تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
صفحة 1 من اصل 2 • شاطر
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
نضع بين ايديكم تفسير ابن باديس الذي جاء تحت عنوان
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
التذكير
حقيقية التذكير أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان به جاهلًا، أو عنه ناسياً، أو غافلًا. وقد يقوم الفعل والسمت والهدي مقام القول، فيسمى تذكيراً مجازاً وتوسعاً.
ويجمع للثلاثة قولك: عباد الله الصالحون يذكرون الخلق بالخالق، بأقوالهم وأعمالهم وسمتهم.
حاجة الخلق إليه:
وحاجة العباد إلى هذا التذكير أعظم ما يحتاجون إليه وأشرف وألزم. فإن سعادتهم الحقيقية في هذه الحياة بإنارة عقولهم، وزكاة نفوسهم واستقامة سلوكهم.
وفي الحياة الأخرى بنعيم الجنان، وحلول الرضوان- إنما هي بإيمانهم بربهم، وشكرهم له.
وإن دلائل وجوده ووحدانيته وقيوميته، وآثار فضله وإحسانه ورحمته- ماثلة في الكون بادية للعيان، داعية إلى الشكر، هادية إلى الإيمان. لكن العقول كثيراً ما تكون مغلولة بقيود أهوائها، محجوبة بحجب غفلتها؟ فتعمى عن تلك الدلائل والآثار، فتكفر كفر جحود وعناد، أو كفر عصيان وطغيان؛ ويكون تورطها في كبائر الذنوب وصغائرها على مقدار تلك الحجب وتلك القيود. وليس- لغير من عصم الله- انفكاك أو خروج منها كلها.
فهم إذن بأشد الحاجة إلى تذكيرهم بتلك الدلائل وتلك الآثار ليحصلوا أسباب سعادتهم بالإيمان والشكر.
القائمون بالتذكير:
قد علم الله حاجة عباده إلى التذكير، فاصطفى منهم رجالًا أنعم عليهم بكمال الفطرة، ووقاية العصمة، وأرسلهم لتذكير العباد: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] ، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ، ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208، 209] .
(1/25)
________________________________________
فالأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام- أولو هذا المقام الجليل: مقام التذكير، ثم من بعدهم ورثتهم من العلماء العاملين.
تذكير النبي:
قد كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على سنة إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد، ممتثلا أمر ربه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] . إذ السيطرة لا تكون على القلوب؛ والإيمان -وهو من أعمال القلب- لا يكون بالإكراه، وإنما بذكر الحجج والأدلة، وكذلك سنة المرسلين في الدعوة إلى الله، كما قصها علينا القرآن الكريم في كثير من السور والآيات.
ما كان يذكر به النبي:
كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يذكرهم بقوله وعمله وهديه وسمته، ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه. وقد قالت عائشة الصديقة رضوان الله عليها، لما سئلت عن خلقه قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» .
فكان تذكيره كله بآيات القرآن: يتلوها، ويبينها بالبيان القولي والبيان العملي، ممتثلاً في ذلك كله أمر ربه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] .
فالقرآن وبيانه القولي والعملي من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ بهما يكون تذكير العباد، ودعوتهم لله رب العالمين.
ومن حاد في التذكير عنهما ضل وأضل، وكأن ما يضر أكثر مما ينفع إن كان هناك من نفع.
من كان يذكرهم النبي؟:
كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يفتأ مذكراً للمؤمنين والكافرين والله يهدي من يشاء ويوفق من يريد. وقد أمر بالتذكير مطلقاً في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} .
وكانت سيرته العملية في التذكير هي العمل بهذا الإطلاق، فما كان يخص قوماً دون قوم في الدعوة والتذكير، فكانت هاته السنة العملية، دليلاً على أن ما جاء على صورة التقييد في بعض الآيات ليس المراد منه التقييد، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] .
فالشرط الصوري هو للاستبعاد، أي استبعاد نفع الذكرى فيهم. ولا يزال من أساليب العربية في لسان التخاطب الدارج بيننا قول الناس لبعضهم: «كلمه في كذا إذا نفع فيه الكلام» استبعاداً لنفعه فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} . فليس ذكر المفعول للتقييد، وإنما هو للتنبيه على أنه هو الذي ينتفع بالتذكير، نظير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .
(1/26)
________________________________________
مشروعية التذكير:
ولحاجة العباد للتذكير ومنزلته من الدين شرعه الله للمسلمين شرعاً مؤقتا في خطب الجمع والأعياد، وشرعاً مرسلاً موكولاً للمذكرين على ما يرونه من نشاط الناس وحاجتهم.
وكما كان يتخول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الناس بالموعظة، وطلبه طلباً عاماً من جميع المؤمنين في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} في صفة المؤمنين العاملين.
وسيكون هذا الباب من "المجلة" (1) مجالًا لفنون من التذكير جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وآخرة.
__________
(1) أي مجلة "الشهاب" التي نشر فيها هذا البحث.
(1/27)
________________________________________
أفضل الأذكار
تمهيد:
(أ) حالة يعالج فيها شؤون الحياة من أمر نفسه وأهله، وما إلى رعايته من مصالحه، أو مصالح غيره، فيمارس فيها الأسباب، ويباشر فيها ما تقتضيه بشريته.
وهو في هذه الحالة متعبد مأجور ما جرى فيها على حدود الله، وقصد بها امتثال شرعه.
(ب) وحالة ينفرد فيها لربه ويخلص قلبه من هم ذلك كله، ويتوجه بكليته إلى خالقه: بالفكر والاعتبار ودوام المراقبة والإقبال.
وهذه الحالة الثانية هي أشرف وأفضل حالتيه، وهي أساس الاستقامة في الحالة الأولى وأصل الكمال فيها.
كانت هاتان الحالتان للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما كانتا لغيره. وقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، إشارة إلى الحالة الأولى: التي يكون فيها قائما بمصالح الأمة، وناهضاً بأعباء الرسالة، ومباشرة الشؤون العامة والخاصة، ورآها دون الحالة الثانية: التي يكون [فيها] .متفرغ القلب للرب.
وما كان ذلك الغين إلاّ الاشتغال بأمور الخلق في الحالة الأولى التي يحجب [فيها] .عن كمال مشاهدة الحق التي في الحالة الثانية، فاستغفر الله تعالى منه.
وما كان استغفاره- عليه الصلاة والسلام- إلاّ لاشتغاله بكامل عن أكمل، وتوجهه للقيام بأمر عظيم عن مقام أعظم.
وقد تفطن الصحابة رضوان الله عليهم لهاتين الحالتين، وسألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عنهما، وأفتاهم فيهما: فجاء في الصحيح أن حنظلة الأسيدي- وكان من كتّاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال:
«لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا (1) الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ (2) ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
__________
(1) عافسنا: قال الهرويّ وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به؛ أي عالجنا معايشنا وحظوظنا.
(2) الضيعات: جمع ضيعة، وهي معايش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة.
(1/28)
________________________________________
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا.
فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ!! وَلِكْنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً (1) » .
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «سَاعَةً وَسَاعَةً» بيان للحالتين وتقرير لها. وقوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» إلى آخره، بيان لفضلاهما.
هذه الحالة الفضلى الذكر الذي يحصلها العبد على أكمل وجه هو أفضل الأذكار.
وستعرف مما سيأتي بعد أنه هو القرآن، وقد قسمنا ما سنقوله إلى قسمين: علمي وعملي، وختمنا بفصل في التحذير.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب التوبة، حديث 12) وفي آخر الحديث بعد قوله: «ساعة وساعة ... » زيادة لفظ: «ثلاث مرات» . وأخرجه أيضاً الترمذي في جامعه (كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب 59، حديث 2514) .
(1/29)
________________________________________
القسم العلمي
(أ) القرآن أفضل الأذكار من طريق الأثر:
1- قال الله تبارك وتعالى:
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ.} [الأنبياء: 5] ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91، 92] .
فهذه البركة، وهذا التيسير، وهذا الأمر بالتلاوة المقرون بالأمر بتوحيد العبادة وبالإسلام على طريق الحصر- لم ترد إلاّ في القرآن.
2- وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» .
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» (1) .
وهذه مثوبة لم ترد لغير القرآن من جمع الأذكار.
3- وروى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً:
«مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» (2) .
ومن معناه ما ذكره القرطبي عن فروة بن نوفل عن خباب بن الأرت قال: «إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه» .
__________
(1) أنظر الجامع الصحيح للترمذي (كتاب فضائل القرآن، باب 16، حديث 2910) ولفظه بعد رواية الحديث: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه» . وقال قبله: «ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود» .
(2) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب 17، حديث 2911. وتمامه: «ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليُذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه» . قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه» .
(1/30)
________________________________________
ومثل هذا لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع.
4- وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً:
يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينِ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» (1) .
وهذا الحديث والذي قبله نصان صريحان في المقصود.
5- وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:
«قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ» (2) .
6- وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنه:
«سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ، وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ.
ثُمَّ الدُّعَاءُ وَالاِسْتِغْفَارُ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ.
ثُمَّ الصَّدَقَةُ، فَإِنَّهَا تُطْفِىءُ غَضَبَ الرَّبِّ.
ثُمَّ الصِّيَامُ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ لِلْعَبْدِ مِنَ النَّارِ» .
قال القرطبي- بعد ما خرج هذا الحديث بسنده- قال علماؤنا: «هذا حديث عظيم في الدين يبين فيه أن أعظم العبادات قراءة القرآن في الصلاة» .
(ب) القرآن أفضل الأذكار من طريق النظر:
إن أشرف حالتي الإنسان- وهي حالة انفراده لربه، وتوجهه بكليته إليه، وخلوص قلبه له، وتعلقه به- إنما تحصل على أكملها لتالي القرآن العظيم؛ فإن أفضل ما فيه- وهو قلبه- يكون قائماً بأفضل أعماله وهو التفكير والتدبر في أفضل المعاني، وهي معاني القرآن.
وإن ترجمان ذلك القلب- وهو لسانه- يكون قائماً بأفضل أعماله وهي البيان بأفضل كلام وهو القرآن.
وجوارحه- إذا لم يكن في صلاة- كانت محبوسة على قيام القلب واللسان بأفضل الأعمال،
__________
(1) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب 25، حديث 2926. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 413) (باب في تعظيم القرآن، فصل في استحباب القراءة في الصلاة، حديث رقم 2243) وتتمته فيه: « ... والتسبيح أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جُنّة من النار» .
(1/31)
________________________________________
وإذا كان في صلاة كانت قائمة بأفضل عبادة وهي الصلاة، في أشرف موقف وهو مناجاة الرحمن بآيات القرآن.
فهذا الذكر الحكيم، تنزيل الرحمن الرحيم، الذي يحصل هذه الحال، التي هي أشرف الأحوال، وهي معراج الأرواح لمنازل الكمال، هو أفضل الأذكار.
وأيضاً فإن الذكر قلبي ولساني وعملي، والقرآن محصل لذلك كله على أكمله كما سنبينه.
القرآن، والذكر القلبي:
فالتالي للقرآن المتدبر لآياته، يكون متفكراً في مخلوقات الله وما فيها من حكم ومن نعم، وفي معاني أسمائه وصفاته، وفي مظاهر رحمته وإحسانه وبطشه وانتقامه، وفي أسباب ثوابه وعقابه، وفي مواقع رضاه وسخطه.
كما يكون التالي أيضاً متبصراً في عقائده، خبيراً بأدلتها، ورد الشبه عنها.
كما يكون أيضاً مستحضراً لربه في قلبه باستحضار حقوقه ونعمه وآلائه؛ إذ هذا كله مما تضمنته آي القرآن على أكمل بيان، وأوضح برهان.
القرآن والذكر اللساني:
وكذلك قد اشتمل القرآن على أفضل الأذكار اللسانية: من تهليل، وتكبير، وتحميد، وتسبيح، وتمجيد، واستغفار، ودعاء، وعلى الأسماء الحسنى، والصفات العلى للرب تبارك وتعالى؛ فتاليه يكون ذاكراً بهذه الأذكار كلها.
القرآن، والذكر العملي:
إن تلاوة القرآن بالتدبر تثمر للتالي التوبة والإنابة والرجاء والخوف، وذلك كله مما يكون له خير داع إلى الاستقامة- ولو بعض الشيء- في سلوكه العملي.
هذا شيء قليل مما للقرآن في الذكر بأنواعه الثلاثة.
إلى ما فيه من علم مصالح العباد في المعاش والمعاد، وبسط أسباب الخير والشر والسعادة والشقاوة في الدنيا والأخرى. وعلم النفوس وأحوالها، وأصول الأخلاق والأحكام. وكليات السياسة والتشريع. وحقائق الحياة في العمران والاجتماع. ونظم الكون المبنية على الرحمة والقوة، والعدل والإحسان.. إلى ما تقصر عن عده الألسنة وتعجز عن الإحاطة به الأفهام.
وإنما ينال كل تال منها على قدر ما عنده من سلامة قصد، وصحة علم، بتقدير وتيسير من الحكيم العليم.
نتيجة الاستدلال:
لهذه الأدلة الأثرية والنظرية المذكورة وغيرها ذهب الأئمة من السلف والخلف إلى أن قراءة القرآن أفضل من الذكر. قال سفيان الثوري:
(1/32)
________________________________________
«سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر» . نقله القرطبي في الباب السابع من كتاب التذكار.
وقال النووي: «واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء: أن قراءة القرآن [[أفضل]] (*) من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك» . قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ليست في المطبوع، ولعل الصواب إثباتها
(1/33)
________________________________________
القسم العملي
مقدار التلاوة:
قد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لا يخلي ليله ونهاره من تلاوة القرآن، وكان- كما قال القرطبي-: «يختمه في سبع» . وهكذا قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه: «وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً» . وقد كان قال له أولا: «وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ» . فلما قال له: إنه يطيق أكثر من ذلك نقله إلى العشرين، وإلى الخمسة عشر، وإلى العشر، وانتهى به إلى السبع في قول الأكثر (1) . وكان هذا فعل الأكثرين من السلف.
وعند الترمذي وغيره، من حديث ابن عمرو رضي الله عنه مرفوعاً: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» (2) . وهذا ترخيص فيما دون السبع، وترغيب عما دون الثلاث.
وقد فهم السلف من هذه الأحاديث بيان ما يكون وظيفة وحزبا يستمر عليه؛ فلذا لم يمتنعوا من ختم القرآن في أقل من ذلك في مرات في بعض الأحوال، وقد ثبت عن كثير منهم ختم القرآن في ركعة واحدة.
ولا شك أن أحوال حملة القرآن تختلف في التفرغ للتلاوة والاشتغال بغيرها.
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 34، والصوم باب 58. وأبو داود في رمضان باب 8 و9. والنسائي في الصيام باب 76 و78. وابن ماجه في الإقامة باب 178. ولفظ الحديث بتمامه كما رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن (باب 34، حديث رقم 2052) : «حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنّته فيسألها عن بعلها فتقول: نِعْمَ الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفًا مذ أتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: القني به. فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم. قال: وكيف تختم؟ قال: كل ليلة. قال: صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم ثلالة أيام في الجمعة. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة. فليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أني كبرت وضعفت. فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، واذا أراد أن يتقوى افطر أياما وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئا فارق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابو عبد الله: وقال بعضهم في ثلاث وفي خمس، وأكثرهم على سبع» .
(2) أخرجه الترمذي في القرآن باب 11. وأبو داود في رمضان باب 8 و9. وابن ماجه في الإقامة باب 178. والدارمي في الصلاة باب 173. وأحمد في المسند (2/ 164، 165، 189، 193، 195) .
(1/34)
________________________________________
وأحوال الشخص الواحد في نفسه تختلف كذلك فيرتب حامل القرآن حزبه من الشهر إلى السبع على حسب حاله.
فإذا لم يكن من حملة القرآن فلا يخل ليله ونهاره من تلاوة شيء مما معه حسب استطاعته، ولا يكن من الغافلين.
ما يقصده من التلاوة:
قراءة القرآن أفضل أعمال اللسان، وتدبر معانيه أفضل أعمال القلب، هذا من حديث أبي أمامة عند الترمذي الذي قدمناه في القسم الأول (1) فليقصد التالي التقرب إلى الله بهما. والقرآن موعظة ترقق القلوب القاسية فليقصد تليين قلبه.
والقرآن شفاء لأدواء النفوس في عقائدها وأخلاقها وأعمالها؛ فليقصد الشفاء به من ذلك كله.
والقرآن هدى ودلالة على كل حال ما يوصل إلى سعادة الدنيا والأخرى فليقصد الاهتداء بهدايته.
والقرآن رحمة من الله للمؤمنين، فليستنزل بتلاوته وتدبره الرحمة من الله تعالى بإفاضة علوم القرآن على قلبه، وبتوفيقه إلى القيام بمقتضى هدايته.
ولا يسلم تالي القرآن- لأنه غير معصوم- من ذنوب قد يصدأ لها قلبه، فليقصد بتلاوته جلاء قلبه والتوفيق للتوبة من ذنبه.
وليجعل تلاوته لأجل تحصيل التوبة من أعظم وسائله إلى ربه. وقد مضى لك في الحديث القدسي في القسم الأول: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينَ» (2)
تحذير:
زعم قوم أن الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خير لعامة الناس من تلاوة القرآن، قالوا: لأن الصلاة ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثماً لمخالفته لما يتلوه!
واستدلوا على هذا بقول أنس رضي الله عنه الذي يحسبه العامة حديثاً: «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه» . فأدى هذا معتقديه إلى ترك قراءة القرآن أو التقليل منها، فليحذر من هذا الرأي ومما أدى إليه.
للصلاة منزلتها وفضلها، وللقرآن فضله ومنزلته، فليأت الذاكر من الصلاة ومن غيرها
__________
(1) راجع الحاشية2 [ص:30] .
(2) راجع الحاشية1 [ص:31] .
(1/35)
________________________________________
أبواب الذكر بما لا يؤدي إلى ترك أو تقليل تلاوة القرآن الذي هو أفضل الاذكار.
وهذا الرأي المتقدم في تفضيل الصلاة على التلاوة، مخالف تمام المخالفة لما نقلناه في: "نتيجة الاستدلال" عن أئمة السلف والخلف: من أن قراءة القرآن أفضل من جميع الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة. ومخالف كذلك لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن، وذلك من وجوه:
الوجه الأول:
أن المذنبين مرضى القلوب: فإن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (1) ؛ فكل معصية يأتي بها الجسد هي من فساد في القلب ومرض به.
وإن الله تعالى قد جعل دواء أمراض القلب تلاوة القرآن فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [[يونس: 57]] . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
فمقصود الشرع من المذنبين أن يتلوه ويتدبروه ويستشفوا به بألفاظه ومعانيه.
وذلك الرأي يصرف المذنبين عن تلاوته!
الوجه الثاني:
أن القلوب تعتريها الغفلة والقسوة، والشكوك والأوهام، والجهالات، وقد تتراكم عليها هذه الأدران كما تتراكم الأوساخ على المرآة فتطمسها وتبطل منفعتها، وقد يصيبها القليل منها أو من بعضها، ولا تسلم القلوب على كل حال من إصابتها فهي محتاجة دائماً وأبداً إلى صقل وتنظيف بتلاوة القرآن. وقد أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى هذا- فيما رواه البيهقي في الشعب، والقرطبي في التذكار:
«إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن» (2) .
__________
(1) من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؟ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمًى، ألا إن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
أخرجه البخاري في الإيمان باب 39، واللفظ له. ومسلم في المساقاة حديث 107. وابن ماجه في الفتن باب 14. والدارمي في البيوع باب 1. وقوله في الحديث: «الا وإن في الجسد مضغة» قال أهل اللغة: يقال: صلح الشيء وفسد، بفتح اللام والسين وضمهما، والفتح أفصح وأشهر. والمضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها. قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب.
(2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (ج 2 ص241- حديث رقم 3924) من حديث عبد الله بن عمرو، ونسبه لابن شاهين في الترغيب في الذكر. وذكره أيضاً الذهبي في ميزان الاعتدال (9085) وابن حجر في لسان الميزان (576/6) وابن الجوزي في العلل المتناهية (347/2) وابن عدي في الكامل في الضعفاء (258/1) .
(1/36)
________________________________________
فمقصود الشارع من المذنبين أن يتلوا القرآن لجلاء قلوبهم.
وذلك الرأي يصرفهم عنه!
الوجه الثالث:
أن الوعيد والترهيب قد ثبتا في نسيان القرآن بعد تعلمه، وذهابه من الصدور بعد حفظه فيها: فروى أبو داود عن سعد (1) .
«مَا مِنِ اِمْرِىءٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللهَ أَجْذَمَ» (2) . وروى الشيخان عن عبد الله:
«اِسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا (3) مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ» (4) .
فمقصود الشرع دوام التلاوة لدوام الحفظ، ودفع النسيان.
وذلك الرأي أدى إلى تقليلها أو تركها الموقع في النسيان!
لوازم فاسدة لهذا الزعم:
وإلى مخالفته لمقصود الشرع بهذه الوجوه فإن له لوازم فاسدة منها:
1- أن صلاة النافلة مرغب فيها على العموم، وهي مشتملة على قراءة القرآن، فماذا يقول أصحاب هذا الرأي؟ فهل يرغبون المذنبين- أمثالنا- عن النافلة طرداً لأصلهم؟
أم ينهون عن قراءة القرآن في النافلة، فيقولون ما لم يقله أحد؟
أم يقولون بالاقتصار على قراءة سور دون سور، فيتحكمون في الأحكام؟
2- ومنها: أنه قل من يسلم من مخالفة للقرآن بعمله، فإذا ذهبنا مع ذلك الرأي حرم خلق كثير من تلاوة القرآن.
وكفى بقول يؤدي إلى هذا كله رداً على نفسه.
وأما قولهم: «إن تالي القرآن يأثم بقراءته مع مخالفته» . فهي دعوى لم يقيموا عليها من نص صحيح صريح من سنة أو كتاب. بل الدليل قائم على خلافها: فإن المذنب يكتب عليه ذنبه مرة
__________
(1) يعني سعد بن عبادة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو داود في الوتر (باب 21، حديث 1474) .
(3) قال أهل اللغة: التفصي: الانفصال. وهذا بمعنى الرواية الأخرى: أشد تفلتًا. والنعم: أصلها الإبل والبقر والغنم، والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل؛ ففي بعض روايات الحديث: «أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا» .
(4) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 23. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 228 و229. والترمذي في القرآن باب 8. والنسائي في الافتتاح باب 37. والدارمي في الرقاق باب 32، وفضائل القرآن باب 4. وأحمد في المسند (1/ 382، 417، 423، 429، 463) .
(1/37)
________________________________________
واحدة، ولا يكتب عليه مرة ثانية إذا ارتكب ذنباً آخر، وإنما يكتب عليه ذلك الذنب الآخر.
فكيف إذا باشر عبادة التلاوة؟؟! والأصل القطعي- كتاباً وسنة- أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها (1) ، وهو يبطل أن تجدد له سيئاته إذا جاء بحسنة تلاوة القرآن.
وأما قول أنس رضي الله عنه:
«رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ» ، فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته. وكيف وتلاوته عبادة؟! وإنما معناه: أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلًا، فيكون داخلًا في عموم لعنه للظالمين والكاذبين، فخرج هذا الكلام مخرج التقبيح لمخالفة القرآن مع تلاوته، بعثا للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن، وتعجيل المتاب، لا مخرج الأمر بترك التلاوة والانصراف عنها.
هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل عليه بحكم الأدلة المتقدمة.
وثبت في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" (2) . وهذا في المتعبد بالصيام الذي يوقع الزور والعمل به في وقت صيامه؛ فيكون متلبساً بالعبادة والمخالفة في وقت واحد.
ومع هذا فقد قال الشراح في معنى الحديث- والعبارة للقسطلاني (3) :
«وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور. فهو كقوله عليه الصلاة والسلام: «من باع الخمر فليشقص (4) الخنازير» ولم يأمره بشقصها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به، ليتم له أجر صيامه» .
فمن باب أحرى وأولى ألا يكون قول أنس رضي الله عنه، محمولاً على طلب ترك التلاوة من
__________
(1) مثال ذلك مما جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى في الآية 160 من سورة الأنعام: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون} ، وقوله في الآية 27 من سورة يونس: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها} ، وقوله في الآية 84 من سورة القصص: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلاّ ما كانوا يعملون} ، وقوله في الآية 40 من سورة غافر: {من عمل سيئة فلا يجزى إلاّ مثلها} . ومن السنة المشرفة ما رواه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان، حديث رقم 205) عن أبي هريرة، عن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله عز وجلّ: إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها. وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» .
(2) من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري في الصوم باب 8، والأدب باب51. وأبو داود في الصوم باب 25. والترمذي في الصوم باب 16. وابن ماجه في الصيام باب21. وأحمد في المسند (2/ 453، 505) .
(3) في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (3/ 353، 354) .
(4) قال القسطلاني (3/ 353) : «أي يذبحها» .
(1/38)
________________________________________
المذنب، لأنه غير مباشر لذنبه في حال تلاوته، وإنما المقصود تحذيره من الاستمرار على المخالفة، وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته.
هذا حظ العلم في الاستدلال على حاجة المذنبين إلى تلاوة القرآن العظيم.
وأما حظ التجربة: فوالله الذي لا إله إلاّ هو، ما رأيت- وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إلانة للقلب، واستدراراً للدمع، وإحضارا للخشية، وأبعث على التوبة من تلاوة القرآن وسماع القرآن.
عود إلى تتميم الكلام على التحذير:
ليحذر القارىء من السرعة في التلاوة التي تؤدي إلى تخليط كلماته، وتذهب بحلاوته، وتمنع من بقاء أثره في النفس.
وليحذر من ذهاب قلبه مسترسلاً مع خواطره، منصرفاً عن تدبره والتذكر به، وإذا عرضت له الخواطر فليصرفها ليدفعها، وليحمل فكره على تدبر آيات الكتاب، ولا ينقطع عن التلاوة إذا كانت تلك الخواطر لا تفارقه، فإن تصميمه على دفعها مع تكاثرها من جهاد لنفسه، الذي يثاب عليه، وينتهي به في الأخير إلى الانتصار عليها.
وليحذر من الاستمرار على ما عنده من مخالفة لأوامر ونواهي الكتاب ومن عدم الخوف والوجل عند المرور بآيات الوعيد والتقريع على ذلك الذنب، إذا لم يوفق للتوبة في بعضها، فليستحضر الخشية والخضوع عند الآيات المتعلقة بذلك الذنب، وليكررها وليتفهمها. وليقف عندها وقفة العاجز الذليل الفقير المتضرع لربه، المتعرض لرحمته بتلاوة كلامه، فإن هذا من أعظم الوسائل لتيسير التوبة.
فرتل القرآن، وتدبر معانيه، والزم حدوده، واضرع إلى الله تعالى أن يرزقك التوبة فيما عندك من مخالفة تكن من الفائزين بإذن رب العالمين.
(1/39)
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]خطبة افتتاح لدروس التفسير
الحمد لله الذي جمل الإنسان بالبيان، وجمل البيان بالقرآن، فالإنسان دون بيان حيوان أبكم، والبيانُ دون قرآن كلام أجذم. وذو البيان والقرآن هو الأكمل الأعظم قدراً وتقديرا، والأحسن الأقوم عملاً وتفكيراً، والأسعد الأكرم حالاً مصيراً.
أحمده، أرسل محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وأنزل عليه القرآن تبصرة وذكرى، ومعجزة كبرى، حجة وتذكيراً.
وشرع لنا من دينه الحنيف مناهل العز والسعادة، ومهد لنا من شرعه الشريف سبل الحسنى والزيادة، رحمة منه تعالى وفضلاً كبيراً.
وأشكره، هدانا واجتبانا، فرضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وحبب إلينا ديننا، فوالله لو بذلت لنا الدنيا بحذافيرها في تركه ما ساوت عندنا حبة رغام (1) ، توفيقاً منه تعالى ويقيناً صادقاً منا وبصراً بصيراً.
وأستغفره لما كان منا من نقص وتقصير في الوفاء بوعده الحق، وشكر فضله الكبير، إنه كان عفواً غفاراً شكوراً.
وأصلي وأسلم على سيدنا محمد أشرف خلقه وأكرم رسله، فرق بالقرآن بين الحق والباطل، وهدى به الضال وعلم به الجاهل، وجاهد به- في الله- جهاداً كبيراً.
وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، اقتفوا طريقته، وأحيوا سنته، فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة وسروراً، وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً.
وعلى بقية أمته، وأهل ملته، لبوا دعوته، وأمّوا غايته، ناشطاً وحصيراً (2) .
صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم نلقى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ونسعد بلقائه، ونحشر بين الأمم تحت لوائه، ونجزى بمحبته- إن شاء الله تعالى- جزاء موفوراً.
__________
(1) الرغام (بفتح الراء) : التراب. ويقال: ألقاه في الرغام: أذله وأهانه. انظر (المعجم الوسيط: [ص:358] ) .
(2) الحصير: الضيق الصدر. (المعجم الوسيط: [ص:178] ) .[/rtl]
[rtl](1/40)[/rtl]
[rtl]فقد عدنا- والحمد لله تعالى- إلى مجالس التذكير، من دروس التفسير (1) .
نقتطف أزهارها، ونجني من ثمارها، بيسرٍ من الله تعالى وتيسير.
على عادتنا في تفسير الألفاظ بأرجح معانيها اللغوية، وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية، وربط الآيات، بوجوه المناسبات.
معتمدين في ذلك على صحيح المنقول، وسديد المعقول، مما جلاه أئمة السلف المتقدمون، أو غاص عليه علماء الخلف المتأخرون، رحمة الله عليهم أجمعين.
وعمدتنا فيما نرجع إليه من كتب الأئمة:
1- تفسير "ابن جرير الطبري" (2) ، الذي يمتاز بالتفاسير النقلية السلفية، وبأسلوبه الترسلي البليغ في بيان معنى الآيات القرآنية، وبترجيحاته لأولى الأقوال عنده بالصواب.
2- وتفسير "الكشاف" (3) الذي يمتاز بذوقه البياني في الأسلوب القرآني، وتطبيقه فنون البلاغة على آيات الكتاب، والتنظير لها بكلام العرب، واستعمالها في أفانين الكلام.
3- وتفسير "أبي حيان الأندلسي" (4) الذي يمتاز بتحقيقاته النحوية واللغوية، وتوجيهه للقراءات.
4- وتفسير "الرازي" (5) الذي يمتاز ببحوثه في العلوم الكونية، مما يتعلق بالجماد والنبات والحيوان والإنسان، وفي العلوم الكلامية، ومقالات الفرق، والمناظرة والحجاج في ذلك.
إلى غير هذا مما لا بد لنا من مراجعته من كتب التفسير والحديث والأحكام، وغيرها مما يقتضيه المقام.
***
نقول هذا؛ ليعرف الطلبة مصادر درسنا، ومآخذ ما يسمعونه منا. ونحن نعلم أننا- والله- كما قال أخو العرب:
__________
(1) هذا درس من دروس التفسير للإمام ابن باديس اخترناه من بين دروسه التي كان يفتتحها بخطبة مرتجلة كل عام. وفيها أسلوب أدبي للإمام معتمداً على السجع.
(2) وهو المسمى "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" وقد صدر عن دار الكتب العلمية بطبعته الأولى سنة 1992م، باثني عشر مجلداً.
(3) وهو للزمخشري. وسيصدر هذه السنة (1995م) عن دار الكتب العلمية، إن شاء الله تعالى.
(4) وهو تفسير "البحر المحيط". وقد صدر عن دار الكتب العلمية بطبعته الأولى سنة 1993م، بثمان مجلدات. بتحقيق الشيخين عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض والدكتور زكريا عبد المجبد النوتي والدكتور أحمد النجولي الجمل.
(5) هو تفسير الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606هـ المسمى "مفاتيح الغيب". وقد صدر هذا التفسير عن دار الكتب العلمية في طبعته الأولى سنة 1990م، في ستة عشر مجلدا.[/rtl]
[rtl](1/41)[/rtl]
[rtl]لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا نُسِبَ الْمُعَلَّى ... إِلَى كَرَمٍ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إِذَا اقْشَعَرَّتْ ... وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الْهَشِيمُ (1)
وكما نقول في المثل:
"إِنَّمَا نُكَحِّلُ فِي مَوْضِعِ الْعَيْنَيْنِ" (2) .
وإذا نظرنا إلى قصورنا، وخطورة مقام الكلام على كلام الله تعالى، أحجمنا.
وإذا رأينا إلى فضل الله، وثقتنا به، وحسن قصدنا- في خدمة كتابه- أقدمنا.
وهذا الجانب الكريم أرجح عندنا، فنحن نقدم معتمدين على الله تعالى سائلين منه تعالى لنا ولكم أن يوفقنا إلى حسن القصد، وصحة الفهم، وصواب القول، وسداد العمل.
__________
(1) البيتان لأبي علي البصير. انظر أمالي القالي (2/ 287) وفسّر "صوح" بمعنى: يبس وتشقق.
(2) من الأمثال الشائعة في دول المغرب العربي.[/rtl]
[rtl](1/42)[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القسم الأول في تفسير سورة الإسراء
في هذا القسم:
1- آية الليل، وآية النهار.
2- إرادة الدنيا، وإرادة الآخرة.
3- عموم النوال من الكبير المتعال.
4- أصول الهداية.
5- بر الوالدين.
6- صلاح النفوس وإصلاحها.
7- إيتاء الحقوق لأربابها.
8- حفظ النفوس بحفظ النسل، وحفظ الفرج، وعدم العدوان.
9- حفظ الأموال باحترام الملكية.
10- العلم والأخلاق.
آية العلم- العقل ميزة الإنسان وأداة علمه- العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات- سؤال الجوارح يوم الهول الأكبر.
11- آية الأخلاق- العجب أصل الهلاك.
12- القول الحسن- التحذير من الشيطان- التفويض إلى الله في العواقب والسرائر.
13- من دعا غير الله عبد ما دعاه، وهو في عبادته من الخاسرين- نجاة المعبودين بهداهم، وهلاك العابدين بضلالهم.
14- الطور الأخير لكل أمة وعاقبته.
15- التكريم الرباني للنوع الإنساني.
16- الصلاة لأوقاتها.
17- نافلة الليل وحسن عاقبتها.
18- القرآن شفاء ورحمة.
19- صفتان من صفات النوع الإنساني: الإعراض عن النعمة، واليأس من الرحمة.[/rtl]
[rtl]آية الليل وآية النهار
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] .
لله تعالى في سور القرآن، وعالم الأكوان، آيات بينات دالة على وجوده، وقدرته، وإرادته، وعلمه، وحكمته. ونعم سابغات موجبة لحمده وشكره وعبادته.
ولما ذكر تعالى آيته ونعمته بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، ذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على هذا الكون الأعظم. فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ....} .
الشرح والبيان:
{جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : خلقناهما، ووضعناهما آيتين. وجعل الشيء هو وضعه على حالة أو كيفية خاصة، فهما حادثان مسيران بتدبر وتقدير.
و {الليل} : هو الوقت المظلم الذي يغشى جانباً من الكرة الأرضية، عندما تكون الشمس منيرة لجانبها المقابل.
و {النهار} : هو الوقت الذي يتجلى على جانب الكرة المقابل للشمس فتضيؤُه بنورها. ولا يزالان هكذا متعاقبين على جوانب هذه الكرة وأمكنتها:
يكور الليل على النهار، بأن يحل محله في جزء من الكرة- وجزء الكرة مكور- فيكون النهار الحال مكوراً بحكم تكور المحل.
وكذلك النهار يكور عليه فيحل محله من الكرة، فيكون أيضاً مكوراً بحكم تكور المحل.
وإنما جعلنا تكوير أحدهما على الآخر بحلوله محله؛ لأنه لا يمكن تكويره عليه بحلوله عليه نفسه؛ لأنهما ضدان لا يجتمعان، وليسا جسمين يحل أحدهما على الآخر.
و {الآية} : هي العلامة الدالة. وكان الليل والنهار "آيتين" بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص في الطول والقصر، على نظام محكم وترتيب بديع، بحسب الفصول الشتوية والصيفية، وبحسب الأمكنة ومناطق الأرض: المناطق الاستوائية، والقطبية الشمالية، والجنوبية، وما بينهما. حتى يكونا في القطبين ليلة ويوماً في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين، ويوم فيه ستة أشهر هو صيفهم.[/rtl]
[rtl]فهذا الترتيب والتقدير والتيسير، دليل قاطع على وجود خالق حكيم قدير لطيف خبير.
الليل في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو القمر. فيقال في القمر: "آية الليل".
والنهار في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هي الشمس، فيقال في الشمس: "آية النهار".
وبعدما ذكر تعالى الليل والنهار آيتين في أنفسهما، ذكر أظهر آيات كل واحد منهما وأضافها إليه. فقال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ... } .
وليس محو القمر وإبصار الشمس متأخراً عن الليل والنهار. وكيف؟! وما كان الليل والنهار إلاّ باعتبار إضاءة الشمس لجانب، وعدم إضاءتها لمقابله.
فليست الفاء في"فمحونا" للترتيب في الوجود، وإنما هي للترتيب في الذكر، وللترتيب في التعقل: فإن القمر والشمس بعض من آيات الليل والنهار، والجزء متأخر في التعقل عن الكل.
وقد اتفق الكاتبون على الآية- ممن رأينا- على أن المراد من لفظ الآية في الموضعين واحد:
أ- فإما أن يراد بها نفس الليل والنهار، والإضافة في "آية الليل" و"آية النهار" للتبيين كإضافة العدد للمعدود.
أو يراد بها الشمس والقمر فيكون: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} ، على تقدير مضاف في الأول تقديره هكذا: وجعلنا نيِّري الليل والنهار.
أو في الأخير مقدرا هكذا: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين.
ب- وإما على تقريرنا المتقدم فإن لفظ "آيتن" صادق على الليل والنهار. ولفظ "آية الليل"، و"آية النهار"، صادق على الشمس والقمر.
وعليه يكون تقدير الآية هكذا: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة.
وهو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وسالم من دعوى تقدير محذوف، ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات: بالليل وقمره والنهار وشمسه. فالتقدير به أولى، ولذلك فسرنا الآية عليه.
{فَمَحَوْنَا} المحو هو الإزالة: إزالة الكتابة من اللوح، وإزالة الآثار من الديار. فمحو "آيَةَ اللَّيْلِ" إزالة الضوء منها، وهذا يقتضي أنه كان فيها ضوء ثم أزيل؛ فتفيد الآية أن القمر كان مضيئاً، ثم أزيل ضوؤه فصار مظلماً.
وقد تقرر في علم الهيئة أن القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس.
واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الاكتشافات والبحوث العلمية أن جرم القمر- كالأرض- كان منذ أحقاب طويلة وملايين السنين شديد الحمو والحرارة ثم برد، فكانت إضاءته في أزمان حموه وزالت لما برد.[/rtl]
[rtl]لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية: ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وبرهاناً لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم، وتقدموا في العرفان!!
فإن ظلام جرم القمر لم يكن معروفاً أيام نزول الآية عند الأمم إلاّ أفراداً قليلين من علماء الفلك. وإن حمو جرمه أولاً، وزواله بالبرودة ثانياً، ما عرف إلاّ في هذا العهد الأخير.
والذي تلا هذه الآية وأعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر قرناً نبي أمي، من أمة أمية، كانت في ذلك العهد أبعد الأمم عن العلم؛ فلم يكن ليعلم هذا إلاّ بوحي من الله الذي خلق الخلائق وعلم حقائقها!!
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيَّ مُعْجِزَةً ... فِي الجْاَهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ (1)
***
{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} :
فقد وضعت كذلك من أول خلقها "مبصرة" يبصر بها. والإسناد مجازي كما نقول لسان متكلم، أي متكلّم به، فيسند الشيء إلى ما يكون به من آلة وسبب.
والمبصرون حقيقة ذوو الأبصار، ولكنهم لا ينتفعون بأبصارهم إلاّ في ضوئها، ولا ينتفعون بها في الظلام.
وإذا كان الضوء يكون من النار! فأين ضوء النار من ضوء الشمس في القوة والدوام والعموم؟!!
وكما أفادت الآية زوال نور القمر- بعد أن كان بمقتضى لفظة "فمحونا" ومدلولها لغة- فإنها تشير إلى أن نوره مكتسب، وتومىء إلى أنه من الشمس، وذاك أننا نرى فيه نوراً، مع علمنا أن نوره قد أزيل؛ فنعلم قطعاً أن ذلك النور ليس منه.
وإذا كان مذكوراً مع الشمس المبصرة في الاستدلال والامتنان، ومعاقباً مصاحباً لها في الظهور، فنوره جاءه منها وهي التي أبصرته.
وقدم الليل وآيته على النهار وآيته في ترتيب النظم، لأنه ظلام، والظلام عدم الضوء. والعدم مقدم على الوجود في هذه المخلوقات.
{لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} :
ذكر تعالى الليل والنهار وآيتيهما استدلالاً على الخلق ليعرفوه، وذكر ما فيها من النعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه.
__________
(1) البيت من بردة البوصيري [ص:1213،1295] .[/rtl]
[rtl]فكانت فائدة خلقها على هذا الوجه راجعة للعباد، ليبتغوا ويطلبوا فضلاً من ربهم بالسعي لتحصيل المعاش، وأسباب الحياة، ووجوه المنافع.
وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية، وما اشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات.
وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقلها في منازلها، وحساب القمر وتنقله في بروجه، وحساب أبعادهما، وسعتهما، ومسير نورهما. ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء.
"والابتغاء": هو طلب الشيء بسعي إليه ومحبة فيه. ويسمي- تعالى- طلب أسباب الحياة ابتغاء، تنبيهاً على هذا السعي وهذه المحبة، فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب.
كما يسمي- تعالى- المطلوب بالابتغاء فضلاً من الرب، وفضله من رحمته. ورحمته واسعة لا تضبطها حدود، ولا تحصرها الأعداد- تنبيهاً على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه، ويأخذوا بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه.
وليكونوا- إذا ضاق بهم مذهب- آخذين بمذهب آخر من مسالك هذا الفضل الرباني الواسع غير المحصور.
وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول على البغية، لأن طلبهم طلب لفضل رب كريم.
ويقول تعالى: {من ربكم} والرب المالك المدبر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كل حال من أحواله ما يليق به، ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب، وما يقسمه لهم من رزق، ثقة بعدله وحكمته، فلا يبغي أحد على أحد بتعد أو حسد.
فهذه الكلمات القليلة الكثيرة، وهي: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة:
بالعمل مع الجد فيه، والمحبة له والرجاء في ثمرته، الذي به قوام العمران.
وبالرضا والتسليم للمولى، الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير.
وبالكف للقلب واليد عن الناس، الذي به الأمن والسلام.
ويذكر تعالى علم عدد السنين، المتضمن لعدد الشهور والأيام والساعات تنبيهاً لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات، فإن نظام الأعمال واطرادها وخفتها والنشاط فيها وقرب إنتاجها.... إنما هو بهذا الضبط لها على دقائق الزمان.
كما ذكر- تعالى- جنس الحساب تنبيهاً على لزومه لهذا الضبط، وجميع شؤون الحياة من علم وعمل؛ فكل العلوم الموصلة إلى هذا العد وهذا الحساب هي وسائل لها حكم مقصدها في الفضل والنفع والترغيب.[/rtl]
[rtl]{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} .
فكل ما يحتاج إليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحق، وأخلاق الصدق، وأحكام العدل، ووجوه الإحسان.. كل هذا فصل في القرآن تفصيلا: كل فصل على غاية البيان والأحكام.
وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كله من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم في العلم والعمل، ويأخذوا منه ويهتدوا به؛ فهو الغاية التي ما وراءها غاية في الهدى والبيان.
إرادة الدنيا وإرادة الآخرة
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 و19] .
الشرح والمعنى:
كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام، عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد:
مريد الدنيا وجزاؤه:
منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا، عليها قصر همه، وعلى حظوظها عقد ضميره. وجعلها وجهة قصده، ونصبها غاية سعيه، لا يرجو وراءها ثواباً، ولا يخاف عقاباً، فهو مقبل عليها بقلبه وقالبه، معرض عن غيرها بكليته، فلا يجيب داعي الله بترغيب ولا ترهيب، ولا يتقيد في سلوكه بشرائع العدل والإحسان.
فمن كانت هذه إرادته، ولهذا عمله، عجل الله له في الدنيا ما مضى في مشيئته تعالى أن يعجله له، إن كان ممن أراد التعجيل لهم، بحكم إبدال الجار والمجرور في قوله: {لمن نريد} ، من الجار والمجرور في قوله: {عجلنا له} . فالتعجيل منه تعالى لمن يريد، لا لكل مريد.
والشيء المعجل- في قدره وجنسه ومدته- على ما يشاء الرب المعطي، لا على ما يشاء العبد المريد.
فكم من مريد للدنيا من يقصد الشيء فلا ينال إلاّ بعضه، فيضيع عليه شطر عمله، فلا في هذه الدار، ولا في تلك الدار.
وكم منهم من سعى واجتهد وانتهى بالخيبة والحرمان، فعاد- بعد النصب (1) - ولا ثمرة حصلها عاجلًا، ولا ثواباً ادخره آجلًا، وذلك هو الخسران المبين.
__________
(1) النصب (بالتحريك) : التعب.[/rtl]
[rtl]ثم إذا قدم على الله في الآخرة جعل له وحضر له جهنم دار العذاب، واضطره إلى دخولها. فيصليها {مذموماً} مذكورا بقبح فعله وسوء صنيعه في قلة شكره لربه، وعدم استعماله لما كان أنعم عليه به في طاعته، وعدم نظره لعاقبة أمره. {مدحوراً} مبعدا في أقصى النار مطروداً من الرحمة.
حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلًا أن يحرم منها في الاخرة.
ونظير هذه الآية آية: {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى:20] . عمل للدنيا فنال نصيبه منها، ولم يعمل للآخرة فلم يكن له نصيب فيها.
والتقييد بمن في قوله تعالى: {منها} على أن ما يناله- سواء أكان كل ما أراد أو بعضه- ما هو إلاّ بعض من الدنيا.
وإذا كانت الدنيا كلها شيئاً زهيداً، بقلتها وفنائها ونغصها بالنسبة لأقل شيء من نعيم الآخرة- فما بالك بما هو بعض منها؛ فلقد خاب وخسر من استبدل بنعيم الآخرة هذا القليل الخسيس المنغص الزهيد!
ونظيرها أيضاً آية: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 15، 16] .
وتوفيتهم أعمالهم، إنالتهم ثمراتها مكملة في الدنيا، وهم فيها لا يبخسون: لا ينقصون من جزائهم عليها بتحصيل المسببات التي توسلوا إليها بأسبابها. ثم في الآخرة تحبط تلك الأعمال فلا يكون عليها من جزاء ولا لها من ثمرة، لأنها كانت أعمالًا باطلة لا ثبات لها.
عمل لدنيا دار الزوال فزالت بزوالها، وبقي على عمالها إثم عدم شكرهم لربهم فدخلوا به النار، وتلك عاقبة الظالمين.
غير أن هاتين الآيتين مطلقتان في الشيء المعطى والشخص المعطى له. وآية "الإسراء" مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته فيهما، والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام.
وقد أفادت هذه الآيات كلها، أن الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة وسائل لمسبباتها، موصلة- بإذن الله تعالى- من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه، بمقتضى أمر الله وتقديره وسنته في نظام هذه الحياة والكون، ولو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدق المرسلين.
ومن مقتضى هذا: أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية، ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم. نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه، ولكن جزاءه عليه في غير هاته الدار، كما أن الآخر لم[/rtl]
[rtl]يضع عله أخذه بالأسباب، فنال جزاءه في دار الأسباب وليس له في الآخرة إلاّ النار.
أقسام العباد:
فالعباد- إذن- على أربعة أقسام:
1- مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة.
2- ودهري تارك لها، فهذا شقي فيهما.
3- ومؤمن تارك للأسباب، فهذا شقي في الدنيا وينجو- بعد المؤاخذة على الترك- في الآخرة.
4- ودهري آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين.
فلا يفتنن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم. فإنه لم يكن تأخرهم لإيمانهم، بل بترك الأخذ بالأسباب الذي هو سبب تأخرنا من ضعف إيمانهم. ولم يتقدم غيرهم بعدم إيمانهم، بل بأخذهم بأسباب التقدم في الحياة.
