعين والساجدين. فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع والسجود.
ولا يقولن قائل: إذا كانت المصانع ما فهمتم.. فلماذا يقبحها لهم وينكرها عليهم؟
والجواب:
فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها، وإنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها، فإن المصانع التي تشيد على القسوة لا تحمد في مبدأ ولا غاية. وأي عاقل يرتاب في أن غالبية المصانع اليوم هي أدوات عذاب لا رحمة، ووسائل تدمير لا تعمير؟؟
فهل تحمدها على عمومها؛ وإن كانت دلائل حضارة ومدنية؟؟!!
ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر ولرحمتهم، ومن لوازم ذلك أن نراعي فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة!!
***
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}
لا بد لكل أمة تسود وتقوى من بطش.
ولكن البطش فيه ما هو حق، بأن يكون انتصافاً وقصاصاً، وإقامة لقسطاس العدل بين الناس.
وفيه ما هو بطش الجبارين، والجبار هو الذي يجبرك على أن تعمل بإرادته لا بإرادتك، فبطشه إنما يكون انتقاما لكبريائه وجبروته وإرضاء لظلمه وعتوه، وتنفيذا لإرادته الجائرة التي لا تبنى على شورى، وإنما تبنى على التشهي وهوى النفس؛ لذلك لم ينقم منهم البطش لأنه بطش ... وإنما نقم بطش الجبابرة الذي كله ظلم.[/rtl]
[rtl](1/395)[/rtl]
وفي القرآن ما هو كالتتمة لبحثنا عن حضارة العرب، وكالعلاقة لحضارة عاد بعينها، وهي حكاية عاد إرم ذات العماد.
فهذا الوصف البليغ الذي تقرؤه في سورة الفجر صريح بألفاظه ومعانيه في أنه وصف لحضارة عمرانية لا نظير لها: فالعماد لا تكون إلاّ في القصور والأبنية الباذخة والمدن المخططة على نظام محكم.
وقد قال تعالى وهو العالم بكل شيء إنه لم يخلق مثلها في البلاد.
ومدينة هذا وصفها لا تشيدها إلاّ أمة لا نظير لها في القوة وآثار الحضارة، يتبع بعضها بعضاً في الضخامة والعظم والوصف القرآني لها، وإن سيق للاتعاظ بعاقبتهم، يدل البحث التاريخي على أنهم بلغوا في الحضارة غاية لا وراءها.
وهم أمة عربية، فهذه المدينة شيدت في جزيرة العرب لا محالة.
وإن الأقرب في التذكير بهم والاتعاظ بمصيرهم أن تكون الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} علمية؛ لأن التذكير عام لمن تتيسر له رؤية العين ولمن لم تتيسر له.
ولو ائتمرت الأمم الإسلامية بأوامر القرآن، لنشأ فيها رواد يرودون الجزيرة، ويجوبون مجاهلها، ولو فعلوا لأمكن أن يعزوا على آثار هذه المدينة في أرض عاد، وهي معروفة، ويجمعوا بين الرؤية البصرية، والرؤية العلمية، وبين العلم والاتعاظ.
وإننا لا نعبأ في مقام البحث العلمي بما حف هذه الحكاية من أساطير، ولا بما وقع فيه شيخ المؤرخين ابن خلدون حينما تعرض لنقض تلك الأساطير.
3- أمة ثمود وحضارتها
وأمة أخرى من الأمم العربية، وهي (ثمود) ، وهي أمة عربية، نلعنها بلعن القرآن لها، ولكننا نذكرها بما ذكرها به القرآن من قوة وتعمير وحضارة.
فصالح رسول هذه الأمة- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في دعوتها إلى الله وتعريفها بنعمه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] .
فآية أمة لا تعمر الأرض إلاّ إذا ملكت وسائل التعمير وهى كثيرة، ومجموعها هو ما نسميه الحضارة أو المدنية.
وقد كشفت لنا عن هذا الاستعمار الثمودي عدة آيات بليغة الوصف، ولكن أبلغها وصفاً وأدقها تصويراً قوله تعالى:[/rtl]
[rtl](1/396)[/rtl]
أما المغزى الذي سيقت هذه الآية لأجله فهو الإنكار عليهم:
كيف يستعينون بنعم الله التي يسرها لهم على الكفر به؟.
وإنذارهم أن الكفر بها وبمؤتيها.. سيكون سبباً في زوالها.
وفي ضمن هذا عرفنا حالتهم التي كانوا عليها في تعمير الأرض: وهي حالة أمة بلغت النهاية في الحضارة المادية وفنونها.
من زرع الأرض وتلوينها بأصناف الشجر منظمة.
وتقسيم المياه على تلك الغروس إلى ما يستلزمها كل ذلك من علم بحال الأرض وطبائعها.
وأحوال الأشجار المغترسة وطبائعها.
وأحوال الفصول الزمنية، وأحوال الجو، وأحوال التلقيح والآبار والجَني.