وقد علموا أنهم مضت عليهم أحقاب وهم من أهل القسم الأول بإيمانهم وأعمالهم. وما صاروا من أهل القسم الثالث إلاّ لما ضعف إيمانهم وساءت أعمالهم وكثر إهمالهم؛ فلا لوم- إذن- إلاّ عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم.
***
{وَمَنْ أرادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِن فأولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} .
مريد الآخرة وجزاؤه:
وهذا قسم آخر من الخلق، قصد بعمله الآخرة وإياها طلب، وثوابها انتظر يرجو أن يزحزح فيها عن النار ويفوز بالجنة، ويحل عليه الرضوان.
فهذا كان سعيه مشكوراً بثلاثة شروط:
الشرط الأول:
أن يقصد بعمله ثواب الآخرة قصداً مخلصاً، كما يفيده فعل الإرادة في: {وَمَنْ أرادَ الآخِرَةَ} ، ولام الأجل في: {وَسَعَى لَهَا} .
الشرط الثاني:
أن يعمل لها عملها المعروف في الشرع اللائق بها الذي لا عمل يفضي إلى نيل ثوابها سواه، وهو طاعة الله تعالى وتقواه، بامتثال أوامره ونواهيه، والوقوف عند حدوده.
الشرط الثالث:
أن يكون مؤمناً موقناً بثواب الله تعالى وعظيم جزائه.[/rtl]
[rtl]فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة لهم {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} متقبلاً مثاباً عليه بحسن الثناء، وجميل الجزاء، على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف (1) إلى أضعاف كثيرة: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] .
وإذا اختل واحد منها فليس العمل بمتقبل ولا بمثاب عليه، بضرورة انعدام المشروط بانعدام شرطه.
وفي هذه الشروط مباحث:
المبحث الأول:
أن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الاخلاص فيه لله؛ لأن الإخلاص هو أن تجعل عبادتك لله وحده، ورجاؤك الثواب وطمعك فيه، وحذرك العقاب وخوفك منه، هما مقامان عظيمان لك في جملة عبادتك، يجب عليك أن تكون فيهما أيضاً مخلصاً، لا ترجو إلاّ ثوابه، ولا تخاف إلاّ عقابه.
وإذا أخلصت في رجائك وخوفك هانت عليك نفسك فقمت في طاعته مجاهداً لا يردك معارض، ولا تأخذك في الله لومة لائم. وصغرت في نظرك العوالم كلها فنطقت بقولك: "الله أكبر" نطق عالم واجد مشاهد.
والمقصود: أن رجاء الثواب وخوف العقاب روحهما الإخلاص فكيف ينافيانه؟.
فالعامل الراجي للثواب الخائف من العقاب المخلص في الجميع، آت بأربع عبادات: عمله، ورجائه، وخوفه، وإخلاصه، وهو روح الجميع.
وقد جاء في القرآن ثناء شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل، عليه وعليهم الصلاة السلام هكذا: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] .
وذكر تعالى دعاء عباد الرحمن الصالحين هكذا:
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] .
وفي دعاء القنوت: «نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد» إلى غير هذا من أدلة كثيرة تؤيد ما ذكرناه.
__________
(1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها وكان بعد ذلك القصاص؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها، إلاّ أن يتجاوز الله عنها» . رواه البخاري في الإيمان باب31 (حديث رقم41) . ورواه أيضا في الرقاق باب31. ومسلم في الإيمان حديث 204 و205 و206، والصيام حديث 164. والترمذي في فضائل الجهاد باب4. وابن ماجة في الصيام باب1. والنسائي في الصيام باب42. والدارمي في الصوم باب5. ومالك في الموطأ (كتاب الصيام، حديث 58) وأحمد في المسند (1/ 446) .[/rtl]
[rtl]المبحث الثاني:
أفاد هذا الشرط أن من لم يرد الآخرة لم يكن سعيه مشكوراً.
وفي هذا تفصيل:
أ- لأن العامل إما أن يكون في عبادته لم يرد بها الآخرة أصلاً، بل أراد بها شيئاً دنيوياً من محمدة الخلق، أو استفادة شيء، أو تحصيل منفعة العمل.
أو أراد الآخرة، وشيئاً مما ذكر شركة متساوية أو متفاوتة.
ب- وإما أن يكون في عمل عادة، لم يرد بها الآخرة أصلاً؟ بل أراد الغرض الدنيوي.
أو أرادهما معا، والدنيوي وسيلة للأخروي.
فهنالك إذن اقسام:
القسم الأول:
العامل في أمر تعبدي كالصلاة، والصدقة، والحج، والعلم، فهذا إذا لم يرد الآخرة أصلاً فهو موزور غير مشكور، وفيه جاء حديث أبي هريرة في الصحيح قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول:
«إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى القي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فماذا عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارىء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» (1) .
وهذا الذي كان من هؤلاء هو الرياء وهو: أن يفعل العبادة ليقال إنه مطيع. وما دخل الرياء في عبادة إلاّ أحبطها، ولو كان قليلا؛ لحديث أبي هريرة في الصحيح: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرْك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 152. والنسائي في الجهاد باب22. وأحمد في المسند (2/ 322) .[/rtl]
[rtl]تركته وشركه» (1) . وإشراك غيره معه صادق بالقليل والكثير، فلا فرق بينهما في الإحباط. والعامل المرائي موزور غير مشكور.
القسم الثاني:
العامل في العبادة الذي يقصد بها ثواب الآخرة وشيئاً آخر من أعراض الدنيا: كالرجل يبتغي الجهاد، وهو يريد من عرض الدنيا. وقد سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن هذا، فقال: «لا أجر له» . رواه أبو داوود (2) وابن حبان.
وعلى وزانه نقول: من قصد الهجرة والزوج بامرأة معاً.
أو قصد الوضوء والتبرد، أو قصد الصوم والحمية- وإن صحت عبادته، لأن الصحة تتوقف على نية القصد، والثواب يتوقف على نية الإخلاص- لا أجر له.
هذا إذا سُوِّي ما بينهما في القصد كما هو ظاهر لفظ الحديث. وأما إذا كان الغالب هو قصد العبادة فالظاهر أنه له من الأجر بقدر ما غلب من قصده.
القسم الثالث:
العامل في العبادة الذي يكون قصده إلى ثواب الآخرة، وما عداه من منافع تلك العبادة ملحوظ له على سبيل التبع لها من حيث إنه مصلحة شرعية معتبرة في التشريع.
والأحكام الشرعية المعللة بفوائدها في الآيات والأحاديث لا تحصى كثرة ومنها في الحج [الآية: 28] .: {ليشهدوا منافع لهم} ومن منافع الحج الحركة الاقتصادية لخير تلك البقاع ومصلحة أهلها، وغزارة عمرانها؟ ولذا قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198] . والفضل هنا هو الاتجار في مواسم الحج.
فكل منفعة تجلبها عبادة، أو مضرة تدفعها، فملاحظتها عند قصد العبادة لا تنافي الإخلاص، ولا تنقص من أجر العامل، وهي مثل الثواب المرتب على العمل: هي في الدنيا وهو في الآخرة، كلاهما من رحمة الله التي نرجوها بأعمالنا. ويشملها لفظ دعاء القنوت: «نرجو رحمتك» إذ هو تبارك وتعالى رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق حديث 46، وابن ماجة في الزهد باب21. وقوله: «تركته وشركه» هكذا وقع في بعض روايات الحديث؟ وروي: «وشريكه» ، وروي أيضاً: «وشركته» . ومعناه أنه غني عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيثاً لي ولغيري لم أقبله بل اتركه لذلك الغير. والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به.
(2) في الجهاد، باب 24، حديث 2516. ولفظه بتمامه: عن أي هريرة: «أن رجلاً قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي غرضاً من عرض الدنيا؟ فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أجر له. فأعظم ذلك الناس وقالوا للرجلٍ: عد لرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلعلك لم تفهمه؟ فقال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا؟ قال: لا أجر له. فقالوا للرجل: عد لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال له الثالثة، فقال له: لا أجر له» .[/rtl]
[rtl]القسم الرابع:
العامل لعمل عادي دنيوي، من أكل وشرب ونوم وجماع ونحوها، فهذا إذا قصد بعمله النفع الدنيوي، ولا قصد له في الثواب، فهو غير مأجور ولا مأزور، وهذه هي حالة أهل الغفلة والجهل.
القسم الخامس:
عامل الأعمال العادية الذي يتناولها بنية كونها مباحاً تناوُلُها شرعاً. ويقصد بها التوسل إلى ما يتوقف عليها من أعمال واجبة ومندوبة، وإلى الانكفاف بها عن المحرمات والمكروهات.
كمباضعة (1) زوجته للقيام بواجب حقها، وكف نفسه وكفها.
وكالنوم ليقوى على العبادة.
والرياضة ليصح للطاعة. فهذا مثاب وسعيه مشكور، وله ما نوى.
وبهذه السبيل يستطيع العبد الموفق أن تكون حركاته وسكناته كلها لله وفي طاعته، دائم الذكر له يعبده كأنه يراه (2) ، لأن من كان يعبد كأنه يرى مولاه لا يمكن أن يغفل عنه قلبه ويشغل بسواه، حتى إذا اشتغل بشيء كان بإذنه ورضاه فلم يخرج في أي عن حضرة قدس الله.
ومن أدلة هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم:
«وفي بضع (3) أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا» (4) .
***
المبحث الثالث:
من الناس من يخترع أعمالاً وأوضاعاً من عند نفسه، ويتقرب بها إلى الله، مثل ما اخترع المشركون عبادة الأوثان بدعائها، والذبح عليها، والخضوع لديها، وانتظار قضاء الحوائج منها ... وهم يعلمون أنها مخلوقة لله، مملوكة له، وإنما يعبدونها- كما قالوا- لتقربهم إلى الله زلفى (5) .
__________
(1) مباضعة الزوجة: مباشرتها.
(2) في حديث الإيمان والإسلام، سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل عليه السلام، قال: «فاخبرني عن الإحسان» ، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . أخرجه البخاري في الإيمان باب 27، ومسلم في الإيمان حديث1 و5 و7، والنسائي في الإيمان باب5 و6.
(3) البضع، بضم الباء: يطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته في هذا الحديث.
(4) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 52، وأبو داود في التطوع باب 12، والأدب باب 160، وأحمد في المسند (5/ 167، 168) .
(5) كما جاء في الآية 3 من سورة الزمر: {ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى} . والزلفى: القربى والمنزلة.[/rtl]
[rtl]وكما اخترع طوائف من الهنود أنواع التعذيب بقتل أنفسهم وإحراقها طاعة- زعموا- وتقربًا.
وكما اخترع طوائف من المسلمين الرقص، والزمر، والطواف حول القبور، والنذر لها، والذبح عندها، ونداء أصحابها، وتقبيل أحجارها ونصب التوابيت عليها، وحرق البخور عندها، وصب العطور عليها ...
فكل هذه الاختراعات فاسدة في نفسها، لأنها ليست من سعي الآخرة الذي كان يسعاه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من بعده، فساعيها موزور غير مشكور.
المبحث الرابع:
شكر الرب لعبده هو جزاء شكر عبده له، وإنما يكون العبد شاكراً لربه إذا كان عاملاً بطاعته مؤمناً به؛ فإذا انعدم الايمان لم يُتصوَّرْ شكران وهذا مستفاد من قوله تعالى: {وهو مؤمن} .
وأفادت الجملة الإسمية ثبوت الإيمان ورسوخه حال العمل.
وعلى قدر ثبوت الايمان ورسوخه يكون الثبات والدوام على الأعمال:
فالمؤمن بالله يعمل موقناً برضاه، موقناً بلقائه وعظيم جزائه، فهو يعمل ولا يفشل، وسواء عليه أوصل إلى الغاية التي يسعى إليها، أم لم يصل إليها: بأن حال بينه وبينها موانع الدنيا أو مانع الموت، كانت مما تجنى ثماره في جيله أو لا تجنى ثماره إلاّ بعد أجيال.
فأفادت الجملة المذكورة شرط القبول للعمل، وسر الدوام عليه والمضي بغبطة وسرور فيه.
الجانب العملي في الآية:
إن المسلمين كلهم- والحمد لله- أهل إيمان، فليستشعروه عند جميع الأعمال، ولا يخلون من عمل لمعاشهم أو لمعادهم، فليقصدوا بذلك كله وجه الله وامتثال أمره وحسن جزائه. وليقتصروا في عبادتهم على ما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ليكونوا على يقين من موافقة رضى الله، وسلوك طريق النجاة.
فإذا فعلوا هذا وصمدوا (1) إليه وجاهدوا أنفسهم في حملها عليه- كانوا شاكرين مشكورين على تفاوتهم في منازل العاملين عند رب العالمين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
__________
(1) صَمَدَ إلى الشيء صَمْدًا: قصده (المعجم الوسيط: [ص:552] ) .[/rtl]
[rtl]عموم النوال من الكبير المتعال
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) } [الإسراء: 19 و20] .
تمهيد:
إن هذه الموجودات كلها علويها وسفليها، مشمولة برحمة الله مغمورة بنعمته. وأول تلك النعم هو وجودها، وذلك الوجود من مقتضى الرحمة.
ثم تتنوع تلك النعم الرحمانية بتنوع أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها وأفرادها، وتتفاوت أيضا حسب ذلك. وينال كل حظه منها بتقدير الحكيم العليم.
ومن مظاهر هذه الرحمة العامة أن كل موجود قد أعطي من التكوين ما يناسب وجوده، وما يتوقف عليه بقاؤه، أو ارتقاؤه، سواء أكان من عالم الجماد، أو عالم النبات، أو عالم الحيوان.
وقد مضى قبل هذه الآية ذكر مريدي العاجلة الذين لا يعملون إلاّ لها، وما أعد لهم من عذاب النار. وذكر مريدي الآخرة بأعمالهم في الدنيا، وما أعد لهم من حسن الجزاء. فحالتهم في الآخرة متباينة: هؤلاء في النعيم المقيم، وأولئك في العذاب الأليم، هذا في الآخرة.
وأما في الدنيا فإنهم قد أعطوا من نعم الحياة، ومُكنوا من أسبابها.
فقد تساووا في الخلقة البشرية، وفي العقل المميز المفكر، وفي الإرادة الحرة.
وقد أظلتهم السماء، وأصابتهم نعمة الشمس والقمر والكواكب وما ينزل من السماء.
وقد أقلتهم الأرض وشملتهم نعمة الهواء، والماء، والغذاء، والدواء، من النبات والحيوان والجماد، وكل ماء يخرج من الأرض.
وشاهدوا كلهم آيات الله الكونية الدالة عليه.
وجاءتهم كلهم رسل الله بآياته السمعية داعية إليه، فاختار كل بعقله- وهو حر في إرادته حرية لا يمكن لأحد أن يكابر فيها ما اختار لنفسه.
وحجة الله بما تقدم قائمة عليه. وبقوا بعد ذلك الاختيار- الذي اختلفت به منازلهم عند الله- فيما أعد لهم يوم لقاه، سواء في تلك النعم الدنيوية، والتمكن من أسباب بقائها والتقدم فيها، لا فرق في ذلك بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر.
وهذا معنى قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} .
وليس تعالى مانعاً كافراً لكفره، أو عاصياً لعصيانه من هذه الحياة وأسبابها، وليس أحد على منع ما لم يمنعه الله بقادر.[/rtl]
[rtl]وهذا معنى قوله تعالى: "وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا".
(والحظر) المنع، والمحظور الممنوع (1) .
وتركيب الآية يفيد أن عطاء الرب لا يمنع، ولا يجوز أن يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه ومدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته.
وقدم المفعول، وهو (كلا) رداً على من يعتقد أن الله تعالى يمد بعضاً دون بعض. وفيه إيجاز بالحذف، والأصل كلا الفريقين: يعني فريق مريدي العاجلة، ومريدي الآخرة.
و (نمد) من الإمداد وهو المواصلة بالشيء، وذلك الشيء يسمى مدداً. وأصل المدد البسط للشيء، فيستطيل ويتسع ومنه مدّ يده ومدّ شبكته، ومنه مدّ الله لك أسباب السعادة أي بسطها ووسعها. والإمداد بالشيء والمواصلة به يكون به دوام فائدته وامتداد النفع به. والخلق كلهم في حاجة دائمة، وفاقة مستمرة إلى مدد الله وعطائه، وأنكل بره وإحسانه.
وهو تبارك وتعالى لا يزال يواصلهم في كل لحظة من وجودهم بما يحتاجون إليه من فيض عطائه.
وأضاف العطاء للرب لأنه من مقتضى ربوبيته بتكوينه للخلق، وتطويرهم، وإعطائهم ما يحفظهم في تلك الأطوار.
وأضاف الرب إلى ضمير المخاطب، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لتشريفه بهذه الإضافة. ولما تشرف بهذه الإضافة الربانية- والرب جل جلاله قد مضى في وصفه في الآية أنه عام الرحمة والنعمة والنوال؛ فمن شكر نعمة هذا الشرف أن يتخلق العبد- وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بما هومن مقتضى وصف ربه.
هذا من فوائد هذه الإضافة في هذا المقام.
وقد كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رحمة للعالمين، شديد الشفقة على الخلق أجمعين حريصاً على هدايتهم إلى الصراط المستقيم، حتى خاطبه ربه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] . أي قاتل نفسك غماً لعدم إيمانهم
وكان أساس شرعه على العدل والإحسان: العدل مع كل أحد، والإحسان إلى كل شيء، فقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] . أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل فيهم- وقال صلى الله عليهم وآله وسلم: «ان الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» (2) .
ولما كان هو عليه الصلاة والسلام قدوتنا، فنحن مخاطبون بأن نكون مثله في عموم رحمته
__________
(1) في تفسير الطبري (8/ 56) : "محظورًا: أي منقوصًا".
(2) من حديث شداد بن أوس. أخرجه الترمذي في الديات باب 14، والنسائي في الضحايا باب 22 و27.[/rtl]
[rtl]وشفقته وعدله وبره وإحسانه: نفعل الخير عاماً كما تعم خيرات الله تعالى العباد، نفعله لأنه خير نستطعم لذته، غير منتظرين جزاءه إلاّ من الله؛ لأن من انتظر الجزاء من الناس في هذه الحياة لا بد أن يميل بخيره عن جهة إلى جهة، وربما يكون في ميله قد أخطأ وجه الصواب، ولا بد أيضاً أن ييأس فيفتر (1) في العمل، أو ينقطع عنه عندما يرى عدم المكافأة من الناس وعدم ظهور أثر خيره في الحياة، وأبناء الحياة.
وقد أفادت الآية- حسبما تقدم- أن أسباب الحياة والعمران والتقدم فيهما مبذولة للخلق على السواء، وأن من تمسك بسبب بلغ- بإذن الله- إلى مسببه، سواء أكان براً أو فاجراً، مؤمناً أو كافراً.
وهذا الذي أفادته الآية الكريمة مشاهد في تاريخ المسلمين قديماً وحديثاً:
فقد تقدموا حتى سادوا العالم، ورفعوا علم المدنية الحقة بالعلوم والصنائع لما أخذوا بأسبابها كما يأمرهم دينهم.
وقد تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها بإهمال تلك الأسباب فخسروا دنياهم، وخالفوا مرضاة ربهم، وعوقبوا بما هم عليهم اليوم من الذل والانحطاط.
ولن يعود إليهم ما كان لهم إلاّ إذا عادوا إلى امتثال أمر ربهم في الأخذ بتلك الأسباب.
فهذه الآية من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم، لما فيها من بيان أن ذلك المسلم ما تأخر بسبب إسلامه، وأن غيره تقدم بعدم إسلامه؛ لأن السبب في التقدم والتأخر هو التمسك أو الترك للأسباب.
ولو أن المسلم تمسك بها كما يأمره الإسلام، لكان- مثل سالف أيامه- سيد الأنام.
النظر في تفاضل البشر:
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} .
إن من أعظم العبرة ما نشاهده في أحوال الخلق، أمماً وجماعات وأفراداً من الاختلاف الشديد: فقد اختلفت بواطنهم النفسية، كما اختلفت ظواهرهم الجسدية. وإنك كما تجد أبناء الأمة الواحدة يتشابهون في تركيب أجسامهم، ثم لا بد من فروق تتمايز بها أشخاصهم، كذلك تجدهم يتشابهون في شؤونهم النفسية، مع فروق لازمة تتمايز بها شخصياتهم. ويتبع هذا الاختلاف اختلافهم في إدراكهم، وتمييزهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، في ضلالهم وهداهم، وفي درجات الهدى ودركات (2) الضلال.
__________
(1) فتر فتورًا: سكن بعد حدة ونشاط (المعجم الوسيط: [ص:672] ) .
(2) الدَّرَكة: المنزلة السفلى، ضد الدرجة وهي المنزلة العليا؛ فالدركات منازل بعضها تحت بعض، والدرجات منازل بعضها فوق بعض، والفضيلة درجات، والرذيلة دركات.[/rtl]
[rtl]كل هذا دال على بديع صنع الخالق القدير، وعجيب وضع العليم الحكيم، فمكنهم تعالى كلهم من الأسباب، وإدراك العقل، وحرية الإرادة. ثم فضل بينهم هذا التفضيل ... فكان منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والشقي والسعيد، إلى تقسيم كثير.
وفقه أسباب هذا التفضيل، هو فقه الحياة والعمران والاجتماع. فلذا أمر تعالى بالنظر في أحوال هذا التفضيل بقوله: {أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} .
و"كيف" سؤال عن الأحوال، والنظر المأمور به هو نظر القلب بالفكرة والاعتبار.
والجملة في محل نصب على العامل عن لفظها بكلمة الاستفهام.
وكما فضل بعض خلقه على بعض في دار الابتلاء، كذلك فضل بعضهم على بعض في دار الجزاء. لكن التفضيل هنالك أكبر، والتفاوت بين العباد أظهر، في مواقف القيامة، وفي داري الإقامة (1) ، ويا بعد ما بين من في الجنة ومن في النار!
وأهل النار متفاوتون في دركاتها، وأهل الجنة متفاوتون في درجاتها.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال:
» إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض « (2) .
وروى البخاري ومسلم (3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال:
» إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري (4) الغابر في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين «.
وقال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] . وهذا التفضيل الأخروي هو المراد بقوله تعالى: {وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} .
__________
(1) دارا الإقامة: هما الجنة والنار.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب 4 (حديث 2790) وتمامه:» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها. فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة- أراه قال: وفوقه عرش الرحمن- ومنه تفجر أنهار الجنة «.
(3) البخاري في بدء الخلق باب 8، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها حديث 11.
(4) الكوكب الدري: هو الكوكب العظيم، قيل: سمي دريا لبياضه كالدر، وقيل: لإضاءته، وقيل: لشبهه بالدر في كونه أرفع من باقي النجوم كالدر أرفع الجواهر.[/rtl]
[rtl]وفي هذا ترغيب للخلق في تحصيل الفضل في درجات الآخرة؛ فإنهم إنما يتهالكون في الدنيا على أن يفضل بعضهم بعضاً في شيء منها، وهي الدار الفانية. فلم لا يتسابقون فيما ينالون به الفضل في الدار الباقية؟! مع أن من عمل لنيل الفضل في الآخرة- وما عملها إلاّ الخير والمعروف- حاز الفضل والسعادة فيهما على أفضل وجه، وأكمل حال.
فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أصول الهداية في ثمان عشرة آية
من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] ، إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] .
تمهيد:
قد أوتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصاراً؛ فالآية من كتاب الله، والأثر من حديث رسول الله، تجد فيه من أصول الهداية، ودقيق العلم، ولطيف الاشارة في لفظ بيِّن وكلام بيِّن- ما فيه الكفاية وفوق الكفاية لمن أوتي العلم ومُنح التوفيق.
فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها.
وهي- فوق بلاغتها التي عرف العرب إعجازها بسليقتهم وأدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم- قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا، أو بأي لغة نطقوا، بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفِطَر وتسلمها العقول.
وإنك لست واجداً مثلها في مقدارها وأضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدى وبيان.
وهذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور المتقدم في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} ووقوعها بلصق قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} . إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور، المستفاد من هذه الآيات.[/rtl]
[rtl]{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} .
هذا هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تقبل الأعمال إلاّ به. وما أرسل الله رسولا إلاّ داعياً إليه، ومذكراً بحججه.
وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة "لا إله إلاّ الله". وهي كلمته الصريحة فيه.
ولا تكاد سورة من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضده.
وأنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه.
{لا تجعل} الجعل يكون عملياً كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد، ويكون اعتقادياً كجعلت مع صديقي صديقاً آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني.
{مع الله} المعية هنا أيضاً هي معية اعتقادية.
{إلها آخر} الإله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والافتقار وإظهار الإنقياد والامتثال ودوام التضرع والسؤال.
{فتقعد} القعود ضد القيام، والعرب تكني بالقيام عن الجد في الأمر والعمل فيه سواء أكان العامل قائماً أو جالسا، فتقول: قام بحاجتي إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة وإنما قضاها بكلمة قالها، أو خطاب أرسله. وتكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء أكان الشخص واقفاً أو جالساً، فتقول: قعد زيد عن نصرة قومه إذا لم يعمل في ذلك عملاً، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، ولو كان قائاً يمشي على رجليه. فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب
في هذا القسم:
1- آية الليل، وآية النهار.
2- إرادة الدنيا، وإرادة الآخرة.
3- عموم النوال من الكبير المتعال.
4- أصول الهداية.
5- بر الوالدين.
6- صلاح النفوس وإصلاحها.
7- إيتاء الحقوق لأربابها.
8- حفظ النفوس بحفظ النسل، وحفظ الفرج، وعدم العدوان.
9- حفظ الأموال باحترام الملكية.
10- العلم والأخلاق.
آية العلم- العقل ميزة الإنسان وأداة علمه- العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات- سؤال الجوارح يوم الهول الأكبر.
11- آية الأخلاق- العجب أصل الهلاك.
12- القول الحسن- التحذير من الشيطان- التفويض إلى الله في العواقب والسرائر.
13- من دعا غير الله عبد ما دعاه، وهو في عبادته من الخاسرين- نجاة المعبودين بهداهم، وهلاك العابدين بضلالهم.
14- الطور الأخير لكل أمة وعاقبته.
15- التكريم الرباني للنوع الإنساني.
16- الصلاة لأوقاتها.
17- نافلة الليل وحسن عاقبتها.
18- القرآن شفاء ورحمة.
19- صفتان من صفات النوع الإنساني: الإعراض عن النعمة، واليأس من الرحمة.[/rtl]
[rtl](1/43)[/rtl]
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] .
لله تعالى في سور القرآن، وعالم الأكوان، آيات بينات دالة على وجوده، وقدرته، وإرادته، وعلمه، وحكمته. ونعم سابغات موجبة لحمده وشكره وعبادته.
ولما ذكر تعالى آيته ونعمته بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، ذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على هذا الكون الأعظم. فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ....} .
الشرح والبيان:
{جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : خلقناهما، ووضعناهما آيتين. وجعل الشيء هو وضعه على حالة أو كيفية خاصة، فهما حادثان مسيران بتدبر وتقدير.
و {الليل} : هو الوقت المظلم الذي يغشى جانباً من الكرة الأرضية، عندما تكون الشمس منيرة لجانبها المقابل.
و {النهار} : هو الوقت الذي يتجلى على جانب الكرة المقابل للشمس فتضيؤُه بنورها. ولا يزالان هكذا متعاقبين على جوانب هذه الكرة وأمكنتها:
يكور الليل على النهار، بأن يحل محله في جزء من الكرة- وجزء الكرة مكور- فيكون النهار الحال مكوراً بحكم تكور المحل.
وكذلك النهار يكور عليه فيحل محله من الكرة، فيكون أيضاً مكوراً بحكم تكور المحل.
وإنما جعلنا تكوير أحدهما على الآخر بحلوله محله؛ لأنه لا يمكن تكويره عليه بحلوله عليه نفسه؛ لأنهما ضدان لا يجتمعان، وليسا جسمين يحل أحدهما على الآخر.
و {الآية} : هي العلامة الدالة. وكان الليل والنهار "آيتين" بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص في الطول والقصر، على نظام محكم وترتيب بديع، بحسب الفصول الشتوية والصيفية، وبحسب الأمكنة ومناطق الأرض: المناطق الاستوائية، والقطبية الشمالية، والجنوبية، وما بينهما. حتى يكونا في القطبين ليلة ويوماً في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين، ويوم فيه ستة أشهر هو صيفهم.[/rtl]
[rtl](1/45)[/rtl]
الليل في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو القمر. فيقال في القمر: "آية الليل".
والنهار في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هي الشمس، فيقال في الشمس: "آية النهار".
وبعدما ذكر تعالى الليل والنهار آيتين في أنفسهما، ذكر أظهر آيات كل واحد منهما وأضافها إليه. فقال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ... } .
وليس محو القمر وإبصار الشمس متأخراً عن الليل والنهار. وكيف؟! وما كان الليل والنهار إلاّ باعتبار إضاءة الشمس لجانب، وعدم إضاءتها لمقابله.
فليست الفاء في"فمحونا" للترتيب في الوجود، وإنما هي للترتيب في الذكر، وللترتيب في التعقل: فإن القمر والشمس بعض من آيات الليل والنهار، والجزء متأخر في التعقل عن الكل.
وقد اتفق الكاتبون على الآية- ممن رأينا- على أن المراد من لفظ الآية في الموضعين واحد:
أ- فإما أن يراد بها نفس الليل والنهار، والإضافة في "آية الليل" و"آية النهار" للتبيين كإضافة العدد للمعدود.
أو يراد بها الشمس والقمر فيكون: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} ، على تقدير مضاف في الأول تقديره هكذا: وجعلنا نيِّري الليل والنهار.
أو في الأخير مقدرا هكذا: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين.
ب- وإما على تقريرنا المتقدم فإن لفظ "آيتن" صادق على الليل والنهار. ولفظ "آية الليل"، و"آية النهار"، صادق على الشمس والقمر.
وعليه يكون تقدير الآية هكذا: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة.
وهو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وسالم من دعوى تقدير محذوف، ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات: بالليل وقمره والنهار وشمسه. فالتقدير به أولى، ولذلك فسرنا الآية عليه.
{فَمَحَوْنَا} المحو هو الإزالة: إزالة الكتابة من اللوح، وإزالة الآثار من الديار. فمحو "آيَةَ اللَّيْلِ" إزالة الضوء منها، وهذا يقتضي أنه كان فيها ضوء ثم أزيل؛ فتفيد الآية أن القمر كان مضيئاً، ثم أزيل ضوؤه فصار مظلماً.
وقد تقرر في علم الهيئة أن القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس.
واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الاكتشافات والبحوث العلمية أن جرم القمر- كالأرض- كان منذ أحقاب طويلة وملايين السنين شديد الحمو والحرارة ثم برد، فكانت إضاءته في أزمان حموه وزالت لما برد.[/rtl]
[rtl](1/46)[/rtl]
فإن ظلام جرم القمر لم يكن معروفاً أيام نزول الآية عند الأمم إلاّ أفراداً قليلين من علماء الفلك. وإن حمو جرمه أولاً، وزواله بالبرودة ثانياً، ما عرف إلاّ في هذا العهد الأخير.
والذي تلا هذه الآية وأعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر قرناً نبي أمي، من أمة أمية، كانت في ذلك العهد أبعد الأمم عن العلم؛ فلم يكن ليعلم هذا إلاّ بوحي من الله الذي خلق الخلائق وعلم حقائقها!!
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيَّ مُعْجِزَةً ... فِي الجْاَهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ (1)
***
{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} :
فقد وضعت كذلك من أول خلقها "مبصرة" يبصر بها. والإسناد مجازي كما نقول لسان متكلم، أي متكلّم به، فيسند الشيء إلى ما يكون به من آلة وسبب.
والمبصرون حقيقة ذوو الأبصار، ولكنهم لا ينتفعون بأبصارهم إلاّ في ضوئها، ولا ينتفعون بها في الظلام.
وإذا كان الضوء يكون من النار! فأين ضوء النار من ضوء الشمس في القوة والدوام والعموم؟!!
وكما أفادت الآية زوال نور القمر- بعد أن كان بمقتضى لفظة "فمحونا" ومدلولها لغة- فإنها تشير إلى أن نوره مكتسب، وتومىء إلى أنه من الشمس، وذاك أننا نرى فيه نوراً، مع علمنا أن نوره قد أزيل؛ فنعلم قطعاً أن ذلك النور ليس منه.
وإذا كان مذكوراً مع الشمس المبصرة في الاستدلال والامتنان، ومعاقباً مصاحباً لها في الظهور، فنوره جاءه منها وهي التي أبصرته.
وقدم الليل وآيته على النهار وآيته في ترتيب النظم، لأنه ظلام، والظلام عدم الضوء. والعدم مقدم على الوجود في هذه المخلوقات.
{لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} :
ذكر تعالى الليل والنهار وآيتيهما استدلالاً على الخلق ليعرفوه، وذكر ما فيها من النعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه.
__________
(1) البيت من بردة البوصيري [ص:1213،1295] .[/rtl]
[rtl](1/47)[/rtl]
وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية، وما اشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات.
وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقلها في منازلها، وحساب القمر وتنقله في بروجه، وحساب أبعادهما، وسعتهما، ومسير نورهما. ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء.
"والابتغاء": هو طلب الشيء بسعي إليه ومحبة فيه. ويسمي- تعالى- طلب أسباب الحياة ابتغاء، تنبيهاً على هذا السعي وهذه المحبة، فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب.
كما يسمي- تعالى- المطلوب بالابتغاء فضلاً من الرب، وفضله من رحمته. ورحمته واسعة لا تضبطها حدود، ولا تحصرها الأعداد- تنبيهاً على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه، ويأخذوا بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه.
وليكونوا- إذا ضاق بهم مذهب- آخذين بمذهب آخر من مسالك هذا الفضل الرباني الواسع غير المحصور.
وتنبيهاً أيضاً على قوة الرجاء في الحصول على البغية، لأن طلبهم طلب لفضل رب كريم.
ويقول تعالى: {من ربكم} والرب المالك المدبر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كل حال من أحواله ما يليق به، ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب، وما يقسمه لهم من رزق، ثقة بعدله وحكمته، فلا يبغي أحد على أحد بتعد أو حسد.
فهذه الكلمات القليلة الكثيرة، وهي: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة:
بالعمل مع الجد فيه، والمحبة له والرجاء في ثمرته، الذي به قوام العمران.
وبالرضا والتسليم للمولى، الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير.
وبالكف للقلب واليد عن الناس، الذي به الأمن والسلام.
ويذكر تعالى علم عدد السنين، المتضمن لعدد الشهور والأيام والساعات تنبيهاً لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات، فإن نظام الأعمال واطرادها وخفتها والنشاط فيها وقرب إنتاجها.... إنما هو بهذا الضبط لها على دقائق الزمان.
كما ذكر- تعالى- جنس الحساب تنبيهاً على لزومه لهذا الضبط، وجميع شؤون الحياة من علم وعمل؛ فكل العلوم الموصلة إلى هذا العد وهذا الحساب هي وسائل لها حكم مقصدها في الفضل والنفع والترغيب.[/rtl]
[rtl](1/48)[/rtl]
فكل ما يحتاج إليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحق، وأخلاق الصدق، وأحكام العدل، ووجوه الإحسان.. كل هذا فصل في القرآن تفصيلا: كل فصل على غاية البيان والأحكام.
وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كله من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم في العلم والعمل، ويأخذوا منه ويهتدوا به؛ فهو الغاية التي ما وراءها غاية في الهدى والبيان.
إرادة الدنيا وإرادة الآخرة
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 و19] .
الشرح والمعنى:
كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام، عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد:
مريد الدنيا وجزاؤه:
منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا، عليها قصر همه، وعلى حظوظها عقد ضميره. وجعلها وجهة قصده، ونصبها غاية سعيه، لا يرجو وراءها ثواباً، ولا يخاف عقاباً، فهو مقبل عليها بقلبه وقالبه، معرض عن غيرها بكليته، فلا يجيب داعي الله بترغيب ولا ترهيب، ولا يتقيد في سلوكه بشرائع العدل والإحسان.
فمن كانت هذه إرادته، ولهذا عمله، عجل الله له في الدنيا ما مضى في مشيئته تعالى أن يعجله له، إن كان ممن أراد التعجيل لهم، بحكم إبدال الجار والمجرور في قوله: {لمن نريد} ، من الجار والمجرور في قوله: {عجلنا له} . فالتعجيل منه تعالى لمن يريد، لا لكل مريد.
والشيء المعجل- في قدره وجنسه ومدته- على ما يشاء الرب المعطي، لا على ما يشاء العبد المريد.
فكم من مريد للدنيا من يقصد الشيء فلا ينال إلاّ بعضه، فيضيع عليه شطر عمله، فلا في هذه الدار، ولا في تلك الدار.
وكم منهم من سعى واجتهد وانتهى بالخيبة والحرمان، فعاد- بعد النصب (1) - ولا ثمرة حصلها عاجلًا، ولا ثواباً ادخره آجلًا، وذلك هو الخسران المبين.
__________
(1) النصب (بالتحريك) : التعب.[/rtl]
[rtl](1/49)[/rtl]
حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلًا أن يحرم منها في الاخرة.
ونظير هذه الآية آية: {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى:20] . عمل للدنيا فنال نصيبه منها، ولم يعمل للآخرة فلم يكن له نصيب فيها.
والتقييد بمن في قوله تعالى: {منها} على أن ما يناله- سواء أكان كل ما أراد أو بعضه- ما هو إلاّ بعض من الدنيا.
وإذا كانت الدنيا كلها شيئاً زهيداً، بقلتها وفنائها ونغصها بالنسبة لأقل شيء من نعيم الآخرة- فما بالك بما هو بعض منها؛ فلقد خاب وخسر من استبدل بنعيم الآخرة هذا القليل الخسيس المنغص الزهيد!
ونظيرها أيضاً آية: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 15، 16] .
وتوفيتهم أعمالهم، إنالتهم ثمراتها مكملة في الدنيا، وهم فيها لا يبخسون: لا ينقصون من جزائهم عليها بتحصيل المسببات التي توسلوا إليها بأسبابها. ثم في الآخرة تحبط تلك الأعمال فلا يكون عليها من جزاء ولا لها من ثمرة، لأنها كانت أعمالًا باطلة لا ثبات لها.
عمل لدنيا دار الزوال فزالت بزوالها، وبقي على عمالها إثم عدم شكرهم لربهم فدخلوا به النار، وتلك عاقبة الظالمين.
غير أن هاتين الآيتين مطلقتان في الشيء المعطى والشخص المعطى له. وآية "الإسراء" مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته فيهما، والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام.
وقد أفادت هذه الآيات كلها، أن الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة وسائل لمسبباتها، موصلة- بإذن الله تعالى- من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه، بمقتضى أمر الله وتقديره وسنته في نظام هذه الحياة والكون، ولو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدق المرسلين.
ومن مقتضى هذا: أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية، ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم. نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه، ولكن جزاءه عليه في غير هاته الدار، كما أن الآخر لم[/rtl]
[rtl](1/50)[/rtl]
أقسام العباد:
فالعباد- إذن- على أربعة أقسام:
1- مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة.
2- ودهري تارك لها، فهذا شقي فيهما.
3- ومؤمن تارك للأسباب، فهذا شقي في الدنيا وينجو- بعد المؤاخذة على الترك- في الآخرة.
4- ودهري آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين.
فلا يفتنن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم. فإنه لم يكن تأخرهم لإيمانهم، بل بترك الأخذ بالأسباب الذي هو سبب تأخرنا من ضعف إيمانهم. ولم يتقدم غيرهم بعدم إيمانهم، بل بأخذهم بأسباب التقدم في الحياة.
وقد علموا أنهم مضت عليهم أحقاب وهم من أهل القسم الأول بإيمانهم وأعمالهم. وما صاروا من أهل القسم الثالث إلاّ لما ضعف إيمانهم وساءت أعمالهم وكثر إهمالهم؛ فلا لوم- إذن- إلاّ عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم.
***
{وَمَنْ أرادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِن فأولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} .
مريد الآخرة وجزاؤه:
وهذا قسم آخر من الخلق، قصد بعمله الآخرة وإياها طلب، وثوابها انتظر يرجو أن يزحزح فيها عن النار ويفوز بالجنة، ويحل عليه الرضوان.
فهذا كان سعيه مشكوراً بثلاثة شروط:
الشرط الأول:
أن يقصد بعمله ثواب الآخرة قصداً مخلصاً، كما يفيده فعل الإرادة في: {وَمَنْ أرادَ الآخِرَةَ} ، ولام الأجل في: {وَسَعَى لَهَا} .
الشرط الثاني:
أن يعمل لها عملها المعروف في الشرع اللائق بها الذي لا عمل يفضي إلى نيل ثوابها سواه، وهو طاعة الله تعالى وتقواه، بامتثال أوامره ونواهيه، والوقوف عند حدوده.
الشرط الثالث:
أن يكون مؤمناً موقناً بثواب الله تعالى وعظيم جزائه.[/rtl]
[rtl](1/51)[/rtl]
وإذا اختل واحد منها فليس العمل بمتقبل ولا بمثاب عليه، بضرورة انعدام المشروط بانعدام شرطه.
وفي هذه الشروط مباحث:
المبحث الأول:
أن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الاخلاص فيه لله؛ لأن الإخلاص هو أن تجعل عبادتك لله وحده، ورجاؤك الثواب وطمعك فيه، وحذرك العقاب وخوفك منه، هما مقامان عظيمان لك في جملة عبادتك، يجب عليك أن تكون فيهما أيضاً مخلصاً، لا ترجو إلاّ ثوابه، ولا تخاف إلاّ عقابه.
وإذا أخلصت في رجائك وخوفك هانت عليك نفسك فقمت في طاعته مجاهداً لا يردك معارض، ولا تأخذك في الله لومة لائم. وصغرت في نظرك العوالم كلها فنطقت بقولك: "الله أكبر" نطق عالم واجد مشاهد.
والمقصود: أن رجاء الثواب وخوف العقاب روحهما الإخلاص فكيف ينافيانه؟.
فالعامل الراجي للثواب الخائف من العقاب المخلص في الجميع، آت بأربع عبادات: عمله، ورجائه، وخوفه، وإخلاصه، وهو روح الجميع.
وقد جاء في القرآن ثناء شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل، عليه وعليهم الصلاة السلام هكذا: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] .
وذكر تعالى دعاء عباد الرحمن الصالحين هكذا:
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] .
وفي دعاء القنوت: «نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد» إلى غير هذا من أدلة كثيرة تؤيد ما ذكرناه.
__________
(1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها وكان بعد ذلك القصاص؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها، إلاّ أن يتجاوز الله عنها» . رواه البخاري في الإيمان باب31 (حديث رقم41) . ورواه أيضا في الرقاق باب31. ومسلم في الإيمان حديث 204 و205 و206، والصيام حديث 164. والترمذي في فضائل الجهاد باب4. وابن ماجة في الصيام باب1. والنسائي في الصيام باب42. والدارمي في الصوم باب5. ومالك في الموطأ (كتاب الصيام، حديث 58) وأحمد في المسند (1/ 446) .[/rtl]
[rtl](1/52)[/rtl]
أفاد هذا الشرط أن من لم يرد الآخرة لم يكن سعيه مشكوراً.
وفي هذا تفصيل:
أ- لأن العامل إما أن يكون في عبادته لم يرد بها الآخرة أصلاً، بل أراد بها شيئاً دنيوياً من محمدة الخلق، أو استفادة شيء، أو تحصيل منفعة العمل.
أو أراد الآخرة، وشيئاً مما ذكر شركة متساوية أو متفاوتة.
ب- وإما أن يكون في عمل عادة، لم يرد بها الآخرة أصلاً؟ بل أراد الغرض الدنيوي.
أو أرادهما معا، والدنيوي وسيلة للأخروي.
فهنالك إذن اقسام:
القسم الأول:
العامل في أمر تعبدي كالصلاة، والصدقة، والحج، والعلم، فهذا إذا لم يرد الآخرة أصلاً فهو موزور غير مشكور، وفيه جاء حديث أبي هريرة في الصحيح قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول:
«إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى القي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فماذا عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارىء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» (1) .
وهذا الذي كان من هؤلاء هو الرياء وهو: أن يفعل العبادة ليقال إنه مطيع. وما دخل الرياء في عبادة إلاّ أحبطها، ولو كان قليلا؛ لحديث أبي هريرة في الصحيح: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرْك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 152. والنسائي في الجهاد باب22. وأحمد في المسند (2/ 322) .[/rtl]
[rtl](1/53)[/rtl]
القسم الثاني:
العامل في العبادة الذي يقصد بها ثواب الآخرة وشيئاً آخر من أعراض الدنيا: كالرجل يبتغي الجهاد، وهو يريد من عرض الدنيا. وقد سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن هذا، فقال: «لا أجر له» . رواه أبو داوود (2) وابن حبان.
وعلى وزانه نقول: من قصد الهجرة والزوج بامرأة معاً.
أو قصد الوضوء والتبرد، أو قصد الصوم والحمية- وإن صحت عبادته، لأن الصحة تتوقف على نية القصد، والثواب يتوقف على نية الإخلاص- لا أجر له.
هذا إذا سُوِّي ما بينهما في القصد كما هو ظاهر لفظ الحديث. وأما إذا كان الغالب هو قصد العبادة فالظاهر أنه له من الأجر بقدر ما غلب من قصده.
القسم الثالث:
العامل في العبادة الذي يكون قصده إلى ثواب الآخرة، وما عداه من منافع تلك العبادة ملحوظ له على سبيل التبع لها من حيث إنه مصلحة شرعية معتبرة في التشريع.
والأحكام الشرعية المعللة بفوائدها في الآيات والأحاديث لا تحصى كثرة ومنها في الحج [الآية: 28] .: {ليشهدوا منافع لهم} ومن منافع الحج الحركة الاقتصادية لخير تلك البقاع ومصلحة أهلها، وغزارة عمرانها؟ ولذا قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198] . والفضل هنا هو الاتجار في مواسم الحج.
فكل منفعة تجلبها عبادة، أو مضرة تدفعها، فملاحظتها عند قصد العبادة لا تنافي الإخلاص، ولا تنقص من أجر العامل، وهي مثل الثواب المرتب على العمل: هي في الدنيا وهو في الآخرة، كلاهما من رحمة الله التي نرجوها بأعمالنا. ويشملها لفظ دعاء القنوت: «نرجو رحمتك» إذ هو تبارك وتعالى رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق حديث 46، وابن ماجة في الزهد باب21. وقوله: «تركته وشركه» هكذا وقع في بعض روايات الحديث؟ وروي: «وشريكه» ، وروي أيضاً: «وشركته» . ومعناه أنه غني عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيثاً لي ولغيري لم أقبله بل اتركه لذلك الغير. والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به.
(2) في الجهاد، باب 24، حديث 2516. ولفظه بتمامه: عن أي هريرة: «أن رجلاً قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي غرضاً من عرض الدنيا؟ فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أجر له. فأعظم ذلك الناس وقالوا للرجلٍ: عد لرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلعلك لم تفهمه؟ فقال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا؟ قال: لا أجر له. فقالوا للرجل: عد لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال له الثالثة، فقال له: لا أجر له» .[/rtl]
[rtl](1/54)[/rtl]
العامل لعمل عادي دنيوي، من أكل وشرب ونوم وجماع ونحوها، فهذا إذا قصد بعمله النفع الدنيوي، ولا قصد له في الثواب، فهو غير مأجور ولا مأزور، وهذه هي حالة أهل الغفلة والجهل.
القسم الخامس:
عامل الأعمال العادية الذي يتناولها بنية كونها مباحاً تناوُلُها شرعاً. ويقصد بها التوسل إلى ما يتوقف عليها من أعمال واجبة ومندوبة، وإلى الانكفاف بها عن المحرمات والمكروهات.
كمباضعة (1) زوجته للقيام بواجب حقها، وكف نفسه وكفها.
وكالنوم ليقوى على العبادة.
والرياضة ليصح للطاعة. فهذا مثاب وسعيه مشكور، وله ما نوى.
وبهذه السبيل يستطيع العبد الموفق أن تكون حركاته وسكناته كلها لله وفي طاعته، دائم الذكر له يعبده كأنه يراه (2) ، لأن من كان يعبد كأنه يرى مولاه لا يمكن أن يغفل عنه قلبه ويشغل بسواه، حتى إذا اشتغل بشيء كان بإذنه ورضاه فلم يخرج في أي عن حضرة قدس الله.
ومن أدلة هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم:
«وفي بضع (3) أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا» (4) .
***
المبحث الثالث:
من الناس من يخترع أعمالاً وأوضاعاً من عند نفسه، ويتقرب بها إلى الله، مثل ما اخترع المشركون عبادة الأوثان بدعائها، والذبح عليها، والخضوع لديها، وانتظار قضاء الحوائج منها ... وهم يعلمون أنها مخلوقة لله، مملوكة له، وإنما يعبدونها- كما قالوا- لتقربهم إلى الله زلفى (5) .
__________
(1) مباضعة الزوجة: مباشرتها.
(2) في حديث الإيمان والإسلام، سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل عليه السلام، قال: «فاخبرني عن الإحسان» ، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . أخرجه البخاري في الإيمان باب 27، ومسلم في الإيمان حديث1 و5 و7، والنسائي في الإيمان باب5 و6.
(3) البضع، بضم الباء: يطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته في هذا الحديث.
(4) أخرجه مسلم في الزكاة حديث 52، وأبو داود في التطوع باب 12، والأدب باب 160، وأحمد في المسند (5/ 167، 168) .
(5) كما جاء في الآية 3 من سورة الزمر: {ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى} . والزلفى: القربى والمنزلة.[/rtl]
[rtl](1/55)[/rtl]
وكما اخترع طوائف من المسلمين الرقص، والزمر، والطواف حول القبور، والنذر لها، والذبح عندها، ونداء أصحابها، وتقبيل أحجارها ونصب التوابيت عليها، وحرق البخور عندها، وصب العطور عليها ...
فكل هذه الاختراعات فاسدة في نفسها، لأنها ليست من سعي الآخرة الذي كان يسعاه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من بعده، فساعيها موزور غير مشكور.
المبحث الرابع:
شكر الرب لعبده هو جزاء شكر عبده له، وإنما يكون العبد شاكراً لربه إذا كان عاملاً بطاعته مؤمناً به؛ فإذا انعدم الايمان لم يُتصوَّرْ شكران وهذا مستفاد من قوله تعالى: {وهو مؤمن} .
وأفادت الجملة الإسمية ثبوت الإيمان ورسوخه حال العمل.
وعلى قدر ثبوت الايمان ورسوخه يكون الثبات والدوام على الأعمال:
فالمؤمن بالله يعمل موقناً برضاه، موقناً بلقائه وعظيم جزائه، فهو يعمل ولا يفشل، وسواء عليه أوصل إلى الغاية التي يسعى إليها، أم لم يصل إليها: بأن حال بينه وبينها موانع الدنيا أو مانع الموت، كانت مما تجنى ثماره في جيله أو لا تجنى ثماره إلاّ بعد أجيال.
فأفادت الجملة المذكورة شرط القبول للعمل، وسر الدوام عليه والمضي بغبطة وسرور فيه.
الجانب العملي في الآية:
إن المسلمين كلهم- والحمد لله- أهل إيمان، فليستشعروه عند جميع الأعمال، ولا يخلون من عمل لمعاشهم أو لمعادهم، فليقصدوا بذلك كله وجه الله وامتثال أمره وحسن جزائه. وليقتصروا في عبادتهم على ما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ليكونوا على يقين من موافقة رضى الله، وسلوك طريق النجاة.
فإذا فعلوا هذا وصمدوا (1) إليه وجاهدوا أنفسهم في حملها عليه- كانوا شاكرين مشكورين على تفاوتهم في منازل العاملين عند رب العالمين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
__________
(1) صَمَدَ إلى الشيء صَمْدًا: قصده (المعجم الوسيط: [ص:552] ) .[/rtl]
[rtl](1/56)[/rtl]
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) } [الإسراء: 19 و20] .
تمهيد:
إن هذه الموجودات كلها علويها وسفليها، مشمولة برحمة الله مغمورة بنعمته. وأول تلك النعم هو وجودها، وذلك الوجود من مقتضى الرحمة.
ثم تتنوع تلك النعم الرحمانية بتنوع أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها وأفرادها، وتتفاوت أيضا حسب ذلك. وينال كل حظه منها بتقدير الحكيم العليم.
ومن مظاهر هذه الرحمة العامة أن كل موجود قد أعطي من التكوين ما يناسب وجوده، وما يتوقف عليه بقاؤه، أو ارتقاؤه، سواء أكان من عالم الجماد، أو عالم النبات، أو عالم الحيوان.
وقد مضى قبل هذه الآية ذكر مريدي العاجلة الذين لا يعملون إلاّ لها، وما أعد لهم من عذاب النار. وذكر مريدي الآخرة بأعمالهم في الدنيا، وما أعد لهم من حسن الجزاء. فحالتهم في الآخرة متباينة: هؤلاء في النعيم المقيم، وأولئك في العذاب الأليم، هذا في الآخرة.
وأما في الدنيا فإنهم قد أعطوا من نعم الحياة، ومُكنوا من أسبابها.
فقد تساووا في الخلقة البشرية، وفي العقل المميز المفكر، وفي الإرادة الحرة.
وقد أظلتهم السماء، وأصابتهم نعمة الشمس والقمر والكواكب وما ينزل من السماء.
وقد أقلتهم الأرض وشملتهم نعمة الهواء، والماء، والغذاء، والدواء، من النبات والحيوان والجماد، وكل ماء يخرج من الأرض.
وشاهدوا كلهم آيات الله الكونية الدالة عليه.
وجاءتهم كلهم رسل الله بآياته السمعية داعية إليه، فاختار كل بعقله- وهو حر في إرادته حرية لا يمكن لأحد أن يكابر فيها ما اختار لنفسه.
وحجة الله بما تقدم قائمة عليه. وبقوا بعد ذلك الاختيار- الذي اختلفت به منازلهم عند الله- فيما أعد لهم يوم لقاه، سواء في تلك النعم الدنيوية، والتمكن من أسباب بقائها والتقدم فيها، لا فرق في ذلك بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر.
وهذا معنى قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} .
وليس تعالى مانعاً كافراً لكفره، أو عاصياً لعصيانه من هذه الحياة وأسبابها، وليس أحد على منع ما لم يمنعه الله بقادر.[/rtl]
[rtl](1/57)[/rtl]
(والحظر) المنع، والمحظور الممنوع (1) .
وتركيب الآية يفيد أن عطاء الرب لا يمنع، ولا يجوز أن يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه ومدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته.
وقدم المفعول، وهو (كلا) رداً على من يعتقد أن الله تعالى يمد بعضاً دون بعض. وفيه إيجاز بالحذف، والأصل كلا الفريقين: يعني فريق مريدي العاجلة، ومريدي الآخرة.
و (نمد) من الإمداد وهو المواصلة بالشيء، وذلك الشيء يسمى مدداً. وأصل المدد البسط للشيء، فيستطيل ويتسع ومنه مدّ يده ومدّ شبكته، ومنه مدّ الله لك أسباب السعادة أي بسطها ووسعها. والإمداد بالشيء والمواصلة به يكون به دوام فائدته وامتداد النفع به. والخلق كلهم في حاجة دائمة، وفاقة مستمرة إلى مدد الله وعطائه، وأنكل بره وإحسانه.
وهو تبارك وتعالى لا يزال يواصلهم في كل لحظة من وجودهم بما يحتاجون إليه من فيض عطائه.
وأضاف العطاء للرب لأنه من مقتضى ربوبيته بتكوينه للخلق، وتطويرهم، وإعطائهم ما يحفظهم في تلك الأطوار.
وأضاف الرب إلى ضمير المخاطب، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لتشريفه بهذه الإضافة. ولما تشرف بهذه الإضافة الربانية- والرب جل جلاله قد مضى في وصفه في الآية أنه عام الرحمة والنعمة والنوال؛ فمن شكر نعمة هذا الشرف أن يتخلق العبد- وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بما هومن مقتضى وصف ربه.
هذا من فوائد هذه الإضافة في هذا المقام.
وقد كان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رحمة للعالمين، شديد الشفقة على الخلق أجمعين حريصاً على هدايتهم إلى الصراط المستقيم، حتى خاطبه ربه بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] . أي قاتل نفسك غماً لعدم إيمانهم
وكان أساس شرعه على العدل والإحسان: العدل مع كل أحد، والإحسان إلى كل شيء، فقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] . أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل فيهم- وقال صلى الله عليهم وآله وسلم: «ان الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» (2) .
ولما كان هو عليه الصلاة والسلام قدوتنا، فنحن مخاطبون بأن نكون مثله في عموم رحمته
__________
(1) في تفسير الطبري (8/ 56) : "محظورًا: أي منقوصًا".
(2) من حديث شداد بن أوس. أخرجه الترمذي في الديات باب 14، والنسائي في الضحايا باب 22 و27.[/rtl]
[rtl](1/58)[/rtl]
وقد أفادت الآية- حسبما تقدم- أن أسباب الحياة والعمران والتقدم فيهما مبذولة للخلق على السواء، وأن من تمسك بسبب بلغ- بإذن الله- إلى مسببه، سواء أكان براً أو فاجراً، مؤمناً أو كافراً.
وهذا الذي أفادته الآية الكريمة مشاهد في تاريخ المسلمين قديماً وحديثاً:
فقد تقدموا حتى سادوا العالم، ورفعوا علم المدنية الحقة بالعلوم والصنائع لما أخذوا بأسبابها كما يأمرهم دينهم.
وقد تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها بإهمال تلك الأسباب فخسروا دنياهم، وخالفوا مرضاة ربهم، وعوقبوا بما هم عليهم اليوم من الذل والانحطاط.
ولن يعود إليهم ما كان لهم إلاّ إذا عادوا إلى امتثال أمر ربهم في الأخذ بتلك الأسباب.
فهذه الآية من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم، لما فيها من بيان أن ذلك المسلم ما تأخر بسبب إسلامه، وأن غيره تقدم بعدم إسلامه؛ لأن السبب في التقدم والتأخر هو التمسك أو الترك للأسباب.
ولو أن المسلم تمسك بها كما يأمره الإسلام، لكان- مثل سالف أيامه- سيد الأنام.
النظر في تفاضل البشر:
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} .
إن من أعظم العبرة ما نشاهده في أحوال الخلق، أمماً وجماعات وأفراداً من الاختلاف الشديد: فقد اختلفت بواطنهم النفسية، كما اختلفت ظواهرهم الجسدية. وإنك كما تجد أبناء الأمة الواحدة يتشابهون في تركيب أجسامهم، ثم لا بد من فروق تتمايز بها أشخاصهم، كذلك تجدهم يتشابهون في شؤونهم النفسية، مع فروق لازمة تتمايز بها شخصياتهم. ويتبع هذا الاختلاف اختلافهم في إدراكهم، وتمييزهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، في ضلالهم وهداهم، وفي درجات الهدى ودركات (2) الضلال.
__________
(1) فتر فتورًا: سكن بعد حدة ونشاط (المعجم الوسيط: [ص:672] ) .
(2) الدَّرَكة: المنزلة السفلى، ضد الدرجة وهي المنزلة العليا؛ فالدركات منازل بعضها تحت بعض، والدرجات منازل بعضها فوق بعض، والفضيلة درجات، والرذيلة دركات.[/rtl]
[rtl](1/59)[/rtl]
وفقه أسباب هذا التفضيل، هو فقه الحياة والعمران والاجتماع. فلذا أمر تعالى بالنظر في أحوال هذا التفضيل بقوله: {أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} .
و"كيف" سؤال عن الأحوال، والنظر المأمور به هو نظر القلب بالفكرة والاعتبار.
والجملة في محل نصب على العامل عن لفظها بكلمة الاستفهام.
وكما فضل بعض خلقه على بعض في دار الابتلاء، كذلك فضل بعضهم على بعض في دار الجزاء. لكن التفضيل هنالك أكبر، والتفاوت بين العباد أظهر، في مواقف القيامة، وفي داري الإقامة (1) ، ويا بعد ما بين من في الجنة ومن في النار!
وأهل النار متفاوتون في دركاتها، وأهل الجنة متفاوتون في درجاتها.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال:
» إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض « (2) .
وروى البخاري ومسلم (3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال:
» إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري (4) الغابر في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين «.
وقال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] . وهذا التفضيل الأخروي هو المراد بقوله تعالى: {وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} .
__________
(1) دارا الإقامة: هما الجنة والنار.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب 4 (حديث 2790) وتمامه:» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها. فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة- أراه قال: وفوقه عرش الرحمن- ومنه تفجر أنهار الجنة «.
(3) البخاري في بدء الخلق باب 8، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها حديث 11.
(4) الكوكب الدري: هو الكوكب العظيم، قيل: سمي دريا لبياضه كالدر، وقيل: لإضاءته، وقيل: لشبهه بالدر في كونه أرفع من باقي النجوم كالدر أرفع الجواهر.[/rtl]
[rtl](1/60)[/rtl]
فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أصول الهداية في ثمان عشرة آية
من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] ، إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] .
تمهيد:
قد أوتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصاراً؛ فالآية من كتاب الله، والأثر من حديث رسول الله، تجد فيه من أصول الهداية، ودقيق العلم، ولطيف الاشارة في لفظ بيِّن وكلام بيِّن- ما فيه الكفاية وفوق الكفاية لمن أوتي العلم ومُنح التوفيق.
فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها.
وهي- فوق بلاغتها التي عرف العرب إعجازها بسليقتهم وأدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم- قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا، أو بأي لغة نطقوا، بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفِطَر وتسلمها العقول.
وإنك لست واجداً مثلها في مقدارها وأضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدى وبيان.
وهذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور المتقدم في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} ووقوعها بلصق قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} . إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور، المستفاد من هذه الآيات.[/rtl]
[rtl](1/61)[/rtl]
هذا هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تقبل الأعمال إلاّ به. وما أرسل الله رسولا إلاّ داعياً إليه، ومذكراً بحججه.
وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة "لا إله إلاّ الله". وهي كلمته الصريحة فيه.
ولا تكاد سورة من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضده.
وأنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه.
{لا تجعل} الجعل يكون عملياً كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد، ويكون اعتقادياً كجعلت مع صديقي صديقاً آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني.
{مع الله} المعية هنا أيضاً هي معية اعتقادية.
{إلها آخر} الإله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والافتقار وإظهار الإنقياد والامتثال ودوام التضرع والسؤال.
{فتقعد} القعود ضد القيام، والعرب تكني بالقيام عن الجد في الأمر والعمل فيه سواء أكان العامل قائماً أو جالسا، فتقول: قام بحاجتي إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة وإنما قضاها بكلمة قالها، أو خطاب أرسله. وتكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء أكان الشخص واقفاً أو جالساً، فتقول: قعد زيد عن نصرة قومه إذا لم يعمل في ذلك عملاً، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، ولو كان قائاً يمشي على رجليه. فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]{مذمومًا} مذكورا بالقبيح موصوفاً به.
{مخذولا} متروكا بلا نصير مع حاجتك إليه.
فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكاً في ألوهيّة، فيعبدوه معه ليعتقدوا أنه الإله وحده فيعبدوه وحده.
وبين لهم أنهم إن اعتقدوا معه شريكاً وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة، وعملهم يكون مردوداً عليهم، وأنهم يكونون مذمومين من خالقهم، ومن كل عقل سليم من الخلق، يكونون مخذولين لا ناصر لهم: فأما الله فإنه يتركهم وما عبدوا معه، وأما معبوداتهم فإنها لا تنفعهم لأنها عاجزة مملوكة مثلهم فما لهم- قطعاً- من نصير.
والخطاب وإن كان موجهاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فإنه عام للمكلفين.
وسر مثل هذا الخطاب تنبيه الخلق إلى أن شرائع الله وتكاليفه عامة للرسول والمرسل إليهم،[/rtl]
[rtl](1/62)[/rtl]
[rtl]وإن كان هو (1) قد عصم من [[المخالفة]] فلا يبقى بعد ذلك وجه لدعوى مدع: خروج فرد من أفراد الأمة المكلفين عن دائرة التكليف
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .
القضاء يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري الذي لا يتخلف متعلقه فما قضاه الله لا بد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون، ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني.
{ربك} الرب هو الخالق المدبر المنعم المتفضل.
{أن} في {ألاّ} مصدرية، والتقدير: بألا تعبدوا إلاّ إياه أي بعدم عبادتكم سواه، بأن تكون عبادتكم مقصورة عليه.
فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلاّ له فذل القلب وخضوعه، والشعور بالضعف والافتقار والطاعة والانقياد والتضرع والسؤال، هذه كلها لا تكون إلاّ لله.
فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده.
ومن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده أو من عند الله فقد عبده.
ومن توجه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده.
ومن شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده.
فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمراً عاما وحكم حكما جازماً، بأن العبادة لا تكون إلاّ له.
وجيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيها على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك إلاّ له. فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه، فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها انفراده بالخلق والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته.
وكما انتظمت هذه الجملة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، كذلك انتظمت مع الآية السابقة التوحيد العلمي والتوحيد العملي:
فالأولى: نهي عن أن تعتقد الألوهية لسواه، وهو يتضمن النهي عن اعتقاد ربوبية سواه وهذا من باب العلم.
والثانية: أمر بأن تكون عبادتك مقصورة عليه لأنه هو ربك وحده، وهذا من باب العمل:
__________
(1) أي الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.[/rtl]
[rtl](1/63)[/rtl]
[rtl]فمن وحد الله جل جلاله في ربوبيته وألوهيته علماً وعملاً ... فقد استكمل حظه من مقام هذا الأساس العظيم.
ومن أخلَّ بشيء من ذلك كان ذلك نقصاً في دينه بقدر ما أخل حتى ينتهي الأمر إلى خلص المشركين.
نعوذ بالله من الشرك جليه وخفيه، إنه سميع عليم.
بيان واستدلال:
يكون "الذل" بمعنى ضعف الحال، وهذا قد يكون لأهل التوحيد والإيمان كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] .
ويكون بمعنى اللين المشوب بالعطف وهذا من صفات المؤمنين الممدوحة إذا وقعت في محلها كما في قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 29] .
ويكون الذل بمعنى خنوع القلب وخضوعه وانكساره للضعف والافتقار، وهذا هو الذي يكون من المؤمن الموحد لربه كما في حديث دعاء القنوت: «ونخنع لك» ، أي نذل ونخضع لك.
وهذا الخنوع هو أساس العبادة القلبية فلذلك لا يكون إلاّ لله.
وإن من أسرار كلمة "الله أكبر" التي يأتي بها المؤمن مرات كثيرة في صلواته وغيرها من أحواله، حفظ القلب من الخنوع للخلق باستشعار عظمة الخالق التي يصغُر عندها كل مخلوق، فلا يزال المؤمن لهذا قوي القلب، عزيز النفس بالله، لا ينتظر قوة بدلاً من ضعفه إلاّ به، ولا سد مفاقره (1) إلاّ منه.
ولقلب المؤمن الموحد أمام من يحب في الله ويعظم بتعظيم الله خضوع أيضاً، ولكنه خضوع هيبة وتوقير وإجلال لا خضوع ذل وخنوع وضعف وافتقار، إذ هذا- كما قدمنا- لا يكون إلاّ للغني القوي العزيز القهار.
من مظاهر هذا الخنوع الذي لا يكون إلاّ لله الطاعة والانقياد، وهي أيضاً لا تكون إلاّ له.
وقد قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] . أي أطاعه واتبعه. كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] .
فمن اتبع مخلوقاً وأطاعه فيما يأمره وينهاه، دون أن يكون في طاعته مراعياً طاعة الله فقد عبده، واتخذه ربًا فيما أطاعه فيه.
وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره، لما جاء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وسمعه يتلو قوله تعالى:
__________
(1) المفاقر: وجوه الفقر؛ يقال: سد الله مفاقره: أغناه. انظر (المعجم الوسيط: [ص:697] ) .[/rtl]
[rtl](1/64)[/rtl]
[rtl]{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] . فقال عدي: يا رسول الله، إنهم لم يكونوا يعبدونهم. قال: «أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئاً حرموه، وإذا أحلوا لهم شيئاً أحلوه؟» قال، قلت: نعم. قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «فتلك عبادتهم إياهم!» (1) .
فالمؤمن الموحد لا تكون طاعته إلاّ لله أو لمن طاعته طاعة لله.
ومن مظاهر ذلك الخنوع: الدعاء والسؤال والتضرع والجؤار (2) إليه. قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] . وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 162] . وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] . وفي القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الترمذي: «إذا سألت فاسأل الله» (3) . وفي أحاديث كثيرة.
فلا يدعو المؤمن الموحد غير الله ولا أحداً مع الله، إذ الدعاء عبادة كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه يرفعه: «الدعاء هو العبادة» رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة (4) .
وكما في حديث أنس رضي الله عنه يرفعه: «الدعاء مخ العبادة» . رواه الترمذي (5) . وكل عبادة لا تكون إلاّ لله فالدعاء لا يكون إلاّ لله.
وإنما كان للدعاء من العبادة هذي المنزلة لأن حقيقة العبادة هي التذلل والخضوع، وهو حاصل في الدعاء غاية الحصول، وظاهر فيه أشد الظهور.
ألهمنا الله رشدنا، وأعاذنا من شرور أنفسنا، إنه سميع قريب مجيب.
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة التوبة باب1.
(2) جأر جأرًا وجؤارًا: رفع صوته؛ وجأر إلى الله: تضرع واستغاث. وفي الحديث: «كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى رب بالتلبية» (المعجم الوسيط: [ص:103] ) .
(3) أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع باب 59 (حديث 2516) وتمامه: «عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك؟ إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» .
(4) رواه أحمد في المسند (4/271،267، 276) والترمذي في تفسير سورة البقرة باب 16. وابن ماجة في الدعاء باب 1. وأبو داود في الوتر باب 23.
(5) في الدعاء باب 1.[/rtl]
[rtl](1/65)[/rtl]
[rtl]بِرُّ الوالدين
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) } [الإسراء:23 و24] .
تمهيد
الله هو الخالق، والوالدان- بوضع الله- هما السبب المباشر في التخليق.
والله هو المبتدىءُ بالنعم عن غير عمل سابق، وهما يبتدئان بالإحسان عن غير إحسان تقدم.
والله يرحم ويلطف وهو الغني عن مخلوقاته، وهم الفقراء إليه، وهما يكنفان بالرحمة واللطف الولد، وهما في غنى عنه، وهو في افتقار إليهما.
والله يوالي إحسانه ولا يطلب الجزاء، وهما يبالغان في الإحسان دون تحصيل الجزاء.
فلهذه الحالة التي خصهما الله بها وأعانهما بالفطرة عليها، قرن ذكرهما بذكره؟ فلما أمر بعبادته أمر بالإحسان إليهما في هذه الآية، وفي قوله تعالى:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] .
ولما أمر بشكره أمر بشكرهما فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] .
وفي هذا الجمع في القضاء والحكم بالإحسان والأمر بالشكر لهما مع الله تعالى أبلغ التأكيد وأعظم الترغيب.
ثم زاد هذا الحكم وهذا الأمر تقريراً بلفظ التوصية بها في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] ، ليحفظ حكم الله وأمره فيهما، ولا يضيع شيء من حقوقهما، فكان حقهما بهذه الوصاية، أمانة خاصة، ووديعة من الله عظيمة عند ولدهما، وكفى بهذا داعياً إلى العناية بهذه الأمانة وحفظها وصيانتها.
وكما جاء هذا الجمع في باب الأمر في القرآن كذلك جاء في الجمع بينهما في باب النهي وكبر المعصية، في السنة: ففي الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 6، والاسئذان باب 35، واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب 1.=[/rtl]
[rtl](1/66)[/rtl]
[rtl]وتقدير نظم الآية هكذا:
«وقضى ربك أن لا تعبدوا إلاّ إياه، وبأن تحسنوا للوالدين إحسانا» . فحذف أن تحسنوا لوجود ما يدل عليه وهو إحسانا. وفي تنكيره إفادة للتعظيم، فهو إحسان عظيم في القول والفعل والحال. وتقول أحسنت إليه، وأحسنت به، وأحسنت به أبلغ، لتضمن أحسنت معنى لطفت، ولما في الباء من معنى اللصوق، ولهذا عدي في الآية بالباء ليفيد الأمر باللطف في الإحسان والمبالغة في تمام اتصاله بهما، فلا يريان ولا يسمعان ولا يجدان من ولدهما إلاّ إحساناً، ولا يشعران في قلوبهما منه إلاّ الإحسان.
ومن الإحسان ما يكون ابتداء وفضلاً، ومنه ما يكون جزاء وشكراً فعليه أن يعلم أن كل إحسانه هو شكر لهما على سابق إحسانهما، الذي لا يمكنه أن يكافئه بمثله لثبوت فضيلة سبقه.
وفي تعليق الحكم- وهو الأمر بالإحسان، بلفظ الوالدين المشتق من الولادة، إيذان بعليتها في الحكم، فيستحقان الإحسان بالوالدية سواء أكانا مؤمنين أم كافرين، بارين أو فاجرين، محسنين إليه أو مسيئين.
وقد جاء هذا صريحاً في قوله تعالى:
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] . فأمر بمصاحبتهما بالمعروف على كفرهما.
وفي الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما- قالت: «قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فاستفيتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة (أي في العطاء والإحسان) أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك» (1) .
وهذا الإحسان الواجب لهما، جانب الأم آكد فيه من جانب الأب، وحظها فيه أوفر من حظه. ويشير إلى هذا تخصيصها بذكر أتعابها في قوله تعالى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] . وفي الآية الآخرى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . فذكر ما تعانيه من ألم الحمل، ومشقة الوضع، ومقاساة الرضاع والتربية.
__________
= ومسلم في الإيمان حديث 143. والترمذي في البر والصلة باب4. والنسائي في التحريم باب3. والدارمي في الديات باب9. وأحمد في المسند (5/ 38،36) .
(1) أخرجه البخاري في الهبة باب29، والجزية باب18، والأدب باب8. ومسلم في التركاة باب50. والدارمي في التركاة باب34. وأحمد في المسند (6/ 355،347،344)[/rtl]
[rtl](1/67)[/rtl]
[rtl]وجاء التصريح بهذا في الحديث الصحيح:
فقد جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: «من أحق الناس بحسن صحابتي (1) ؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك» . فذكر الأب في الثالث (2) . وفي طريق آخر للحديث، ذكره في الرابعة (3) .
ولقد كان لها هذا بما ذكر من مزيد تعبها، وضعف جانبها، ورقة عاطفتها، وشدة حاجتها.
فكان هذا الترجيح لجانبها من عدل الحكيم العليم ومحاسن الشرع الكريم.
ومن الإحسان إليهما طاعتهما في الأمر والنهي، ومن عقوقهما مخالفتهما فيهما.
وإنما تحل له مخالفتهما إذا منعاه من واجب عيني، أو أمراه بمعصية، لما في الصحيح من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» (4) ، وعند الحاكم وأحمد: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق!» (5) .
ومن الدليل على رجحان جانبهما على الواجب الكفائي:
ما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي أتى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» (6) .
ومن الطريق الثاني، قال عبد الله بن عمر (7) رضي الله عنه: «أقبل رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغاء الأجر من الله. قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» .
__________
(1) الصحابة هنا بمعنى الصحبة.
(2) أخرجه بهذه الرواية ابن ماجة في الأدب باب 1، من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه بهذه الرواية البخاري في الأدب باب، ومسلم في البر حديث 1، كلاهما من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد في المسند (3/5) من حديث بهز بن حكيم، و (5/5) من حديث معاوية بن حيدة.
(4) من حديث علي بن أبي طالب. أخرجه مسلم في الإمارة حديث 39. وأبو داود في الجهاد باب 87. والنسائي في البيعة باب 34. وأحمد في المسند (1/131،129) .
(5) وجدته في مسند أحمد (5/ 66) من حديث الحكم بن عمرو الغفاري مرفوعاً بلفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» . وهو بهذا اللفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» في مصنف ابن أبي شيبة (12 /546) والدر المنثور للسيوطي (2/ 177) وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي (3/ 145، 10/ 22) وتاريخ أصفهان لأبي نعيم (1/ 133) .
(6) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه البخاري في الجهاد باب 138، والأدب باب 3. ومسلم في البر حديث5. وأبو دأود في الجهاد باب 31. والنسائي في الجهاد باب5. وأحمد في المسند (2/ 172،165،188،193،197،231) .
(7) كذا في الأصل "ابن عمر" والصواب "ابن عمرو" فإن الحديث بهذا اللفظ رواه مسلم في البر والصلة والآداب (حديث رقم 6) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.[/rtl]
[rtl](1/68)[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]هذا لأن القيام عليهما فرض عيني، والجهاد كان عليه فرض كفاية. ولو تعين عليه ولم يكونا عن كفاية قدم القيام عليهما وكفايتهما عليه.
ومن حقوقهما عليه: أن لا يخرج إلى ما فيه خوف ومخاطرة بالنفس إلاّ بإذنهما، بدليل ما جاء في سنن أبي دأوود:
«أن رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي. قال أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع إليهما فاستاذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلاّ فبرهما» (1) . أما إذا أراد تعاطي ما لا خطر فيه ولا فجيعة من شؤون الحياة ووجوه التصرفات، فليس عليه أن يستأذنهما، وليس لهما منعه، ولكن إذا منعاه من شيء امتنع لوجوب برهما، وطاعتهما- في غير المعصية- من برهما.[/b]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]تفصيل الإحسان إليهما في القول والعمل وتأكيده في حالة الكبر:
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .
الأمر بالإحسان إليهما عام في جميع الأحوال. وخصصت حالة بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر بالذكر، لأنها حالة الضعف وشدة الحاجة، ومظنة الملل والضجر منهما، وضيق الصدر من تصرفاتهما. فهما في هذه الحالة قد عادا في نهايتهما إلى ما كان ولدهما عليه في بدايته. وليس عنده من فطرة المحبة مثل ما عندهما. فكان بأشد الحاجة إلى التذكير بما عليه من تمام العناية بهما، ومزيد الرعاية لهما، وشدة التوقي والتحفظ من كل ما يمس بسوء جانبهما في هاته الحال على الخصوص. وإن كان ذلك واجبا عليه في كل حال على العموم.
وطول بقائهما عنده في كنفه وثقل مؤونتهما عليه، وما يكون من ضرورات الكبر والمرض مما يستقذره في بيته، كل هذا قد يؤديه إلى الضجر والتبرم، فيقول ما يدل على ضجره وتبرمه.
فنهي عن التفوه بأقل كلمة تدل على ذلك وهي كلمة أف بقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ، فأحرى وأولى ما فوقها.
وهذا أمر بتحمل كل ذلك منهما، ونهي عن التضجر منهما.
ومن ضرورة مباينتهما لولدهما في السن وفي النشأة أنهما كثيرا ما يخالفانه في آرائه وأفكاره، وقد يتناولان ما لا يحب أن تصل يدهما إليه، وقد يسألانه للمعرفة أو للحاجة، وكل هذا قد يؤديه إلى نهرهما، أي زجرهما بصياح وإغلاظ، أو إظهار للغضب في الصوت واللفظ، فنهي عن هذا
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 31 (حديث 2530) من طريق أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله[/rtl]
[rtl]بقوله تعالى: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} . وفي هذا أمر له بالتلطف معهما في الطلب والعرض، والدلالة على وجه الصواب في الأمر وأبواب الفعل والترك، وبحسن التلقي لكل ما يسألان ويطلبان. ونهى عن أي إغلاط في اللفظ والصوت وحالة الكلام.
ولما نهاه عن القول القبيح المؤذي ... أمره بالقول اللين السهل الحسن في لفظه وفي معناه، وفي قصده وفي منشئه، السالم من كل عيب ومكروه بقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . وفي هذا أمر بأن يخاطبهما بجميل القول، ويؤنسهما بطيب الحديث. ونهي عن أن يؤذيها في قول، أو يوحشهما بطول السكوت. فليس له أن يتركهما وشأنهما، بل عليه مجالستهما ومحادثتهما، وجلب الأنس إِليهما، وإدخال السرور عليهما.
ثم إن القول إنما هو عنوان ما في الضمير، ولا يكون كريما شريفاً إلاّ إذا كان عنواناً صادقاً، حسن مظهره ومخبره، وعذب جناه، وطاب مغرسه. وما ثماره إلاّ معانيه وما مغرسه إلاّ القلب الذي صدر عنه.
فيفيد هذا أن على الولد أن يكون معهما باللطف والعطف من صميم قلبه، كما يعرب لها بلسانه، فيكون محسناً لهما حينئذ في ظاهره وباطنه، وذلك هو تمام البر الذي أمر به.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} :
مضى فيما تقدم أدب القول، وهذا أدب الفعل، وبيان الحال التي يكون عليها: فالوالدان عند ولدهما في كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت والدفء والراحة، وولدهما يقوم لهما بالسعي، كما يسعى الطائر لفراخه، ويحيطهما بحنوه وعطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه، وحذف المشبه به، وأشير إليه بلازمه وهو خفض الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، وإنما يخفض جناحه حنواً وعطفاً وحياطة لفراخه.. فيكون في الكلام استعارة بالكناية، وأضيف الجناح إلى الذل- وهو الهون واللين- إضافة موصوف إلى صفة: أي اخفض لهما جناحك الذليل، وهذا ليفيد هونه وانكساره عند حياطتها.. حتى يشعر بأنهما مخدومان باستحقاق، لا متفضل عليهما بالإحسان.
وفي ذكر هذه الصورة التي تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق للقلب موجب للرحمة، وتنبيه للولد على حالته التي كان عليها معهما في صغره، ليكون ذلك أبعث له على العمل وعدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه.
و {من} في قوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمَةِ} للتعليل متعلقة ب"اخفض"، فتفيد مع متعلقها الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئا عن الرحمة الثابتة في النفس، لا عن مجرد استعمال ظاهر، كما كانا يكنفانه ويعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة. فيكون هذا مفيداً ومؤكدا لما قدمناه، من لزوم أن يتطابق على الإحسان إليهما الظاهر والباطن، ليتم البرور.
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .[/rtl]
[rtl]مهما اجتهد الولد في الإحسان إلى أبويه فإنه لا يجازي سابق إحسانهما بأن يتوجه (1) بسؤال الرحمة لهما من الله تعالى، وهي النعمة الشاملة لخير الدنيا والآخرة إظهاراً لشدة رحمته لهما، ورغبة في وصول الخير العظيم من المولى الكريم إليهما، واعترافاً بعجزه عن مجازاتهما.
يدعو لهما هكذا في حياتهما، وبعد مماتهما.
أما في حياتهما فيدعو لهما بالرحمة سواء كانا مسلمين أم كافرين، ورحمة الكافرين بهدايتهما إلى الإسلام. وأما بعد الموت فلا يسأل الرحمة لهما إلاّ إذا ماتا مسلمين؟ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
والكاف في قوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} للتعليل أي رب ارحمهما لتربيتهما لي، وجزاء على إحسانهما إلي في حالة الصغر: حالة الضعف والافتقار. وفي هذا اعتراف بالجميل، وإعلان لسابق إحسانهما العظيم، وتوسل إلى الله تعالى في قبول دعائه لهما بما قدما من عمل؛ لأنه وعد أنه يجزي العاملين، وقد كانت تربيتهما لولدهما من أجل مظاهر الرحمة. وهو قد أخبر تعالى على لسان رسوله: «أنه يرحم الراحمن» (2) ولا أرحم- بعده تعالى- من الوالدين.
خاتمة:
من بر الوالدين:
1- أن نتحفظ من كل ما يجلب لهما سوءًا من غيرنا، فإن فاعل السبب فاعل للمسبب، ومن هذا أن لا نسب الناس حتى لا يسبوا والدينا، لأنا إذا سببنا الناس فسبوهما كنا قد سببناهما، وسبهما من أكبر الكبائر: ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه! قيل يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمها» (3) .
2- ومن برهما حفظهما بعد موتهما بالدعاء والاستغفار، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما وصلة رحمهما، فقد روى ابن ماجه وأبو داوود وابن حبان في صحيحه، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي البدري رضي الله عنه، قال:
__________
(1) تقدير الكلام: فيجب عليه أن يتوجه؛ أو: فعليه أن يتوجه.
(2) روى أحمد في المسند (1 /4،5) من حديث طويل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيه: «يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً» .
(3) أخرجه مسلم في الإيمان (حديث 145) والترمذي في البر باب 4. وأحمد في المسند (2/ 164، 195، 214، 216) .[/rtl]
[rtl]«بينا نحن جلوس عند رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل الا بهما، وإكرام صديقهما» (1) .
وفي إكرام صديقهما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير. فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب. واني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول:
«إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» (2) .
هذا، وإن من راض نفسه على هذه الأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة والأقوال الطيبة التي أمر بها مع والديه- يحصل له من الارتياض عليها كمال أخلاقي مع الناس أجمعين. وكان ذلك من ثمرات امتثال أمر الله وطاعة الوالدين.
والله يوفقنا ويهدينا سواء السبيل، إنه المولى الكريم رب العالمين.
صلاح النفوس وإصلاحها
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) } [الإسراء: 25] .
الشرح والمعنى:
صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتدال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال.
وفساد الشيء هو كونه على حالة اختلال في ذاته أو صفاته، بحيث تصدر عنه أو به تلك الأعمال على وجه النقصان.
اعتبر هذا في البدن، فإن له حالتين: حالة صحة، وحالة مرض.
والأولى هي حالة صحته باعتدال مزاجه، فتقوم أعضاؤه بوظائفها وينهض هو بأعماله.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب باب 120. والترمذي في البر باب5. وابن ماجه في الأدب باب. 2. وأحمد في المسند (3/498) .
(2) أخرجه مسلم في البر (حديث 11 و12) وأبو داود في الأدب باب 120. والترمذي في البر باب 5. وأحمد في المسند (2/88،91،97،111) .[/rtl]
[rtl]والثانية هي حالة فساده باختلال مزاجه، فتتعطل أعضاؤه أو تضعف كلها أو بعضها عن القيام بوظائفه، ويقعد هو أو يثقل عن أعماله.
هذا الذي تجده في البدن هو نفسه تجده في النفس: فلها صحة، ولها مرض، حالة صلاح وحالة فساد.
(والإصلاح) هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزاء ما طرأ عليه من فساد.
(والإفساد) هو إخراج الشيء عن حالة اعتداله بإحداث اختلال فيه.
فإصلاح البدن بمعالجته بالحمية والدواء، وإصلاح النفس بمعالجتها بالتوبة الصادقة.
وإفساد البدن بتناول ما يحدث به الضرر، وإفساد النفس بمفارقة المعاصي والذنوب. وهكذا تعتبر النفوس بالأبدان في باب الصلاح والفساد، في كثير من الأحوال، غير أن الاعتناء بالنفوس أهم وألزم، لأن خطرها أكبر وأعظم.
إن المكلف المخاطب من الإنسان هو نفسه، وما البدن إلاّ آلة لها ومظهر تصرفاتها، وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها. وإنما رقيه وانحطاطه باعتبار رقي نفسه وانحطاطها، وما فلاحه إلاّ بزكائها، وما خيبته إلاّ بخبثها. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10،9] .
وفي الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة (1) إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (2) .
وليس المقصود من القلب مادته وصورته، وإنما المقصود النفس الإنسانية المرتبطة به.
وللنفس ارتباط بالبدن كله، ولكن القلب عضو رئيسي في البدن، ومبعث دورته الدموية، وعلى قيامه بوظيفته تتوقف صلوحية البدن، لارتباط النفس به. فكان حقيقاً لأن يعبر به عن النفس على طريق المجاز.
وصلاح القلب- بمعنى النفس- بالعقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، وإنما يكونان بصحة العلم، وصحة الإرادة، فإذا صلحت النفس هذا الصلاح صلح البدن كله، بجريان الأعضاء كلها في الأعمال المستقيمة. وإذا فسدت النفس من ناحية العقد، أو ناحية الخلق، أو ناحية العلم، أو ناحية الإرادة ... فسد البدن، وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السداد.
__________
(1) المضغة: القطعة من اللحم، سميت لذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها.
(2) أخرجه من حديث النعمان بن بشير: البخاري في الإيمان باب 39. ومسلم في المساقاة (حديث 107) وابن ماجة في الفتن باب 14. والدارمي في البيوع باب1. وتمام الحديث كما في البخاري: «الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؛ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .[/rtl]
[rtl]فصلاح النفس هو صلاح الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع والعناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس: إما مباشرة وإما بواسطة.
فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق والخير والعدل والإحسان إلاّ وهو راجع عليها بالصلاح.
وما من شيء نهى الله تعالى عنه من الباطل والشر والظلم والسوء إلّا وهو عائد عليها بالفساد.
فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وشرع الشرائع.
وهذه الآيات الثمان عشرة قد جمعت من أصول الهداية ما تبلغ به النفوس- إذا تمسكت به- غاية الكمال.
قد أمر تعالى في الآيات المتقدمة بعبادته والإخلاص له.
وأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما في الظاهر والباطن.
كما أمر بغير ذلك في الآيات اللاحقة. ووضع هذه الآية أثناء ذلك، وهي متعلقة بالنفس وصلاحها.. لينبه الخلق على أصل الصلاح الذي منه يكون، ومنشؤه الذي منه يبتدىء. فإذا صلحت النفس قامت بالتكاليف التي تضمنتها هذه الآيات الجامعة لأصول الهداية، وهذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها، الذي يكون قبل التدبر خفياً.
ونظير هذه الآية في موقعها ودلالتها على ما به يسهل القيام بأعباء التكاليف- قوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] .
فقد جاءت أثناء آيات أحكام الزوجية آمرة بالمحافظة على الصلوات، تنبيهاً للعباد على أن المحافظة عليها على وجهها، تسهل القيام بأعباء تكاليف تلك الآيات، لأنها تزكي النفس بما فيها من ذكر وخشوع وحضور وانقطاع إلى الله تعالى، وتوجه إليه، ومناجاة له.
وهذا كله تعرج به النفس في درجات الكمال.
والنفوس الزكية الكاملة تجد في طاعة خالقها لذة وأنساً تهون معهما أعباء التكليف.
ثم إن العباد بنقص الخلقة وغلبة الطبع.. معرضون للتقصير في ظاهرهم وباطنهم في صور أعمالهم ودخائل أنفسهم- وخصوصاً في باب الإخلاص- فذكروا بعلم ربهم بما في نفوسهم في قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} ليبالغوا في المراقبة فيتقنوا أعمالهم في صورها ويخلصوا بها له. وهذه المراقبة هي الإحسان الذي هو عبادتك الله كأنك تراه (1) .
__________
(1) كما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما=[/rtl]
[rtl]وذكر اسم الرب لأنه المناسب لإثبات صفة العلم، فهو الرب الذي خلق النفوس، وصورها ودبرها. ولا يكون ذلك إلاّ بعلمه بها في جميع تفاصيلها وكيف يخفى عليه شيء وهو خلقها؟ {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الحبير} [الملك: 14] .؟!.
والصالحون في قوله تعالى: {إن تكونوا صالحين} ، هم الذين صلحت أنفسهم فصلحت أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم (1) .
وصلاح النفس وهو صفة لها.. خفي كخفائها؟ وكما أننا نستدل على وجود النفس وارتباطها بالبدن بظهور أعمالها في البدن، كذلك نستدل على اتصافها بالصلاح وضده بما نشاهده من أعمالها:
فمن شاهدنا منه الأعمال الصالحة- وهي الجارية على سنن الشرع، وآثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حكمنا بصلاح نفسه، وأنه من الصالحين.
ومن شاهدنا منه خلاف ذلك حكمنا بفساد نفسه، وأنه ليس منهم.
ولا طريق لنا في معرفة صلاح النفوس وفسادها إلاّ هذا الطريق. وقد دلنا الله تعالى عليه في قوله تعالى:
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) } [آل عمران: 113 و114] .
فذكر الأعمال، ثم حكم لأهلها بأنهم من الصالحين. فأفادنا: أن الأعمال هي دلائل الصلاح، وأن الصلاح لا يكون إلاّ بها، ولا يستحقه إلاّ أهلها.
__________
= الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمَة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهم إلاّ الله. ثم تلا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله عنده علم الساعة. ثم أدبر، فقال: ردوه! فلم يروا شيئاً. فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» . أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، وهذا لفظه. ومسلم في الإيمان (حديث 1 و5 و6 و7) وأبو داود في السنة باب 16. والترمذي في الإيمان باب 4. والنسائي في الإيمان باب 5 و6. وابن ماجة في المقدمة باب 9. وأحمد في المسند (2/ 107،132) .
(1) ربط الطبري الصلاح في هذه الآية بما تقدم قبلها من أمره بالإحسان إلى الوالدين، فقال في تفسيره (8/ 65) : «وقوله: إن تكونوا صالحين؟ يقول: إن انتم أصلحتم نياتكم فيهم وأطعتم الله فيما أمركم به من البر بهم والقيام بحقوقهم عليكم بعد هفوة كانت منكم أو زلة في واجب لهم عليكم مع القيام بما ألزمكم في غير ذلك من فرائضه، فإنه كان للأوابين بعد الزلة والتائبين بعد الهفوة غفورا لهم".[/rtl]
[rtl]ثم إن العباد يتفاوتون في درجات الصلاح على حسب تفاوتهم في الأعمال. ويكون لنا أن نقضي بتفاوتهم في الظاهر بحسب ما نشاهد. ولكن ليس لنا أن نقضي بين أهل الأعمال الصالحة في تفاوتهم عند الله في الباطن؟ فندعي أن هذا أعلى درجة في صلاحه عند الله تعالى من هذا، لأن الأعمال قسمان: أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، وهذه أصل لأعمال الجوارح.
وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «التقوى ههنا» ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات (1) . فمنازل الصالحين عند ربهم لا يعلمها إلاّ الله.
(والأوابون) في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى.
والأوبة في كلام العرب هي الرجوع، قال عبيد:
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوبُ
والتوبة، هي الرجوع عن الذنب ولا يكون إلّا بالإقلاع عنه، واعتبر فيها الشرع الندم على ما فات، والعزم على عدم العود، وتدارك ما يمكن تداركه. فيظهر أن الأوبة أعم من التوبة: فتشمل من رجع إلى ربه تائباً من ذنبه، ومن رجع إليه يسأله ويتفرع إليه أن يرزقه التوبة من الذنوب.
فنستفيد من الآية الكريمة: سعة باب الرجوع إلى الله تعالى. فإن تاب العبد، فذاك هو الواجب عليه، والمخلِّص له- بفضل الله- من ذنبه. وإن لم يتب فليدم الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع، والتعرض لمظان الإجابة وخصوصاً في سجود الصلاة، فقمين (2) - إن شاء الله تعالى- أن يستجاب له.
وشر العصاة هو الذي ينهمك في المعصية، مصراً عليها، غير مشمر منها، ولا سائل من ربه - بصدق وعزم- التوبة منها، ويبقى معرضاً عنه ربه كما أعرض هو عنه، ويصر على الذنب حتى يموت قلبه. ونعوذ بالله من موت القلب فهو الداء العضال الذي لا دواء له.
وجاء لفظ "الأوابين" جمعاً لأواب، وهو فعّال من أمثلة المبالغة، فدل على كثرة رجوعهم إلى الله. وأفاد هذا طريقة إصلاح النفوس بدوام علاجها بالرجوع إلى الله: ذلك أن النفوس- بما
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (حديث رقم 32) والترمذي في البر والصلة (باب 18) وأحمد في المسند (2/ 277،360) من حديث أبي هريرة. واخرجه أحمد في المسند (3/ 135) من حديث أنس بن مالك. وتمام الحديث كما رواه مسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره. التقوى ههنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» .
(2) قمين: جدير.[/rtl]
[rtl]ركب فيها من شهوة، وبما فطرت عليه من غفلة، وبما عرضت له من شؤون الحياة، وبما سلط عليها من قرناء السوء من شياطين الإنس والجن، لا تزال- إلاّ من عصم الله- في مقارفة ذنب، ومواقعة معصية صغيرة أو كبيرة، من حيث تدري ومن حيث لا تدري. وكل ذلك فساد يطرأ عليها، فيجب إصلاحها بإزالة نقصه، وإبعاد ضرره عنها. وهذا الإصلاح لا يكون إلاّ بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
ولما كان طروء الفساد متكرراً فالإصلاح بما ذكر يكون دائماً متكرراً.
والمداومة على المبادرة إلى إصلاح النفس من فسادها، والقيام في ذلك، والجد فيه، والتصميم عليه، هو من جهاد النفس الذي هو أعظم الجهاد.
ومن معنى هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . وهم الذين كلما أذنبوا تابوا، والتوبة طهارة للنفس من دَرَنِ المعاصي.
(والغفور) في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . هو الكثير المغفرة، لأنه على وزن فعول، وهو من أمثلة المبالغة الدالة على الكثرة. والمغفرة سترة للذنب وعدم مؤاخذته به.
ولما ذكر من وصف الصالحين كثرة رجوعهم إليه، ذكر من أسمائه الحسنى ما يدل على كثرة مغفرته ليقع التناسب في الكثرة من الجانبين، ومغفرته أكبر. وليعلم أن كثرة الرجوع إليه يقابله كثرة المغفرة منه، فلا يفتأ العبد راجعاً راجياً للمغفرة، ولا تقعده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع، ولا يضعف رجاءه في نيل مغفرة الغفوركثرة الرجوع.
وقد أكد الكلام بـ"إن" لتقوية الرجاء في المغفرة. وجيءَ بلفظة كان، لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق، وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق؛ فقد كان عباده يذنبون ويتوبون إليه، ويغفر لهم، ولا يزالون كذلك، ولا يزال تبارك وتعالى لهم غفوراً.
وإنما احتيج إلى هذا التأكيد في تقوية رجاء المذنب في المغفرة، ليبادر الرجوع على كل حال، لأن العبد مأخوذ بأمرين يضعفان رجاءه في المغفرة:
أحدهما كثرة ذنوبه التي يشاهدها فتحجبها كثرتها عن رؤية مغفرة الله تعالى، التي هي أكبر وأكثر.
والآخر رؤيته لطبعه البشري؛ وطبع بني آدم من المنع عند كثرة السؤال، كما قال شاعرهم - أي البشر- لأن الشاعر العربي عبر عن طبع بشري:
سأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمْ ... وَمَنْ أَكْثَرَ التِّسْآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ (1)
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو البيت الأخير من معلقته، ومطلعها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلمِ
انظر ديوانه ( [ص:112]- طبعة دار الكتب العلمية) .[/rtl]
فيقوده القياس- وهو من طباع البشر أيضاً- الفاسد: إلى ترك الرجوع والسؤال، من الرب الكريم العظيم النوال.
فهذان الأمران يقعدانه عن الرجوع والتوبة، فيستمر في حمأة (1) المعصية، وذلك هو الهلاك المبين. فكان حاله مقتضياً لأن يؤكد حصول المغفرة عند رجوعه بتلك المؤكدات.
وقد كان مقتضى الظاهر في تركيب الآية أن يقال: إن تكونوا صالحين فإنه كان لكم غفوراً؟ لأن المقام للإضمار. لكنه عدل عن الضمير إلى الظاهر فقيل: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} لينص على شرط المغفرة وهو الأوبة والرجوع.
وعلم من ذلك أن الصالح عندما تقع منه الذنوب مطالب- كغيره- بالأوبة، لتحصيل المغفرة، لأن فرض الأوبة إلى الله من المعاصي عام على الجميع.
وقد اشتملت الآية من فعل الشرط، وهو {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} ، وجواب الشرط، وهو {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} - على الحالتين اللازمتين للإنسان لتكميل نفسه، وهما الصلاح المستفاد من الأول، والإصلاح بالأوبة المستفاد من الثاني.
وما دام الإنسان مجاهداً في تزكية نفسه بهذين الأصلين فإنه بالغ أملًا ورجاءً- بإذن الله- درجة الكمال.
ثبتنا الله والمسلمين عليهما، وحشرنا في زمرة الكاملين المكملين إنه المولى الغفور الكريم.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .
الأمر بالإحسان إليهما عام في جميع الأحوال. وخصصت حالة بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر بالذكر، لأنها حالة الضعف وشدة الحاجة، ومظنة الملل والضجر منهما، وضيق الصدر من تصرفاتهما. فهما في هذه الحالة قد عادا في نهايتهما إلى ما كان ولدهما عليه في بدايته. وليس عنده من فطرة المحبة مثل ما عندهما. فكان بأشد الحاجة إلى التذكير بما عليه من تمام العناية بهما، ومزيد الرعاية لهما، وشدة التوقي والتحفظ من كل ما يمس بسوء جانبهما في هاته الحال على الخصوص. وإن كان ذلك واجبا عليه في كل حال على العموم.
وطول بقائهما عنده في كنفه وثقل مؤونتهما عليه، وما يكون من ضرورات الكبر والمرض مما يستقذره في بيته، كل هذا قد يؤديه إلى الضجر والتبرم، فيقول ما يدل على ضجره وتبرمه.
فنهي عن التفوه بأقل كلمة تدل على ذلك وهي كلمة أف بقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ، فأحرى وأولى ما فوقها.
وهذا أمر بتحمل كل ذلك منهما، ونهي عن التضجر منهما.
ومن ضرورة مباينتهما لولدهما في السن وفي النشأة أنهما كثيرا ما يخالفانه في آرائه وأفكاره، وقد يتناولان ما لا يحب أن تصل يدهما إليه، وقد يسألانه للمعرفة أو للحاجة، وكل هذا قد يؤديه إلى نهرهما، أي زجرهما بصياح وإغلاظ، أو إظهار للغضب في الصوت واللفظ، فنهي عن هذا
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 31 (حديث 2530) من طريق أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله[/rtl]
[rtl](1/69)[/rtl]
ولما نهاه عن القول القبيح المؤذي ... أمره بالقول اللين السهل الحسن في لفظه وفي معناه، وفي قصده وفي منشئه، السالم من كل عيب ومكروه بقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . وفي هذا أمر بأن يخاطبهما بجميل القول، ويؤنسهما بطيب الحديث. ونهي عن أن يؤذيها في قول، أو يوحشهما بطول السكوت. فليس له أن يتركهما وشأنهما، بل عليه مجالستهما ومحادثتهما، وجلب الأنس إِليهما، وإدخال السرور عليهما.
ثم إن القول إنما هو عنوان ما في الضمير، ولا يكون كريما شريفاً إلاّ إذا كان عنواناً صادقاً، حسن مظهره ومخبره، وعذب جناه، وطاب مغرسه. وما ثماره إلاّ معانيه وما مغرسه إلاّ القلب الذي صدر عنه.
فيفيد هذا أن على الولد أن يكون معهما باللطف والعطف من صميم قلبه، كما يعرب لها بلسانه، فيكون محسناً لهما حينئذ في ظاهره وباطنه، وذلك هو تمام البر الذي أمر به.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} :
مضى فيما تقدم أدب القول، وهذا أدب الفعل، وبيان الحال التي يكون عليها: فالوالدان عند ولدهما في كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت والدفء والراحة، وولدهما يقوم لهما بالسعي، كما يسعى الطائر لفراخه، ويحيطهما بحنوه وعطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه، وحذف المشبه به، وأشير إليه بلازمه وهو خفض الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، وإنما يخفض جناحه حنواً وعطفاً وحياطة لفراخه.. فيكون في الكلام استعارة بالكناية، وأضيف الجناح إلى الذل- وهو الهون واللين- إضافة موصوف إلى صفة: أي اخفض لهما جناحك الذليل، وهذا ليفيد هونه وانكساره عند حياطتها.. حتى يشعر بأنهما مخدومان باستحقاق، لا متفضل عليهما بالإحسان.
وفي ذكر هذه الصورة التي تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق للقلب موجب للرحمة، وتنبيه للولد على حالته التي كان عليها معهما في صغره، ليكون ذلك أبعث له على العمل وعدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه.
و {من} في قوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمَةِ} للتعليل متعلقة ب"اخفض"، فتفيد مع متعلقها الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئا عن الرحمة الثابتة في النفس، لا عن مجرد استعمال ظاهر، كما كانا يكنفانه ويعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة. فيكون هذا مفيداً ومؤكدا لما قدمناه، من لزوم أن يتطابق على الإحسان إليهما الظاهر والباطن، ليتم البرور.
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .[/rtl]
[rtl](1/70)[/rtl]
يدعو لهما هكذا في حياتهما، وبعد مماتهما.
أما في حياتهما فيدعو لهما بالرحمة سواء كانا مسلمين أم كافرين، ورحمة الكافرين بهدايتهما إلى الإسلام. وأما بعد الموت فلا يسأل الرحمة لهما إلاّ إذا ماتا مسلمين؟ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
والكاف في قوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} للتعليل أي رب ارحمهما لتربيتهما لي، وجزاء على إحسانهما إلي في حالة الصغر: حالة الضعف والافتقار. وفي هذا اعتراف بالجميل، وإعلان لسابق إحسانهما العظيم، وتوسل إلى الله تعالى في قبول دعائه لهما بما قدما من عمل؛ لأنه وعد أنه يجزي العاملين، وقد كانت تربيتهما لولدهما من أجل مظاهر الرحمة. وهو قد أخبر تعالى على لسان رسوله: «أنه يرحم الراحمن» (2) ولا أرحم- بعده تعالى- من الوالدين.
خاتمة:
من بر الوالدين:
1- أن نتحفظ من كل ما يجلب لهما سوءًا من غيرنا، فإن فاعل السبب فاعل للمسبب، ومن هذا أن لا نسب الناس حتى لا يسبوا والدينا، لأنا إذا سببنا الناس فسبوهما كنا قد سببناهما، وسبهما من أكبر الكبائر: ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه! قيل يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمها» (3) .
2- ومن برهما حفظهما بعد موتهما بالدعاء والاستغفار، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما وصلة رحمهما، فقد روى ابن ماجه وأبو داوود وابن حبان في صحيحه، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي البدري رضي الله عنه، قال:
__________
(1) تقدير الكلام: فيجب عليه أن يتوجه؛ أو: فعليه أن يتوجه.
(2) روى أحمد في المسند (1 /4،5) من حديث طويل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيه: «يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً» .
(3) أخرجه مسلم في الإيمان (حديث 145) والترمذي في البر باب 4. وأحمد في المسند (2/ 164، 195، 214، 216) .[/rtl]
[rtl](1/71)[/rtl]
وفي إكرام صديقهما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير. فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب. واني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول:
«إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» (2) .
هذا، وإن من راض نفسه على هذه الأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة والأقوال الطيبة التي أمر بها مع والديه- يحصل له من الارتياض عليها كمال أخلاقي مع الناس أجمعين. وكان ذلك من ثمرات امتثال أمر الله وطاعة الوالدين.
والله يوفقنا ويهدينا سواء السبيل، إنه المولى الكريم رب العالمين.
صلاح النفوس وإصلاحها
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) } [الإسراء: 25] .
الشرح والمعنى:
صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتدال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال.
وفساد الشيء هو كونه على حالة اختلال في ذاته أو صفاته، بحيث تصدر عنه أو به تلك الأعمال على وجه النقصان.
اعتبر هذا في البدن، فإن له حالتين: حالة صحة، وحالة مرض.
والأولى هي حالة صحته باعتدال مزاجه، فتقوم أعضاؤه بوظائفها وينهض هو بأعماله.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب باب 120. والترمذي في البر باب5. وابن ماجه في الأدب باب. 2. وأحمد في المسند (3/498) .
(2) أخرجه مسلم في البر (حديث 11 و12) وأبو داود في الأدب باب 120. والترمذي في البر باب 5. وأحمد في المسند (2/88،91،97،111) .[/rtl]
[rtl](1/72)[/rtl]
هذا الذي تجده في البدن هو نفسه تجده في النفس: فلها صحة، ولها مرض، حالة صلاح وحالة فساد.
(والإصلاح) هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزاء ما طرأ عليه من فساد.
(والإفساد) هو إخراج الشيء عن حالة اعتداله بإحداث اختلال فيه.
فإصلاح البدن بمعالجته بالحمية والدواء، وإصلاح النفس بمعالجتها بالتوبة الصادقة.
وإفساد البدن بتناول ما يحدث به الضرر، وإفساد النفس بمفارقة المعاصي والذنوب. وهكذا تعتبر النفوس بالأبدان في باب الصلاح والفساد، في كثير من الأحوال، غير أن الاعتناء بالنفوس أهم وألزم، لأن خطرها أكبر وأعظم.
إن المكلف المخاطب من الإنسان هو نفسه، وما البدن إلاّ آلة لها ومظهر تصرفاتها، وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها. وإنما رقيه وانحطاطه باعتبار رقي نفسه وانحطاطها، وما فلاحه إلاّ بزكائها، وما خيبته إلاّ بخبثها. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10،9] .
وفي الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة (1) إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (2) .
وليس المقصود من القلب مادته وصورته، وإنما المقصود النفس الإنسانية المرتبطة به.
وللنفس ارتباط بالبدن كله، ولكن القلب عضو رئيسي في البدن، ومبعث دورته الدموية، وعلى قيامه بوظيفته تتوقف صلوحية البدن، لارتباط النفس به. فكان حقيقاً لأن يعبر به عن النفس على طريق المجاز.
وصلاح القلب- بمعنى النفس- بالعقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، وإنما يكونان بصحة العلم، وصحة الإرادة، فإذا صلحت النفس هذا الصلاح صلح البدن كله، بجريان الأعضاء كلها في الأعمال المستقيمة. وإذا فسدت النفس من ناحية العقد، أو ناحية الخلق، أو ناحية العلم، أو ناحية الإرادة ... فسد البدن، وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السداد.
__________
(1) المضغة: القطعة من اللحم، سميت لذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها.
(2) أخرجه من حديث النعمان بن بشير: البخاري في الإيمان باب 39. ومسلم في المساقاة (حديث 107) وابن ماجة في الفتن باب 14. والدارمي في البيوع باب1. وتمام الحديث كما في البخاري: «الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؛ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .[/rtl]
[rtl](1/73)[/rtl]
فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق والخير والعدل والإحسان إلاّ وهو راجع عليها بالصلاح.
وما من شيء نهى الله تعالى عنه من الباطل والشر والظلم والسوء إلّا وهو عائد عليها بالفساد.
فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وشرع الشرائع.
وهذه الآيات الثمان عشرة قد جمعت من أصول الهداية ما تبلغ به النفوس- إذا تمسكت به- غاية الكمال.
قد أمر تعالى في الآيات المتقدمة بعبادته والإخلاص له.
وأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما في الظاهر والباطن.
كما أمر بغير ذلك في الآيات اللاحقة. ووضع هذه الآية أثناء ذلك، وهي متعلقة بالنفس وصلاحها.. لينبه الخلق على أصل الصلاح الذي منه يكون، ومنشؤه الذي منه يبتدىء. فإذا صلحت النفس قامت بالتكاليف التي تضمنتها هذه الآيات الجامعة لأصول الهداية، وهذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها، الذي يكون قبل التدبر خفياً.
ونظير هذه الآية في موقعها ودلالتها على ما به يسهل القيام بأعباء التكاليف- قوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] .
فقد جاءت أثناء آيات أحكام الزوجية آمرة بالمحافظة على الصلوات، تنبيهاً للعباد على أن المحافظة عليها على وجهها، تسهل القيام بأعباء تكاليف تلك الآيات، لأنها تزكي النفس بما فيها من ذكر وخشوع وحضور وانقطاع إلى الله تعالى، وتوجه إليه، ومناجاة له.
وهذا كله تعرج به النفس في درجات الكمال.
والنفوس الزكية الكاملة تجد في طاعة خالقها لذة وأنساً تهون معهما أعباء التكليف.
ثم إن العباد بنقص الخلقة وغلبة الطبع.. معرضون للتقصير في ظاهرهم وباطنهم في صور أعمالهم ودخائل أنفسهم- وخصوصاً في باب الإخلاص- فذكروا بعلم ربهم بما في نفوسهم في قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} ليبالغوا في المراقبة فيتقنوا أعمالهم في صورها ويخلصوا بها له. وهذه المراقبة هي الإحسان الذي هو عبادتك الله كأنك تراه (1) .
__________
(1) كما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما=[/rtl]
[rtl](1/74)[/rtl]
والصالحون في قوله تعالى: {إن تكونوا صالحين} ، هم الذين صلحت أنفسهم فصلحت أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم (1) .
وصلاح النفس وهو صفة لها.. خفي كخفائها؟ وكما أننا نستدل على وجود النفس وارتباطها بالبدن بظهور أعمالها في البدن، كذلك نستدل على اتصافها بالصلاح وضده بما نشاهده من أعمالها:
فمن شاهدنا منه الأعمال الصالحة- وهي الجارية على سنن الشرع، وآثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حكمنا بصلاح نفسه، وأنه من الصالحين.
ومن شاهدنا منه خلاف ذلك حكمنا بفساد نفسه، وأنه ليس منهم.
ولا طريق لنا في معرفة صلاح النفوس وفسادها إلاّ هذا الطريق. وقد دلنا الله تعالى عليه في قوله تعالى:
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) } [آل عمران: 113 و114] .
فذكر الأعمال، ثم حكم لأهلها بأنهم من الصالحين. فأفادنا: أن الأعمال هي دلائل الصلاح، وأن الصلاح لا يكون إلاّ بها، ولا يستحقه إلاّ أهلها.
__________
= الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمَة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهم إلاّ الله. ثم تلا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله عنده علم الساعة. ثم أدبر، فقال: ردوه! فلم يروا شيئاً. فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» . أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، وهذا لفظه. ومسلم في الإيمان (حديث 1 و5 و6 و7) وأبو داود في السنة باب 16. والترمذي في الإيمان باب 4. والنسائي في الإيمان باب 5 و6. وابن ماجة في المقدمة باب 9. وأحمد في المسند (2/ 107،132) .
(1) ربط الطبري الصلاح في هذه الآية بما تقدم قبلها من أمره بالإحسان إلى الوالدين، فقال في تفسيره (8/ 65) : «وقوله: إن تكونوا صالحين؟ يقول: إن انتم أصلحتم نياتكم فيهم وأطعتم الله فيما أمركم به من البر بهم والقيام بحقوقهم عليكم بعد هفوة كانت منكم أو زلة في واجب لهم عليكم مع القيام بما ألزمكم في غير ذلك من فرائضه، فإنه كان للأوابين بعد الزلة والتائبين بعد الهفوة غفورا لهم".[/rtl]
[rtl](1/75)[/rtl]
وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «التقوى ههنا» ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات (1) . فمنازل الصالحين عند ربهم لا يعلمها إلاّ الله.
(والأوابون) في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى.
والأوبة في كلام العرب هي الرجوع، قال عبيد:
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوبُ
والتوبة، هي الرجوع عن الذنب ولا يكون إلّا بالإقلاع عنه، واعتبر فيها الشرع الندم على ما فات، والعزم على عدم العود، وتدارك ما يمكن تداركه. فيظهر أن الأوبة أعم من التوبة: فتشمل من رجع إلى ربه تائباً من ذنبه، ومن رجع إليه يسأله ويتفرع إليه أن يرزقه التوبة من الذنوب.
فنستفيد من الآية الكريمة: سعة باب الرجوع إلى الله تعالى. فإن تاب العبد، فذاك هو الواجب عليه، والمخلِّص له- بفضل الله- من ذنبه. وإن لم يتب فليدم الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع، والتعرض لمظان الإجابة وخصوصاً في سجود الصلاة، فقمين (2) - إن شاء الله تعالى- أن يستجاب له.
وشر العصاة هو الذي ينهمك في المعصية، مصراً عليها، غير مشمر منها، ولا سائل من ربه - بصدق وعزم- التوبة منها، ويبقى معرضاً عنه ربه كما أعرض هو عنه، ويصر على الذنب حتى يموت قلبه. ونعوذ بالله من موت القلب فهو الداء العضال الذي لا دواء له.
وجاء لفظ "الأوابين" جمعاً لأواب، وهو فعّال من أمثلة المبالغة، فدل على كثرة رجوعهم إلى الله. وأفاد هذا طريقة إصلاح النفوس بدوام علاجها بالرجوع إلى الله: ذلك أن النفوس- بما
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (حديث رقم 32) والترمذي في البر والصلة (باب 18) وأحمد في المسند (2/ 277،360) من حديث أبي هريرة. واخرجه أحمد في المسند (3/ 135) من حديث أنس بن مالك. وتمام الحديث كما رواه مسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره. التقوى ههنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» .
(2) قمين: جدير.[/rtl]
[rtl](1/76)[/rtl]
ولما كان طروء الفساد متكرراً فالإصلاح بما ذكر يكون دائماً متكرراً.
والمداومة على المبادرة إلى إصلاح النفس من فسادها، والقيام في ذلك، والجد فيه، والتصميم عليه، هو من جهاد النفس الذي هو أعظم الجهاد.
ومن معنى هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . وهم الذين كلما أذنبوا تابوا، والتوبة طهارة للنفس من دَرَنِ المعاصي.
(والغفور) في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . هو الكثير المغفرة، لأنه على وزن فعول، وهو من أمثلة المبالغة الدالة على الكثرة. والمغفرة سترة للذنب وعدم مؤاخذته به.
ولما ذكر من وصف الصالحين كثرة رجوعهم إليه، ذكر من أسمائه الحسنى ما يدل على كثرة مغفرته ليقع التناسب في الكثرة من الجانبين، ومغفرته أكبر. وليعلم أن كثرة الرجوع إليه يقابله كثرة المغفرة منه، فلا يفتأ العبد راجعاً راجياً للمغفرة، ولا تقعده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع، ولا يضعف رجاءه في نيل مغفرة الغفوركثرة الرجوع.
وقد أكد الكلام بـ"إن" لتقوية الرجاء في المغفرة. وجيءَ بلفظة كان، لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق، وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق؛ فقد كان عباده يذنبون ويتوبون إليه، ويغفر لهم، ولا يزالون كذلك، ولا يزال تبارك وتعالى لهم غفوراً.
وإنما احتيج إلى هذا التأكيد في تقوية رجاء المذنب في المغفرة، ليبادر الرجوع على كل حال، لأن العبد مأخوذ بأمرين يضعفان رجاءه في المغفرة:
أحدهما كثرة ذنوبه التي يشاهدها فتحجبها كثرتها عن رؤية مغفرة الله تعالى، التي هي أكبر وأكثر.
والآخر رؤيته لطبعه البشري؛ وطبع بني آدم من المنع عند كثرة السؤال، كما قال شاعرهم - أي البشر- لأن الشاعر العربي عبر عن طبع بشري:
سأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمْ ... وَمَنْ أَكْثَرَ التِّسْآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ (1)
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو البيت الأخير من معلقته، ومطلعها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلمِ
انظر ديوانه ( [ص:112]- طبعة دار الكتب العلمية) .[/rtl]
[rtl](1/77)[/rtl]
فهذان الأمران يقعدانه عن الرجوع والتوبة، فيستمر في حمأة (1) المعصية، وذلك هو الهلاك المبين. فكان حاله مقتضياً لأن يؤكد حصول المغفرة عند رجوعه بتلك المؤكدات.
وقد كان مقتضى الظاهر في تركيب الآية أن يقال: إن تكونوا صالحين فإنه كان لكم غفوراً؟ لأن المقام للإضمار. لكنه عدل عن الضمير إلى الظاهر فقيل: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} لينص على شرط المغفرة وهو الأوبة والرجوع.
وعلم من ذلك أن الصالح عندما تقع منه الذنوب مطالب- كغيره- بالأوبة، لتحصيل المغفرة، لأن فرض الأوبة إلى الله من المعاصي عام على الجميع.
وقد اشتملت الآية من فعل الشرط، وهو {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} ، وجواب الشرط، وهو {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} - على الحالتين اللازمتين للإنسان لتكميل نفسه، وهما الصلاح المستفاد من الأول، والإصلاح بالأوبة المستفاد من الثاني.
وما دام الإنسان مجاهداً في تزكية نفسه بهذين الأصلين فإنه بالغ أملًا ورجاءً- بإذن الله- درجة الكمال.
ثبتنا الله والمسلمين عليهما، وحشرنا في زمرة الكاملين المكملين إنه المولى الغفور الكريم.
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]إيتاء الحقوق لأربابها
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) 27 (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) } [الإسراء: 26-30] .
تمهيد
الناس كلهم في حاجة مشتركة إلى بعضهم. وما من أحد إلاّ وله حقوق على غيره، ولغيره حقوق عليه.
__________
(1) الحمأة والحمأ: الطين الأسود المنتن. انظر (المعجم الوسيط: [ص:195] ) .[/rtl]
[rtl]ولهذه الحاجة المشتركة والحقوق الممتزجة كان الاجتماع والتعاون ضروريين لحياة المجتمع البشري واطراد نظامه. وقيام كل واحد من أفراد المجتمع بما عليه من حقوق نحو غيره هو الذي يسد تلك الحاجة المشتركة بين الناس. وعندما يؤدي كل واحد حق غيره فليست خدمته له وحده، بل هي خدمة للمجتمع كله. وبالآخرة هي خدمة له هو في نفسه لأنه جزء من المجتمع وما يصيب الكل يعود على جزئه. فاذا تواردت أفراد المجتمع على هذه التأدية سعدت وسعد مجتمعنا بنيله حاجيات الحياة ولوازم البقاء والتقدم في العمران. أما إذا توانى الأفراد في القيام بالحقوق وقصروا في تأديتها إلى بعضهم فإن الحاجة المشتركة من العلم والثقافة وحفظ الصحة والأخلاق وأنواع الصناعة- تتعطل، وبتعطلها يختل نظام الاجتماع ويعود إلى الانحلال والتقهقر، وينحظ بأفراده إلى أسفل الدركات، فلهذا بعد ما أمر الله تعالى بإيتاء حقه- وهو توحيده في عبادته- أمر بإيتاء حقوق العباد، القريب منهم والبعيد.
***
حق القريب:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} .
ابتدأ بحق القريب لوجوه:
الأول أنه هو مقتضى طبيعة الترتيب.
الثاني: تأكيد حق القريب.
الثالث: إن من حكمة التربية أن يبدأ من الأوامر بما تعين فطرة النفوس الإنسانية على قبوله ببداهة الفكرة أو بشعور العاطفة. وكلتا هاتين يحبب للنفس إيتاء حق القريب فابتدى به في الأمر ليكون تقبلها له أسهل ومبادرتها للامتثال أسرع، فاذا سخت النفوس بإيتاء حق القريب ومرنت عليه اعتادت الايتاء وصار من ملكاتها فسهل عليها إيتاء كل حق ولو كان لأبعد الناس. وشيء آخر، وهو أن الأقارب قد تكون بينهم المنافسات والمنازعات لقرب المنازل، أو تصادم المنافع أو التشاحّ على المواريث ما لا يكون بين الأباعد، فيقطعوا حق القرابة ويهدموا بناء الأسرة، ويعود ذلك عليهم أولا بالوبال، ويرجع ثانيا على مجتمعهم- والمجتمع مؤلف من الاسر- بالتضعضع، فكان هذا من جملة ما يقتضي الابتداء بحقهم إلى المقتضيات المتقدمة الأخرى.
وقوله تعالى: {ذَا الْقُرْبَى} عام يشمل الأصل- وهو الأبوان- وما يتصل بالمرء من ناحيتهما[/rtl]
[rtl]من أصولها وفصولهما، ويشمل الفصل- وهو الأبناء والبنات- وما يتصل به منهما من فصول (1) .
غير أن الوالدين لمزيد العناية بهما خصصا بالذكر في الآيات المتقدمة، وإن كانا داخلين في هذا العموم.
(والحق) في قوله تعالى: {حقه} هو الثابت له شرعاً، المبين في آيات من الكتاب من صلة رحم، ونصيب إرث، [[ونفقة]] فرض، وندب، وإحسان بالقول والعمل، ومؤاساة عن محبة وعطف.
***
حق المسكين:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} :
قد ذكر في آية الزكاة الفقير والمسكين. والحق أنهما متغايران؟ والراجح أن الفقير من له بلغة لا تكفيه والمسكين من لا شيء له، فهو أشد حالًا من الفقير؟ ولذا لما أريد هنا ذكر أحدهما اقتصر عليه تنبيهاً بالأعلى في الفقر على الأدنى، فالمراد أهل الفقر والحاجة كلهم.
وحق المساكين ما ثبت لهم من الزكاة، وكذلك ما تدعو إليه الحاجة من تعليمهم، وإيوائهم، وتجهيز موتاهم، مما تقوم به الجمعيات الخيرية في هذا العصر.. فكل هذا مما تصرف إليه الزكاة، ويجب القيام به عند عدم الزكاة أو فنائها، أو قصورها عنه.
ويجب القيام به واجباً موزعاً على كل ما استطاع. فإذا لم يقم به المجتمع عاد الإثم على جميع الأفراد كل بقدر ما قصر فيما استطاع.. ثم ما إلى هذا من عموم الصدقة والإحسان.
***
حق ابن السبيل:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} :
(السبيل) هي الطريق، وابنها هو المسافر؟ لأنه منها أتى كما أتى الابن من أمه.
(وحقه) هو الثابت له في الزكاة، فيأخذ منها إذا قطع به ولم يكن معه ما يبلغه ولو كان غنياً في بلده، وعلى جماعة المسلمين تبليغه إذا لم تكن ثم زكاة. ومن حقه ضيافتها حسب السُّنة (2) وإرشاده ودلالته على ما يريد معرفته من طريقه أو مرافقها.
__________
(1) قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وأت ذا القربى حق} : «اختلف أهل التأويل في المعني بقوله: {وآت ذا القربى} ؛ فقال بعضهم: عني به قرابة الميت من قبل أبيه وأمه، امر الله جل ثناؤه عباده بصلتها ... وقال آخرون بل عنى به قرابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انظر تفسير الطبري (8/67، 66) .
(2) ورد في السنة الشريفة أكثر من حديث يوجب حق الضيف. منها ما رواه أحمد في المسند (4/131) عن أبي=[/rtl]
[rtl]وبذكر ابن السبيل والمسكين مع ذي القربى.. جمعت الآية القريب والبعيد من ذوي الحقوق.
وبذكر ابن السبيل والمسكين جمعت ذا الحاجة الثابتة وهو المسكين، والحاجة العارضة وهو ابن السبيل، وقدم الأول لأصالة حاجته، وفي ذكرهما أيضاً جمع ما بين القريب الدار، والبعيد الدار والمسافر.
كل هذا ليعلم أن ذا الحق يعطي حقه على كل حال، وبقطع النظر عن أي اعتبار.
وسمي هؤلاء الثلاثة بأسمائهم المذكورة ة لأنها ترقق عليهم القلوب، من القربة، والمسكنة، وغربة الطريق.
وسمي ما ينالونه (حقاً) .. ليشعر المكلف بتأكده، ويحذر المعطي من المنّ به، فلا ينكسر قلب آخذه!!
***
الإنفاق في غير وجهٍ شرعي:
{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} :
المال قوام الأعمال، وأداة الإحسان، وبه يمكن القيام بالحقوق: فصاحبه هو مالكه، ولكن الحقوق فيه تشاركه، ولا يقوم له بوجوه الحق إلاّ إذا أمسكه عن وجوه الباطل. ثم لا يقوم له بجميع تلك الوجوه إلاّ إذا أحسن التدبير في التفريق، وابتغى الحكمة في التوزيع.
فلذا بعدما أمر الله تعالى بإعطائه الحقوق لأربابها.. نهى عن تبذير المال الذي هو أجملها، وبه يمكن إعطاؤها.
(والتبذير) هو التفريق للمال في غير وجه شرعي، أو في وجه شرعي دون تقدير (1) ، فيضر بوجه آخر:
فالانفاق في المنهيات تبذير وإن كان قليلاً.
__________
=كريمة رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً له عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه» . وروى البخاري في الأدب باب 31، ومسلم في اللقطة (حديث 14) وأبو داود في الأطعمة باب 5، والترمذي في البر باب 43، وابن ماجة في الأدب باب5، وغيرهم عن أبي شريح العدوي عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: واللفظ للبخاري-: «من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه جائزته. قيل: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه» .
(1) أصل التبذير: التفريق في السرف؛ ومنه قول الشاعر:
أناسٌ أجارونا فكان جوارُهُمْ ... أعاصيرَ من فِسْق العراق المبذرِ
انظر تفسير الطبري (8/ 68) .[/rtl]
[rtl]والانفاق في المطلوبات ليس بتبذير ولو كان كثيرا إلا إِذا أنفق في مطلوب دون تقدير فأضر بمطلوب آخر: كمن أعطى قريباً، وأضاع قريباً آخر، أو أنفق في وجوه البر وترك أهله يتضورون بالجوع. وقد نبه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على هذا بقوله: «وابدأ بمن تعول» (1) .
والإنفاق في المباحات إذا لم يضيع مطلوباً، ولم يؤد إلى ضياع رأس المال، بحيث كان ينفق في المباح من فائدته ليس بتبذير. فإذا توسع في المباحات وقعد عن المطلوبات، أو أداه إلى إفناء ماله فهو تبذير مذموم.
وأفادت النكرة وهي قوله: {تبذيراً} بوقوعه بعد النهي العموم. فهو نهي عن كل نوع من أنواع التبذير: القليل منه والكثير، حتى لا يستخف بالقليل. لأن من تساهل في القليل وصلت به العادة إلى الكثير.
***
إخوان الشياطن:
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} .
إن الشيطان يعمل، وأعماله كلها في الضلال والإضلال، فقد ضيع أعماله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وهو جاد في ذلك ضارٍ (2) عليه لرسوخه في نفسه. والمبذر يضيع أمواله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وقد أخذت عادة التبذير بخناقه واستولت عليه؛ فهو أخو الشيطان لمشاركته له في وصفه، كمشاركة الأخ لأخيه. وهو أخوه بامتثاله لأمره، وصحبته له في الحال وفي المآل (3) ، وفي سوء العاقبة في العاجل والآجل.
المال، كما هو أداة لكل خير، كذلك هو أداة لكل شر: فالمبذر المفرق لماله في وجوه الباطل بالغ- لا محالة- بماله إلى شر كثير وفساد كبير؛ ولذلك وصف بأنه أخ الشيطان الذي هو أصل الشر والفساد.
ووصف الله تعالى الشيطان بقوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} ؛ لأنه أنعم عليه بنعمة، فبدلًا من أن يستعملها في طاعته في الخير قصرها على المعصية والشر.
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الزكاة (حديث 95) عن حكيم بن حزام بلفظ: «أفضل الصدقة- أو خير الصدقة- عن ظهر غنى؛ واليد العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بمن تعول» . ورواه أيضاً (حديث رقم 197) عن أبي أمامة بلفظ: «يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كفاف؛ وابدأ بمن تعول؛ واليد العليا خير من اليد السفلى» . ورواه ايضاً (حديث رقم 106) عن أبي هريرة بلفظ: «لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك، فإن اليد العليا أفضل منِ اليد السفلى. وابدأ بمن تعول» .
(2) من الضراوة، وهي العادة؛ يقال: ضرِيَ الشيءُ بالشيءِ إذا اعتاده فلا يكاد يصبر عنه. انظر لسان العرب (مادة ضري- 14/ 482) .
(3) تقول العرب لكل ملازم سنة قوم وتابع أثرهم: هو أخوهم. انظر تفسير الطبري (8/ 69) .[/rtl]
[rtl]وذكر هذا في وصف الشيطان بعد ما تقدم يفيد أنه من وصف المبذر أيضاً: فالمبذر أخو الشيطان، والشيطان كان لربه كفورًا؟ فالمبذر كان لربه كفوراً. ذلك لأن الله تعالى أنعم عليه بالمال الذي هو أداة لكل خير، وعون عظيم على الطاعة، فجعله أداة في الشر، واستعان به على المعصية.
ومكنه الله بالمال من نعمة القدرة على القيام بالحقوق فضيعها وقام بالشرور والمفاسد؛ وهذا من أقبح الكفر لنعمة ربه الذي كان به مضارعاً للشيطان معرضاً عن أخيه، والعياذ بالله.
***
حسن المقال، عند العجز عن النوال:
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} .
للمرء حالتان:
حالة وجد، وحالة عوز.
فلما علمنا الله تعالى ما نصنع في حالة الوجد من الإيتاء لذوي القربى واليتامى والمساكين- علمنا ما نصنع في حالة العوز من الرد الجميل، والقول اللين الحسن.
وقوله تعالى: {تعرضن} من الإعراض وهو الانصراف عن الشي، وهو كناية عن عدم العطاء؛ لأن من يأبى أن يعطي يعرض بوجهه، ولو إعراضا قليلاً. ولما كان الإعراض كناية عن عدم العطاء، فإنه يشمل عدم العطاء لمن هو أهل لأن يعطي مع عدم وجود السؤال.
وقول تعالى: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} : (الابتغاء) هو الطلب باجتهاد، وذلك بالأخذ في الأسباب، والاعتماد على مسببها وهو الله تعالى ...
و (رحمة الرب) هنا رزقه، و (رجاؤها) هو انتظارها مع الأخذ في أسبابها بالقلب والعمل.
وابتغاء رحمة الرب ورجاؤها كناية عن حالة العوز والإعسار؛ لأن شأن المعوز المؤمن أن يكون كذلك.
وقوله تعالى: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} ، تقول: يسرت له القول: إذا لينته له، فالقول الميسور هو القول الملين.
وحاصل المعنى:
إن أعرضت عنهم فلا تعطهم لأنك لم تجد ما تعطيهم- وهي الحالة التي تكون فيها تطلب رحمة من ربك راجياً رزقه- فقل لهم قولاً ليناً سهلاً، فتواسيهم بالقول عند عدم السؤال، ولا تتركهم في ساحة الإهمال، وتردهم الرد الجميل عند السؤال، فتقول لهم: يرزق الله، ونحوه من لين الكلام.
وفي الآية تعليم وتربية للمعسر من ناحيتين:[/rtl]
[rtl]الأولى: معاملته لذوي القربى واليتامى والمساكين عند السؤال وعدمه. وعرف من الآية أنه مطالب بحسن المقال بدلاً مما عجز عنه من النوال.
والثانية: أدبه هو في نفسه والحالة التي ينبغي له أن يكون عليها: فإن حالة العسر حالة شدة وبلاء يحتاج المكلف أشد الحاجة أن يعرف دواءه فيها لسيرته العملية، وحالته النفسية، فأعطته هذه الآية الكريمة الدواء لها.
فأما في سيرته العملية فعليه أن يكون ساعياً في الأسباب حسب جهده، وذلك هو ما يفيده قوله: {ابتغاء رحمة من ربك} .
وأن يكون مطمئن القلب بالله، معتمداً عليه، قوي الثقة فيه؛ وذلك ما يفيده قوله:
{ترجوها} .
وقد ذكر رحمة الرب- جل جلاله- لوجوه:
الأول: تقوية رجائه، فإنه يعلم سعة رحمة الله وغمره بها في كل حين. ومن ذا الذي لم يجد نفحات الرحمات في أكثر الأوقات في أحرج الساعات؟
الثاني: بعثه على الصبر والتسليم وعدم الضجر والسأم من الطلب والانتظار، فإنها رحمة الرب، ومن مقتضى ربوبيته تدبيره للخلق بحكمته.
فما جاء منه، كيف جاء وفي أي وقت جاء: أبطأ أم تأخر هو مقبول منه محمود منا عليه.
الثالث: بعث عاطفة الرحمة على غيره، فإن من كان يرجو رحمة ربه جدير بأن يكون رحيماً بعباده. ورحمته بعباد الله تعينه على القيام بما أمر به من حسن المقال عند العسر، وجميل النوال عند اليسر؛ وتكون سبباً له في رحمة الله إياه. والراحمون يرحمهم الرحمن، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
العدل في الإنفاق:
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} .
لما أمرنا الله تعالى بالانفاق، علمنا كيف ننفق، وبين لنا أدب الإنفاق في هذه الكلمات.
إذ شبهت حالة وهيئة البخيل الذي لا يكاد يرشح بشيء، ولا يقدر لبخله على إخراج شيء من ماله.. بحاله وهيئة الذي جعل يده مغلولة مجموعة بغل إلى عنقه: فذاك لا تتوجه نفسه للبذل، ولا تمتد يده للعطاء، وهذا لا تمتد يده للتصرف. ونقل الكلام المركب الدال على المشبه به، فاستعمل في المشبه على طريق الاستعارة التمثيلية لتقبيح حالة البخيل.
والمعنى:
لا تبخل بالنفقة في حقوق الله، ولا تمسك إمساك المغلولة يده الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.[/rtl]
[rtl]وشبهت حالة المسرف الذي لا يبقي على شي، بحالة الشخص الباسط لكفيه فلا يمسكان عليه من شيء: فذاك يملك المال، ولكنه بسرفه لا يبقى له منه شيء، وهذا قد يمر الشيء على يده، ولكنه لا يبقى فيها شيء. ونقل المركب الدال على المشبه به إلى المشبه، استعارة تمثيلية أيضاً.
المعنى:
ولا تخرج جميع ما تملك مع حاجتك إليه، ولا تنفق جميع مالك. وبهذا يعلم أن "كل البسط" المنهى عنه هنا غير التبذير المنهي عنه في الآية المتقدمة: ذاك توزيع المال وتبديده في غير وجوهه، وهذا التجاوز في الإنفاق المطلوب والتوسع في الإنفاق المأذون حتى يبقى بلا شيء.
نهى تعالى بهذه الآية عن طرفي الإفراط والتفريط، وهما الإسراف.
فالمأمور به: هو العدل الوسط، فعلى ذي المال أن يأخذ في انفاقه بهذا الميزان، ليكون إنفاقه محمودا: فلا يمسك عما يستطيع، ولا يتجاوزه إلى ما لا يستطيع، أو إلى ما يوقعه في عسر وضرر.
وكان النهى عن البسط لأنه هو الذي فيه إسراف.
وأما أصل البسط الذي هو توسعه بحكمة، فغير منهي عنه لأنه لا ضرر فيه.
وحذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف والتقتير بقوله: {فتقعد ملوماً محسوراً} . فالبخيل الممسك ملوم من الله تعالى.
ومن العباد إذاً من لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه. على أنه سيلوم هو نفسه بعد الموت. والمسرف ملوم من الجميع، ومن نفسه بعد ضياع ما في يده.
(والمحسور) المتعب المضنى، الذي انكشفت عنه القوة، ولم تبق به قدرة على شيء، تقول العرب: حسرت البعير أي أنضيته وأتعبته بالسير، حتى لم تبق به قدرة عليه (1) .
والجمل لا يقطع الطريق ويصل إلى الغاية إلّا إذا حافط صاحبه على ما فيه من قوة، فسار به سيراً وسطاً. أما إذا أجهده واستنزف قوته، فإنه يسقط كليلاً محسوراً: فلا قطع طريقه، ولا وصل منزله، ولا أبقى جمله.
فكذلك الإنسان في طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه بحكمة نفع به وانتفع، وبلغ غاية حياته هادئاً راضياً، وإذا بسط يده فيه كل البسط أتى عليه فانقطع النفع والانتفاع، ولم يبلغ غاية حياته إلاّ بأتعاب ومشاق.
وعلم من هذا أن قوله {ملوماً} يرجع للمقتر والمسرف. وقوله: {محسوراً} يرجع للمسرف فقط. ولكن لما كان المحسور هو الذي ذهبت قوته فلا قدرة له على شيء، فقد نقول: إن
__________
(1) قال في اللسان (مادة حسر- 4/ 188) : «والعرب تقول: حسرت الدابة إذا سيرتها حتى ينقطع سيرها» .[/rtl]
[rtl]البخيل أيضاً مبغوض من الناس مخذول منهم، فلا يجد في ملماته معيناً، ولا في نوائبه معزياً، فهو أيضاً ضعيف الجانب لا قوة له. فالمسرف ضيع المال، والبخيل ضيع الإخوان، فكلاهما مكسور الظهر، عديم الظهير.
***
والمخاطب بهذا الخطاب إما مفرد غير معيّن؛ فيشمل جميع المكلفين غير النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير، وفدك، وخيبر (1) ، ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحول، وليس عنده شيء، ولا كان ملوماً ولا محسوراً، بل كان على ذلك صباراً شكوراً مشكوراً.
وإما هو (2) النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والمراد أمته؛ وعادة العرب أن تخاطب سيد القوم، تريد القوم، وتعبر بالمتبوع عن أتباعه. ونظير هذه الآية في ذلك: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] ، و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- غير داخل في هذا الخطاب بإجماع.
وقد تقدم قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} يعني الوالدين، وكان والداه عليهما الرحمة قد توفيا، فلم يدخلا في الخطاب قطعاً فكذلك هنا.
***
قال الإمام ابن العربي في تعليل عدم دخوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في هذا الخطاب:
لما هو عليه من الخلال، والجلال، وشرف المنزلة، وقوة النفس على الوظائف، وعظيم العزم على المقاصد.
فاما سائر الناس: فالخطاب عليهم وارد، والأمر والنهي- كما تقدم- إليهم متوجه.
إلاّ أفراداً أُخرجوا من ذلك بكمال صفاتهم، وعظيم أنفسهم، منهم أبو بكر الصديق؛ خرج عن جميع ما يملك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقبله منه الله سبحانه، وأشار على أبي لبابة وكعب بالثلث من جميع ما لهم؛ لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم.
__________
(1) النضير وفدك وخيبر غزوات وسرايا كان النصر فيها للمسلمين، وكان من نتائجها الجزية أو الخراج. وقد أفاد الله تعالى على نبيه الكريم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الثلاثة؟ روى ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى (1/ 390) عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث صفايا: فكانت بنو النضير حبسا لنوائبه، وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر. فكان الخمس قد جزأه ثلاثة أجزاء، فجزءان للمسلمين وجزء كان ينفق منه على أهله، فإن فضل منه فضل رده على فقراء المهاجرين.
(2) معطوف على قوله في بداية الفقرة السابقة: «والمخاطب بهذا الخطاب.. الخ» . أي: وإما هو المخاطب بهذا الخطاب.[/rtl]
وأعيان الصحابة كانوا على هذا، فأجراهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وائتمروا بأمر الله، واصطبروا على بلائه، ولم تتعلق قلوبهم بدنيا، ولا ارتبطت أبدانهم بمال منها، وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق، وعزوف أنفسهم عن التعلق بغضارة (1) الدنيا.
وقد كان من أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة: فما ادخر قط شيئاً لغد ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد، ولا ربط على الدنيا بيد.
فههنا ثلاثة أصناف من الخلق:
الأعم الأكثر، وهم أهل الحظوظ البشرية.
والقليل، وهم الذين ضعفت فيهم حظوظهم.
والأقل الأندر، وهم الذين زالت منهم تلك الحظوظ.
وقد أفادتنا السنة العملية المتقدّمة في كلام الإمام ابن العربي:
أن لأهل الصنف الثاني أن يخرجوا عن كثير من أموالهم على مقدار ما بقي من حظوظهم.
وأن لأهل الصنف الثالث أن يخرجوا منها كلها.
وأما أهل الصنف الأول فلا يخرجون عن الوسط الذي بينته الآية.
وقد جاءت الآية الكريمة على مقتضى حال الأعم الأكثر: لأنها قاعدة عامة في سياسة الإنفاق، وشأن القواعد العامة أن يعتبر فيها جانب الأعم الغالب، ولا يلتفت للنادر.
وقد وكل للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بيانه، فجاء مبيناً فيما تقدم من سننه.
وتقررت القاعدة واستثناؤها من الكتاب والسنة، وهما مصدر التشريع.
***
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) 27 (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) } [الإسراء: 26-30] .
تمهيد
الناس كلهم في حاجة مشتركة إلى بعضهم. وما من أحد إلاّ وله حقوق على غيره، ولغيره حقوق عليه.
__________
(1) الحمأة والحمأ: الطين الأسود المنتن. انظر (المعجم الوسيط: [ص:195] ) .[/rtl]
[rtl](1/78)[/rtl]
***
حق القريب:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} .
ابتدأ بحق القريب لوجوه:
الأول أنه هو مقتضى طبيعة الترتيب.
الثاني: تأكيد حق القريب.
الثالث: إن من حكمة التربية أن يبدأ من الأوامر بما تعين فطرة النفوس الإنسانية على قبوله ببداهة الفكرة أو بشعور العاطفة. وكلتا هاتين يحبب للنفس إيتاء حق القريب فابتدى به في الأمر ليكون تقبلها له أسهل ومبادرتها للامتثال أسرع، فاذا سخت النفوس بإيتاء حق القريب ومرنت عليه اعتادت الايتاء وصار من ملكاتها فسهل عليها إيتاء كل حق ولو كان لأبعد الناس. وشيء آخر، وهو أن الأقارب قد تكون بينهم المنافسات والمنازعات لقرب المنازل، أو تصادم المنافع أو التشاحّ على المواريث ما لا يكون بين الأباعد، فيقطعوا حق القرابة ويهدموا بناء الأسرة، ويعود ذلك عليهم أولا بالوبال، ويرجع ثانيا على مجتمعهم- والمجتمع مؤلف من الاسر- بالتضعضع، فكان هذا من جملة ما يقتضي الابتداء بحقهم إلى المقتضيات المتقدمة الأخرى.
وقوله تعالى: {ذَا الْقُرْبَى} عام يشمل الأصل- وهو الأبوان- وما يتصل بالمرء من ناحيتهما[/rtl]
[rtl](1/79)[/rtl]
غير أن الوالدين لمزيد العناية بهما خصصا بالذكر في الآيات المتقدمة، وإن كانا داخلين في هذا العموم.
(والحق) في قوله تعالى: {حقه} هو الثابت له شرعاً، المبين في آيات من الكتاب من صلة رحم، ونصيب إرث، [[ونفقة]] فرض، وندب، وإحسان بالقول والعمل، ومؤاساة عن محبة وعطف.
***
حق المسكين:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} :
قد ذكر في آية الزكاة الفقير والمسكين. والحق أنهما متغايران؟ والراجح أن الفقير من له بلغة لا تكفيه والمسكين من لا شيء له، فهو أشد حالًا من الفقير؟ ولذا لما أريد هنا ذكر أحدهما اقتصر عليه تنبيهاً بالأعلى في الفقر على الأدنى، فالمراد أهل الفقر والحاجة كلهم.
وحق المساكين ما ثبت لهم من الزكاة، وكذلك ما تدعو إليه الحاجة من تعليمهم، وإيوائهم، وتجهيز موتاهم، مما تقوم به الجمعيات الخيرية في هذا العصر.. فكل هذا مما تصرف إليه الزكاة، ويجب القيام به عند عدم الزكاة أو فنائها، أو قصورها عنه.
ويجب القيام به واجباً موزعاً على كل ما استطاع. فإذا لم يقم به المجتمع عاد الإثم على جميع الأفراد كل بقدر ما قصر فيما استطاع.. ثم ما إلى هذا من عموم الصدقة والإحسان.
***
حق ابن السبيل:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} :
(السبيل) هي الطريق، وابنها هو المسافر؟ لأنه منها أتى كما أتى الابن من أمه.
(وحقه) هو الثابت له في الزكاة، فيأخذ منها إذا قطع به ولم يكن معه ما يبلغه ولو كان غنياً في بلده، وعلى جماعة المسلمين تبليغه إذا لم تكن ثم زكاة. ومن حقه ضيافتها حسب السُّنة (2) وإرشاده ودلالته على ما يريد معرفته من طريقه أو مرافقها.
__________
(1) قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وأت ذا القربى حق} : «اختلف أهل التأويل في المعني بقوله: {وآت ذا القربى} ؛ فقال بعضهم: عني به قرابة الميت من قبل أبيه وأمه، امر الله جل ثناؤه عباده بصلتها ... وقال آخرون بل عنى به قرابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انظر تفسير الطبري (8/67، 66) .
(2) ورد في السنة الشريفة أكثر من حديث يوجب حق الضيف. منها ما رواه أحمد في المسند (4/131) عن أبي=[/rtl]
[rtl](1/80)[/rtl]
وبذكر ابن السبيل والمسكين جمعت ذا الحاجة الثابتة وهو المسكين، والحاجة العارضة وهو ابن السبيل، وقدم الأول لأصالة حاجته، وفي ذكرهما أيضاً جمع ما بين القريب الدار، والبعيد الدار والمسافر.
كل هذا ليعلم أن ذا الحق يعطي حقه على كل حال، وبقطع النظر عن أي اعتبار.
وسمي هؤلاء الثلاثة بأسمائهم المذكورة ة لأنها ترقق عليهم القلوب، من القربة، والمسكنة، وغربة الطريق.
وسمي ما ينالونه (حقاً) .. ليشعر المكلف بتأكده، ويحذر المعطي من المنّ به، فلا ينكسر قلب آخذه!!
***
الإنفاق في غير وجهٍ شرعي:
{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} :
المال قوام الأعمال، وأداة الإحسان، وبه يمكن القيام بالحقوق: فصاحبه هو مالكه، ولكن الحقوق فيه تشاركه، ولا يقوم له بوجوه الحق إلاّ إذا أمسكه عن وجوه الباطل. ثم لا يقوم له بجميع تلك الوجوه إلاّ إذا أحسن التدبير في التفريق، وابتغى الحكمة في التوزيع.
فلذا بعدما أمر الله تعالى بإعطائه الحقوق لأربابها.. نهى عن تبذير المال الذي هو أجملها، وبه يمكن إعطاؤها.
(والتبذير) هو التفريق للمال في غير وجه شرعي، أو في وجه شرعي دون تقدير (1) ، فيضر بوجه آخر:
فالانفاق في المنهيات تبذير وإن كان قليلاً.
__________
=كريمة رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً له عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه» . وروى البخاري في الأدب باب 31، ومسلم في اللقطة (حديث 14) وأبو داود في الأطعمة باب 5، والترمذي في البر باب 43، وابن ماجة في الأدب باب5، وغيرهم عن أبي شريح العدوي عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: واللفظ للبخاري-: «من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه جائزته. قيل: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه» .
(1) أصل التبذير: التفريق في السرف؛ ومنه قول الشاعر:
أناسٌ أجارونا فكان جوارُهُمْ ... أعاصيرَ من فِسْق العراق المبذرِ
انظر تفسير الطبري (8/ 68) .[/rtl]
[rtl](1/81)[/rtl]
والإنفاق في المباحات إذا لم يضيع مطلوباً، ولم يؤد إلى ضياع رأس المال، بحيث كان ينفق في المباح من فائدته ليس بتبذير. فإذا توسع في المباحات وقعد عن المطلوبات، أو أداه إلى إفناء ماله فهو تبذير مذموم.
وأفادت النكرة وهي قوله: {تبذيراً} بوقوعه بعد النهي العموم. فهو نهي عن كل نوع من أنواع التبذير: القليل منه والكثير، حتى لا يستخف بالقليل. لأن من تساهل في القليل وصلت به العادة إلى الكثير.
***
إخوان الشياطن:
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} .
إن الشيطان يعمل، وأعماله كلها في الضلال والإضلال، فقد ضيع أعماله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وهو جاد في ذلك ضارٍ (2) عليه لرسوخه في نفسه. والمبذر يضيع أمواله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وقد أخذت عادة التبذير بخناقه واستولت عليه؛ فهو أخو الشيطان لمشاركته له في وصفه، كمشاركة الأخ لأخيه. وهو أخوه بامتثاله لأمره، وصحبته له في الحال وفي المآل (3) ، وفي سوء العاقبة في العاجل والآجل.
المال، كما هو أداة لكل خير، كذلك هو أداة لكل شر: فالمبذر المفرق لماله في وجوه الباطل بالغ- لا محالة- بماله إلى شر كثير وفساد كبير؛ ولذلك وصف بأنه أخ الشيطان الذي هو أصل الشر والفساد.
ووصف الله تعالى الشيطان بقوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} ؛ لأنه أنعم عليه بنعمة، فبدلًا من أن يستعملها في طاعته في الخير قصرها على المعصية والشر.
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الزكاة (حديث 95) عن حكيم بن حزام بلفظ: «أفضل الصدقة- أو خير الصدقة- عن ظهر غنى؛ واليد العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بمن تعول» . ورواه أيضاً (حديث رقم 197) عن أبي أمامة بلفظ: «يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كفاف؛ وابدأ بمن تعول؛ واليد العليا خير من اليد السفلى» . ورواه ايضاً (حديث رقم 106) عن أبي هريرة بلفظ: «لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك، فإن اليد العليا أفضل منِ اليد السفلى. وابدأ بمن تعول» .
(2) من الضراوة، وهي العادة؛ يقال: ضرِيَ الشيءُ بالشيءِ إذا اعتاده فلا يكاد يصبر عنه. انظر لسان العرب (مادة ضري- 14/ 482) .
(3) تقول العرب لكل ملازم سنة قوم وتابع أثرهم: هو أخوهم. انظر تفسير الطبري (8/ 69) .[/rtl]
[rtl](1/82)[/rtl]
ومكنه الله بالمال من نعمة القدرة على القيام بالحقوق فضيعها وقام بالشرور والمفاسد؛ وهذا من أقبح الكفر لنعمة ربه الذي كان به مضارعاً للشيطان معرضاً عن أخيه، والعياذ بالله.
***
حسن المقال، عند العجز عن النوال:
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} .
للمرء حالتان:
حالة وجد، وحالة عوز.
فلما علمنا الله تعالى ما نصنع في حالة الوجد من الإيتاء لذوي القربى واليتامى والمساكين- علمنا ما نصنع في حالة العوز من الرد الجميل، والقول اللين الحسن.
وقوله تعالى: {تعرضن} من الإعراض وهو الانصراف عن الشي، وهو كناية عن عدم العطاء؛ لأن من يأبى أن يعطي يعرض بوجهه، ولو إعراضا قليلاً. ولما كان الإعراض كناية عن عدم العطاء، فإنه يشمل عدم العطاء لمن هو أهل لأن يعطي مع عدم وجود السؤال.
وقول تعالى: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} : (الابتغاء) هو الطلب باجتهاد، وذلك بالأخذ في الأسباب، والاعتماد على مسببها وهو الله تعالى ...
و (رحمة الرب) هنا رزقه، و (رجاؤها) هو انتظارها مع الأخذ في أسبابها بالقلب والعمل.
وابتغاء رحمة الرب ورجاؤها كناية عن حالة العوز والإعسار؛ لأن شأن المعوز المؤمن أن يكون كذلك.
وقوله تعالى: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} ، تقول: يسرت له القول: إذا لينته له، فالقول الميسور هو القول الملين.
وحاصل المعنى:
إن أعرضت عنهم فلا تعطهم لأنك لم تجد ما تعطيهم- وهي الحالة التي تكون فيها تطلب رحمة من ربك راجياً رزقه- فقل لهم قولاً ليناً سهلاً، فتواسيهم بالقول عند عدم السؤال، ولا تتركهم في ساحة الإهمال، وتردهم الرد الجميل عند السؤال، فتقول لهم: يرزق الله، ونحوه من لين الكلام.
وفي الآية تعليم وتربية للمعسر من ناحيتين:[/rtl]
[rtl](1/83)[/rtl]
والثانية: أدبه هو في نفسه والحالة التي ينبغي له أن يكون عليها: فإن حالة العسر حالة شدة وبلاء يحتاج المكلف أشد الحاجة أن يعرف دواءه فيها لسيرته العملية، وحالته النفسية، فأعطته هذه الآية الكريمة الدواء لها.
فأما في سيرته العملية فعليه أن يكون ساعياً في الأسباب حسب جهده، وذلك هو ما يفيده قوله: {ابتغاء رحمة من ربك} .
وأن يكون مطمئن القلب بالله، معتمداً عليه، قوي الثقة فيه؛ وذلك ما يفيده قوله:
{ترجوها} .
وقد ذكر رحمة الرب- جل جلاله- لوجوه:
الأول: تقوية رجائه، فإنه يعلم سعة رحمة الله وغمره بها في كل حين. ومن ذا الذي لم يجد نفحات الرحمات في أكثر الأوقات في أحرج الساعات؟
الثاني: بعثه على الصبر والتسليم وعدم الضجر والسأم من الطلب والانتظار، فإنها رحمة الرب، ومن مقتضى ربوبيته تدبيره للخلق بحكمته.
فما جاء منه، كيف جاء وفي أي وقت جاء: أبطأ أم تأخر هو مقبول منه محمود منا عليه.
الثالث: بعث عاطفة الرحمة على غيره، فإن من كان يرجو رحمة ربه جدير بأن يكون رحيماً بعباده. ورحمته بعباد الله تعينه على القيام بما أمر به من حسن المقال عند العسر، وجميل النوال عند اليسر؛ وتكون سبباً له في رحمة الله إياه. والراحمون يرحمهم الرحمن، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
العدل في الإنفاق:
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} .
لما أمرنا الله تعالى بالانفاق، علمنا كيف ننفق، وبين لنا أدب الإنفاق في هذه الكلمات.
إذ شبهت حالة وهيئة البخيل الذي لا يكاد يرشح بشيء، ولا يقدر لبخله على إخراج شيء من ماله.. بحاله وهيئة الذي جعل يده مغلولة مجموعة بغل إلى عنقه: فذاك لا تتوجه نفسه للبذل، ولا تمتد يده للعطاء، وهذا لا تمتد يده للتصرف. ونقل الكلام المركب الدال على المشبه به، فاستعمل في المشبه على طريق الاستعارة التمثيلية لتقبيح حالة البخيل.
والمعنى:
لا تبخل بالنفقة في حقوق الله، ولا تمسك إمساك المغلولة يده الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.[/rtl]
[rtl](1/84)[/rtl]
المعنى:
ولا تخرج جميع ما تملك مع حاجتك إليه، ولا تنفق جميع مالك. وبهذا يعلم أن "كل البسط" المنهى عنه هنا غير التبذير المنهي عنه في الآية المتقدمة: ذاك توزيع المال وتبديده في غير وجوهه، وهذا التجاوز في الإنفاق المطلوب والتوسع في الإنفاق المأذون حتى يبقى بلا شيء.
نهى تعالى بهذه الآية عن طرفي الإفراط والتفريط، وهما الإسراف.
فالمأمور به: هو العدل الوسط، فعلى ذي المال أن يأخذ في انفاقه بهذا الميزان، ليكون إنفاقه محمودا: فلا يمسك عما يستطيع، ولا يتجاوزه إلى ما لا يستطيع، أو إلى ما يوقعه في عسر وضرر.
وكان النهى عن البسط لأنه هو الذي فيه إسراف.
وأما أصل البسط الذي هو توسعه بحكمة، فغير منهي عنه لأنه لا ضرر فيه.
وحذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف والتقتير بقوله: {فتقعد ملوماً محسوراً} . فالبخيل الممسك ملوم من الله تعالى.
ومن العباد إذاً من لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه. على أنه سيلوم هو نفسه بعد الموت. والمسرف ملوم من الجميع، ومن نفسه بعد ضياع ما في يده.
(والمحسور) المتعب المضنى، الذي انكشفت عنه القوة، ولم تبق به قدرة على شيء، تقول العرب: حسرت البعير أي أنضيته وأتعبته بالسير، حتى لم تبق به قدرة عليه (1) .
والجمل لا يقطع الطريق ويصل إلى الغاية إلّا إذا حافط صاحبه على ما فيه من قوة، فسار به سيراً وسطاً. أما إذا أجهده واستنزف قوته، فإنه يسقط كليلاً محسوراً: فلا قطع طريقه، ولا وصل منزله، ولا أبقى جمله.
فكذلك الإنسان في طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه بحكمة نفع به وانتفع، وبلغ غاية حياته هادئاً راضياً، وإذا بسط يده فيه كل البسط أتى عليه فانقطع النفع والانتفاع، ولم يبلغ غاية حياته إلاّ بأتعاب ومشاق.
وعلم من هذا أن قوله {ملوماً} يرجع للمقتر والمسرف. وقوله: {محسوراً} يرجع للمسرف فقط. ولكن لما كان المحسور هو الذي ذهبت قوته فلا قدرة له على شيء، فقد نقول: إن
__________
(1) قال في اللسان (مادة حسر- 4/ 188) : «والعرب تقول: حسرت الدابة إذا سيرتها حتى ينقطع سيرها» .[/rtl]
[rtl](1/85)[/rtl]
***
والمخاطب بهذا الخطاب إما مفرد غير معيّن؛ فيشمل جميع المكلفين غير النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير، وفدك، وخيبر (1) ، ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحول، وليس عنده شيء، ولا كان ملوماً ولا محسوراً، بل كان على ذلك صباراً شكوراً مشكوراً.
وإما هو (2) النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والمراد أمته؛ وعادة العرب أن تخاطب سيد القوم، تريد القوم، وتعبر بالمتبوع عن أتباعه. ونظير هذه الآية في ذلك: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] ، و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- غير داخل في هذا الخطاب بإجماع.
وقد تقدم قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} يعني الوالدين، وكان والداه عليهما الرحمة قد توفيا، فلم يدخلا في الخطاب قطعاً فكذلك هنا.
***
قال الإمام ابن العربي في تعليل عدم دخوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في هذا الخطاب:
لما هو عليه من الخلال، والجلال، وشرف المنزلة، وقوة النفس على الوظائف، وعظيم العزم على المقاصد.
فاما سائر الناس: فالخطاب عليهم وارد، والأمر والنهي- كما تقدم- إليهم متوجه.
إلاّ أفراداً أُخرجوا من ذلك بكمال صفاتهم، وعظيم أنفسهم، منهم أبو بكر الصديق؛ خرج عن جميع ما يملك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقبله منه الله سبحانه، وأشار على أبي لبابة وكعب بالثلث من جميع ما لهم؛ لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم.
__________
(1) النضير وفدك وخيبر غزوات وسرايا كان النصر فيها للمسلمين، وكان من نتائجها الجزية أو الخراج. وقد أفاد الله تعالى على نبيه الكريم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الثلاثة؟ روى ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى (1/ 390) عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث صفايا: فكانت بنو النضير حبسا لنوائبه، وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر. فكان الخمس قد جزأه ثلاثة أجزاء، فجزءان للمسلمين وجزء كان ينفق منه على أهله، فإن فضل منه فضل رده على فقراء المهاجرين.
(2) معطوف على قوله في بداية الفقرة السابقة: «والمخاطب بهذا الخطاب.. الخ» . أي: وإما هو المخاطب بهذا الخطاب.[/rtl]
[rtl](1/86)[/rtl]
وقد كان من أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة: فما ادخر قط شيئاً لغد ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد، ولا ربط على الدنيا بيد.
فههنا ثلاثة أصناف من الخلق:
الأعم الأكثر، وهم أهل الحظوظ البشرية.
والقليل، وهم الذين ضعفت فيهم حظوظهم.
والأقل الأندر، وهم الذين زالت منهم تلك الحظوظ.
وقد أفادتنا السنة العملية المتقدّمة في كلام الإمام ابن العربي:
أن لأهل الصنف الثاني أن يخرجوا عن كثير من أموالهم على مقدار ما بقي من حظوظهم.
وأن لأهل الصنف الثالث أن يخرجوا منها كلها.
وأما أهل الصنف الأول فلا يخرجون عن الوسط الذي بينته الآية.
وقد جاءت الآية الكريمة على مقتضى حال الأعم الأكثر: لأنها قاعدة عامة في سياسة الإنفاق، وشأن القواعد العامة أن يعتبر فيها جانب الأعم الغالب، ولا يلتفت للنادر.
وقد وكل للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بيانه، فجاء مبيناً فيما تقدم من سننه.
وتقررت القاعدة واستثناؤها من الكتاب والسنة، وهما مصدر التشريع.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]تفاوت الأرزاق من حكمة الخلاق:
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} .
لما أرشدنا تعالى إلى السلوك الأقوم في العمل في باب الإنفاق، أرشدنا إلى العقد الصحيح في مسألة تفأوت الأرزاق، وفي ذلك تمام الهداية إلى الاستقامة في الظاهر والباطن.
وإن أحوال العباد في الغنى والفقر، والسعة والضيق، وتعاقبها عليهم بسرعة وبمهل وتفاوتهم فيها لما يخفى ولما يظهر من العلل- لأمر عجب عجاب، يحير الألباب!!.
فعلمنا الله تعالى في هذه الآية أن الرب- وهو الذي يربي المربوب في أحواله وأطواره، بمقتضى الصلاح والصواب- هو الذي يبسط ويوسع على من يشاء- ولا يشاء إلاّ ما هو حق، وعدل، وصواب، وإن خفي علينا وجهه.
{ويقدر} : أي يضيق على من يشاء، وكل أحد هو حقيق بالحال الذي هو فيه. وأنه كان
__________
(1) نقول: إنهم لفي غضارة من العيش، وفي غضارة عيش: في سعة ونعمة (المعجم الوسيط: [ص:654] ) .[/rtl]
[rtl](1/87)[/rtl]
[rtl]بعباده {خبيراً} مطلعاً على دواخل أمورهم، وبواطن أسرارهم من أنفسهم، ومما يرتبط بهم ومن سوابقهم ومصائرهم {بصيراً} منكشفة له جميع أمورهم.
وكما أنه بالعمل بآية الإنفاق ينتظم أمر العباد في معاشهم، كذلك بالإيمان بهذه العقيدة تزول حيرتهم، وتطمئن قلويهم فيما يرونه من أحوال الرزق في أنفسهم، وفي غيرهم.
والله يبصّر القلوب، ويقوِّم الأعمال، إنه سميع مجيب.
حفظ النفوس بحفظ النسل
وحفظ الفرج وعدم العدوان
(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) " [الإسراء: 31- 33] .
تمهيد
إن الأرواح الإنسانية كريمة الجوهرة لأنها من عالم النور؛ فقد خلقت من نفخ الملك. كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيح:
«إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح ... » (1) .
والملائكة- كما في الصحيح- خُلقوا من النور، وأنها كريمة الخلقة أيضا لأنها فطرت على الكمال.
ولذا أضافها الله تعالى إلى نفسه في معرض الامتنان، في قوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] .
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق بالب6، وأحاديث الأنبياء باب1، والقدر باب1، والتوحيد باب28. ومسلم في القدر باب1. وأبو دأود في السنة باب16. والترمذي في القدر باب4. وابن ماجة في المقدمة باب10. وأحمد في المسند (1/382،414،430) .[/rtl]
[rtl](1/88)[/rtl]
[rtl]دع ما يطرأ عليها بعد اتصالها بالبدن من تزكية ترقى بها في معارج الكمال، أو تدسية (1) تنحط بها إلى أسفل سافلين.
وبعد ارتباطها بالبدن.. يتكون منها المخلوق العظيم العجيب المسمى بالإنسان الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض ليعمرها، ويستثمرها ويعبرها إلى دار الكمال الحق، والحياة الدائمة الأبدية.
هذه النفوس البشرية جاءت الشرائع السماوية كلها بإيجاب حفظها، فكان حفظها أصلاً قطعيا، وكلية عامة في الدين. وجاءت هذه الآيات في تقرير هذا الحفظ من وجوه ثلاثة سنتكلم عليها واحداً واحداً.
***
حفظ النسل:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} .
العرب في زمان البعثة هم المخاطبون قبل الناس بالقرآن، وهم المؤمورون أول الناس- لعموم الرسالة- بالبلاغ، وعلى اهتدائهم كان يتوقف اهتداء غيرهم؛ فمن الحكمة توجه القصد إلى تطهيرهم من مفاسدهم.
وقد كانوا في الجاهلية منهم من يقتل البنات خشية الفقر، وليوفر ما ينفق عليهم لينفقه على نفسه وبيته وبنيه، ويرى النفقة عليهن ضائعة؛ لأنه لا ينتظر منهن سعياً للكسب ولا نصرة على العدو. وهذه هي الموءودة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 و9] .
على أنه قد كان من ساداتهم من يحيى الموءودة فيشتريها من عند أبيها، وينجيها من القتل: كزيد بن نفيل القرشي أبي سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، وصعصعة بن ناجية التميمي الصحابي جد الفرزدق الشاعر المشهور. وقد كان قتل البنات شائعاً فيهم مستفيضا في قبائل معدودة.
ومنهم- كما في لسان العرب- من كان يئد البنين عند المجاعة. فجاء النهي عن القتل في الآية متعلقا بلفظ الولد شاملاً للبنات والبنين، ومعه السبب الذي كان يحملهم على القتل، وهو خشية الإملاق أي خوف الفقر والإقتار.
(والمملق) هو الذي خرج ماله من يده فلم يبق بها شيء. ومن مادته الملقة وهي الصفاة الملساء. فنهوا عن هذا القتل الفظيع مع ذكر سببه، لتصوير حالتهم بوجه تام، وليتخلص من ذكر السبب إلى إبطاله ورده.
__________
(1) في اللسان (مادة دسا-14/ 256) : «دَسىَ يَدْسىَ: نقيض زكا ... ودسى نفسه وتَدَسى ودساه: أغراه وأفسده. وفي التنزيل: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} » .[/rtl]
[rtl](1/89)[/rtl]
[rtl]معالجة هذه الرذيلة بإبطال سببها وعظيم قبحها وسوء عاقبتها:
أبطل تعالى خوفهم من الفقر بقوله: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} ؛ فأخبر أن رزق الجميع عليه، وأنه متكفل برزق خلقه بما يسر لهم من أسباب جلية أو خفية، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، والكبير والصغير.
كما أنه تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما في الآية السابقة، فهما مرتبطان بهذه المناسبة.
ومن ضلالهم: أنهم نظروا إلى قوة الكبير فحسبوه مرزوقاً من نفسه، فهداهم بقوله: {وَإِيَّاكُمْ} إلى أن الكبار مرزوقون من الله بتقديره وتيسيره.
ولما كان لا فرق بين الكبير والصغير في الحاجة إلى لطف الله، وضمان الرزق من الله، فلا وجه لخوف الفقر من وجود الأولاد وكثرتهم، لأنه ما من واحد منهم إلاّ ورزقه مضمون من خالقه جل جلاله.
وبين تعالى فظاعة هذا القتل بقوله: {أَوْلَادَكُمْ} ، بإضافة الأولاد إليهم، فإن الأولاد أفلاذ الأكباد، وقطعة من لحم المرء ودمه، ونسخة من ذاته، فمحبتهم فطرة، والعطف التام عليهم خلقة، فكيف يكون قبح وفظاعة فعل من بلغ بهم القتل!
وأي خير يُرجى من قاتل ولده لغيره من الناس، بعد ما جنى أفظع الجنايات على ألصق الناس به؟؟!
وبين تعالى سوء العاقبة لهذا القتل بقوله: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} ؛ أي إثماً كبيراً لما فيه من قتل النفس، وقطع النسل، وهلاك الجنس، وخراب العمران، وسوء الظن بالله، وعدم خشيته، وعدم الشفقة على خلقه.
يقال خطىء يخطأ خطئاً (1) إذا قصد الفعل القبيح ففعله. وأخطأ يُخطىء خطئاً (2) إذا قصد شيئاً فأصاب غيره.
ومن مثل وعيد الآية ما ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» (3) .
__________
(1) أي بكسر الخاء وسكون الطاء.
(2) أي بفتح الخاء والطاء.
(3) أخرجه البخاري في تفسير سورة2 باب3 وسورة25باب2، والأدب باب20، والحدود باب20، والديات باب1، والتوحيد باب40و46. ومسلم في الإيمان حديث141و142. وأبو داود في الطلاق باب50. والترمذي في تفسير سورة25 باب1و2. والنسائي في الأيمان باب6، والتحريم باب4. وأحمد في المسند (1/ 380، 431، 434، 462، 464) .[/rtl]
[rtl](1/90)[/rtl]
[rtl]عموم حكم الآية وترغيبها:
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والحكم يعم بعموم اللفظ. كما أن ذكر سبب القتل في الآية لا يقتضي التخصيص، لأنه ذكر لتصوير الحال الذي كانوا عليه، فالقتل حرام لأي سبب كان.
وهذا الفعل الذي كان في الجاهلية على الوجه المتقدم، وهو فعل مؤد إلى قطع النسل وخراب العمران- لا تسلم منه الأمم الأخرى في مختلف الأزمنة والبلدان:
إما بالقتل بعد الولادة.
وإما بإفساد الحمل بعد التخليق، وهو حرام باتفاق.
وقد يكون بالامتناع من التزوج.
أو بعد الإنزال في الفرج وهو العزل.
والآية كما نهت عن القتل، قد رغبت في النسل بذكر ضمان الرزق.
فعلى المؤمن أن يسعى لذلك من طريقه المشروع، وأن يتلقى ما يعطيه الله من نسل ابن أو بنت، بفرح، لنعمة الله وثقة برزق الله، وإيمان بوعده.
***
حفظ الفرج:
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} .
في الزنا إراقة للنطفة، وسفح لها في غير محلها، فلو كان منها ولد لكان مقطوع النسب، مقطوع الصلة، ساقط الحق. فمن تسبب في وجوده على هذه الحالة فكأنه قتله. ولهذا بعدما نهى عن الزنا الذي هو كقتلهم، لأنه سبب لوجودهم غير مشروع؛ قال الجوهري: «قربته أقربه قربانًا، أي دنوت منه» (1) . فقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ، في النهي أبلغ وآكد من ولا تزنوا؛ لأنه بمعنى ولا تدنوا من الزنا، وأفاد هذا تحريم الزنا، وتحريم الدنو منه، لا بالقلب ولا بالجوارح، فقد جاء في الصحيح:
«كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة. العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (2) ؛ فزنا هذه الجوارح دنو من الزنا الحقيقي، ومؤد إليه.
__________
(1) وفي اللسان (مادة قرب- 1/ 662) عن التهذيب: «ما قربت هذا الأمر ولا قربته؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} ، وفال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ؛ كل ذلك من قربت أقرب» . وقال [ص:666] : «وقَرِبَ الشيءَ، بالكسر، يَقرَبُه قُرْباً وقرْباناً: وأتاه فقَرب ودنا منه» .
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الاستئذان باب12، والقدر باب9. ومسلم في القدر حديث20=[/rtl]
[rtl](1/91)[/rtl]
[rtl]وقد حمى الشرع الشريف العباد من هذه الفاحشة بما فرض من الحجاب الشرعي، وهو ستر الحرة ما عدا وجهها وكفيها وجميع ثيابها عند الخروج بالتجلبب، وبما حرم من تطيب المرأة، وقعقعة حليها عند الخروج، وخلوتها بالأجنبي، واختلاط النساء بالرجال.
فتضافر النهي والتشريع على إبعاد الخلق عن هذه الرذيلة.
والمسلم المسلم، من تحرى مقتضى هذا النهي، وهذا التشريع في الترك والابتعاد.
معالجة هذه الرذيلة بتقبيحها وسوء عاقبتها:
بيَّن تعالى قبحها بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} والفاحشة هي الرذيلة التي تجاوزت الحد في القبح وعظم قبح الزنا مركوز في العقول من أصل الفطرة كان ولم يزل كذلك معروفاً.
ومن رحمة الله تعالى بخلقه أن ركز في فطرهم إدراك أصول القبائح والمحاسن، ليسهل انقيادهم للشرع عندما تدعوهم الرسل إلى فعل المحاسن وترك القبائح، وتأتيهم بما هو معروف في الحسن أو القبح لهم؛ فتبين لهم حكم الله فيه، وما لهم من الثواب أو العقاب عليه.
وبين تعالى سوء عاقبة الزنا بقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} أي بئس طريقاً طريقه، طريق مؤد إلى شرور ومفاسد كثيرة في الدنيا، وعذاب عظيم في الأخرى:
فهو طريق إلى هلاك الأبدان، وفساد الأعراض، وضياع الأموال، وخراب البيوت، وانقطاع الأنساب، وفساد المجتمع وانقراضه.
زيادة على ما فيه من معنى القتل للنفوس الذي تقدم في صدر الكلام.
فعلى المؤمن إذا وسوس له الشيطان بهذه الرذيلة أن يتعوذ بالله منه، ويستحضر قبحها والمفاسد التي تجر إليها، والإثم الكبير الذي يعقبها، وقبل ذلك كله حرمة النهي الشرعي عنها، فيكون ذلك له- بإذن الله- وقاية منها.
عدم العدوان:
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} .
جاء أسلوب هذه الآيات تدرجاً من الخاص إلى العام: فقتل الأولاد قتل للنفس التي حرم الله، والزنا كالقتل للنفس كما قدمناه، وجيء هنا بالنهي الصريح عن قتل النفس، وأكد مقتضى النهي بوصف النفس بقوله: {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} .
(والتحريم) هو المنع، فحرم الله معناه منع الله، والتقدير: حرم الله قتلها، فحذف لدلالة "لا تقتلوا" عليه. فالمنهي عنه هو القتل، والمحرم هو القتل، فتأكد المنع بالنهي والتحريم.
__________
=و21. وأبوداود في النكاح باب43. وأحمد في المسند (2/ 276، 317، 329، 343، 344، 349، 372، 379، 411، 431، 535، 536) .[/rtl]
[rtl](1/92)[/rtl]
[rtl]وفي إسناد التحريم إلى الله بعث للنفوس على الخشية من الإقدام على المخالفة، وتنبيه لها على ما يكفها عن الإقدام، وهو استشعار عظمة الله.
القتل المحرم:
وبين تعالى بقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} أن القتل المحرم هو القتل الباطل، وأن القتل بالحق ليس بمنهي عنه. وبين الحق في الحديث الصحيح بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة» (1) في غير هذه الثلاث مما جاء في بيانات أخرى عن بعض الأئمة، ويرجع إلى إحدى هذه الثلاث. أو يقال بتقدم هذا الحصر في الورود عليها، وهذا القتل الحق لا يتولاه أفراد الناس في بعضهم، وإنما يتولاه الإمام الذي إليه القيام بتنفيذ الأحكام وفصل الحقوق.
الرد عن العدوان بشرع القصاص:
القتل وسفك الدم عمل قديم في البشر، فلهم- على الجملة- ضراوة عليه وإلف به. وأعظم ما يكف الشخص عن نفس أخيه خوفه على نفسه. فلذلك شرع الله تعالى القصاص بين النفوس، وبين تعالى ذلك بقوله: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا} .
(المظلوم) من قتل عمداً عدواناً.
(والولي) هو القريب.
(والسلطان) هو التسلط.
والمعنى:
ومن قتل عمداً عدواناً، فقد جعلنا لقريبه تسلطاً بتمكينه من القصاص.
لا يحفظ النفوس إلاّ العدل:
كفاء النفس نفس. فلا يقتل إلاّ القاتل بما قتل دون غيره، ودون تمثيل به. وبين تعالى هذا بقوله: {فلا يسرف في القتل} ، أي لا يتجاوز القصاص المشروع؛ لأن الإسراف ظلم، ومثير للحفائط فيتسلسل الشر.
تسكين نفس الموتور:
الموتور هو من قتل قريبه، ولفقد القريب لوعة، ربما تذهب بالنفس إلى شر غاية، فذكر
__________
(1) أخرجه من حديث ابن مسعود البخاري في الديات باب6، ومسلم في القسامة حديث25و26، وأبو داود في الحدود باب1، والترمذي في الديات باب10، والنسائي في التحريم باب5، والدارمي في السير باب11، وأحمد في المسند (1/ 382، 428، 444، 465) . وأخرجه أيضاً أحمد في المسند (1/ 61، 63، 65، 70) من حديث عثمان بن عفان. وأخرجه من حديث طلحة بن عبيد الله (1/ 163) ، ومن حديث عائشة (6/ 181،214) .[/rtl]
[rtl](1/93)[/rtl]
[rtl]بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} . فإن قريب المقتول قد نصره الله إذ جعل له حق الاقتصاص، فإذا لم يستوف له في الدنيا استوفى له في الأخرى.
والمؤمن بيقينه لا يرى يوم القيامة إلاّ قريباً. وكفى بالله حسيباً.
حفظ الأموال باحترام الملكية
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 34و35] .
مال الشخص: هو ما كان ملكاً له:
(واليتيم) : هو من عدم أباه، من اليتم بمعنى الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة. ومن عدم أباه فقد عدم ناصره. فإذا بلغ النكاح فقد بلغ القوة، فاستغنى عن الناصر، فلا يقال فيه يتيم في اللغة.
واعتبر الشرع الشريف وجود قوة العقل فمنع استغلاله، ودفع ماله إليه بعد البلوغ حتى يؤنسَ منه الرشد.
(والتي هي أحسن) : الفعلة والخصلة التي هي أنفع.
والبلوغ إلى الشيء: الوصول والانتهاء إليه.
(والأشد) : جمع شدة كأنعم جمع نعمة، فالأشد هو القوى. وبلوغ الأشد هو بلوغ القوى، والوصول إلى الحالة التي تحصل فيها القوى للإنسان، القوى البدنية، والقوى العقلية. ولا يقال في الشخص قد بلغ أشده إلاّ إذا حصل على قواه من الجهتين. فأما القوى البدنية فعلامة حصولها هو البلوغ. وأما القوى العقلية فعلامة حصولها هو الرشد الذي يظهر في حسن التصرف.
وقد جمع العلامتين قوله تعالى:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:5] .
فابتداء الأشد من البلوغ إذا كان معه رشد، ولا يزال يتدرج حتى يستكمل في الأربعين، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] . فالأربعون هي سن الاستكمال، والاستواء، والتمام في القوى، وهي السن التي بعث الله فيها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للعالمين بشيرا ونذيرا.[/rtl]
[rtl](1/94)[/rtl]
[rtl]ولا يزال الإنسان في قوته- ما لم تعرض الطوارىء- إلى الخمسين، ثم يأخذ في التراجع.
***
مال المرء كقطعة من بدنه، ويدافع عنه كما يدافع عن نفسه، وبه دوام أعماله في حياته. فالأموال مقرونة بالنفوس في الاعتبار؛ فقرنت في النظم آية حفظ الأموال بآيات حفظ النفوس، كما قرن بينهما النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في قوله:
«فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام» (1) .
***
نهى تعالى عن قربان مال اليتيم إلاّ بالوجه الذي هو أنفع، فلا بد لكافل اليتيم من النظر والتحري عند التصرف في ماله: حتى يعرف ما هو ضار وما هو نافع، وما هو لا ضار ولا نافع، وما هو أنفع؛ فلا يتصرف إلاّ بما هو نافع. فإذا تعارض وجهان نافعان تحرى أنفعهما لليتيم. وفي هذا النهي- بطريق الأحرى- تحريم أخذ مال اليتيم بالباطل، والتعدي عليه ظلماً.
ومثل اليتيم في وجهي النهي المتقدمين غيره؛ فكل ذي ولاية أو أمانة على مال غيره يجب عليه أن يتحرى التحري المذكور.
كما يحرم على كل أحد أن يتعدى على مال غيره.
وإنما خص اليتيم بالذكر، لأنه ضعيف لا ناصر له، والنفوس أشد طمعاً في مال الضعيف؛ فالعناية به أوكد، والعقوبة عليه أشد.
ومن تأدب بأدب الآية في مال الضعيف كاليتيم، كان حقيقاً أن يتأدب بأدبها في مال غيره.
ومن بليغ إيجاز القرآن في بيانه أنه يذكر الشيء ليدل به على تأثيره، أو الذي هو أحرى بالحكم منه، أو لكون امتثال الحكم الشرعي فيه داعيا إلى امتثاله في غيره بالمساواة، أو الأحروية.
وأجاز تعالى لولي اليتيم أن يتصرف في ماله بالاستثناء في قوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . فيجوز له تنميته لليتيم بوجوه التجارة.
__________
(1) جزء من حديث حجة الوداع، رُوي عن عدد من الصحابة منهم جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأبي بكرة وعمرو بن الأحوص وحذيم بن عمرو والسعدي، كما ذكر الترمذي في صحيحه (في الحديث رقم 2159) . والحديث رواه البخاري في العلم باب9و37، والفتن باب8، والتوحيد باب24، والأضاحي باب5، والمغازي باب77، والحج باب132. ومسلم في القسامة حديث29و30. والترمذي في الفتن باب2، وتفسير سورة9 باب2. وابن ماجة قي المناسك باب76. والدارمي في المناسك باب72. وأحمد في المسند (1/ 230، 4/ 337، 5/37، 39، 40، 72) .[/rtl]
[rtl](1/95)[/rtl]
[rtl]الولاية والاستقلال:
الولاية على اليتيم واستقلاله حالتان كلتاهما حق وخير إذا كانت كل واحدة منهما فى وقتها المناسب لها، وكل واحدة منهما تكون ظلماً وشراً إذا كانت في غير وقتها المناسب لها. فلذا بين تعالى الحالتين ووقتهما بما قبل (حتى) وما بعدها: فوقت عدم بلوغ الأشد هو وقت الولاية.
فمن الفروض الكفائية على الأمة أن يكون أيتامها مكفولين غير مهملين. ووقت بلوغ الأشد- ببلوغ الحلم والرشد- هو وقت استقلال من كان يتيما ووقت دفع ماله إليه، فلا يجوز حينئذ الاستيلاء على ماله والسيطرة عليه.
***
الوفاء بالعهد:
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} .
أوفى بعهده إذا أتى بما التزم تاماً وافياً. والعهد من عهد إليه بالشيء إذا أعلمه به. قال تعالى: {وعهدنا إلى آدم من قبل فنسي} (1) أي أعلمناه.
فالعهد هو الإعلام بالالتزام، أو الإعلام بما يلتزم.
فمن الأول: عاهدت زيداً على كذا، أي أعلمته بالتزامي له، وتعاهد القوم على الموت أي أعلم بعضهم بعضاً بالتزامه.
ومن الثاني: عهد الله إلى العباد أي إعلامهم بما عليهم أن يلزموه.
وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم» (2) . أي إعلامه لنا وإعلامنا لكم بما يلتزم.
(والمسؤول) من سأل، وسأل بمعنى طلب: إما طلب علماً، وإما طلب شيئاً، فإن كانت الأولى تعدى الفعل إلى المفعول الثاني بعن، تقول: سألته عن كذا فأجابني، وإن كانت الثانية تعدى الفعل إليه بنفسه تقول سألته ثوبا فأعطانيه.
فقوله تعالى: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} .
__________
(1) الآية 115 من سورة طه. وقد وردت هكذا في الأصل: "وعهدنا". وصوابها: "ولقد عهدنا".
(2) رواه الإمام مالك في الموطأ (كتاب البيوع، باب16، حديث31) وتمامه: عن مجاهد أنه قال: «كنت مع عبد الله بن عمر، فجاءه صائغ فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ الذهب ثم أبغ الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي؟ فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها. ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليهم» . ورواه أيضا الشافعي في الرسالة (فقرة760)[/rtl]
[rtl](1/96)[/rtl]
[rtl]إذا كان من الأولى فالأصل مسؤولاً عنه فحذف إيجازاً لظهور المراد.
وإذا كان من الثاني فلا حذف ومعناه حيئنذ مطلوب أي مطلوب الوفاء به.
الوفاء بالعهد شرط ضروري لحصول السعادتين:
عهد الله تعالى لعباده هو ما شرعه لهم من دينه، فوفاؤهم بعهده قيام بأعباء ذلك الدين الكريم، وانتظام شؤونهم في هذه الحياة- أفراداً وجماعات وأمماً- متوقف على الوفاء من بعضهم لبعض بما بينهم من عهود؛ فالوفاء ضروري لنجاة العباد مع خالقهم؛ ولسلامتهم من الشرور والفوضى والفتن. وضروري- إذن- لتحصيل سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
ولمكانة هذا الأصل وضرورته تكرر في الكتاب والسنة الأمر به على وجه عام بين الأفراد والأمم، بلا فرق بين الأجناس والملل. وجاء هنا في آية الوصاية باليتيم- وهي آية حفظ الأموال باحترام الملكية- لوجهين:
الأول: أن الكافل لليتيم قد أعلن بكفالته- بلسان حاله- أنه ملتزم لحفظه في بدنه وماله، فهذا عهد منه يطالب بالوفاء به، ويسأل عن ذلك الوفاء.
الثاني: أن الآية في حفظ الأموال وعدم التعدي على ملك أحد.
والناس يتعاملون بحكم الضرورة، ويبنون تعاملهم على تبادل الثقة والعهود المبذولة من بعضهم لبعض بلسان المقال أو بلسان الحال، فأمروا بالوفاء بالعهد الذي هو أساس للتعامل، وفي ذلك سلامة مال كل أحد من التعدي عليه.
ولا ينافي هذا عموم اللفظ الذي يقتضي الأمر بالوفاء عاماً، لأنه باق على عمومه وإنما يدخل فيه هذان الوجهان المذكوران في ارتباط النظم دخولا أولياً.
ومن بديع إيجاز القرآن في نظم الآيات أن يؤتي باللفظ مفيداً للعام، ومقوياً للخاص.
***
الترغيب في الوفاء، والترهيب من الخيانة:
{إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} .
إذ كان مسؤول بمعنى مطلوب، أي مطلوب الوفاء به، فإنه مطلوب في الفطرة، وفي الشريع؛ فالعباد فطروا على استحسان الوفاء، ومطالبة بعضهم بعضاً به، والشرع طالبهم بالوفاء وشرعه لهم، ووعدهم الثواب عليه- ففي قوله: {إن العهد كان مسؤولاً} ترغيب لهم في الوفاء بحسنه ومشروعيته وحسن الجزاء عليه. ويتضمن هذا الترغيب التخويف من ترك المطلوب.
وإذا كان مسؤول بمعنى مسؤول عنه، فإن المعنى أن الله تعالى يسأل العباد يوم القيامة عن عهودهم: هل أوفوا بها ليجازيهم على الوفاء بحسن الجزاء، وعلى الخيانة بالعذاب والإهانة؟[/rtl]
[rtl](1/97)[/rtl]
فينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، ويقال: «هذه غدرة فلان» ، كما جاء في الصحيح (1) الآية على هذا- أيضاً- ترغيب وترهيب.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]إيفاء الحقوق عند التعامل:
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
(إيفاء الكيل) : إتمامه.
(والقسطاس) : هو الآلة التي يحصل بها الإيفاء من المكيال والميزان على تعدد أنواعهما.
(والمستقيم) : الصحيح الذي لا عيب فيه مما يجعله غير صالح للوفاء بالعدل، ككسره أو اعوجاجه أو أي خلل في تركيبه.
"والخير" النافع.
(والتأويل) : مصدر أول بمعنى رجع من آل يؤول أوْلًا، بمعنى: رجع، وهو هنا بمعنى المرجع والمآل، أي العاقبة.
الأمر بإيفاء الكيل من موضوع ما قبله: في الأمر بحفظ الأموال واحترام الملكية.
والمكيلات والموزونات مورد عظيم للتعامل، ومعرضة تعريضاً كبيراً للبخس، والتطفيف، وأخذ مال الناس بالزيادة، أو بالتنقيص: إما بفعل الشخص، وإما بفساد الآلة. فأمر تعالى بإيفاء الكيل، وأمر باختيار الآلة الصالحة لذلك، وبين أن الوفاء يكون عند الكيل بقوله: {إذا كلتم} ، على سبيل التأكيد حتى لا يتأخر الوفاء عن الكيل، بأن يكمل ما نقص، أو يرد ما زاد، وأن الذي يفصل الحق، ويطيب النفوس هو الوفاء وقت الكيل.
***
الترغيب في إيفاء الكيل:
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} :
رغب تعالى في الإيفاء بوجهين:
__________
(1) روي الحدبث في الصحاح بألفاظ وأسانبد مختلفة؛ ولفظه كما رواه البخاري في كتاب الأدب باب99 (حديث 6178) عن ابن عمر: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان» . قال الترمذي بعد أن رواه عن ابن عمر (كتاب السير، باب 28، حديث 1581) : «وفي الباب عن علي وعبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس» . والحديث بطرقه وأسانيده المختلفة رواه البخاري في الجزية باب 22، والأدب باب 99، والحيل باب 9، والفتن باب21. ومسلم في الجهاد حديث 8، 10- 17. وأبو داود في الجهاد باب150، والترمذي في السير باب 28، والفتن باب 26. وابن ماجة في الجهاد باب 42. والدارمي في البيوع باب11. وأحمد في المسند (1/ 411، 417، 441، 2/ 16، 29، 48، 59، 56. 70، 75، 96، 103، 112، 116، 123، 126، 142، 156، 3/ 7، 19، 35، 39، 41، 61، 64، 70، 84، 142، 150، 250، 270) .[/rtl]
[rtl]الأول: أنه (خير) فيفيد العدل والحق، وأكل الحلال، وراحة البال.
وفيه حصول الثقة التي هي رأس مال التاجر.
وفيه حفظ نظام التعامل الذي هو ضروري للحياة. وهذه كلها وجوه نفع وخير.
الثاني: أنه (أحسن) عاقبة.
عاجلًا في نفس الشخص، وأخلاقه وفي عرضه، وسمعته، وفي سلامته من المطالبات، والمنازعات.
وآجلاً بحسن جزائه عند الله بما أعد للموفين من الأجر العظيم.
***
تركيب على هذا الترغيب:
هذان الوجهان اللذان رغب الله تعالى بهما في الوفاء، ينبغي للعاقل أن يجعلهما نصب عينيه في كل ما يتناوله ويعمله؛ فيقتصر على ما هو خير ينفعه في الحال، وحسن العاقبة بنفعه وعدم ضرره في المآل.
والله يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال، إنه الكريم الواسع النوال.
***
العلم والأخلاق
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
العلم الصحيح، والخلق المتين، هما الأصلان اللذان ينبني عليهما كمال الإنسان، وبهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات المتقدمة، من أصول التكليف؛ فهما أعظم مما تقدمهما من حيث توقفه عليهما. فجيء بهما بعده، ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى.
ولما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آيته على آيتها تقديم الأصل على الفرع.
آية العلم:
(القفو) : اتباع الأثر، تقول: قفوته أقفوه، إذا اتبعت أثره. والمتبع لأثر شخص موال في سيره لناحية قفاه؛ فهو يتبعه دون علم بوجهة ذهابه، ولا نهاية سيره.
فالقفو: اتباع عن غير علم، فهو أخص من مطلق الاتباع، ولذلك اختيرت مادته هنا.
ولكونه اتباعاً بغير علم، جاء فى كلام العرب بمعني قول الباطل قال جرير:
وَطَالَ حِذَارِي خِيفَةَ الْبَيْنِ وَالنَّوَى ... وَأُحْدُوثَةٌ مِنْ كَاشِحٍ مُتَقَوِّفِ (1)
__________
(1) البيت في ديوان جرير (ص281) وفيه "غربة" في موضع "خيفة" و"يتقوف" في موضع "متقوف"- لأن البيت=[/rtl]
[rtl](والعلم) ، إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء أكانت تلك البينة حساًّ ومشاهدة، أو كانت برهاناً عقلياً: كدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع.
فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن. هذا هو الأصل.
ويطلق العلم أيضاً على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جداً. كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام:
{وما شهدنا إلاّ بما علمنا وما كنا للغيب حافظين} [يوسف: 83] . فسمى القرآن إدراكهم لما شاهدوا علماً؛ لأنه إدراك كاد يبلغ الجزم لانبنائه على ظاهر الحال، وإن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه.
(والسمع) : القوة التي تدرك بها الأصوات بآلة الأذن.
(والبصر) : القوة التي تدرك بها الأشخاص والألوان بآلة العين. وقدم السمع على البصر، لأن به إدراك العلوم وتعلم النطق، فلا يقرأ ولا يكتب إلاّ من كان ذا سمع وقتاً من حياته.
(والفؤاد) : القلب، والمراد به هنا العقل من حيث اعتقاده لشيء ما. وإطلاق لفظ الفؤاد والقلب على العقل مجاز مشهور. وكان تفيد ثبوت خبرها لاسمها، وكونها على صورة الماضي لا يدل على انقضاء ذلك الارتباط.
ومثل هذا التركيب يفيد في استعمال استحقاق الإسم للخير؛ فالجوارح مستحقة للسؤال، ويكون ذلك بالفعل يوم القيامة.
(والمسؤول) : الموجه إليه السؤال ليجيب.
(وأولئك) : إشارة إلى هذه الثلاثة (1) . وضمير كان عائد على كل، وضمير (عنه) عائد على ما، وضمير مسؤولاً عائد على ما عاد عليه ضمير كان.
والتقدير: كل واحد من هذه الثلاثة: السمع، والبصر، والفؤاد، كان مسؤولاً عما ليس لك به علم.
__________
=من قصيدة مضمومة الروي مطلعها:
أَلاَ أَيُّهَا الْقَلْبُ الطَّرُوبُ الْمُكَلَّفُ ... أَفِقْ رُبَّمَا يَنْأَى هَوَاكَ وَيُسْعَفُ
والكاشح: العدو المبغض. ويتقوّف: يتتغ الأثر.
(1) قال الطبري في تفسيره (8/ 81) : "وقال أولئك ولم يقل تلك، كما قال الشاعر:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وإنما قيل أولئك؛ لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث، وهذه وتلك للجمع الكثير، فالتذكير للقليل من باب أن كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث، لك التذكير للجمع الأول والتأنيث للجمع الثاني وهو الجمع الكثير، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء".[/rtl]
[rtl]العقل ميزة الإنسان وأداة علمه:
يمتاز الحيوان عن الجماد بالإدراك، ويمتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل، وعقله هو القوة الروحية التي يكون بها التفكير.
وتفكيره هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، وأدرك نسب بعضها لبعض إيجاباً وسلباً، وارتباط بعضها ببعض نفياً وثبوتاً. وترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك الارتباط على صورة مخصوصة، ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول.
فالتفكير اكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشف ما دام مفكراً.
ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير- امتاز عنه بالتنقل والتحول في أطوار حياته، ونظم معيشته بمكتشفاته ومستنبطاته: فمن المشي على الأقدام، إلى التحليق في الجو، مثلا. وبقي سائر الحيوان على الحال التي خُلق عليها دون أي انتقال.
وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان، ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها، ويستقيم تنظيمه لها- تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول، وقسمي العلوم والآداب.
وهذا كما كان العرب والمسلمون أيام، بل قرون مدنيتهم: عربوا كتب الأمم إلى ما عندهم، ونظروا وصححوا واستدركوا واكتشفوا؛ فأحيوا عصور علم من كانوا قبلهم، وأناروا بالعلم عمرهم. ومهدوا الطريق ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم؛ فأدوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها وماضيها ومستقبلها.
وكما نرى الغرب في مدنيته اليوم:
ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية وأدتها بأمانة.
وعرف علوم المسلمين ومكتشفاتهم، فجاء هو أيضاً بمكتشفاته العجيبة التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده وثمرة تفكيره ونظره فيها.
وقد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات جميع من تقدمه- كما كانت مكتشفات صدر هذا القرن أكثر من مكتشفات عجز (1) القرن الماضي- لتكاثر المعلومات؛ فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات، فتكثر المعلومات، فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها.
وهكذا يكون كل قرن- ما دام التفكير عَمَّالًا- أكثر معلومات ومكتشفات من الذي قبله.
فإذا قلت معلوماته قلت اكتشافاته. وهذا كما كان النوع الإنساني في أطواره الأولى.
واذا كثرت معلوماته وأهمل النظر فيها.. بقي حيث هو جامداً، ثم لا يلبث أن تتلاشى من
__________
(1) يريد بصدر هذا القرن وعجزه: نصفه الأول ونصفه الثاني، أو شطره الأول وشطره الثاني؛ كما يقال في شطر البيت الأول من الشعر: صدراً، وفي شطره الثاني: عَجزاً.[/rtl]
[rtl]ذهنه تلك المعلومات المهملة حتى تقل أو تضمحل؛ لأن المعلومات إذا لم تتعاهد بالنظر زالت من المحافظة شيئاً فشيئاً. وهذا هو طور الجمود الذي يصيب الأمم المتعلمة في أيامها الأخيرة، عندما تتوافر الأسباب العمرانية القاضية- بسنة الله- بسقوطها.
وإذا لم يصح إدراكه للحقائق، أو لنسبها، أو لم يستقم تنظيمه لها- كان ما يتوصل إليه بنظره خطأ في خطأ وفساداً في فساد. ولا ينشأ عن هذين إلاّ الضرر في المحسوس، والضلال في المعقول. وفي هذين هلاك الفرد والنوع جزئياً وكلياً من قريب أو من بعيد.
وهذا هو طور انحطاط الأمم، الانحطاط التام، وذلك عندما يرتفع منها العلم، ويفشو الجهل، وتنتشر فيها الفوضى بأنواعها، فتتخذ رؤوسا جهالاً لأمور دينها وأمور دنياها، فيقودونها بغير علم، فيَضلون ويُضلون، ويَهلكون ويُهلكون، ويفسدون ولا يصلحون (1) .
وما أكثر هذا- على أخذه في الزوال بإذن الله- في أمم الشرق والإسلام اليوم.
***
العلم وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات:
سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً: يستقيم باستقامته ويعوجُّ باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه؛ لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكيره ونظره.
وهذه الإدراكات الحاصلة عن التفكير والنظر ليست على درجة واحدة في القوة والضعف: فمنها ما هو قوي معبر، ومنها ما هو ضعيف ساقط عن الاعتبار.
فالأول: العلم وهو إدراك أمر على وجه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه، وهو علم الاعتبار.
ويليه الظن، وهو إدراك لأمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتملة، وهو معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلاّ ذاك. وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازا.
والثاني: الوهم، وهو إدراك الأمر على الوجه المرجوح.
والشك، وهو إدراك الأمر على وجهين، أو وجوه متساوية في الاحتمال، وكلا هذين لا يعول عليه.
__________
(1) روى البخاري في صحيحه (كتاب العلم، باب21، حديث80) عن انس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويثبت الجهل ويُشرب الخمر ويظهر الزنا» . وروى أيضا (كتاب العلم، باب34، حديث100) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله لا يقبض العلم انزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» .[/rtl]
[rtl]ولما كان الإنسان- بما فطر عليه من الضعف والاستعجال- كثيراً ما يبني أقواله وأفعاله واعتقاداته على شكوكه وأوهامه، وعلى ظنونه حيث لا يكتفي بالظن، وفي هذا البناء الضرر والضلال.. بين الله تعالى لعباده في محكم كتابه أنه لا يجوز لهم، ولا يصح منهم البناء لأقوالهم، وأعمالهم، واعتقاداتهم، إلاّ على إدراك واحد وهو العلم، فقال تعالى:
{ولا تقف ما ليس لك به علم} أي لا تتبع ما لا علم لك به فلا يكن منك اتباع بالقول، أو بالفعل، أو بالقلب، لما لا تعلم؛ فنهانا عن أن نعتقد إلاّ عن علم أو نفعل إلاّ عن علم، أو نقول إلاّ عن علم.
فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه، ونفكر، فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه، وإلاّ تركناه حيث هو، في دائرة الشكوك والأوهام، أو الظنون التي لا تعتبر.
ولا كل ما نسمعه أو نراه أو نتخيله نقوله. فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الصحيح (1) .
بل علينا أن نعرضه على محك الفكر؛ فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية، ومقتضيات الزمان، والمكان، والحال، فقد أمرنا أن نحدث الناس، بما يفهمون- وما حدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلاّ كان عليهم فتنة- وإلاّ طرحناه.
ولا كل فعل ظهر لنا نفعله. بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه، لنكون على بيّنة من خيره وشره، ونفعه وضره.
فما أمر تعالى إلاّ بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلاّ عما هو شر وفساد لهم، أو مؤد إلى ذلك.
وإذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها، فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلاّ تركناه.
فلا تكون عقائدنا- إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلاّ حقاً.
ولا تكون أقوالنا إلاّ صدقاً.
ولا تكون أفعالنا إلاّ سداداً.
ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم، إلاّ بإهمالهم، أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (المقدمة، باب 3، حديث 5) من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة مرفوعاً.[/rtl]
[rtl]المعنى:
نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هوما لنا به علم؛ أي لنا به علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق، وأقوال الصدق، وأفعال السداد.
فأما ما كان من عقائد الحق في أمر الدين، أو في أمر الدنيا، فلا حظر في اعتقاد شيء منه.
وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك.
وأما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل: إذ ليس كل قول صدق يقال.
فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته: لأنها غيبة محرمة، ولا يجابه بها في حضوره لأنها أذاة؛ إلاّ إذا ووجه بها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة، التي من أولها ألا تكون في الملأ.
وهكذا يحدث في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها، أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها، والتفصيل في مفاهيمها.
***
تفريع:
الفرع الأول:
من اتبع ما ليس به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين، أو في حق الناس، أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحظور ... فهو آثم من جهتين:
(1) اتباعه ما ليس له به علم. (2) واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور.
ومن اعتقد حقاً من غير علم، أو قال في الناس صدقاً عن غير علم، أو فعل غير محظور عن غير علم فإنه- مع ذلك- آثم من جهة واحدة، وهي اتباعه ما ليس له به علم، ومخالفته لمقتضى هذا النهي.
الفرع الثاني:
المقلد في العقائد الذي لا دليل عنده أصلاً، وإنما يقول: سمعت الناس يقولون فقلت. هذا آثم لاتباعه ما ليس له به علم. فأما إذا كان عنده دليل إجمالي كاستدلاله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الإثم، لتحصيل هذا الاستدلال له العلم.
والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها، يصدق عليه باعتبار الأدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم، ولكنه له علم من ناحية أخرى وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام، بما أمر تعالى من سؤال أهل العلم، وما رفع عن العاجز من الإصر (1) ، وهو من العامة العاجزين عن درك أدلة الأحكام.
__________
(1) الإصر: العهد المؤكد. وفي التنزبل العزيز: {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} .[/rtl]
[rtl]نصيحة على هذا الفرع:
أدلة العقائد مبسوطة في القرآن العظيم بغاية البيان، ونهاية التيسير. وأدلة الأحكام أصولها مذكورة كلها فيه، وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الذي أرسل ليبيّن للناس ما نزل إليهم.
فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية، وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم؛ إذ يجب على كل مكلف أن يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم. ولن يجد العامي الأدلة لعقائد سهلة قريبة إلاّ في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه.
أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الاصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه.
لقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه.
ومما ينبغي لأهل العلم أيضاً- إذا أفتوا أو أرشدوا- أن يذكروا أدلة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم، ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم ويذيقوهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائما على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب، وأثر في النفوس.
فإلى القرآن والسنة- أيها العلماء- إن كنتم للخير تريدون.
الفرع الثالث:
المجتهد إذا أفتى مستنداً إلى ما يفيد الظن من أخبار الآحاد، أو الأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدلالة- هل هو متبع لغير العلم؟
الجواب لا؛ بل هو متبع العلم، وذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: أن كل دليل يكون ظنياً بمفرده- يصير يقيناً إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده، وشهدت له الصواب، وهذا هو شأن المجتهدين في الأدلة الفردية.
الوجه الثاني: أن المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الدالة على اعتبارها.
الوجه الثالث: أن تلك الأدلة بمفردها تفيد الظن القوي، الذي يكون جزماً ويسمى- كما تقدم- علماً، فما اتبع المجتهد إلاّ العلم.[/rtl]
[rtl]الفرع الرابع:
لا نعتمد في إثبات العقائد والأحكام على ما ينسب للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الحديث الضعيف؛ لأنه ليس لنا علم به.
فإذا كان الحكم ثابتاً بالحديث الصحيح مثل قيام الليل، ثم وجدنا حديثاً في فضل قيام الليل بذكر ثواب عليه مما يرغب فيه- جاز عند الأكثر أن نذكره مع التنبيه على ضعفه الذي لم يكن شديداً على وجه الترغيب.
ولو لم يكن الحكم قد ثبت لما جاز الالتفات إليه، وهذا هو معنى قولهم:
(الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال) ، أي في ذكر فضائلها المرغبة فيها لا في أصل ثبوتها.
فما لم يثبت بالدليل الصحيح في نفسه، لا يثبت بما جاء من الحديث الضعيف في ذكر فضائله، باتفاق من أهل العلم أجمعين.
الفرع الخامس:
أحوال ما بعد الموت كلها من الغيب، فلا نقول فيها إلاّ ما كان لنا به علم: بما جاء في القرآن العظيم، أو ثبت في الحديث الصحيح.
وقد كثرت في تفاصيلها الأخبار من الروايات مما ليس بثابت، فلا يجوز الالتفات إلى شيء من ذلك.
ومثل هذا كل ما كان من عالم الغيب مثل الملائكة والجن والعرش، والكرسي، واللوح، والقلم، وأشراط الساعة، وما لم يصل إليه علم البشر.
***
سؤال الجوارح يوم الهول الأكبر:
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
من قال ما لم يسمع، سئل يوم القيامة سمعه فشهد عليه.
ومن قال: رأيت ولم ير سئل بصره فشهد عليه.
ومن قال: عرفت، ولم يعرف، أو اعتقد ما لم يعلم، سئل فؤاده فشهد عليه: لأنه في هذه الأحوال الثلاثة قد اتبع ما ليس له به علم. وهذه الشهادة كما قال تعالى:
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 2] .
هذه الثلاثة تسئل على وجوه منها ما تقدم، وهو الذي يرتبط به هذا الكلام بما تقدم من النهي.[/rtl]
ومنها سؤال السمع: لم سمع ما لا يحل؛ ولم لم يسمع ما يجب؟
وسؤال البصر: لم رأى ما لا يحل؛ وعن جمع أعمال البصر، من نظر البغض والاحتقار ونحو ذلك؟
وسؤال الفؤاد: عما اعتقد؛ وعما قصد؛ وجميع أعمال القلوب؟
فوائد ختام الآية:
فختام هذه الآية تأكيد للنهي السابق.
وتفصيل لطرق العلم، وتنبيه على لزوم حفظها واحدة واحدة.
وترهيب للإنسان من اتباع ما لم يعلم بما يؤول إليه أمره من فضيحة يوم القيامة، وخزي بشهادة جوارحه عليه.
فالله نسأل أن يجعلنا متبعين للعلم في جميع ما نعمل، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
(إيفاء الكيل) : إتمامه.
(والقسطاس) : هو الآلة التي يحصل بها الإيفاء من المكيال والميزان على تعدد أنواعهما.
(والمستقيم) : الصحيح الذي لا عيب فيه مما يجعله غير صالح للوفاء بالعدل، ككسره أو اعوجاجه أو أي خلل في تركيبه.
"والخير" النافع.
(والتأويل) : مصدر أول بمعنى رجع من آل يؤول أوْلًا، بمعنى: رجع، وهو هنا بمعنى المرجع والمآل، أي العاقبة.
الأمر بإيفاء الكيل من موضوع ما قبله: في الأمر بحفظ الأموال واحترام الملكية.
والمكيلات والموزونات مورد عظيم للتعامل، ومعرضة تعريضاً كبيراً للبخس، والتطفيف، وأخذ مال الناس بالزيادة، أو بالتنقيص: إما بفعل الشخص، وإما بفساد الآلة. فأمر تعالى بإيفاء الكيل، وأمر باختيار الآلة الصالحة لذلك، وبين أن الوفاء يكون عند الكيل بقوله: {إذا كلتم} ، على سبيل التأكيد حتى لا يتأخر الوفاء عن الكيل، بأن يكمل ما نقص، أو يرد ما زاد، وأن الذي يفصل الحق، ويطيب النفوس هو الوفاء وقت الكيل.
***
الترغيب في إيفاء الكيل:
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} :
رغب تعالى في الإيفاء بوجهين:
__________
(1) روي الحدبث في الصحاح بألفاظ وأسانبد مختلفة؛ ولفظه كما رواه البخاري في كتاب الأدب باب99 (حديث 6178) عن ابن عمر: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان» . قال الترمذي بعد أن رواه عن ابن عمر (كتاب السير، باب 28، حديث 1581) : «وفي الباب عن علي وعبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس» . والحديث بطرقه وأسانيده المختلفة رواه البخاري في الجزية باب 22، والأدب باب 99، والحيل باب 9، والفتن باب21. ومسلم في الجهاد حديث 8، 10- 17. وأبو داود في الجهاد باب150، والترمذي في السير باب 28، والفتن باب 26. وابن ماجة في الجهاد باب 42. والدارمي في البيوع باب11. وأحمد في المسند (1/ 411، 417، 441، 2/ 16، 29، 48، 59، 56. 70، 75، 96، 103، 112، 116، 123، 126، 142، 156، 3/ 7، 19، 35، 39، 41، 61، 64، 70، 84، 142، 150، 250، 270) .[/rtl]
[rtl](1/98)[/rtl]
وفيه حصول الثقة التي هي رأس مال التاجر.
وفيه حفظ نظام التعامل الذي هو ضروري للحياة. وهذه كلها وجوه نفع وخير.
الثاني: أنه (أحسن) عاقبة.
عاجلًا في نفس الشخص، وأخلاقه وفي عرضه، وسمعته، وفي سلامته من المطالبات، والمنازعات.
وآجلاً بحسن جزائه عند الله بما أعد للموفين من الأجر العظيم.
***
تركيب على هذا الترغيب:
هذان الوجهان اللذان رغب الله تعالى بهما في الوفاء، ينبغي للعاقل أن يجعلهما نصب عينيه في كل ما يتناوله ويعمله؛ فيقتصر على ما هو خير ينفعه في الحال، وحسن العاقبة بنفعه وعدم ضرره في المآل.
والله يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال، إنه الكريم الواسع النوال.
***
العلم والأخلاق
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
العلم الصحيح، والخلق المتين، هما الأصلان اللذان ينبني عليهما كمال الإنسان، وبهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات المتقدمة، من أصول التكليف؛ فهما أعظم مما تقدمهما من حيث توقفه عليهما. فجيء بهما بعده، ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى.
ولما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آيته على آيتها تقديم الأصل على الفرع.
آية العلم:
(القفو) : اتباع الأثر، تقول: قفوته أقفوه، إذا اتبعت أثره. والمتبع لأثر شخص موال في سيره لناحية قفاه؛ فهو يتبعه دون علم بوجهة ذهابه، ولا نهاية سيره.
فالقفو: اتباع عن غير علم، فهو أخص من مطلق الاتباع، ولذلك اختيرت مادته هنا.
ولكونه اتباعاً بغير علم، جاء فى كلام العرب بمعني قول الباطل قال جرير:
وَطَالَ حِذَارِي خِيفَةَ الْبَيْنِ وَالنَّوَى ... وَأُحْدُوثَةٌ مِنْ كَاشِحٍ مُتَقَوِّفِ (1)
__________
(1) البيت في ديوان جرير (ص281) وفيه "غربة" في موضع "خيفة" و"يتقوف" في موضع "متقوف"- لأن البيت=[/rtl]
[rtl](1/99)[/rtl]
فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن. هذا هو الأصل.
ويطلق العلم أيضاً على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جداً. كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام:
{وما شهدنا إلاّ بما علمنا وما كنا للغيب حافظين} [يوسف: 83] . فسمى القرآن إدراكهم لما شاهدوا علماً؛ لأنه إدراك كاد يبلغ الجزم لانبنائه على ظاهر الحال، وإن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه.
(والسمع) : القوة التي تدرك بها الأصوات بآلة الأذن.
(والبصر) : القوة التي تدرك بها الأشخاص والألوان بآلة العين. وقدم السمع على البصر، لأن به إدراك العلوم وتعلم النطق، فلا يقرأ ولا يكتب إلاّ من كان ذا سمع وقتاً من حياته.
(والفؤاد) : القلب، والمراد به هنا العقل من حيث اعتقاده لشيء ما. وإطلاق لفظ الفؤاد والقلب على العقل مجاز مشهور. وكان تفيد ثبوت خبرها لاسمها، وكونها على صورة الماضي لا يدل على انقضاء ذلك الارتباط.
ومثل هذا التركيب يفيد في استعمال استحقاق الإسم للخير؛ فالجوارح مستحقة للسؤال، ويكون ذلك بالفعل يوم القيامة.
(والمسؤول) : الموجه إليه السؤال ليجيب.
(وأولئك) : إشارة إلى هذه الثلاثة (1) . وضمير كان عائد على كل، وضمير (عنه) عائد على ما، وضمير مسؤولاً عائد على ما عاد عليه ضمير كان.
والتقدير: كل واحد من هذه الثلاثة: السمع، والبصر، والفؤاد، كان مسؤولاً عما ليس لك به علم.
__________
=من قصيدة مضمومة الروي مطلعها:
أَلاَ أَيُّهَا الْقَلْبُ الطَّرُوبُ الْمُكَلَّفُ ... أَفِقْ رُبَّمَا يَنْأَى هَوَاكَ وَيُسْعَفُ
والكاشح: العدو المبغض. ويتقوّف: يتتغ الأثر.
(1) قال الطبري في تفسيره (8/ 81) : "وقال أولئك ولم يقل تلك، كما قال الشاعر:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وإنما قيل أولئك؛ لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث، وهذه وتلك للجمع الكثير، فالتذكير للقليل من باب أن كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث، لك التذكير للجمع الأول والتأنيث للجمع الثاني وهو الجمع الكثير، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء".[/rtl]
[rtl](1/100)[/rtl]
يمتاز الحيوان عن الجماد بالإدراك، ويمتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل، وعقله هو القوة الروحية التي يكون بها التفكير.
وتفكيره هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، وأدرك نسب بعضها لبعض إيجاباً وسلباً، وارتباط بعضها ببعض نفياً وثبوتاً. وترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك الارتباط على صورة مخصوصة، ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول.
فالتفكير اكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشف ما دام مفكراً.
ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير- امتاز عنه بالتنقل والتحول في أطوار حياته، ونظم معيشته بمكتشفاته ومستنبطاته: فمن المشي على الأقدام، إلى التحليق في الجو، مثلا. وبقي سائر الحيوان على الحال التي خُلق عليها دون أي انتقال.
وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان، ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها، ويستقيم تنظيمه لها- تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول، وقسمي العلوم والآداب.
وهذا كما كان العرب والمسلمون أيام، بل قرون مدنيتهم: عربوا كتب الأمم إلى ما عندهم، ونظروا وصححوا واستدركوا واكتشفوا؛ فأحيوا عصور علم من كانوا قبلهم، وأناروا بالعلم عمرهم. ومهدوا الطريق ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم؛ فأدوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها وماضيها ومستقبلها.
وكما نرى الغرب في مدنيته اليوم:
ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية وأدتها بأمانة.
وعرف علوم المسلمين ومكتشفاتهم، فجاء هو أيضاً بمكتشفاته العجيبة التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده وثمرة تفكيره ونظره فيها.
وقد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات جميع من تقدمه- كما كانت مكتشفات صدر هذا القرن أكثر من مكتشفات عجز (1) القرن الماضي- لتكاثر المعلومات؛ فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات، فتكثر المعلومات، فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها.
وهكذا يكون كل قرن- ما دام التفكير عَمَّالًا- أكثر معلومات ومكتشفات من الذي قبله.
فإذا قلت معلوماته قلت اكتشافاته. وهذا كما كان النوع الإنساني في أطواره الأولى.
واذا كثرت معلوماته وأهمل النظر فيها.. بقي حيث هو جامداً، ثم لا يلبث أن تتلاشى من
__________
(1) يريد بصدر هذا القرن وعجزه: نصفه الأول ونصفه الثاني، أو شطره الأول وشطره الثاني؛ كما يقال في شطر البيت الأول من الشعر: صدراً، وفي شطره الثاني: عَجزاً.[/rtl]
[rtl](1/101)[/rtl]
وإذا لم يصح إدراكه للحقائق، أو لنسبها، أو لم يستقم تنظيمه لها- كان ما يتوصل إليه بنظره خطأ في خطأ وفساداً في فساد. ولا ينشأ عن هذين إلاّ الضرر في المحسوس، والضلال في المعقول. وفي هذين هلاك الفرد والنوع جزئياً وكلياً من قريب أو من بعيد.
وهذا هو طور انحطاط الأمم، الانحطاط التام، وذلك عندما يرتفع منها العلم، ويفشو الجهل، وتنتشر فيها الفوضى بأنواعها، فتتخذ رؤوسا جهالاً لأمور دينها وأمور دنياها، فيقودونها بغير علم، فيَضلون ويُضلون، ويَهلكون ويُهلكون، ويفسدون ولا يصلحون (1) .
وما أكثر هذا- على أخذه في الزوال بإذن الله- في أمم الشرق والإسلام اليوم.
***
العلم وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات:
سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً: يستقيم باستقامته ويعوجُّ باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه؛ لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكيره ونظره.
وهذه الإدراكات الحاصلة عن التفكير والنظر ليست على درجة واحدة في القوة والضعف: فمنها ما هو قوي معبر، ومنها ما هو ضعيف ساقط عن الاعتبار.
فالأول: العلم وهو إدراك أمر على وجه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه، وهو علم الاعتبار.
ويليه الظن، وهو إدراك لأمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتملة، وهو معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلاّ ذاك. وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازا.
والثاني: الوهم، وهو إدراك الأمر على الوجه المرجوح.
والشك، وهو إدراك الأمر على وجهين، أو وجوه متساوية في الاحتمال، وكلا هذين لا يعول عليه.
__________
(1) روى البخاري في صحيحه (كتاب العلم، باب21، حديث80) عن انس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويثبت الجهل ويُشرب الخمر ويظهر الزنا» . وروى أيضا (كتاب العلم، باب34، حديث100) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله لا يقبض العلم انزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» .[/rtl]
[rtl](1/102)[/rtl]
{ولا تقف ما ليس لك به علم} أي لا تتبع ما لا علم لك به فلا يكن منك اتباع بالقول، أو بالفعل، أو بالقلب، لما لا تعلم؛ فنهانا عن أن نعتقد إلاّ عن علم أو نفعل إلاّ عن علم، أو نقول إلاّ عن علم.
فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه، ونفكر، فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه، وإلاّ تركناه حيث هو، في دائرة الشكوك والأوهام، أو الظنون التي لا تعتبر.
ولا كل ما نسمعه أو نراه أو نتخيله نقوله. فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الصحيح (1) .
بل علينا أن نعرضه على محك الفكر؛ فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية، ومقتضيات الزمان، والمكان، والحال، فقد أمرنا أن نحدث الناس، بما يفهمون- وما حدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلاّ كان عليهم فتنة- وإلاّ طرحناه.
ولا كل فعل ظهر لنا نفعله. بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه، لنكون على بيّنة من خيره وشره، ونفعه وضره.
فما أمر تعالى إلاّ بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلاّ عما هو شر وفساد لهم، أو مؤد إلى ذلك.
وإذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها، فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلاّ تركناه.
فلا تكون عقائدنا- إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلاّ حقاً.
ولا تكون أقوالنا إلاّ صدقاً.
ولا تكون أفعالنا إلاّ سداداً.
ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم، إلاّ بإهمالهم، أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (المقدمة، باب 3، حديث 5) من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة مرفوعاً.[/rtl]
[rtl](1/103)[/rtl]
نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هوما لنا به علم؛ أي لنا به علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق، وأقوال الصدق، وأفعال السداد.
فأما ما كان من عقائد الحق في أمر الدين، أو في أمر الدنيا، فلا حظر في اعتقاد شيء منه.
وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك.
وأما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل: إذ ليس كل قول صدق يقال.
فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته: لأنها غيبة محرمة، ولا يجابه بها في حضوره لأنها أذاة؛ إلاّ إذا ووجه بها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة، التي من أولها ألا تكون في الملأ.
وهكذا يحدث في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها، أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها، والتفصيل في مفاهيمها.
***
تفريع:
الفرع الأول:
من اتبع ما ليس به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين، أو في حق الناس، أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحظور ... فهو آثم من جهتين:
(1) اتباعه ما ليس له به علم. (2) واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور.
ومن اعتقد حقاً من غير علم، أو قال في الناس صدقاً عن غير علم، أو فعل غير محظور عن غير علم فإنه- مع ذلك- آثم من جهة واحدة، وهي اتباعه ما ليس له به علم، ومخالفته لمقتضى هذا النهي.
الفرع الثاني:
المقلد في العقائد الذي لا دليل عنده أصلاً، وإنما يقول: سمعت الناس يقولون فقلت. هذا آثم لاتباعه ما ليس له به علم. فأما إذا كان عنده دليل إجمالي كاستدلاله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الإثم، لتحصيل هذا الاستدلال له العلم.
والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها، يصدق عليه باعتبار الأدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم، ولكنه له علم من ناحية أخرى وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام، بما أمر تعالى من سؤال أهل العلم، وما رفع عن العاجز من الإصر (1) ، وهو من العامة العاجزين عن درك أدلة الأحكام.
__________
(1) الإصر: العهد المؤكد. وفي التنزبل العزيز: {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} .[/rtl]
[rtl](1/104)[/rtl]
أدلة العقائد مبسوطة في القرآن العظيم بغاية البيان، ونهاية التيسير. وأدلة الأحكام أصولها مذكورة كلها فيه، وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الذي أرسل ليبيّن للناس ما نزل إليهم.
فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية، وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم؛ إذ يجب على كل مكلف أن يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم. ولن يجد العامي الأدلة لعقائد سهلة قريبة إلاّ في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه.
أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الاصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه.
لقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه.
ومما ينبغي لأهل العلم أيضاً- إذا أفتوا أو أرشدوا- أن يذكروا أدلة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم، ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم ويذيقوهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائما على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب، وأثر في النفوس.
فإلى القرآن والسنة- أيها العلماء- إن كنتم للخير تريدون.
الفرع الثالث:
المجتهد إذا أفتى مستنداً إلى ما يفيد الظن من أخبار الآحاد، أو الأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدلالة- هل هو متبع لغير العلم؟
الجواب لا؛ بل هو متبع العلم، وذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: أن كل دليل يكون ظنياً بمفرده- يصير يقيناً إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده، وشهدت له الصواب، وهذا هو شأن المجتهدين في الأدلة الفردية.
الوجه الثاني: أن المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الدالة على اعتبارها.
الوجه الثالث: أن تلك الأدلة بمفردها تفيد الظن القوي، الذي يكون جزماً ويسمى- كما تقدم- علماً، فما اتبع المجتهد إلاّ العلم.[/rtl]
[rtl](1/105)[/rtl]
لا نعتمد في إثبات العقائد والأحكام على ما ينسب للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الحديث الضعيف؛ لأنه ليس لنا علم به.
فإذا كان الحكم ثابتاً بالحديث الصحيح مثل قيام الليل، ثم وجدنا حديثاً في فضل قيام الليل بذكر ثواب عليه مما يرغب فيه- جاز عند الأكثر أن نذكره مع التنبيه على ضعفه الذي لم يكن شديداً على وجه الترغيب.
ولو لم يكن الحكم قد ثبت لما جاز الالتفات إليه، وهذا هو معنى قولهم:
(الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال) ، أي في ذكر فضائلها المرغبة فيها لا في أصل ثبوتها.
فما لم يثبت بالدليل الصحيح في نفسه، لا يثبت بما جاء من الحديث الضعيف في ذكر فضائله، باتفاق من أهل العلم أجمعين.
الفرع الخامس:
أحوال ما بعد الموت كلها من الغيب، فلا نقول فيها إلاّ ما كان لنا به علم: بما جاء في القرآن العظيم، أو ثبت في الحديث الصحيح.
وقد كثرت في تفاصيلها الأخبار من الروايات مما ليس بثابت، فلا يجوز الالتفات إلى شيء من ذلك.
ومثل هذا كل ما كان من عالم الغيب مثل الملائكة والجن والعرش، والكرسي، واللوح، والقلم، وأشراط الساعة، وما لم يصل إليه علم البشر.
***
سؤال الجوارح يوم الهول الأكبر:
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
من قال ما لم يسمع، سئل يوم القيامة سمعه فشهد عليه.
ومن قال: رأيت ولم ير سئل بصره فشهد عليه.
ومن قال: عرفت، ولم يعرف، أو اعتقد ما لم يعلم، سئل فؤاده فشهد عليه: لأنه في هذه الأحوال الثلاثة قد اتبع ما ليس له به علم. وهذه الشهادة كما قال تعالى:
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 2] .
هذه الثلاثة تسئل على وجوه منها ما تقدم، وهو الذي يرتبط به هذا الكلام بما تقدم من النهي.[/rtl]
[rtl](1/106)[/rtl]
وسؤال البصر: لم رأى ما لا يحل؛ وعن جمع أعمال البصر، من نظر البغض والاحتقار ونحو ذلك؟
وسؤال الفؤاد: عما اعتقد؛ وعما قصد؛ وجميع أعمال القلوب؟
فوائد ختام الآية:
فختام هذه الآية تأكيد للنهي السابق.
وتفصيل لطرق العلم، وتنبيه على لزوم حفظها واحدة واحدة.
وترهيب للإنسان من اتباع ما لم يعلم بما يؤول إليه أمره من فضيحة يوم القيامة، وخزي بشهادة جوارحه عليه.
فالله نسأل أن يجعلنا متبعين للعلم في جميع ما نعمل، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]آية الأخلاق
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) } [الإسراء: 37 و38 و39] .
(المرح) : مشية فيها خفة ونشاط، واختيال، ناشئة عن شدة فرح بالنفس. تقول العرب: أمرح الكلأ الفرس فمرح فهو فرس مرح وممراح، إذا شبع فأخذ يمشي بخفة ونشاط واختيال. ويقال: مرح الرجل إذا اختال في مشيته ونظر في عطفيه، ولا يكون ذلك إلاّ لفرحه بنفسه وإعجابه بها.
و (خرق الأرض) : ثقبها.
و (الطول) : ارتفاع القامة.
نصب مرحاً بتمش؛ لأنه متضمن له تضمن الكلي لجزئيه؛ إذ المرح جزئي من جزئيات المشي، فكأنه قال: لا تمرح مرحاً. ونظيره قول الشاعر:[/rtl]
[rtl]يُعْجِبُهُ السَّخُونُ والْبَرُودُ ... وَالتَّمْرُ، حُبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ (1)
فنصب حباً بيعجب؛ لأن الإعجاب متضمن للحب.
أو نصب على أنه حال كجاءني زيد ركضاً.
ونصب طولًا على أنه تمييز، أي من جهة الطول. والتقدير: ولن يبلغ طول الجبال.
المعنى
حب الإنسان لنفسه غريزة فيه، وذلك يحمله على الإعجاب والفرح بها، وبكل ما يصدر عنها. ويستخفه ذلك حتى يتركه يمشي بين الناس مختالًا متبختراً، وهذه هي مشية المرح التي نهى الله تعالى في هذه الآية عنها.
ولما كانت هي فرعاً عن الإعجاب بالنفس والفرح بها، فالنهي منصبٌّ على أصلها كما انصبَّ عليها.
ولما كانت هذه العلة ناشئة عن علة العجب، أعقب الله تعالى بيان الداء الذي نهى بذكر الدواء الذي يقلعه من أصله، فقال تعالى:
{إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} . فذكر الإنسان بضعفه بين مخلوقين عظيمين من فوقه ومن تحته، فإذا ضرب برجليه الأرض في مرحه فهو لا يستطيع خرقها. وإذا تطاول بعنقه في اختياله فهو لن يبلغ طول الجبال، فقد أحاط به العجز من ناحيتيه.
وذكر الإنسان لضعفه وعجزه أنجع دواء لمرض إعجابه بنفسه.
نعم، الإنسان أعظم من الأرض والجبال بعقله، ولكنه لو سار على نور عقله لما مشى في الأرض مرحاً، لأن عقله يبصره بعيوب نفسه، ونقائص بشريته، فلا يدعه يعجب فلا يكون من المرحين، فما مرح إلاّ وهو محروم من نور العقل مفتون بمادة الجسم، فذكر بضعف هذا الجسم وصغارته.
العجب أصل الهلاك:
إذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقائصها، فلا يسعى في إزالتها، ولهى عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها؛ فعاش ولا أخلاق له، مصدراً لكل شر، بعيدا عن كل خير.
وعن العجب بالنفس ينشأ الكبر على الناس، والإحتقار لهم، ومن احتقر الناس لم ير لهم
__________
(1) الرجز لرؤبة بن العجاج، وهو في ملحق ديوانه [ص:172] والمقاصد النحوية (3/ 45) . والرجز بلا نسبة في شرح الأشموني (1/ 210) وشرح المفصل (1/ 112) واللمع في العربية (ص 13) . وفيه شاهد نحوي، وهو قوله: «يعجبه.. حبًا» حيث جاء المفعول المطلق مصدرا من غير اشتقاق الفعل، أي من غير لفظ الفعل، ولكن من معناه.[/rtl]
[rtl]حقاً، ولم يعتقد لهم حرمة، ولم يراقب فيهم إلاًّ (1) ولا ذمة، وكان عليهم- مثل ما كان على نفسه- أظلم الظالمين.
وإبليس اللعين- نعوذ بالله تعالى منه- كان أصل هلاكه، من عجبه بنفسه، وأنه خلق من النار، وأنه خير من آدم، فتكبر عليه فكان من الظالمين الهالكين.
ترك العجب شرط في حسن وكمال الأخلاق:
تربية النفوس تكون بالتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل.
والعجب هو أساس الرذائل، فأول الترك تركه.
وهو المانع من اكتساب الفضائل فشرط وجودها تركه كذلك.
ومن لم يكن معجباً بنفسه، كان بمدرجة التخلق بمحاسن الأخلاق والتنزه عن نقائصها، لأن الإنسان مجبول على محبة الكمال وكراهة النقص، فإذا سلم من العجب فإن تلك الجبلة (2) تدعوه إلى ذلك التخلق والتنزه، فإذا نبه على نقصه لم تأخذه العزة، وإذا رغب في الكمال كانت له إليه هزة، فلا يزال بين التذكيرات الإلهية، والجبلة الإنسانية الخلقية، يتهذب، ويتشذب، حتى يبلغ ما قدر له من كمال.
ولهذه المعاني التي تتصل بتفسير هذه الآية الكريمة- وهي أصول في علم الأخلاق- عَنْوَنَّا عليها بآية الأخلاق.
***
تأكيد الأوامر والنواهي المتقدمة بطريق الإيجاز:
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
إن الغاية التي يسعى إليها كل عاقل هي السعادة الحقة، وإن التكاليف الإسلامية كلها شرعت لسوقه إليها؛ ولما كانت أصولها قد تضمنتها الآيات السابقة أمراً ونهياً بطريق الإطناب والتفصيل؛ أعيد الحديث عنها في هذه الآية بطريق الإيجاز والإجمال، قصداً للتأكيد وتقرير هذه الأصول العظيمة في النفوس، مع اشتمال هذه الآية الموجزة على ما لم يشتمل عليه ما تقدمها. وهذا من بديع التأكيد، لاشتماله على السابق مع شيء جديد.
(السىّء) : هو القبيح، والقبائح المنهي عنها فيما تقدم قبيحة لذاتها، ولنهي الله تعالى عنها.
و (المكروه) هو المبغوض المسخوط عليه، وهو ضد المحبوب المرضي عنه.
والمحاسن محبوبة لله أمر بها ويثيب عليها ويرضى على فاعلها، والمقابح مبغوضة له تعالى، نهى عنها، ويعاقب عليها، ويسخط على مرتكبها.
__________
(1) الإلّ: العهد. وفي التنزيل العزيز: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} .
(2) الجبلة (بكسر الجيم والباء وتشديد اللام) : الخِلْقة. وفي التنزيل العزيز: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} والجبلة في هذه الآية الكريمة بمعنى: الأمَّة. انظر (المعجم الوسيط: [ص:106] ) .[/rtl]
[rtl]وليس المكروه بمعنى عدم المراد، لأنه لا يكون في ملكه تعالى ما لا يريد، وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله.
وليس بمعنى المنهي عنه نهياً غير جازم لأن ذلك اصطلاح فقهي حادث بعد نزول القرآن، والقرآن لا يفسر الحادثة بالاصطلاحات.
(ذلك) : إشارة إلى جميع ما تقدم من المأمورات والمنهيات على قراءة (سيئه) فالمكروه هو سىء ما تقدم، وهو القبائح المنهي عنها.
أو إشارة إلى خصوص القبائح على قراءة: (سيئة) .
و (مكروهاً) : خبر كان على القراءة الأولى، وخبر ثان على القراءة الثانية.
وتقدير الكلام على القراءة الأولى:
كل ذلك المذكور كان سيئه- وهو المنهيات- مكروهاً عند ربك. ومفهومه: أن حسنه- وهو المأمورات- محبوب عنده.
وعلى الثانية كل ذلك المنهي عنه كان سيئه مكروهاً عند ربك. ومفهومه: أن المأمور به حسن عنده.
المعنى:
عرف تعالى عباده في هذه الآية بمنطوقها ومفهومها- على ما تقدم في التقرير- أن ما أمرهم به هو الحسن المحبوب، وأن ما نهاهم عنه هو القبيح المبغوض.
فعلموا من ذلك أن أوامر الشرع ونواهيه هي على مقتضى العقل الصحيح والفطرة السليمة، وأنه- تعالى- لا يأمر بقبيح ولا ينهى عن حسن.
وفي علمهم بهذا ما يحملهم على الامتثال ويرغبهم فيه. فإن الحسن تميل إليه النفوس، والقبيح تنفر منه.
وفي قوله تعالى: {عند ربك} غاية الترغيب في الحسن والتنفير من القبيح، فإن الحسن جد الحسن ما كان حسناً عند الله تعالى، والقبيح جد القبيح ما كان قبيحا عنده. وفي اسم الرب تنبيه على أن العلم بالحسن والقبيح على وجه التفصيل والتدقيق- حتى يكون المأمور به حسناً قطعاً، والمنهي عنه في قبيحاً قطعاً- إنما هو قوله تعالى، وأن أوامره ونواهيه- تعالى- الجارية على مقتضى ذلك هي من مقتضى ربوبيته- تعالى- وتدبيره لخلقه.
***
مكانة هذه الأصول علما وعملاً:
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} :
لما بينت الأصول تمام البيان، وقررت غاية التقرير- جاءت هذه الآية للتنويه بها لحث العباد على تحصيل ما فيها من علم، والتحلي بما دعت إليه من عمل.[/rtl]
[rtl]الحكمة هي العلم الصحيح، والعمل المتقن المبني على ذلك العلم.
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: «هي الفقه في دين الله والعمل به» .
والقرآن حكمة لدلالته على ذلك كله.
(ذلك) : إشارة إلى ما تضمنته الآيات المتقدمة من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} ومن في "مما" تبعيضية. ومن في "من الحكمة" بيانية، مجرورها بين المبهم، وهو ما في قوله "مما". والتقدير: ذلك الذي تقدم بعض الحكمة التي أوحاها إليك ربك.
المعنى:
هذا ضرب آخر من تأكيد العمل بما تقدم، والترغيب فيه: فبين تعالى أن ما تضمنته الآيات المتقدمة كله حكمة، فالمتحقق بما فيها من علم، والمتحلي بما حثت عليه من أعمال، هو الحكيم الذي كمل من جهته العلمية وجهته العملية، وتلك أعلى رتب الكمال للإنسان.
وفي ذكر أنها بعض من كل، تنبيه على جلالة كلها، وهو عموم ما أوحى الله تعالى إلى نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وتنبيه أيضاً على أن شرح هذه الأصول فيما أفادته من علم وعمل، والتفقه فيها يرجع فيه إلى الوحي، ويعتمد في ذلك على بيانه.
وفيه بيان أن الوحي هو المرجع الوحيد لبيان دين الله تعالى وشرعه، وما أنزله لعباده من الحكمة، وذلك الوحي هو القرآن العظيم، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم.
***
ختام الآيات:
{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} .
لما كانت هذه الآيات في أصول الهداية، وأساس الهداية وشرطها هو التوحيد: ختمت الآيات بالنهي عن الشرك كما بدأت به.
(الإلقاء) : هو الطرح.
و (الملوم) : هو الذي يقال له لم فعلت القبيح؛ وما حملك عليه؛ ونحو هذا ...
و (المدحور) : المبعد. وانتصبا على الحال.
المعنى:
نهى تعالى عن الشرك، وأن يعبد معه سواه، فالعبادة بالقلب واللسان والجوارح لا تكون إلاّ له.
وكما حذر في فاتحة الآيات بقعود المشرك في الدنيا مذموماً بالشرك الذي ارتكبه مخذولاً لا[/rtl]
[rtl]ناصر له- كذلك حذر هنا بمآل المشرك في آخرته، بإلقائه في جهنم، ملوماً على ما قدم، مطروداً مبعداً في دركات الجحيم.
***
نظرة عامة في الآيات المتقدمة:
قد تضمنت هذه الآيات على قلّتها: الأصول التي عليها تتوقف حياة النوع البشري وسعادته:
من حفظ النفوس والعقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... } .
والأنساب، والأموال، والحقوق، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ... } ، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} ..
والأعراض: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا..} ، {وَلَا تَقْفُ ... } ...
والدين الذي هو عمدة ذلك كله وفي حفظه حفظ لجميعها.
وفي افتتاح الآيات بقوله تعالى:
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} . وختمها بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} ، بيان من الله تعالى لخلقه، بأن الدين هو أصل هذه الكمالات كلها، وهو سياج وقايتها، وسور حفظها، وأن التوحيد هو ملاك (1) الأعمال وقوامها، ومنه بدايتها وإليه نهايتها.
وكذلك المسلم الموفق يبتدي حياته بكلمة التوحيد حتى يموت عليها.
فالله نسأل- كما منَّ علينا بها في البداية- أن يمن علينا بها في النهاية.
اللهم هذا لنا، وللمسلمين أجمعين.
القَول الحسَنُ
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) } [الإسراء:53 و 54] .
تمهيد:
اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان.
__________
(1) مَلاك الأمر ومِلاكه (بفتح الميم وكسرها) : قوامه وخلاصته، أو عنصره الجوهري (المعجم الوسيط: [ص:886] ) .[/rtl]
[rtl]والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، وبه يتحاجون ويتفاضلون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاحقت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقّى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات.
فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه. وبريد عقله وواسطة تفاهمه.
فإذا حسن قويت روابط الإلفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم. وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي في التعاون والتآزر.
ويعني العالم من وراء ذلك تقرر الأمن واطراد العمران.
وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك:
فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستعداد والتعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل.
وفي ذلك كل الشر لأبناء البشر.
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم- هو القول الحسن.