وعلم بأصناف التمتع من مناظر، ومجالس، ومقامات ومآكل.
ثم القيام على حفظ ذلك العمران من إفساد الأيدي السارقة.
وكل هذا مما يستلزمه وصف القرآن لحالهم، لأجل تذكيرهم والتذكير بهم.
وقد ذكرهم القرآن في مواضع بإتقانهم لنحت الحجر والشجر آيتا الحضارة المبصرتان. ومن يعرف الحضارة الرومانية بهذا الوطن يعرف أنها ما قامت إلاّ على نحت الحجر وغرس الشجر.
وإن نحت الحجر ليستدعي حاسة فنية خاصة، ويستدعي مع ذلك قوة بدنية؛ وقد نعتهم القرآن في نحتهم للحجر بحالة ملابسة:
فوصفهم مرة بأنهم "آمنون" ومرة بأنهم "فرهون" والفاره هو الذي يعمل بنشاط وخفة، ولا يأتيه ذلك إلاّ من خبرته بما يعمل، وعلمه بدقائقه واعتياده له. ومعنى هذا أن أصول هذه الصناعة التي اشتهر بها المصريون القدماء، والرومان، قد رسخت فيهم.
ولكن التاريخ المنقول ظلم العرب وبخسهم حقهم كما قلت لكم!!
هاتان أمتان من الأمم العربية أثبت القرآن حالهما، فكان لنا مصدراً تاريخياً معصوماً في إثبات حضارة الشعوب العربية التي برزت فيها الأمم.
***
حضارة اليمن
ولننتقل الآن إلى ناحية أخرى من نواحي الجزيرة، وهي اليمن التي عرفها اليونان وغيرهم، وعرفوا المدنيات التي قامت فيها، فسموها بالعربية السعيدة.[/rtl]
[rtl](1/397)[/rtl]
وإننا في حديثنا عن اليمن لا نخرج عن شواهد القرآن:
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) } [سبأ: 15- 19] .
ليس المقام مقام تبسط في وجوه البلاغة المعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات:
فقد استوعبت تاريخ أمة في سطور، وصورت لنا أطواراً اجتماعية كاملة في جمل قليلة أبدع تصوير، ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة، لا أظن غير اللسان العربب يتسع لحملها: كقوله {قُرًى ظَاهِرَةً} ، وكقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} ، وكقوله: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} . حتى إذا وصل القارىء إلى مصير الأمة التي سمع ما هاله من وصفها، واجهه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} . وأدركه الغرق في لجج البلاغة الزاخرة.
اللهم إن السلامة في الساحل، وإننا لا نعدو موضوعنا، وهو تصوير حضارة العرب مما يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرسله.
الآيات صريحة في أن مدنية سبأ كانت مدنية زاهرة مستكملة الأدوات.
ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته، وعلم ما نعلم أن مدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال. ويمين من؛ وشمال من؛ إنه ولا شك يمين السائر في تلك المدن أو الأراضي وشماله.
ومعنى هذا: أن طرق السير كانت منظمة تبعاً لتنظيم الغروس عن يمينها وشمالها. والاكتشافات الأثرية اليوم التي كان لليمن حظ ضئيل منها- وإن كان على غير يد أهلها- تشهد بأن أمم الحضارات اليمنية كانت من أسبق الأمم إلى بناء السدود المنيعة، لحصر المياه والانتفاع بها في تعمير الأرض، وإقامة السدود لا تتم بالفكر البدوي، والعمل اليدوي، بل تتوقف على علوم
__________
(1) القدْمُوس والقُدموسة: الصخرة العظيمة. وجيش قدموس: عظيم. والقدموس: الملك الضخم. وقيل: هو السيد. والقدموس: القديم. وعز قدموس وقدماس: قديم، يقال: حسب قدموس أي قديم. والقدموس: المتقدم. وقدموس العسكر: مقدمه. والقدموس والقدامس: الشديد. انظر لسان العرب (6/ 170- مادة قدمس) .[/rtl]
[rtl](1/398)[/rtl]
ولكن لما كفروا بأنعم الله واستعملوها في ما يسخطه، سلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم، وأباد حضارتهم، وذلك قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . ويقول في وصف عمرانهم: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} يعني أن عمرانهم لم يكن محدوداً وإنما كان متصلاً بعضه ببعضه.
فالقرى والمدن يظهر بعضها من بعضها لقربها وتلاحمها، فلا يكاد المسافر يبرح مدينة حتى تبدو له أعلام الأخرى، ولا يكون هذا إلاّ إذا كان العمران متصلاً، وهذا هو معنى الظهور في الآية فهو ظهور خاص.
وتقدير السير هو أن يكون منظماً ومن لوازمه أن تكون الأوقات مضبوطة بالساعات، والطرق محدودة بالعلامات التي تضبط المسافة.
وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} يرشدنا إلى امتداد العمران مسافة الليالي والأيام، وأن الأمن كان ماداً رواقه على هذا العمران ولا يتم العمران إلاّ بالأمن.