ولهذا أمر الله تعالى نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن، فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين:
الأول: أنهم أضيفوا إليه وهذه إضافة شرف لا يكون إلاّ للمؤمنين به.
الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا أصل الإيمان.
و (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هي الكلمة الطيبة، والمقالة التي هي أحسن من غيرها فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس، حتى ينادي بعضهم بعضاً بأحب الأسماء إليه.
وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء.
وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون أذاية لخصمة، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به.[/rtl]
[rtl]وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلة، فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس، خالية من السب والقدح، ومن الغمز والتعريض، ومن أدق تلميح إلى شيء قبيح.
وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم، أو بينهم وبين غيرهم.
وقد جاء في الصحيح: «أن رهطا من اليهود دخلوا على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: السام (1) عليكم ففهمتها عائشة- رضي الله عنها- فقالت: وعليكم السام واللعنة. فقال لها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقالت: ألم تسمع ما قالوا؛ فقال: قد قلت: وعليكم» (2) .
فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله وعليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- القولة التي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
وأفاد قوله تعالى: {أحسن} بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام.
فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال، ولو كلمة واحدة:
فرب كلمة واحدة أوقدت حرباً، وأهلكت شعباً، أو شعوباً.
ورب كلمة واحدة أنزلت أمناً وأنقذت أمة أو أمما.
وقد بين لنا النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: «الكلمة الطيبة صدقة» (3) و «اتقوا النار ولو بكلمة طيبة» (4) .
وهذا الأدب الإسلامي- وهو التروي عند القول، واجتناب السيء واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد وهنائهم. وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب،
__________
(1) السام: الموت.
(2) أخرجه البخاري في الأدب باب 35 و38، والجهاد باب 98، والاستئذان باب 22، والدعوات باب 59 و63. ومسلم في السلام حديث 10 و11 و13. والترمذي في السير باب 40، والاستئذان باب 12 و13، وتفسير سورة 68 باب 3. والدارمي في الاستئذان باب 7. وأحمد في المسند (114/2، 170، 221، 3/ 140، 104، 210، 214، 218، 224، 241، 262، 289، 383، 37/6، 116، 134، 135، 199، 229) .
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الجهاد باب 128. ومسلم في الزكاة حديث 56. وأحمد في المسند (6/ 312، 374) .
(4) رواه البخاري في الأدب باب 34، من حديث عدي بن حاتم عن رسول ال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة» .[/rtl]
[rtl]وتباعدت المذاهب حتى صار المسلم عدو المسلم- والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: «المسلم أخو المسلم» (1) - إلاّ بتركهم هذا الأدب، وتركهم للتروي عند القول والتعمد السيء، بل للأسوأ في بعض الأحيان.
***
التحذير من كيد العدو الفتان:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} .
(نزغ الشيطان) وسوسته ليهيج الشر والفساد، وعداوته باعتقاده البغيض، وسعيه في جلب الشر والضر، وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء، ويهيج غضبه ليقولها، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتد المراء ويقع الشر والفساد.
ولون آخر من نزغه، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال السوء، ويلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح حتى يقولها. فإذا قالها عاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته، ويهيج غضبه، حتى يثور فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا، فيتباعدون عما فيه احتمال السوء فضلاً عن صريحه، ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له، ويتجاوزون عن سيئة الصريح ما أمكن التجاوز.
المحاسبة على الحال والظاهر والتفويض إلى الله تعالى في العواقب والسرائر:
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} .
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حالة المناظرة والمجادلة.
وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة، فما أكثر ما يضلل بعض بعضاً أو يفسقه أو يكفره، فيكون ذلك سبباً لزيادة شقة الخلاف اتساعاً، وتمسك كل برأيه ونفوره من قول خصمه. دع ما يكون عن ذلك من البغض والشر.
فذكر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، بحكمته وعدله:
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري في المظالم باب 3، وأبو داود في الأدب باب 38، والترمذي في الحدود باب 3، وأحمد في المسند (2/ 9، 68) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه مسلم في البر والصلة والآداب حيث 32، والترمذي في البر باب 18، من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد في المسند (5/ 24، 71) من حديث رجل من بني سليط.[/rtl]
فلا يقطع لأحد بأنه من أهل النار لجهل العاقبة سواء كان من أهل الكفر، أو كان من أهل الفسق، أو كان من أهل الابتداع.
كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك، إلاّ من جاء النص بهم.
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته: إنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر، وسوء عاقبته.
ولا يقال للمبتدع: يا ضال، وإنما تبين البدعة وقبحها.
ولا يقال لمرتكب الكبيرة: يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها.
فتقبح القبائح والرذائل في نفسها، وتجتنب أشخاص مرتكبها.
إذ رب شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال. ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله تعالى- على عقبه في هاوية الوبال. وخاطب الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أنه لم يرسله وكيلاً على الخلق، حفيظاً عليهم، كفيلاً بأعمالهم (1) .
فما عليه إلاّ تبليغ الدعوة، ونصرة الحق بالحق، والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم.
خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به، من قول التي هي أحسن للموافق والمخالف.
فلا يحملنّهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلها، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه؛ فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه.
أحيانا الله عليهما، وأماتنا عليهما، وحشرنا في زمرة أهلهما. آمين.
***
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) } [الإسراء: 37 و38 و39] .
(المرح) : مشية فيها خفة ونشاط، واختيال، ناشئة عن شدة فرح بالنفس. تقول العرب: أمرح الكلأ الفرس فمرح فهو فرس مرح وممراح، إذا شبع فأخذ يمشي بخفة ونشاط واختيال. ويقال: مرح الرجل إذا اختال في مشيته ونظر في عطفيه، ولا يكون ذلك إلاّ لفرحه بنفسه وإعجابه بها.
و (خرق الأرض) : ثقبها.
و (الطول) : ارتفاع القامة.
نصب مرحاً بتمش؛ لأنه متضمن له تضمن الكلي لجزئيه؛ إذ المرح جزئي من جزئيات المشي، فكأنه قال: لا تمرح مرحاً. ونظيره قول الشاعر:[/rtl]
[rtl](1/107)[/rtl]
فنصب حباً بيعجب؛ لأن الإعجاب متضمن للحب.
أو نصب على أنه حال كجاءني زيد ركضاً.
ونصب طولًا على أنه تمييز، أي من جهة الطول. والتقدير: ولن يبلغ طول الجبال.
المعنى
حب الإنسان لنفسه غريزة فيه، وذلك يحمله على الإعجاب والفرح بها، وبكل ما يصدر عنها. ويستخفه ذلك حتى يتركه يمشي بين الناس مختالًا متبختراً، وهذه هي مشية المرح التي نهى الله تعالى في هذه الآية عنها.
ولما كانت هي فرعاً عن الإعجاب بالنفس والفرح بها، فالنهي منصبٌّ على أصلها كما انصبَّ عليها.
ولما كانت هذه العلة ناشئة عن علة العجب، أعقب الله تعالى بيان الداء الذي نهى بذكر الدواء الذي يقلعه من أصله، فقال تعالى:
{إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} . فذكر الإنسان بضعفه بين مخلوقين عظيمين من فوقه ومن تحته، فإذا ضرب برجليه الأرض في مرحه فهو لا يستطيع خرقها. وإذا تطاول بعنقه في اختياله فهو لن يبلغ طول الجبال، فقد أحاط به العجز من ناحيتيه.
وذكر الإنسان لضعفه وعجزه أنجع دواء لمرض إعجابه بنفسه.
نعم، الإنسان أعظم من الأرض والجبال بعقله، ولكنه لو سار على نور عقله لما مشى في الأرض مرحاً، لأن عقله يبصره بعيوب نفسه، ونقائص بشريته، فلا يدعه يعجب فلا يكون من المرحين، فما مرح إلاّ وهو محروم من نور العقل مفتون بمادة الجسم، فذكر بضعف هذا الجسم وصغارته.
العجب أصل الهلاك:
إذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقائصها، فلا يسعى في إزالتها، ولهى عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها؛ فعاش ولا أخلاق له، مصدراً لكل شر، بعيدا عن كل خير.
وعن العجب بالنفس ينشأ الكبر على الناس، والإحتقار لهم، ومن احتقر الناس لم ير لهم
__________
(1) الرجز لرؤبة بن العجاج، وهو في ملحق ديوانه [ص:172] والمقاصد النحوية (3/ 45) . والرجز بلا نسبة في شرح الأشموني (1/ 210) وشرح المفصل (1/ 112) واللمع في العربية (ص 13) . وفيه شاهد نحوي، وهو قوله: «يعجبه.. حبًا» حيث جاء المفعول المطلق مصدرا من غير اشتقاق الفعل، أي من غير لفظ الفعل، ولكن من معناه.[/rtl]
[rtl](1/108)[/rtl]
وإبليس اللعين- نعوذ بالله تعالى منه- كان أصل هلاكه، من عجبه بنفسه، وأنه خلق من النار، وأنه خير من آدم، فتكبر عليه فكان من الظالمين الهالكين.
ترك العجب شرط في حسن وكمال الأخلاق:
تربية النفوس تكون بالتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل.
والعجب هو أساس الرذائل، فأول الترك تركه.
وهو المانع من اكتساب الفضائل فشرط وجودها تركه كذلك.
ومن لم يكن معجباً بنفسه، كان بمدرجة التخلق بمحاسن الأخلاق والتنزه عن نقائصها، لأن الإنسان مجبول على محبة الكمال وكراهة النقص، فإذا سلم من العجب فإن تلك الجبلة (2) تدعوه إلى ذلك التخلق والتنزه، فإذا نبه على نقصه لم تأخذه العزة، وإذا رغب في الكمال كانت له إليه هزة، فلا يزال بين التذكيرات الإلهية، والجبلة الإنسانية الخلقية، يتهذب، ويتشذب، حتى يبلغ ما قدر له من كمال.
ولهذه المعاني التي تتصل بتفسير هذه الآية الكريمة- وهي أصول في علم الأخلاق- عَنْوَنَّا عليها بآية الأخلاق.
***
تأكيد الأوامر والنواهي المتقدمة بطريق الإيجاز:
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
إن الغاية التي يسعى إليها كل عاقل هي السعادة الحقة، وإن التكاليف الإسلامية كلها شرعت لسوقه إليها؛ ولما كانت أصولها قد تضمنتها الآيات السابقة أمراً ونهياً بطريق الإطناب والتفصيل؛ أعيد الحديث عنها في هذه الآية بطريق الإيجاز والإجمال، قصداً للتأكيد وتقرير هذه الأصول العظيمة في النفوس، مع اشتمال هذه الآية الموجزة على ما لم يشتمل عليه ما تقدمها. وهذا من بديع التأكيد، لاشتماله على السابق مع شيء جديد.
(السىّء) : هو القبيح، والقبائح المنهي عنها فيما تقدم قبيحة لذاتها، ولنهي الله تعالى عنها.
و (المكروه) هو المبغوض المسخوط عليه، وهو ضد المحبوب المرضي عنه.
والمحاسن محبوبة لله أمر بها ويثيب عليها ويرضى على فاعلها، والمقابح مبغوضة له تعالى، نهى عنها، ويعاقب عليها، ويسخط على مرتكبها.
__________
(1) الإلّ: العهد. وفي التنزيل العزيز: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} .
(2) الجبلة (بكسر الجيم والباء وتشديد اللام) : الخِلْقة. وفي التنزيل العزيز: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} والجبلة في هذه الآية الكريمة بمعنى: الأمَّة. انظر (المعجم الوسيط: [ص:106] ) .[/rtl]
[rtl](1/109)[/rtl]
وليس بمعنى المنهي عنه نهياً غير جازم لأن ذلك اصطلاح فقهي حادث بعد نزول القرآن، والقرآن لا يفسر الحادثة بالاصطلاحات.
(ذلك) : إشارة إلى جميع ما تقدم من المأمورات والمنهيات على قراءة (سيئه) فالمكروه هو سىء ما تقدم، وهو القبائح المنهي عنها.
أو إشارة إلى خصوص القبائح على قراءة: (سيئة) .
و (مكروهاً) : خبر كان على القراءة الأولى، وخبر ثان على القراءة الثانية.
وتقدير الكلام على القراءة الأولى:
كل ذلك المذكور كان سيئه- وهو المنهيات- مكروهاً عند ربك. ومفهومه: أن حسنه- وهو المأمورات- محبوب عنده.
وعلى الثانية كل ذلك المنهي عنه كان سيئه مكروهاً عند ربك. ومفهومه: أن المأمور به حسن عنده.
المعنى:
عرف تعالى عباده في هذه الآية بمنطوقها ومفهومها- على ما تقدم في التقرير- أن ما أمرهم به هو الحسن المحبوب، وأن ما نهاهم عنه هو القبيح المبغوض.
فعلموا من ذلك أن أوامر الشرع ونواهيه هي على مقتضى العقل الصحيح والفطرة السليمة، وأنه- تعالى- لا يأمر بقبيح ولا ينهى عن حسن.
وفي علمهم بهذا ما يحملهم على الامتثال ويرغبهم فيه. فإن الحسن تميل إليه النفوس، والقبيح تنفر منه.
وفي قوله تعالى: {عند ربك} غاية الترغيب في الحسن والتنفير من القبيح، فإن الحسن جد الحسن ما كان حسناً عند الله تعالى، والقبيح جد القبيح ما كان قبيحا عنده. وفي اسم الرب تنبيه على أن العلم بالحسن والقبيح على وجه التفصيل والتدقيق- حتى يكون المأمور به حسناً قطعاً، والمنهي عنه في قبيحاً قطعاً- إنما هو قوله تعالى، وأن أوامره ونواهيه- تعالى- الجارية على مقتضى ذلك هي من مقتضى ربوبيته- تعالى- وتدبيره لخلقه.
***
مكانة هذه الأصول علما وعملاً:
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} :
لما بينت الأصول تمام البيان، وقررت غاية التقرير- جاءت هذه الآية للتنويه بها لحث العباد على تحصيل ما فيها من علم، والتحلي بما دعت إليه من عمل.[/rtl]
[rtl](1/110)[/rtl]
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: «هي الفقه في دين الله والعمل به» .
والقرآن حكمة لدلالته على ذلك كله.
(ذلك) : إشارة إلى ما تضمنته الآيات المتقدمة من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} ومن في "مما" تبعيضية. ومن في "من الحكمة" بيانية، مجرورها بين المبهم، وهو ما في قوله "مما". والتقدير: ذلك الذي تقدم بعض الحكمة التي أوحاها إليك ربك.
المعنى:
هذا ضرب آخر من تأكيد العمل بما تقدم، والترغيب فيه: فبين تعالى أن ما تضمنته الآيات المتقدمة كله حكمة، فالمتحقق بما فيها من علم، والمتحلي بما حثت عليه من أعمال، هو الحكيم الذي كمل من جهته العلمية وجهته العملية، وتلك أعلى رتب الكمال للإنسان.
وفي ذكر أنها بعض من كل، تنبيه على جلالة كلها، وهو عموم ما أوحى الله تعالى إلى نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وتنبيه أيضاً على أن شرح هذه الأصول فيما أفادته من علم وعمل، والتفقه فيها يرجع فيه إلى الوحي، ويعتمد في ذلك على بيانه.
وفيه بيان أن الوحي هو المرجع الوحيد لبيان دين الله تعالى وشرعه، وما أنزله لعباده من الحكمة، وذلك الوحي هو القرآن العظيم، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم.
***
ختام الآيات:
{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} .
لما كانت هذه الآيات في أصول الهداية، وأساس الهداية وشرطها هو التوحيد: ختمت الآيات بالنهي عن الشرك كما بدأت به.
(الإلقاء) : هو الطرح.
و (الملوم) : هو الذي يقال له لم فعلت القبيح؛ وما حملك عليه؛ ونحو هذا ...
و (المدحور) : المبعد. وانتصبا على الحال.
المعنى:
نهى تعالى عن الشرك، وأن يعبد معه سواه، فالعبادة بالقلب واللسان والجوارح لا تكون إلاّ له.
وكما حذر في فاتحة الآيات بقعود المشرك في الدنيا مذموماً بالشرك الذي ارتكبه مخذولاً لا[/rtl]
[rtl](1/111)[/rtl]
***
نظرة عامة في الآيات المتقدمة:
قد تضمنت هذه الآيات على قلّتها: الأصول التي عليها تتوقف حياة النوع البشري وسعادته:
من حفظ النفوس والعقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... } .
والأنساب، والأموال، والحقوق، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ... } ، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} ..
والأعراض: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا..} ، {وَلَا تَقْفُ ... } ...
والدين الذي هو عمدة ذلك كله وفي حفظه حفظ لجميعها.
وفي افتتاح الآيات بقوله تعالى:
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} . وختمها بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} ، بيان من الله تعالى لخلقه، بأن الدين هو أصل هذه الكمالات كلها، وهو سياج وقايتها، وسور حفظها، وأن التوحيد هو ملاك (1) الأعمال وقوامها، ومنه بدايتها وإليه نهايتها.
وكذلك المسلم الموفق يبتدي حياته بكلمة التوحيد حتى يموت عليها.
فالله نسأل- كما منَّ علينا بها في البداية- أن يمن علينا بها في النهاية.
اللهم هذا لنا، وللمسلمين أجمعين.
القَول الحسَنُ
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) } [الإسراء:53 و 54] .
تمهيد:
اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان.
__________
(1) مَلاك الأمر ومِلاكه (بفتح الميم وكسرها) : قوامه وخلاصته، أو عنصره الجوهري (المعجم الوسيط: [ص:886] ) .[/rtl]
[rtl](1/112)[/rtl]
فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه. وبريد عقله وواسطة تفاهمه.
فإذا حسن قويت روابط الإلفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم. وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي في التعاون والتآزر.
ويعني العالم من وراء ذلك تقرر الأمن واطراد العمران.
وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك:
فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستعداد والتعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل.
وفي ذلك كل الشر لأبناء البشر.
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم- هو القول الحسن.
ولهذا أمر الله تعالى نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن، فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين:
الأول: أنهم أضيفوا إليه وهذه إضافة شرف لا يكون إلاّ للمؤمنين به.
الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا أصل الإيمان.
و (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هي الكلمة الطيبة، والمقالة التي هي أحسن من غيرها فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس، حتى ينادي بعضهم بعضاً بأحب الأسماء إليه.
وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء.
وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون أذاية لخصمة، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به.[/rtl]
[rtl](1/113)[/rtl]
وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم، أو بينهم وبين غيرهم.
وقد جاء في الصحيح: «أن رهطا من اليهود دخلوا على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: السام (1) عليكم ففهمتها عائشة- رضي الله عنها- فقالت: وعليكم السام واللعنة. فقال لها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقالت: ألم تسمع ما قالوا؛ فقال: قد قلت: وعليكم» (2) .
فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله وعليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- القولة التي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
وأفاد قوله تعالى: {أحسن} بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام.
فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال، ولو كلمة واحدة:
فرب كلمة واحدة أوقدت حرباً، وأهلكت شعباً، أو شعوباً.
ورب كلمة واحدة أنزلت أمناً وأنقذت أمة أو أمما.
وقد بين لنا النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: «الكلمة الطيبة صدقة» (3) و «اتقوا النار ولو بكلمة طيبة» (4) .
وهذا الأدب الإسلامي- وهو التروي عند القول، واجتناب السيء واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد وهنائهم. وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب،
__________
(1) السام: الموت.
(2) أخرجه البخاري في الأدب باب 35 و38، والجهاد باب 98، والاستئذان باب 22، والدعوات باب 59 و63. ومسلم في السلام حديث 10 و11 و13. والترمذي في السير باب 40، والاستئذان باب 12 و13، وتفسير سورة 68 باب 3. والدارمي في الاستئذان باب 7. وأحمد في المسند (114/2، 170، 221، 3/ 140، 104، 210، 214، 218، 224، 241، 262، 289، 383، 37/6، 116، 134، 135، 199، 229) .
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الجهاد باب 128. ومسلم في الزكاة حديث 56. وأحمد في المسند (6/ 312، 374) .
(4) رواه البخاري في الأدب باب 34، من حديث عدي بن حاتم عن رسول ال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة» .[/rtl]
[rtl](1/114)[/rtl]
***
التحذير من كيد العدو الفتان:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} .
(نزغ الشيطان) وسوسته ليهيج الشر والفساد، وعداوته باعتقاده البغيض، وسعيه في جلب الشر والضر، وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء، ويهيج غضبه ليقولها، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتد المراء ويقع الشر والفساد.
ولون آخر من نزغه، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال السوء، ويلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح حتى يقولها. فإذا قالها عاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته، ويهيج غضبه، حتى يثور فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا، فيتباعدون عما فيه احتمال السوء فضلاً عن صريحه، ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له، ويتجاوزون عن سيئة الصريح ما أمكن التجاوز.
المحاسبة على الحال والظاهر والتفويض إلى الله تعالى في العواقب والسرائر:
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} .
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حالة المناظرة والمجادلة.
وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة، فما أكثر ما يضلل بعض بعضاً أو يفسقه أو يكفره، فيكون ذلك سبباً لزيادة شقة الخلاف اتساعاً، وتمسك كل برأيه ونفوره من قول خصمه. دع ما يكون عن ذلك من البغض والشر.
فذكر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، بحكمته وعدله:
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري في المظالم باب 3، وأبو داود في الأدب باب 38، والترمذي في الحدود باب 3، وأحمد في المسند (2/ 9، 68) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه مسلم في البر والصلة والآداب حيث 32، والترمذي في البر باب 18، من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد في المسند (5/ 24، 71) من حديث رجل من بني سليط.[/rtl]
[rtl](1/115)[/rtl]
كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك، إلاّ من جاء النص بهم.
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته: إنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر، وسوء عاقبته.
ولا يقال للمبتدع: يا ضال، وإنما تبين البدعة وقبحها.
ولا يقال لمرتكب الكبيرة: يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها.
فتقبح القبائح والرذائل في نفسها، وتجتنب أشخاص مرتكبها.
إذ رب شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال. ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله تعالى- على عقبه في هاوية الوبال. وخاطب الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أنه لم يرسله وكيلاً على الخلق، حفيظاً عليهم، كفيلاً بأعمالهم (1) .
فما عليه إلاّ تبليغ الدعوة، ونصرة الحق بالحق، والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم.
خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به، من قول التي هي أحسن للموافق والمخالف.
فلا يحملنّهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلها، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه؛ فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه.
أحيانا الله عليهما، وأماتنا عليهما، وحشرنا في زمرة أهلهما. آمين.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]دعاء غير الله
من دعا غير الله، فقد عبد ما دعاه وهو في عبادته من الخاسرين
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ
__________
(1) قال تعالى في الآية 54 من سورة الإسراء: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} وقال: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الآية 80 من سورة النساء. وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الآية 107 من سورة الأنعام. وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . الآية 48 من سورة الشورى.[/rtl]
[rtl]عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) } [الإسراء: 56 و57] .
(الدعاء) : هو النداء لطلب شيء من المدعو، ولذلك لا يدعو إلاّ العاقل، أو ما نزل منزلته مجازاً من الجمادات، أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من العجماوات (1) .
وإذا كان لشيء معظم، ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية، وفوق الطاقة البشرية، فهو عبادة، ولا يكون إلاّ من المخلوق لخالقه، واذا لم يكن كذلك فهو عادة، وهو دعاء المخلوقين بعضهم بعضاً لغرض من الأغراض.
و (الزعم) القول بغير دليل.
(ومن دونه) أي غيره. (والملك) الاستيلاء على الشيء، والتمكن من التصرف فيه.
(وكشف الضر) : إزالته.
{ولا تحويلاً} : نقلاً له إلى شخص آخر.
أمروا بالدعاء لتوقيفهم على خيبتهم فيه بظهور عجز من يدعون. وحذف مفعولا زعم، والتقدير: زعمتموهم آلهة؛ للعلم بهما؛ لأنهم ما دعوهم إلاّ لكونهم آلهة في زعمهم.
و {لا يملكون} وقع بعد الفاء ولم يجزم في جواب الأمر؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره:
فهم لا يملكون، وهذا لأن الفاء قصد بها العطف، ولم يقصد بها السببية (2) - ولا يصح أن تقصد بها السببية- لأن ذلك يقتضي أن يكون عدم ملكهم متسبباً عن الدعاء، مثلها في قول الشاعر:
رَبِّ وَفِّقْنِي فَلاَ أَعْدِلَ عَنْ ... سَنَنِ السَّاعِينَ فِي خَيْرِ سَنَنْ (3)
فإن عدم العدول متسبب عن التوفيق.
وليس كذلك الأمر في هذه الآية؛ فإن عدم ملكهم متحقق، سواء دعوا أم لم يدعوا.
فلذلك امتنع النصب ووجب الرفع على التقدير المتقدم (4) .
__________
(1) العجماوات: جمع عجماء، وهي البهيمة. انظر (المعجم الوسيط: [ص:586] ) .
(2) قال العيني في المقاصد النحوية (4/ 388) بعد أن أورد البيت التالي "رب وفقني.. إلخ " حيث نصب الفعل "أعدل" بفاء السببية بعد فعل الدعاء الأصيل؛ قال: «واحترز بالفعل من أن يكون الدعاء بالإسم، نحو: سقياً لك ورعيًا، وبقولنا: أصيل، من الدعاء المدلول عليه بلفظ الخبر، نحو: رحم الله زيداً فيدخله الجنة» . وانظر الحاشية التالية.
(3) البيت بلا نسبة في الدرر اللوامع على همع الهوامع شرح جمع الجوامع في العلوم العربية للشنقيطي (4/ 80) وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (563/3) وشرح شذور الذهب لابن هشام (ص 396) وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (ص 571) وشرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام [ص:72] والمقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية للعيني (4/ 388) وهمع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربية للسيوطي (11/2) .
(4) راجع الحاشية (2) .[/rtl]
[rtl]المعنى:
قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، الذين اتخذوا آلهة من دون الله فعبدوها: ادعوا معبوداتكم هذه التي زعمتموها آلهة من دون الله، عندما ينزل بكم الضر، وانظروا:
هل تستطيع تلك المعبودات الباطلة أن تكشف وتزيل عنكم ذلك؟
أو أن تحوله عنكم إلى غيركم؟ فإنكم تجدونها عاجزة عن ذلك غير قادرة على شيء منه.
وإنما يقدر على ذلك الإله الحق، وهو الله الذي خلقها وخلقكم، فاعبدوه هو، وأقلِعوا عن عبادة ودعاء ما سواه.
الأحكام:
تدل الآية على أن دعاء غير الله- تعالى- لدفع الضر، ومثله جلب النفع، عبادة للمدعو:
فإن المشركن كانوا يتعبدون لآلهتهم بهذا الدعاء، الذي نهاهم الله تعالى عنه ببيان خيبتهم فيه، ووقوعه في غير محله.
وتسمية الدعاء عبادة ثابتة لغة وشرعاً بغير دليل:
منها حديث النعمان بن بشير عند أحمد وأصحاب السنن مرفوعاً: «الدعاء هو العبادة» (1) .
وحديث أنس عند الترمذي مرفوعاً: «الدعاء مخ العبادة» (2) .
وهذا لأن العبادة هي الخضوع والتذلل، لمن بيده الخلق والتصرف والعطاء والمنع. ومظهر هذا الخضوع والتذلل هو الدعاء لدفع الضر، أو جلب النفع؛ فلذلك عبر عنه في الحديث الأول بأنه هو العبادة، أي معظمها وفي الثاني بأنه مخ العبادة أي خالصها.
ودلت الآية أيضاً على أنه لا يجوز دعاء غير الله من المخلوقين، أي مخلوق كان لدفع ضر، ومثله جلب نفع؛ لأن الآية نعت (3) على المشركين دعاءهم من لا يملك كشف الضر ولا تحويله، وهذا أمر يشترك فيه جميع المخلوقين، فلا مخلوق يستطيع كشف الضر أو تحويله عن نفسه ولا عن غيره. فلا مخلوق يجوز دعاؤه.
ودلت على أن كشف الضر أو تحويله- ومثله جلب النفع- إنما هو للمعبود الحق، لأن الآية استدلت عليهم في مقام الأمر بتوحيد الله، فأفاد ذلك قصر هذا التصرف عليه تعالى وحده.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (267/4، 271، 276) والترمذي في تفسير سورة البقرة باب16، وابن ماجة في الدعاء باب1.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات باب1 (حديث رقم 3371) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبان بن صالح عن أنس بن مالك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعاً. قال الترمذي «هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة» . وقوله: «مخ العبادة» : أي خالص العبادة ولبها.
(3) يقال: هو يَنْعَى على فلان كذا: يعيبه عليه ويشهر به. وفلان ينعى على نفسه بالفواحش: يشهر نفسه بتعاطيها. (المعجم الوسيط: [ص:936] ) .[/rtl]
[rtl]استنتاج:
لما ثبت شرعاً، أن الدعاء عبادة- فمن دعا شيئاً فقد عبده ولو كان هو لا يسمي دعاءه عبادة- جهلاً منه، أو عناداً-؛ لأن العبرة بتسمية الشرع واعتباره لا بتسمية المكلف واعتباره. ألا ترى لو أن شخصاً قام للصلاة بدون وضوء مستحلا لذلك، فلما أنكرنا عليه قال: أنني لا أعتبر هذه الأفعال والأقوال عبادة، ولا أسميها صلاة. أترى ذلك يجيز فعله، ويدفع عنه تبعته؟؟ كلا!! ولا خلاف في ذلك بين المسلمين.
بل قد حكموا بردته إن كان يفعل ذلك ويراه حلالًا، لأنه يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
فالداعي لغير الله تعالى يطلب منه قضاء حوائجه، قد عبد من دعاه وإن لم يعتبر دعاءه عبادة؛ لأن الله قد سماه عبادة.
وإذا استمر على فعله ذلك مستحلا له بعدم تعليمه وإرشاده، يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وهو أن العبادة- والدعاء منها- لا تكون إلاّ لله فيحكم بردته، نظير مستحل الصلاة بلا وضوء، بلا فارق.
تطبيق:
إذا علمت هذه الأحكام، فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين الجزائريين وغير الجزائريين، تجد السواد الأعظم من عامتنا غارقاً في هذا الضلال:
فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات، يسألونهم حوائجهم من دفع الضر، وجلب النفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النسل، وإنزال الغيث، وغير ذلك مما يسألون. ويذهبون إلى الأضرحة التي شيدت عليها القباب، أو ظلمت بها المساجد فيدعون من فيها، ويدقون قبورهم، وينذرون لهم، ويستثيرون حميتهم، بأنهم خدامهم وأتباعم، فكيف يتركونهم؟؟ وقد يهددونهم بقطع الزيارة، وحبس [[النذور]] .
وتراهم هنالك في ذل وخشوع وتوجه، قد لا يكون في صلاة من يصلي منهم!!
فأعمالهم هذه من دعائهم وتوجههم كلها عبادة لأولئك المدعوين، وإن لم يعتقدوها عبادة؛ إذ العبرة باعتبار الشرع، لا باعتبارهم.
فياحسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدين لباساً مقلوباً، حتى أصبحنا في هذه الحالة السيئة من الضلال.
تحذير وإرشاد:
فليحذر قراؤنا من أن يتوجهوا بشيء من دعائهم لغير الله، وليحذروا غيرهم منه.
ولينشروا هذه الحقائق بين إخوانهم المسلمين، بما استطاعوا، عسى أن يتنبه الغافل، ويتعلم[/rtl]
[rtl]الجاهل، ويقلع الضالون عن ضلالهم، ولو بطريق التدريج؛ وبذلك يكون قراؤنا قد أدوا أمانة العلم، وقاموا بفريضة النصح، وخدموا الإسلام والمسلمين.
***
نجاة المعبودين بهداهم وهلاك العابدين بضلالهم
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) } [الإسراء: 57] .
{يبتغون} يطلبون باعتناء واهتمام.
{الوسيلة} سبب الوصول إلى البغية، والقرب من المطلوب، والوسيلة الموصلة إلى الله هي عبادته وطاعته بامتثال أوامره ونواهيه، والتزام محارمه واجتناب مكارهه، وهذا المعنى هو المراد هنا.
{أقرب} أي في المكانة والمنزلة.
{يرجون رحمته} ينتظرون إنعاماته لافتقارهم إليه.
{ويخافون عذابه} يخشون عقوبته وانتقامه؛ لعلمهم بقوته وسلطانه، وقصورهم عن القيام بجميع واجب حقه.
{محذورا} ، مخيفا متحرزاً منه.
{أولئك} : إشارة إلى المعبودين الذين وصفهم.
و {يدعون} : ضميره للداعين، وأصله يدعونهم يبتغون خير أولئك.
و {أيهم} ، اسم موصول مضاف إلى ضمير المبتغين، وهو بدل بعض من كل من الواو في يبتغون.
و {أقرب} : خبر مبتدأ محذوف تقديره "هو" والجملة صلة الموصول.
ويحتمل أن يكون أيهم استفهاماً مبتدأ وأقرب خبر. وتقدير الكلام: ينظرون أيهم أقرب.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هي في نفر من الإنس، كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن، وبقي الإنس على عبادتهم» .
وجاء عنه وعن غيره: أنها في الذين كانوا يعبدون الملائكة من العرب.[/rtl]
[rtl]المعنى:
على الإعراب الثاني (1) :
أولئك الجن والملائكة الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أرباباً قد أسلموا؛ فصاروا من عباد الله المؤمنين، يطلبون أسباب الزلفة والقرب عند ربهم، ينظرون من هو الذي يكون منهم أقرب مكانة باجتهاده وصالح عمله.
وعلى الإعراب الأول (2) :
يطلب الذي هو أقرب منهم أسباب الزلفة عند الله، فأحرى وأولى غيره.
ويرجون بأعمالهم الصالحة رحمته، ويخافون بمخالفتهم عذابه. إن عذاب ربك كان من حقه وشأنه أن يتقى ويحذر، لما فيه من عظيم الخزي وشديد الألم.
الأحكام:
أفادت الآية أن العبادة لا تنفع صاحبها إلاّ إذا كانت على الوجه الحق، وإلاّ فإنه لا يحصل منها إلاّ على الخيبة والوبال.
وأن المكلف لا يحمل شيئاً من إثم عمل غيره إذا لم يكن راضياً به، ولو كان ذلك العمل متسبباً عنه إذا لم يكن متسببا هو فيه.
وأن المكلف مطالب بأن يطلب أسباب القرب إلى الله بجدّ واجتهاد.
وأن يكون جامعاً بين الرجاء والخوف في سلوكه.
التطبيق:
نعرف كثيراً من الصالحين- رحمهم الله تعالى- قد شيدت عليهم القباب، ونذرت لهم النذور، وقصدوا لقضاء الحاجات، ودعوا في المهمات.
وكان ذلك كله مما أحدثه المحدثون بعدهم، وبالغ فيه المستغلون له، ممن ينتمون إليهم؛ فهم- إن شاء الله تعالى- برآء من إثم ذلك كله، وإنما إثمه على فاعليه.
عبرة وتحذير:
يأتي يوم القيامة أولئك الذين كانوا يدعون الملائكة والجن المسلمين وعباد الله الصالحين، ويحسبون أنهم ينفعونهم في ذلك اليوم، فيتبرأ منهم أولئك الذين كانوا يعبدونهم بدعائهم، ويتركونهم في ذلك الموقف العصيب (3) .
__________
(1) أي "أيهم" مبتدأ، و"أقرب" خبر، والتقدير؛ ينظرون أيهم أقرب.
(2) أي أن "الذي" بدل بعض من الواو في "يبتغون"، و"أقرب" خبر لمبتدأ محذوف.
(3) قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} الآية 166 من سورة البقرة. وقال: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} الآية 63 من سورة القصص.[/rtl]
[rtl]فما أمرّ خيبتهم يومذاك!! وما أعظم حسرتهم! ويا لها من عبرة لقوم يعقلون!
فحذار يا إخواننا من هذه العاقبة السيئة، وهذا الموقف المخزي، فبادروا إلى توحيد الله بالدعاء الذي هو مخ العبادة.
واقتصروا في جانب الصالحين وعلى محبتهم (والترضية) عليهم وسؤال الرحمة لهم والإقتداء بهم فيما كان منهم من طاعة وخير، ولا تعظموهم بما لا يكون إلاّ لله رب العالمين.
والله يبصرنا بالحق ويهدينا إليه، ويجعلنا من حزبه، ويميتنا عليه آمين يا رب العالمين.
***
الطور الأخير لكل أمة وعاقبته
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) } [الإسراء: 58] .
تمهيد:
الأمم كالأفراد، تمر عليها ثلاثة أطوار: طور الشباب، وطور الكهولة، وطور الهرم.
فيشمل الطور الأول:
نشأتها إلى استجماعها قوتها ونشاطها، مستعدة للكفاح والتقدم في ميدان الحياة.
ويشمل الطور الثاني:
إبتداء أخذها في التقدم والانتشار، وسعة النفوذ، وقوة السلطان إلى استكمالها قوتها، وبلوغها غاية ما كان لها أن تبلغه من ذلك؛ بما كان فيها من مواهب، وما كان لها من استعداد، ما لديها من أسباب.
ويشمل الطور الثالث:
إبتداءها في التقهقر والضعف والانحلال، إلى أن يحل بها الفناء والاضمحلال، إما بانقراضها من عالم الوجود، وإما باندراسها في عالم السيادة والاستقلال.
وما من أمة إلاّ ويجري عليها هذا القانون العام، وإن اختلفت أطوارها في الطول والقصر، كما تختلف الأعمار.
***
هذه السنة الكونية التي أجرى الله عليها حياة الأمم في هذه الدنيا، أشار إليها في كتابه العزيز في غير ما آية:
فذكر أعمار الأمم، مقدرة محددة بآجلها في مثل قوله تعالى:[/rtl]
[rtl]{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) } [الأعراف: 34] .
وذكر إنشاء الأمم على إثر الهالكين في مثل قوله تعالى:
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) } [الأنبياء: 11] .
وذكر طور شباب الأمة ودخولها معترك الحياة في مثل قوله تعالى:
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) } [الأعراف: 129] .
فإن بني إسرائيل ما استخلفوا في الأرض حتى قووا، واشتدوا وتكونت فيهم أخلاق الشجاعة، والنجدة والحمية والأنفة بعد خروجهم من التيه.
وذلك هو الطور الأول طور الشباب للأمة الإسرائيلية.
وذكر الطور الثاني وهو طور الكهولة واستكمال القوة، وحسن الحال، ورغد العيش في مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل:112] .
وذكر الطور الثالث طور الضعف وإلانحلال في مثل قوله تعالى:
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) } [الكهف: 59] .
وإهلاكهم يكون بعد إسباغ النعمة وإقامة الحجة عليهم، وتمكن الفساد فيهم وتكاثر الظلم منهم. فإهلاكهم هو نهاية الطور الثالث من أطوار الأمم الثلاث.
وإلى خاتمة الطور الثالث وعاقبته، جاء البيان في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} .
(القرية) المساكن المجتمعة، ومادة (ق ر ى) تدل على الجمع، فتصدق على القرية الصغيرة والمدينة الكبرى. وتطلق القرية مجازا على السكان إطلاقاً لاسم المحل على الحال ومنه هذا.
و (الإهلاك) الإبادة والإفناء بالاستئصال كما فعل بعاد وثمود.
و {قبل يوم القيامة} أي في الدنيا.
و (العذاب الشديد) كأمراض الأبدان وفساد القلوب، وانحطاط الأخلاق، وافتراق الكلمة، وتسليط الظُّلاَّم، كما أرسل على بني إسرائيل عباداً أولي بأس شديد، فساءوا وجوههم، وجاسوا خلال ديارهم. وكتسليط أهل الحق على أهل الباطل، وكالجدب والقحط وجوائح الأرض، وجوائح السماء.
و {في الكتاب} أي اللوح المحفوظ. و {مسطوراً} أي مكتوبا أسطارا مبيناً.[/rtl]
[rtl]{إن} نافية. و {من} زيدت لاستغراق الجنس وتأكيد العموم.
و {إلا} أفادت مع إن النافية حصر كل قرية في أحد الأمرين من الهلاك والعذاب الشديد، ليعلم أن لا نجاة لكل قرية من أحدهما قطعا.
و {أو} تفيد أحد الشيئين المذكورين على الإبهام وعدم التعيين.
و {ذلك} إشارة المذكور من الهلاك والتعذيب.
المعنى
يقول تعالى: ما من قرية على وجه الأرض إلّا ولا بد أن يحل بها منا هلاك وفناء بما يبيدها ويفنيها، أو عذاب شديد لا يفنيها، ولكنه يذيقها أنواع الآلام وشديد النكال.
كان هذا قضاء سابقاً في علمنا، ماضيا في إرادتنا، مكتوباً أسطاراً في اللوح المحفوظ.
الأحكام:
أحكام الله تعالى قسمان:
أحكام شرعية، وهي التي فيها بيان ما شرعه لخلقه مما فيه انتظام أمرهم وحصول سعادتهم إذا ساروا عليه.
وأحكام قدرية وهي التي فيها بيان تصرفه في خلقه على وفق ما سبق في علمه وما سبق في إرادته.
والأحكام الشرعية تقع من العباد مخالفتها، فيتخلف مقتضاها من الفعل أو الترك.
والأحكام القدرية لا تتخلف أصلاً، ولا يخرج المخلوقات عن مقتضاها قطعاً.
وفي هذه الآية حكم من أحكامه القدرية، وهو أن كل قرية لا بد أن يصيبها أحد الأمرين المذكورين بما سبق من علمه، وما مضى من إرادته، فلا يتخلف هذا الحكم، ولا تخرج عنه قرية.
***
إيضاح وتعليل:
الله حكم عدل حكيم خبير؛ فما من حكم من أحكامه الشرعية إلاّ وله حكمته، وما من حكم من أحكامه القدرية إلاّ وله سببه وعلته.
لا لوجوب أو إيجاب عليه، بل بمحض مشيئته، ومقتضى عدله وحكمته.
وقد قضى على كل قرية بهذه العاقبة من الهلاك والعذاب الشديد في هذه الآية، وبين في غيرها سبب استحقاقها لهما فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59] .
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .[/rtl]
[rtl]{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] .
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] .
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8] .
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
فأفادت هذه الآيات أن سبب الهلاك والعذاب هو الظلم، والفساد، والعتو، والتمرد، عن أمر الله ورسله، والكفر بأنعم الله.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
توجيه:
الطور الأخير للأمم هو الذي ذكر في الآيات كثيراً دون الطور الأول والثاني.
ووجه ذلك:
أنه هو الطور الذي ينتشر فيه الفساد، ويعظم فيه الظلم، وينتهي فيه الإعذار للأمة، ويحل فيه أجلها، فينزل بها ما تستحقه من هلاك أو عذاب فكرر ذكر هذا الطور لزيادة التحذير منه، والتخويف من سوء عاقبته، والحث على تدارك الأمر فيه بالإقلاع عن الظلم والفساد، والرجوع إلى طاعة الله وإعمال يد الإصلاح في جميع الشئون فيرتفع العذاب بزوال ما كان بنزوله من أسباب.
استنتاج وتطبيق:
القرى التي قضي عليها بالهلاك والاستئصال هذه، قد انتهى أمرها بالموت، وفاتت عن العلاج مثل عاد وثمود من الأمم البائدة.
وأما القرى التي قضي عليها بالعذاب الشديد، فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن، وعلاجها متيسر: مثل الأمم الإسلامية الحاضرة: فمما لا شك إن فينا لظلمًا، وعتواً وفساداً وكفراً بأنعم الله، وإننا من جراء ذلك لفي عذاب شديد.
ولا نعني بهذا أن الأمم الإسلامية مخصوصة بهذا، بل مثلها وأقوى منها في أسباب العذاب والهلاك غيرها من أمم الأرض. وإن لهم لقسطهم من العذاب الشديد. وإذا لم يأت المقدار المماثل من الهلاك أو العذاب لما عندهم من أسبابهما؛ فلأنه لكل أمة أجل، ولما يأت ذلك الأجل بعد؛ فإذا جاء لا يستأخرون سعة ولا يستقدمون.
***[/rtl]
[rtl]إرشاد واستنهاض:
قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقاً وقدراً بمشيئته وحكمته، لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها، ونجتنبها باجتناب أسبابها.
وقد عرفنا في الآيات المتقدمة بأسباب الهلاك والعذاب لنتقي تلك الأسباب فنسلم، أو نقلع عنها فننجو؛ فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب.
وقد ذكر لنا في كتابه أمة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعد ما كاد (1) ينزل بها، ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من السبب، فقال تعالى:
{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] .
فمبادرتهم للإيمان وإقلاعهم عن الكفر، كشف عنهم العذاب.
وأرشدنا في ضمن هذا العلاج الناجع في كشف العذاب، وإبطال أسبابه، وهو الإيمان.
كما أرشدنا إليه أيضاً في قوله تعالى قبل هذا:
{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] . أي نجاها من العذاب. وذكر قوم يونس دليلًا على ذلك.
وأرشدنا إليها أيضاً في قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] ، فالإيمان والتقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب.
ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلاّ إذا قمنا متعاونين أفراداً وجماعات، فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه، وبدأ به في نفسه، ثم فيمن يليه ثم فيمن يليه من عشيرته وقومه، ثم جميع أهل ملته. فمن جعل هذا من همه، وأعطاه ما قدر عليه من سعيه، كان خليقاً أن يصل إلى غايته أو يقرب منها.
ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك، وأخلاقنا من الفساد، وأعمالنا من المخالفات. ولنستشعر أخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد ولنشرع في ذلك، غير محتقرين لأنفسنا، ولا قانطين من رحمة ربنا؛ ولا مستقلين لما نزيله كل يوم من فسادنا، فبدوام السعي واستمراره، يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله.
وليكن دليلنا في ذلك وإمامنا كتاب ربنا، وسنة نبينا، وسيرة صالح سلفنا. ففي ذلك كله ما يعرفنا بالحق، ويبصرنا في العلم، ويفقهنا في الدين، ويهدينا إلى الأخذ بأسباب القوة والعز
__________
(1) في الأصل "كان". والصواب ما أثبتناه.[/rtl]
والسيادة العادلة في الدنيا، ونيل السعادة الكبرى في الأخرى. وليس هذا عن العاملين ببعيد، وما هو على الله بعزيز.
رجاء وتفاؤل:
إن المطلع على أحوال الأمم الإسلامية يعلم أنها قد شعرت بالداء، وأحست بالعذاب، وأخذت في العلاج، وإن ذلك، وإن كان يبدو- اليوم- قليلاً، لكنه- بما يحوطه من عناية الله، وما يبذل فيه من جهود المصلحين- سيكون بإذن الله كثيراً.
وعسى أن يكون في ذلك خير لأمم الأرض أجمعين.
حقق الله الآمال وسدد الأعمال، بلطف منه وتيسير، إنه نعم المولى ونعم النصير.
من دعا غير الله، فقد عبد ما دعاه وهو في عبادته من الخاسرين
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ
__________
(1) قال تعالى في الآية 54 من سورة الإسراء: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} وقال: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الآية 80 من سورة النساء. وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الآية 107 من سورة الأنعام. وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . الآية 48 من سورة الشورى.[/rtl]
[rtl](1/116)[/rtl]
(الدعاء) : هو النداء لطلب شيء من المدعو، ولذلك لا يدعو إلاّ العاقل، أو ما نزل منزلته مجازاً من الجمادات، أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من العجماوات (1) .
وإذا كان لشيء معظم، ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية، وفوق الطاقة البشرية، فهو عبادة، ولا يكون إلاّ من المخلوق لخالقه، واذا لم يكن كذلك فهو عادة، وهو دعاء المخلوقين بعضهم بعضاً لغرض من الأغراض.
و (الزعم) القول بغير دليل.
(ومن دونه) أي غيره. (والملك) الاستيلاء على الشيء، والتمكن من التصرف فيه.
(وكشف الضر) : إزالته.
{ولا تحويلاً} : نقلاً له إلى شخص آخر.
أمروا بالدعاء لتوقيفهم على خيبتهم فيه بظهور عجز من يدعون. وحذف مفعولا زعم، والتقدير: زعمتموهم آلهة؛ للعلم بهما؛ لأنهم ما دعوهم إلاّ لكونهم آلهة في زعمهم.
و {لا يملكون} وقع بعد الفاء ولم يجزم في جواب الأمر؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره:
فهم لا يملكون، وهذا لأن الفاء قصد بها العطف، ولم يقصد بها السببية (2) - ولا يصح أن تقصد بها السببية- لأن ذلك يقتضي أن يكون عدم ملكهم متسبباً عن الدعاء، مثلها في قول الشاعر:
رَبِّ وَفِّقْنِي فَلاَ أَعْدِلَ عَنْ ... سَنَنِ السَّاعِينَ فِي خَيْرِ سَنَنْ (3)
فإن عدم العدول متسبب عن التوفيق.
وليس كذلك الأمر في هذه الآية؛ فإن عدم ملكهم متحقق، سواء دعوا أم لم يدعوا.
فلذلك امتنع النصب ووجب الرفع على التقدير المتقدم (4) .
__________
(1) العجماوات: جمع عجماء، وهي البهيمة. انظر (المعجم الوسيط: [ص:586] ) .
(2) قال العيني في المقاصد النحوية (4/ 388) بعد أن أورد البيت التالي "رب وفقني.. إلخ " حيث نصب الفعل "أعدل" بفاء السببية بعد فعل الدعاء الأصيل؛ قال: «واحترز بالفعل من أن يكون الدعاء بالإسم، نحو: سقياً لك ورعيًا، وبقولنا: أصيل، من الدعاء المدلول عليه بلفظ الخبر، نحو: رحم الله زيداً فيدخله الجنة» . وانظر الحاشية التالية.
(3) البيت بلا نسبة في الدرر اللوامع على همع الهوامع شرح جمع الجوامع في العلوم العربية للشنقيطي (4/ 80) وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (563/3) وشرح شذور الذهب لابن هشام (ص 396) وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (ص 571) وشرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام [ص:72] والمقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية للعيني (4/ 388) وهمع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربية للسيوطي (11/2) .
(4) راجع الحاشية (2) .[/rtl]
[rtl](1/117)[/rtl]
قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، الذين اتخذوا آلهة من دون الله فعبدوها: ادعوا معبوداتكم هذه التي زعمتموها آلهة من دون الله، عندما ينزل بكم الضر، وانظروا:
هل تستطيع تلك المعبودات الباطلة أن تكشف وتزيل عنكم ذلك؟
أو أن تحوله عنكم إلى غيركم؟ فإنكم تجدونها عاجزة عن ذلك غير قادرة على شيء منه.
وإنما يقدر على ذلك الإله الحق، وهو الله الذي خلقها وخلقكم، فاعبدوه هو، وأقلِعوا عن عبادة ودعاء ما سواه.
الأحكام:
تدل الآية على أن دعاء غير الله- تعالى- لدفع الضر، ومثله جلب النفع، عبادة للمدعو:
فإن المشركن كانوا يتعبدون لآلهتهم بهذا الدعاء، الذي نهاهم الله تعالى عنه ببيان خيبتهم فيه، ووقوعه في غير محله.
وتسمية الدعاء عبادة ثابتة لغة وشرعاً بغير دليل:
منها حديث النعمان بن بشير عند أحمد وأصحاب السنن مرفوعاً: «الدعاء هو العبادة» (1) .
وحديث أنس عند الترمذي مرفوعاً: «الدعاء مخ العبادة» (2) .
وهذا لأن العبادة هي الخضوع والتذلل، لمن بيده الخلق والتصرف والعطاء والمنع. ومظهر هذا الخضوع والتذلل هو الدعاء لدفع الضر، أو جلب النفع؛ فلذلك عبر عنه في الحديث الأول بأنه هو العبادة، أي معظمها وفي الثاني بأنه مخ العبادة أي خالصها.
ودلت الآية أيضاً على أنه لا يجوز دعاء غير الله من المخلوقين، أي مخلوق كان لدفع ضر، ومثله جلب نفع؛ لأن الآية نعت (3) على المشركين دعاءهم من لا يملك كشف الضر ولا تحويله، وهذا أمر يشترك فيه جميع المخلوقين، فلا مخلوق يستطيع كشف الضر أو تحويله عن نفسه ولا عن غيره. فلا مخلوق يجوز دعاؤه.
ودلت على أن كشف الضر أو تحويله- ومثله جلب النفع- إنما هو للمعبود الحق، لأن الآية استدلت عليهم في مقام الأمر بتوحيد الله، فأفاد ذلك قصر هذا التصرف عليه تعالى وحده.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (267/4، 271، 276) والترمذي في تفسير سورة البقرة باب16، وابن ماجة في الدعاء باب1.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات باب1 (حديث رقم 3371) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبان بن صالح عن أنس بن مالك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعاً. قال الترمذي «هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة» . وقوله: «مخ العبادة» : أي خالص العبادة ولبها.
(3) يقال: هو يَنْعَى على فلان كذا: يعيبه عليه ويشهر به. وفلان ينعى على نفسه بالفواحش: يشهر نفسه بتعاطيها. (المعجم الوسيط: [ص:936] ) .[/rtl]
[rtl](1/118)[/rtl]
لما ثبت شرعاً، أن الدعاء عبادة- فمن دعا شيئاً فقد عبده ولو كان هو لا يسمي دعاءه عبادة- جهلاً منه، أو عناداً-؛ لأن العبرة بتسمية الشرع واعتباره لا بتسمية المكلف واعتباره. ألا ترى لو أن شخصاً قام للصلاة بدون وضوء مستحلا لذلك، فلما أنكرنا عليه قال: أنني لا أعتبر هذه الأفعال والأقوال عبادة، ولا أسميها صلاة. أترى ذلك يجيز فعله، ويدفع عنه تبعته؟؟ كلا!! ولا خلاف في ذلك بين المسلمين.
بل قد حكموا بردته إن كان يفعل ذلك ويراه حلالًا، لأنه يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
فالداعي لغير الله تعالى يطلب منه قضاء حوائجه، قد عبد من دعاه وإن لم يعتبر دعاءه عبادة؛ لأن الله قد سماه عبادة.
وإذا استمر على فعله ذلك مستحلا له بعدم تعليمه وإرشاده، يكون قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وهو أن العبادة- والدعاء منها- لا تكون إلاّ لله فيحكم بردته، نظير مستحل الصلاة بلا وضوء، بلا فارق.
تطبيق:
إذا علمت هذه الأحكام، فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين الجزائريين وغير الجزائريين، تجد السواد الأعظم من عامتنا غارقاً في هذا الضلال:
فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات، يسألونهم حوائجهم من دفع الضر، وجلب النفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النسل، وإنزال الغيث، وغير ذلك مما يسألون. ويذهبون إلى الأضرحة التي شيدت عليها القباب، أو ظلمت بها المساجد فيدعون من فيها، ويدقون قبورهم، وينذرون لهم، ويستثيرون حميتهم، بأنهم خدامهم وأتباعم، فكيف يتركونهم؟؟ وقد يهددونهم بقطع الزيارة، وحبس [[النذور]] .
وتراهم هنالك في ذل وخشوع وتوجه، قد لا يكون في صلاة من يصلي منهم!!
فأعمالهم هذه من دعائهم وتوجههم كلها عبادة لأولئك المدعوين، وإن لم يعتقدوها عبادة؛ إذ العبرة باعتبار الشرع، لا باعتبارهم.
فياحسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدين لباساً مقلوباً، حتى أصبحنا في هذه الحالة السيئة من الضلال.
تحذير وإرشاد:
فليحذر قراؤنا من أن يتوجهوا بشيء من دعائهم لغير الله، وليحذروا غيرهم منه.
ولينشروا هذه الحقائق بين إخوانهم المسلمين، بما استطاعوا، عسى أن يتنبه الغافل، ويتعلم[/rtl]
[rtl](1/119)[/rtl]
***
نجاة المعبودين بهداهم وهلاك العابدين بضلالهم
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) } [الإسراء: 57] .
{يبتغون} يطلبون باعتناء واهتمام.
{الوسيلة} سبب الوصول إلى البغية، والقرب من المطلوب، والوسيلة الموصلة إلى الله هي عبادته وطاعته بامتثال أوامره ونواهيه، والتزام محارمه واجتناب مكارهه، وهذا المعنى هو المراد هنا.
{أقرب} أي في المكانة والمنزلة.
{يرجون رحمته} ينتظرون إنعاماته لافتقارهم إليه.
{ويخافون عذابه} يخشون عقوبته وانتقامه؛ لعلمهم بقوته وسلطانه، وقصورهم عن القيام بجميع واجب حقه.
{محذورا} ، مخيفا متحرزاً منه.
{أولئك} : إشارة إلى المعبودين الذين وصفهم.
و {يدعون} : ضميره للداعين، وأصله يدعونهم يبتغون خير أولئك.
و {أيهم} ، اسم موصول مضاف إلى ضمير المبتغين، وهو بدل بعض من كل من الواو في يبتغون.
و {أقرب} : خبر مبتدأ محذوف تقديره "هو" والجملة صلة الموصول.
ويحتمل أن يكون أيهم استفهاماً مبتدأ وأقرب خبر. وتقدير الكلام: ينظرون أيهم أقرب.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هي في نفر من الإنس، كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن، وبقي الإنس على عبادتهم» .
وجاء عنه وعن غيره: أنها في الذين كانوا يعبدون الملائكة من العرب.[/rtl]
[rtl](1/120)[/rtl]
على الإعراب الثاني (1) :
أولئك الجن والملائكة الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أرباباً قد أسلموا؛ فصاروا من عباد الله المؤمنين، يطلبون أسباب الزلفة والقرب عند ربهم، ينظرون من هو الذي يكون منهم أقرب مكانة باجتهاده وصالح عمله.
وعلى الإعراب الأول (2) :
يطلب الذي هو أقرب منهم أسباب الزلفة عند الله، فأحرى وأولى غيره.
ويرجون بأعمالهم الصالحة رحمته، ويخافون بمخالفتهم عذابه. إن عذاب ربك كان من حقه وشأنه أن يتقى ويحذر، لما فيه من عظيم الخزي وشديد الألم.
الأحكام:
أفادت الآية أن العبادة لا تنفع صاحبها إلاّ إذا كانت على الوجه الحق، وإلاّ فإنه لا يحصل منها إلاّ على الخيبة والوبال.
وأن المكلف لا يحمل شيئاً من إثم عمل غيره إذا لم يكن راضياً به، ولو كان ذلك العمل متسبباً عنه إذا لم يكن متسببا هو فيه.
وأن المكلف مطالب بأن يطلب أسباب القرب إلى الله بجدّ واجتهاد.
وأن يكون جامعاً بين الرجاء والخوف في سلوكه.
التطبيق:
نعرف كثيراً من الصالحين- رحمهم الله تعالى- قد شيدت عليهم القباب، ونذرت لهم النذور، وقصدوا لقضاء الحاجات، ودعوا في المهمات.
وكان ذلك كله مما أحدثه المحدثون بعدهم، وبالغ فيه المستغلون له، ممن ينتمون إليهم؛ فهم- إن شاء الله تعالى- برآء من إثم ذلك كله، وإنما إثمه على فاعليه.
عبرة وتحذير:
يأتي يوم القيامة أولئك الذين كانوا يدعون الملائكة والجن المسلمين وعباد الله الصالحين، ويحسبون أنهم ينفعونهم في ذلك اليوم، فيتبرأ منهم أولئك الذين كانوا يعبدونهم بدعائهم، ويتركونهم في ذلك الموقف العصيب (3) .
__________
(1) أي "أيهم" مبتدأ، و"أقرب" خبر، والتقدير؛ ينظرون أيهم أقرب.
(2) أي أن "الذي" بدل بعض من الواو في "يبتغون"، و"أقرب" خبر لمبتدأ محذوف.
(3) قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} الآية 166 من سورة البقرة. وقال: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} الآية 63 من سورة القصص.[/rtl]
[rtl](1/121)[/rtl]
فحذار يا إخواننا من هذه العاقبة السيئة، وهذا الموقف المخزي، فبادروا إلى توحيد الله بالدعاء الذي هو مخ العبادة.
واقتصروا في جانب الصالحين وعلى محبتهم (والترضية) عليهم وسؤال الرحمة لهم والإقتداء بهم فيما كان منهم من طاعة وخير، ولا تعظموهم بما لا يكون إلاّ لله رب العالمين.
والله يبصرنا بالحق ويهدينا إليه، ويجعلنا من حزبه، ويميتنا عليه آمين يا رب العالمين.
***
الطور الأخير لكل أمة وعاقبته
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) } [الإسراء: 58] .
تمهيد:
الأمم كالأفراد، تمر عليها ثلاثة أطوار: طور الشباب، وطور الكهولة، وطور الهرم.
فيشمل الطور الأول:
نشأتها إلى استجماعها قوتها ونشاطها، مستعدة للكفاح والتقدم في ميدان الحياة.
ويشمل الطور الثاني:
إبتداء أخذها في التقدم والانتشار، وسعة النفوذ، وقوة السلطان إلى استكمالها قوتها، وبلوغها غاية ما كان لها أن تبلغه من ذلك؛ بما كان فيها من مواهب، وما كان لها من استعداد، ما لديها من أسباب.
ويشمل الطور الثالث:
إبتداءها في التقهقر والضعف والانحلال، إلى أن يحل بها الفناء والاضمحلال، إما بانقراضها من عالم الوجود، وإما باندراسها في عالم السيادة والاستقلال.
وما من أمة إلاّ ويجري عليها هذا القانون العام، وإن اختلفت أطوارها في الطول والقصر، كما تختلف الأعمار.
***
هذه السنة الكونية التي أجرى الله عليها حياة الأمم في هذه الدنيا، أشار إليها في كتابه العزيز في غير ما آية:
فذكر أعمار الأمم، مقدرة محددة بآجلها في مثل قوله تعالى:[/rtl]
[rtl](1/122)[/rtl]
وذكر إنشاء الأمم على إثر الهالكين في مثل قوله تعالى:
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) } [الأنبياء: 11] .
وذكر طور شباب الأمة ودخولها معترك الحياة في مثل قوله تعالى:
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) } [الأعراف: 129] .
فإن بني إسرائيل ما استخلفوا في الأرض حتى قووا، واشتدوا وتكونت فيهم أخلاق الشجاعة، والنجدة والحمية والأنفة بعد خروجهم من التيه.
وذلك هو الطور الأول طور الشباب للأمة الإسرائيلية.
وذكر الطور الثاني وهو طور الكهولة واستكمال القوة، وحسن الحال، ورغد العيش في مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل:112] .
وذكر الطور الثالث طور الضعف وإلانحلال في مثل قوله تعالى:
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) } [الكهف: 59] .
وإهلاكهم يكون بعد إسباغ النعمة وإقامة الحجة عليهم، وتمكن الفساد فيهم وتكاثر الظلم منهم. فإهلاكهم هو نهاية الطور الثالث من أطوار الأمم الثلاث.
وإلى خاتمة الطور الثالث وعاقبته، جاء البيان في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} .
(القرية) المساكن المجتمعة، ومادة (ق ر ى) تدل على الجمع، فتصدق على القرية الصغيرة والمدينة الكبرى. وتطلق القرية مجازا على السكان إطلاقاً لاسم المحل على الحال ومنه هذا.
و (الإهلاك) الإبادة والإفناء بالاستئصال كما فعل بعاد وثمود.
و {قبل يوم القيامة} أي في الدنيا.
و (العذاب الشديد) كأمراض الأبدان وفساد القلوب، وانحطاط الأخلاق، وافتراق الكلمة، وتسليط الظُّلاَّم، كما أرسل على بني إسرائيل عباداً أولي بأس شديد، فساءوا وجوههم، وجاسوا خلال ديارهم. وكتسليط أهل الحق على أهل الباطل، وكالجدب والقحط وجوائح الأرض، وجوائح السماء.
و {في الكتاب} أي اللوح المحفوظ. و {مسطوراً} أي مكتوبا أسطارا مبيناً.[/rtl]
[rtl](1/123)[/rtl]
و {إلا} أفادت مع إن النافية حصر كل قرية في أحد الأمرين من الهلاك والعذاب الشديد، ليعلم أن لا نجاة لكل قرية من أحدهما قطعا.
و {أو} تفيد أحد الشيئين المذكورين على الإبهام وعدم التعيين.
و {ذلك} إشارة المذكور من الهلاك والتعذيب.
المعنى
يقول تعالى: ما من قرية على وجه الأرض إلّا ولا بد أن يحل بها منا هلاك وفناء بما يبيدها ويفنيها، أو عذاب شديد لا يفنيها، ولكنه يذيقها أنواع الآلام وشديد النكال.
كان هذا قضاء سابقاً في علمنا، ماضيا في إرادتنا، مكتوباً أسطاراً في اللوح المحفوظ.
الأحكام:
أحكام الله تعالى قسمان:
أحكام شرعية، وهي التي فيها بيان ما شرعه لخلقه مما فيه انتظام أمرهم وحصول سعادتهم إذا ساروا عليه.
وأحكام قدرية وهي التي فيها بيان تصرفه في خلقه على وفق ما سبق في علمه وما سبق في إرادته.
والأحكام الشرعية تقع من العباد مخالفتها، فيتخلف مقتضاها من الفعل أو الترك.
والأحكام القدرية لا تتخلف أصلاً، ولا يخرج المخلوقات عن مقتضاها قطعاً.
وفي هذه الآية حكم من أحكامه القدرية، وهو أن كل قرية لا بد أن يصيبها أحد الأمرين المذكورين بما سبق من علمه، وما مضى من إرادته، فلا يتخلف هذا الحكم، ولا تخرج عنه قرية.
***
إيضاح وتعليل:
الله حكم عدل حكيم خبير؛ فما من حكم من أحكامه الشرعية إلاّ وله حكمته، وما من حكم من أحكامه القدرية إلاّ وله سببه وعلته.
لا لوجوب أو إيجاب عليه، بل بمحض مشيئته، ومقتضى عدله وحكمته.
وقد قضى على كل قرية بهذه العاقبة من الهلاك والعذاب الشديد في هذه الآية، وبين في غيرها سبب استحقاقها لهما فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59] .
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .[/rtl]
[rtl](1/124)[/rtl]
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] .
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8] .
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
فأفادت هذه الآيات أن سبب الهلاك والعذاب هو الظلم، والفساد، والعتو، والتمرد، عن أمر الله ورسله، والكفر بأنعم الله.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
توجيه:
الطور الأخير للأمم هو الذي ذكر في الآيات كثيراً دون الطور الأول والثاني.
ووجه ذلك:
أنه هو الطور الذي ينتشر فيه الفساد، ويعظم فيه الظلم، وينتهي فيه الإعذار للأمة، ويحل فيه أجلها، فينزل بها ما تستحقه من هلاك أو عذاب فكرر ذكر هذا الطور لزيادة التحذير منه، والتخويف من سوء عاقبته، والحث على تدارك الأمر فيه بالإقلاع عن الظلم والفساد، والرجوع إلى طاعة الله وإعمال يد الإصلاح في جميع الشئون فيرتفع العذاب بزوال ما كان بنزوله من أسباب.
استنتاج وتطبيق:
القرى التي قضي عليها بالهلاك والاستئصال هذه، قد انتهى أمرها بالموت، وفاتت عن العلاج مثل عاد وثمود من الأمم البائدة.
وأما القرى التي قضي عليها بالعذاب الشديد، فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن، وعلاجها متيسر: مثل الأمم الإسلامية الحاضرة: فمما لا شك إن فينا لظلمًا، وعتواً وفساداً وكفراً بأنعم الله، وإننا من جراء ذلك لفي عذاب شديد.
ولا نعني بهذا أن الأمم الإسلامية مخصوصة بهذا، بل مثلها وأقوى منها في أسباب العذاب والهلاك غيرها من أمم الأرض. وإن لهم لقسطهم من العذاب الشديد. وإذا لم يأت المقدار المماثل من الهلاك أو العذاب لما عندهم من أسبابهما؛ فلأنه لكل أمة أجل، ولما يأت ذلك الأجل بعد؛ فإذا جاء لا يستأخرون سعة ولا يستقدمون.
***[/rtl]
[rtl](1/125)[/rtl]
قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقاً وقدراً بمشيئته وحكمته، لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها، ونجتنبها باجتناب أسبابها.
وقد عرفنا في الآيات المتقدمة بأسباب الهلاك والعذاب لنتقي تلك الأسباب فنسلم، أو نقلع عنها فننجو؛ فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب.
وقد ذكر لنا في كتابه أمة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعد ما كاد (1) ينزل بها، ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من السبب، فقال تعالى:
{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] .
فمبادرتهم للإيمان وإقلاعهم عن الكفر، كشف عنهم العذاب.
وأرشدنا في ضمن هذا العلاج الناجع في كشف العذاب، وإبطال أسبابه، وهو الإيمان.
كما أرشدنا إليه أيضاً في قوله تعالى قبل هذا:
{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] . أي نجاها من العذاب. وذكر قوم يونس دليلًا على ذلك.
وأرشدنا إليها أيضاً في قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] ، فالإيمان والتقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب.
ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلاّ إذا قمنا متعاونين أفراداً وجماعات، فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه، وبدأ به في نفسه، ثم فيمن يليه ثم فيمن يليه من عشيرته وقومه، ثم جميع أهل ملته. فمن جعل هذا من همه، وأعطاه ما قدر عليه من سعيه، كان خليقاً أن يصل إلى غايته أو يقرب منها.
ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك، وأخلاقنا من الفساد، وأعمالنا من المخالفات. ولنستشعر أخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد ولنشرع في ذلك، غير محتقرين لأنفسنا، ولا قانطين من رحمة ربنا؛ ولا مستقلين لما نزيله كل يوم من فسادنا، فبدوام السعي واستمراره، يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله.
وليكن دليلنا في ذلك وإمامنا كتاب ربنا، وسنة نبينا، وسيرة صالح سلفنا. ففي ذلك كله ما يعرفنا بالحق، ويبصرنا في العلم، ويفقهنا في الدين، ويهدينا إلى الأخذ بأسباب القوة والعز
__________
(1) في الأصل "كان". والصواب ما أثبتناه.[/rtl]
[rtl](1/126)[/rtl]
رجاء وتفاؤل:
إن المطلع على أحوال الأمم الإسلامية يعلم أنها قد شعرت بالداء، وأحست بالعذاب، وأخذت في العلاج، وإن ذلك، وإن كان يبدو- اليوم- قليلاً، لكنه- بما يحوطه من عناية الله، وما يبذل فيه من جهود المصلحين- سيكون بإذن الله كثيراً.
وعسى أن يكون في ذلك خير لأمم الأرض أجمعين.
حقق الله الآمال وسدد الأعمال، بلطف منه وتيسير، إنه نعم المولى ونعم النصير.
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]التكريم الرباني للنوع الإنساني
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) } [الإسراء: 70] .
{كرمنا} : الكرم ضد اللؤم ويوصف به الشيء لشرفه في ذاته بكمال صفاته، أو لحسن أفعاله، وما يصدر عنه من النفع لغيره.
فيقال: فرس كريم، وشجرة كريمة، وأرض كريمة، إذا أحسنت هذه الأشياء في ذواتها، وكملت فيها صفات أنواعها.
ويقال: نفس كريمة إذا كملت بمحاسن الأخلاق التي بها كمال النفوس.
وقالت بلقيس في كتاب سليمان عليه السلام: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) } [النمل: 29] .
لأنه كان على أكمل ما تكون عليه الكتب من بيان اسم مرسله، وذكر اسم الله تعالى في أوله، وختمه على ما فيه.
هذا كله من كرم الذات بما كمل فيها من صفات.
ووصف جبريل عليه السلام بأنه رسول كريم (1) لشرف ذاته الملكية، وحسن أفعاله بما كان على يده من نفع للخلق؛ بتبليغ الوحي والهدى.
وهذا من كرم الذات والأفعال وهو الكرم الكامل الذي يكون بشرف الذات ونفع الأفعال.
ويقال كرم الشيء بضم الراء لازماً، وبتعدى بالهمز والتضعيف، فيقال: أكرمته وكرمته بمعنى واحد: أي فعلت له فعلاً فيه رفعة له ومنفعة.
__________
(1) قال تعالى في الآيتين 19و20 من سورة التكوير:"إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ".[/rtl]
[rtl](1/127)[/rtl]
[rtl]{كرَّمنا بني أدم} أي فعلنا لهم ما فيه رفعتهم ومنفعتهم، من إنعاماتنا عليهم.
و {حملناهم} من الحمل بمعنى الرفع أي أركبناهم ورفعناهم على المركوبات مثل قوله تعالى:
{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] .
{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] .
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] .
و {الطيبات} ما يطيب للأكل والشرب مما يلذ في الطعم، وتحمد عاقبته فلا يكون الطيب إلاّ حلالا؛ لأن غير الحلال- وإن لذ طعمه في بعض أقسامه- فإنه لا تحمد عاقبته؛ بما فيه من إثم وتبعة، وما يكون فيه من ضرر.
و {فضلناهم} من الفضل بمعنى الزيادة، أي صيرناهم ذوي فضل وزيادة في الكرامة، كما تقول: فضلت زيدا على عمرو في العطاء، أي صيرته ذا فضل وزيادة عليه فيه.
ومتعلق "حملناهم" محذوف، لقصد التعميم المناسب لمقام الامتنان بالتكريم مع الاختصار. تقديره: على كل ما يصلح لحملهم عليه.
المعنى:
يقول تعالى: ولقد أنعمنا على بني آدم نعماً عظيمة كثيرة.
في خلقتهم من تركيب أبدانهم، وأرواحهم وعقولهم.
وفي حياتهم بما مكنَّاهم منه من أسباب السلطان على غيرهم من الخلق من عالم الجماد والنبات والحيوان.
وتسخير هذه العوالم لهم يحصلون منها منافعهم، فأوصلنا إليهم هذه النعم، وكرمناهم بها، فنفعناهم، ورفعنا أقدارهم.
ومن هذا التكريم والإنعام الذي فيه المنفعة، وفيه الرفعة: أننا سخرنا لهم ما يركبونه في البر والبحر، ومكناهم من أسباب تسييره والانتفاع به.
وأننا بثثنا لهم على وجه الأرض أنواعا من المآكل والمشارب اللذيذة المباحة، من النبات والحيوان والجماد، فخلقناها صالحة لغذائهم، ومكناهم من أسباب تحصيلها وإصلاحها، والتفنن فيها.
فكان لهم بذلك كله زيادة بينة من نعمتنا، وفضل محقق على كثير من مخلوقاتنا.
***
مسائل:
المسألة الأولى:
تكريم الله تعالى لخلقه قسمان: أحدهما عام، والآخر خاص:[/rtl]
[rtl](1/128)[/rtl]
[rtl]فأما العام، فهو إخراجه لهم من العدم إلى الوجود، وإعطاؤه لكل شيء منهم خلقته اللائقة به من تركيب أجزاء ذاته، وتعديل مادة تكوينه، ومن أعضائه- إذا كان من ذوي الأعضاء- التي يحتاج إليها في حياته، لجلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وهدايته وإلهامه ما خلق، صالحاً لذلك إلى استعمال تلك الأعضاء، وطرق الجلب والدفع بها.
وأما الخاص، فهو تكريمه، وإنعامه على عباده المؤمنين بنعمة الإسلام في الدنيا، وبدار السلام في الأخرى.
والتكريم المذكور في هذه الآية من القسم الأول العام كما سيتبين في المسألة الرابعة.
المسألة الثانية:
جميع المخلوقات التي أخرجها الله تعالى من الوجود إلى العدم وإن كانت متساوية في أصل التكريم العام، فإنها متفاوتة فيه بحسب تفاوتها في شرف الذات، وكمال الخلقة:
فعالم النبات أكثر حظاً في التكريم من عالم الجماد، وعالم الحيوان أكثر حظاً منهما، ونوع الإنسان أكثر حظاً في التكريم العام من جميع الحيوانات.
المسألة الثالثة:
عظم حظ الإنسان من هذا التكريم.
من جهة ذاته: بحسن صورته واعتدال مزاجه.
ومن جهة روحه: بأنها من العالم النوراني العلوي، وبأنها مع اتصالها بالبدن قابلة للتجلي بأكمل الصفات، وأطهر الأخلاق.
ومن جهة عقله: الذي به أدرك الحقائق، وحصل المعارف، وعرف الأسباب ومسبباتها، ووجوه ارتباطاتها واتصالاتها، ونسبة بعضها من بعض؛ فملك، وساد، واستفاد، وأفاد.
المسألة الرابعة:
هذا التكريم المذكور في المسألة السابقة هو عام للنوع الإنساني من حيث هو إنسان لا فرق فيه بين من آمن ومن كفر؛ لأنه راجع للخلقة الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع، والتمكين من أسباب المنافع الذي هو ثابت لجميع النوع بما عنده من عقل وتفكير.
وهذا هو مقتضى العموم المستفاد من لفظ: "بني آدم". ومثل هذا التكريم في العموم: الحمل في البر والبحر، والرزق، لأنهما من جملة التكريم كما تقدم في فصل بيان المعنى.
المسألة الخامسة:
تفضيل الله تعالى لمن يشاء من خلقه قسمان:
تفضيل في الخلقة، وتفضيل في الجزاء والمثوبة.[/rtl]
[rtl](1/129)[/rtl]
[rtl]فمن الأول: تفضيل بني آدم المذكور في هذه الآية بما كرموا به، وأعطوه في خلقتهم من الوجوه المتقدمة زائد على كثير من مخلوقات الله، مما كانت لهم به الرفعة والمنفعة لجميع نوعهم على العموم.
ومن الثاني: تفضيل المجاهدين على القاعدين في قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] .
المسألة السادسة:
اقتضى قوله تعالى: "وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ": أي بما كرمناهم به في خلقهم أنهم لم يفضلوا على جميع مخلوقات الله، وأن بعض المخلوقات أفضل منهم في الخلقة، وأكثر منهم كرماً في الجنس. فمن هو هذا المخلوق المفضل عليهم؛ وهذا ما نبينه في المسألة التالية.
المسألة السابعة:
إذا نظرنا في عوالم المخلوقات فإننا نجدها منقسمة إلى قسمين:
قسم مشاهد وقسم غير مشاهد، علمناه بالوحي الصادق من الكتاب والسنة.
فالقسم الأول: هو عالم الجماد، وعالم النبات، وعالم الحيوان. وهذا القسم كله قد فضل عليه الإنسان بميزة عقله التي ساد بها الجميع وبغيرها مما تقدم.
والقسم الثاني: هو الملائكة والجن. فأما الجن: فالإنسان أشرف منهم خلقة، وأكرم عنصراً، فهم ظلمانيون خلقوا من النار. وهو ترابي وروحه من عالم النور الذي هو عالم الملائكة؛ فلذا كان أهلًا لاصطفاء الرسل منه كما اصطفيت من الملائكة ولم يصطف من الجن رسول ولا نبي.
وأما الملائكة فخلقتهم أشرف من خلقة الإنسان وأكرم، لأنهم خلقوا من نور محض، منزهة أجسامهم النورانية عن كثافة الأجساد الإنسانية الترابية، وأخلاطها وظلمتها، فلم يفضل عليهم النوع الإنساني في خلقه، بل فضلوا عليه، فهم غير الكثير الذي فضل عليه الإنسان.
المسألة الثامنة:
المفاضلة تقع بين الملائكة وبني آدم على وجهين:
إما من جهة الخلقة وإما من جهة المثوبة:
فأما من جهة الخلقة فقد عرفنا في المسألة المتقدمة، أن الملائكة أفضل، والآية ظاهرة في ذلك ظهوراً بيناً. وأما من جهة الأجر والمثوبة فهو خارج عن معنى الآية وموضوعها، وأفضل الخلق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أفضل منهم قطعا.
وفي المفاضلة بين الأنبياء والملائكة في الأجر والثواب، خلاف كبير وتفويض أمر ذلك إلى الله تعالى- في مقام التذكير- أسلم.
***[/rtl]
[rtl](1/130)[/rtl]
[rtl]سلوك المكرمين:
إمتن الله تعالى على بني آدم بهذا التكريم لهم في شرف الخلقة ورفعتها، وكثرة المنفعة وتيسير أسبابها- تذكيراً لهم بنعمته ليشكروها، فيزيدهم منها؛ وتعريفاً لهم بشرف أنفسهم ليقدروها، فينتفعوا بها.
فهذان الأمران هما الحكمة المقصودة بهذا الامتنان. فلنتكلم عليها في الفصلين التاليين.
شكر العبد لنعمة ربه:
قد ابتدأنا بهذه الكرامة في الخلقة بدون سعي منا ولا عمل، وهو المبتدىء بالنعم قبل استحقاقها؛ فمن كبر هذه الكرامة وشكرها، كان من المكرمين. ومن لم يعرف قيمتها وكفرها كان من المهانين. {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج: 18] .
فلنقابل هذا التكريم في الخلقة بالشكر الجزيل: بأن نعقد قلوبنا على تعظيم النعمة به ونطلق ألسنتنا بالاعتراف والثناء على مسديه، ونستعمل هذه الخلقة الكريمة في مراضي ربنا وطاعته، متوسلين بشكر ما ابتدأنا به خالقنا من تكريم الخلقة، إلى ما وعد به الشاكرين من تكريم الجزاء والمثوبة بأنواع ألطافه وأنعامه وجزيل فضله وإكرامه؛ فسبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام.
معرفة العبد لقدر نفسه:
قد استودعنا خالقنا خلقة كريمة، فعلينا أن نعرف قيمتها، وأن نقدرها. وحق على من كرمه ربه أن يكرم نفسه:
أ- فعلينا أن نكرم أنفسنا بتكريم أرواحنا، بتنزيهها عن مساوىء الأخلاق، وتحليتها بمكارمها.
ب- وتكريم عقولنا، بتنزيهها عن الأوهام، والشكوك، والخرافات، والضلالات، وربطها على العلوم والمعارف وصحيح الاعتقادات.
جـ- وتكريم جوارحنا بتنزيهها عن المعاصي، وتجميلها بالطاعات؛ فنتحرى بأقوالنا وأفعالنا أكرم الأقوال، وأكرم الأعمال. ونترفع عن جميع الرذائل والدنايا ونتباعد عن كل مواطن السوء والسفالة.
د- ونحفظ كرامتنا وشرفنا أمام الله والناس. ونجتهد أن لا يمسها سوء لا منا، ولا من غيرنا.
فإذا قدرنا- هكذا- أنفسنا، وشكرنا- كما تقدم- ربنا، بلغنا- بإذن الله تعالى- أبعد الغايات من التكريم والتفضيل.
يسرنا الله، والمسلمين أجمعين لما يسر له عباده المكرمين المفضلين برحمتك يا أرحم الراحمين.[/rtl]
[rtl](1/131)[/rtl]
[rtl]الصلاة لأوقاتها
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) } [الإسراء: 78] .
{أقم} أمر من أقام أي اجعلها قائمة، وذلك بحفظها والمحافظة عليها.
وحفظها صونها من الخلل في شروطها وأركانها، من أقوالها وأعمالها في الظاهر والباطن. والمحافظة عليها بالمداومة عليها في أوقاتها.
{الصلاة} المراد الصلوات الخمس المكتوبة.
{لدلوك} اللام لام الأجل والسببية. {لدلوك} : هو الميل وبدايته عند الزوال، ونهايته بالغروب. و {إلى} لانتهاء الغاية؛ فغسق الليل هو نهاية غاية الإقامة.
(الغسق) هو ظلمة الليل، وبداية الظلمة بالغروب، وتمامها بعد مغيب الشفق عند اشتداد الظلمة.
{قرآن الفجر} ، ما يقرأ به في صلاة الفجر- وهي الصبح- من القرآن، فسميت قرآنًا من تسمية الكل باسم جزئه، تنبيهاً على أهمية ذلك الجزء ومكانته.
{مشهوداً} محضوراً.
أفادت اللام السببية، أن ميل الشمس سبب في وجوب الصلاة. و"إلى" عند التجرد عن القرائن لا يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها. لكن هنا قامت القرينة الشرعية- وهي مشروعية الصلاة في الليل- على أن ما بعد "إلى" داخل في حكم ما قبلها، فهو محل أيضاً لإقامة الصلاة فيه.
و {قرآن الفجر} منصوب عطفاً على الصلاة، وخصصت بالذكر؛ لأنها لم تكن عند ميل الشمس، ولا عند الغسق، بل تكون عند الوقت الذي أضيفت إليه وهو الفجر.
وجملة {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} تذييل لتأكيد إقامة صلاة الفجر.
المعنى:
أقم يا محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وأمره أمر لأمته؛ لأنهم مأمورون بالإقتداء به- الصلاة؛ لأجل ميل الشمس: فأد الظهر والعصر، وفي غسق الليل فأد المغرب والعشاء، وأقم صلاة الفجر، إنها صلاة مشهودة.
بيان وتوجيه:
هذه الآية قد انتظمت أوقات الصلوات الخمس، ووجه ذلك بوجوه:[/rtl]
[rtl](1/132)[/rtl]
[rtl]الأول:
إن الظهر تكون أول الميل، والعصر تكون وسطه.
وأن المغرب تكون عند أول الغسق، والعشاء تكون عند شدته بمغيب الشفق.
والصبح عند الفجر.
الثاني:
أن الظهر عند أول الميل، والعصر عند وسطه، والمغرب عند نهايته، والعشاء عند الغسق؛ أي اشتداد الظلمة بمغيب الشفق.
والفرق بين الأول والثاني:
أن الأول اعتبر المغرب عند بداية الظلمة، والثاني اعتبرها عند تمام الميل، وهما في الواقع متلازمان؛ فإنه إذا تم الليل ابتدأت الظلمة.
الثالث:
ولم أره لأحد، واللفظ يحتمله:
أن ميل الشمس يبتديء بالزوال، وينتهي فيما يرى لنا بالبصر بمغيب الشفق، غير أن ميلها في الزوال والغروب مشاهد بمشاهدة ذاتها، وميلها بعد الغروب مستدل عليه بما يشاهد من أخذ الشفق في المغيب، إلى أن يغيب بتمامه؛ ولا شك أن ذلك نتيجة ميلها من وراء الأفق؛ فالصلوات الأربع على هذا واجبة لدلوك الشمس.
وأما غسق الليل: فهو اشتداد ظلمته، وذلك يكون على أتمه بعد مضي الثلث الأول من الليل؛ فيكون غسق الليل بهذا المعنى خارجاً عن حكم ما قبل؛ لأن وقت العشاء ينتهي بانقضاء الثلث الأول، فالأوقات تنتهي عند غسق الليل.
***
تفسير نبوي:
أخرج البخاري- رحمه الله تعالى- في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» (1) ثم يقول أبو هريرة فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب31، والصلاة باب87، والمواقيت باب16، وتفسير سورة17 باب10، والترمذي في الصلاة باب47. والنسائي في الصلاة باب21. وأحمد في المسند (233/2، 257، 266، 312، 344، 396، 486) .[/rtl]
[rtl](1/133)[/rtl]
[rtl]فاستشهد أبو هريرة بالآية على الحديث، ليبين أنه تفسير لها، وأن صلاة الفجر مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.
وجاء هذا عند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ (1) .
وجاء اجتماع الملائكة بأبسط من هذا عند مالك رحمه الله، فأخرج في موطئه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ- كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» (2) .
استنباط:
من تخصيص صلاة الفجر بجملة التذييل المؤكدة، وما اشتملت عليه من هذه المزية، أخذ جماعة من أهل العلم أفضليتها على غيرها.
فإن قلت: إن صلاة العصر أيضا لها من هذه المزية، كما تقدم في حديث مالك.
قلت: إن ثبوت هذه المزية للفجر قطعي بنص القرآن، ومتفق عليه في روايات الحديث بخلاف العصر، فقد جاء في بعض الروايات دون بعض (3) ، وتبقى الفجر ممتازة بتخصيصها بالتأكيد في نص الكتاب وكفى هذا مرجحا لها.
ترغيب وترهيب:
قد جاء عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الترغيب في امتثال هذا الأمر: {أقم الصلاة} وفي الترهيب من مخالفته من الأحاديث ما فيه مقنع ومزدجر.
فمما جاء فيهما حديث عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال:
__________
(1) ولفظه عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الجمع تفضل على صلاة الرجل وحد خمسة وعشرين ضعفاً كلها مثل صلاته» . أخرجه أحمد في المسند (376/1، 437، 452، 465) .
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة24، حديث82) . وأخرجه أيضا البخاري في مواقيت الصلاة باب16، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث210.
(3) من الأحاديث التي تدل على فضل صلاة العصر، ما رواه الترمذي في الصلاة باب19 وتفسير سورة البقرة باب32، من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الوسطى صلاة العصر» . ورواه أيضاً في تفسير سورة البقرة باب30 من حديث سمرة بن جندب. وروى أحمد في المسند (5/ 361) من حديث بريدة قال: سمعت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاته صلاة العصر فقط حبط عمله» . وفي الموطأ روى الإمام مالك (كتاب وقوت الصلاة، باب جامع الوقوت5، حديث21) عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي تفوته صلاة العمر كأنما وتر أهله وماله» وأخرجه أيضاً البخاري في مواقيت الصلاة باب14، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث200.[/rtl]
[rtl](1/134)[/rtl]
[rtl]«سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً- استخفافا (1) بحقهن- كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد: إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة» . رواه مالك وغيره (2)
ومما جاء في الترغيب حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
«سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل بقي من درنه (3) شيء؛ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» . رواه الشيخان في صحيحهما (4) .
ومما جاء في الترهيب حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:
«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» ، رواه مسلم وغيره بنحوه (5) .
وحديث بريدة رضي الله عنه مرفوعاً:
«والعهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان والحاكم (6) .
الأحكام:
قد قال بكفر تارك الصلاة جماعات كثيرة من الفقهاء والمحدثين سلفاً وخلفاً، مستدلين بحديث جابر، وحديث بريدة الصريحين في كفره.
وذهبت جماعات أخرى- كذلك- إلى عدم كفره على عظم جرمه، مستدلين بحديث عبادة ابن الصامت المتقدم، الصريح في جعله في المشيئة. والكافر مقطوع له بدخول النار.
__________
(1) كانت في الأصل المطبوع: "استحقاقا" والصواب ما أثبتناه من الكتب المذكورة في الحاشية التالية.
(2) رواه مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر3، حديث14) . ورواه أيضا أحمد في المسند (5/ 315، 319، 322) وأبو داود في الوتر باب2، والنسائي في الصلاة باب6، وابن ماجة في الإقامة باب194، والدارمي في الصلاة باب258.
(3) الدرن: الوسخ.
(4) رواه البخاري في مواقيت الصلاة باب6. ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث283. والترمذي في الأدب باب80. والنسائي في الصلاة باب7. وأحمد في المسند (2/ 379، 427، 441) .
(5) رواه مسلم في الإيمان حديث134. وأبو داود في السنة باب15. والترمذي في الإيمان باب9. وابن ماجة في الإقامة باب17. والدارمي في الصلاة باب29.
(6) أخرجه أحمد في المسند (5/ 346، 355) والترمذي في الإيمان باب9. والنسائي في الصلاة باب8. وابن ماجة في الإقامة باب77و78، والفتن باب23. والحاكم في المستدرك (1/ 6، 7) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 366) وابن أبي شيبة في مصنفه (11/ 34) والدارقطنى في سننه (2/ 52) وغيرهم.[/rtl]
[rtl](1/135)[/rtl]
[rtl]ويجيبون عن حديث جابر وبريدة بأن المراد من كفر تارك الصلاة، هو الكفر العملي.
والكفر قسمان:
اعتقادي وهو الذي يضاد الإيمان.
وكفر عملي وهو لا يضاد الإيمان، ومنه كفر تارك الصلاة غير المستحل للترك، وكفر من لم يحكم بما أنزل الله كذلك. وبهذا يجمع بين الأحاديث.
وكفى زاجراً للمرء عن ترك الصلاة أن يختلف في إيمانه هذا الاختلاف.
***
تعليم:
في ربط الصلاة بالأوقات، تعليم لنا، لنربط أمورنا بالأوقات، ونجعل لكل عمل وقته: فللنوم وقته، وللأكل وقته، وللراحة وقتها، ولكل شيء وقته.
ولذلك يضبط للإنسان أمر حياته، وتطرد له أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير من الأعمال.
أما إذا ترك أعماله غير مرتبطة بوقت، فإنه لا بد أن يضطرب عليه أمره، ويتشوش باله، ولا يأتي إلاّ بالعمل القليل ويحرم لذة العمل، وإذا حرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر فقل سعيه، وكان ما يأتي به من عمل على قلته وتشويشه بعيدا عن أي إتقان.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقسماً لزمانه على أعماله، وفيه القدوة الحسنة؛ فقد روى عياض في "الشفا" عن علي- رضي الله عنه قال:
«فكان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: فجزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه.
ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس؛ فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنه شيئاً؛ فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمته على قدر فضلهم في الدين: منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج؛ فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم.
ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته. فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة.
لا يذكر عنده إلاّ ذلك، ولا يقبل من أحد غيره. يدخلون رواداً ولا يتفرقون إلاّ عن ذواق ويخرجون أدلة» (1) اهـ.
__________
(1) انظر "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض، الباب الثاني، الفصل الثالث والعشرون. وأوله: «قال الحسين: سألت أبي عن دخول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك، فكان ... الخ» .[/rtl]
[rtl](1/136)[/rtl]
فهكذا ينبغي للمسلم أن يقسم أوقاته على أعماله، ويعمرها كلها بالخير.
وكما ربط الله له صلاته بالأوقات، وهي من أمور دينه، كذلك يربط هو بالأوقات جميع أمور دنياه.
والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقصرنا على طاعته، ويفقهنا في أسرار دينه، ويوفقنا إلى اتباع سنة رسوله، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]نافلة الليل وحسن عاقبتها
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) } [الإسراء: 79] .
"من": للتبعيض. "الهجود": النوم. والهاجد: النائم، وجمعه هجود. ومنه قول الشاعر:
أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفاقُ هُجُودُ
(والتهجد) ترك الهجود: كالتحرج والتأثم، في ترك الإثم والحرج.
وبناء"تَفَعَّلَ" يكثر في التحصيل كتعلم وتقدم. وجاء قليلاً في معنى الترك، والمراد منه هنا ترك النوم للقيام بالعبادة.
(النافلة) قال الجوهري: «هي عطية التطوع من حيث لا تجب، ومنه نافلة الصلاة» اهـ، أي أن الصلاة مؤداة على وجه التطوع دون الوجوب، فلذا قيل فيها: نافلة.
وهي على كلام الجوهري بمعنى الشيء الزائد: فهي اسم غير مصدر.
وقال أبو البقاء وغيره: النافلة الزيادة، فهي مصدر كالعاقبة.
{عسى} ، للرجاء وهي من الله تعالى على الوجوب؛ لأن إطماعه تعالى لعباده في الجزاء على أعمالهم هو من وعده، ومحال عليه تعالى أن يخلفه.
{مقاماً} محل القيام. {محموداً} مثنياً عليه.
{من الليل} متعلق بفعل محذوف دل عليه "تهجد"، تقديره: اسهر. والضمير في {به} عائد على القرآن، لتقدم ذكره ولا تراعى الإضافة.
والباء باء الأداة؛ لأن التهجد بمعنى التعبد يحصل بالقرآن، أي بالصلاة.
ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على الليل؛ فالباء بمعنى "في" أي فيه.
{نافلة} مصدر منصوب بـ "تهجّد" لاتفاقهما في المعنى.
والتقدير: تنفل نافلة، وهذا يجري على الوجهين في معاد الضمير.[/rtl]
[rtl](1/137)[/rtl]
[rtl]ويحتملٍ أن يكون حالاً، وهذا يجري على عود الضمير على القرآن بمعنى الصلاة.
{مقاما} ، إما مصدر من غير لفظ عامله الذي هو "يبعثك"، بمعنى يقيمك من مرقدك. وإما ظرف أي يبعثك في مقام.
و {محموداً} ، صفة لمقام. ولكن الذي يحمد حقيقة هو القائم في المقام؛ فجعل الحمد للمقام توسعاً، تنبيها على عظم الحمد وكثرته؛ فإنه فاض على صاحب المقام حتى غمر مقامه.
المعنى:
إسهر بعضاً من الليل فتعبد بالقرآن في الصلاة، زيادة على تعبدك به في صلاة فرضك؛ فتكون على رجاء أن يبعثك ربك من مرقدك يوم يقوم الناس لرب العالمين؛ فيقيمك مقاماً يحمدك فيه جميع الناس، لما يرون لك من فضل، وما يصل إليهم بسببك من خير.
مسائل:
المسألة الأولى: كيف يكون التهجد؟
لفظ التهجد يفيد ترك النوم للعبادة، فيشمل تركه كله أو بعضه: بأن لم ينم أصلاً. أو لم ينم أولًا ثم رقد. أو نام أولًا ثم قام.
لكن ثبت أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان ينام ثم يقوم، فبينت السنة العملية أن التهجد المطلوب هو القيام بعد النوم.
المسألة الثانية:
هل كان قيام الليل فرضا عليه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دون أمته، بمقتضى قوله تعالى: {نافلة لك} ؟
أولًا- قد ذهب إلى هذا جماعة كثيرة