ولكن فات القوم أن يحصنوا هذه المدنية الزاخرة بسياج الإيمان، والشكر، والفضيلة، والعدل- وكل مدنية لم تحصن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب.
والناس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر، يحسبون أنها خالدة بعظمتها باقية بذاتها، فالقرآن يذكر لنا كثيراً من مصائر الأمم، حتى لا نغتر بمظاهرها، وحتى نعلم أن سنة الله لا تتخلف في الآخرين، كما لم تتخلف في الأولين.
وأما قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟!
والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، وإنما هو نتيجة أعمالهم، ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة؛ فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله، وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة.
ولا زال الناس- على عاميتهم- يقولون فيمن عمل عملاً يستحق عليه الضرب أو القتل:
إنه يقول اقتلني أو اضربني وهو لم يقل ذلك، وإنما أعماله هي التي تدعو إلى ذلك.
فالمعنى: أن أعمالهم هي التي طلبت جزاءها اللازم لها المرتبط بها ارتباط اللازم بالملزوم والدال بالمدلول، فكأن ألسنتهم قالت ذلك، ويؤيد هذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ} [الأنعام: 138، 139] .؛ لأن الجزاء أثر للفعل فهو مرتبط به.
ولا يقولن قائل: إن القول يقع مدلوله قي القلب حالاً، ولا كذلك العمل، فقد يتأخر[/rtl]
[rtl](1/399)[/rtl]
وأين العمران المتلاحم الذي يرتاح فيه المسافر لضبط المسافة، وتعدد المشاهد ... من الخراب الذي يوحش النفس فيزيد المسافة بعداً على بعد؟؟!!.
***
[/b]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]قصة ملكة سبأ والعبرة منها
وملكة سبأ وعرشها العظيم وملكها، وما قصه القرآن من نبئها أعظم وأروع.
فمخبر سليمان- عليه السلام- يقول عنها: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] . وما وصف عرش ملكة سبأ بالعظيم عند سليمان نبي الله الذي سخر له الجن والريح، إلاّ وهو في نفسه عظيم.
العبر من القصة:
إن في قصة ملكة سبأ في القرآن لدرساً تتفجر منه ينابيع العظة والعبرة وإرشاداً إلى ما تقوم به الأمم.
ولولا أن هذا الخطاب قد طال ... لآثرنا منها العبر وآثرنا بها العبر. ولكن لا يفوتنا أن نختلس منها إرشادات، وما عليكم بعد ذلك إلاّ أن تتدبروا الآية، ففيها:
1- نظام الشورى صريحاً لا مواربة فيه.
2- وأن بناء الأمم إنما يعتمد على القوة، وقد تكون مؤنثة فلا بد أن يسندها بأس شديد.
3- وأن الملأ هم الأشراف وأهل الرأي، وهم أعضاء المجالس الشورية ولعلهم كانوا بالانتخاب الطبيعي أو الوراثي، وهو لا يكون إلاّ في الأمم التي شبت عن [[طوق]] البداوة.
ولعل كاتباً من كتابنا يتناول هذا البحث، بحث الانتخاب في الإسلام، ولئن استرشد القرآن في هذا الباب ليرشدنه.
أيها الإخوان:
هذه مدنيات ضخمة، غَبَرَتْ في هذه الأمة التي أهلها الله لحمل الرسالة الإلهية إلى العالم.
وهذه بعض خصائص هذه الأمة، التي هيّأها الله للنهوض بالعالم، وانقاذه من شرور الوثنية وبنيانها، ومن ضلال العبودية بجميع أصنافها.[/rtl]
[rtl](1/400)[/rtl]
[rtl]وإن القومية العربية موضوع متسع الأطراف، وليس من الممكن الإحاطة به في مثل هذا الخطاب.
وحسبي أن أكون قد خدمتها من هذه الناحية التي هي خدمة للاسلام والقرآن.
وعليكم السلام.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» الخبير الاقتصادي " مبتول" يِؤكد ضرورة بناء جزائر ما بعد المحروقات
» تنظيف موكيت سجاد فرشات مجالس | خصم 50% | اتصل الان
» شركة تنظيف مجالس بالخرج بخصم 30%|دليل شركات التنظيف
» شركة تنظيف مجالس-كنب-موكيت-سجاد-فرشات خصم50% | اتصل الان
» افضل شركة تنظيف مجالس بالمدينة المنورة بخصم 20% | الفتح كلين سيرفيس
» تنظيف موكيت سجاد فرشات مجالس | خصم 50% | اتصل الان
» شركة تنظيف مجالس بالخرج بخصم 30%|دليل شركات التنظيف
» شركة تنظيف مجالس-كنب-موكيت-سجاد-فرشات خصم50% | اتصل الان
» افضل شركة تنظيف مجالس بالمدينة المنورة بخصم 20% | الفتح كلين سيرفيس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
صفحة 2 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى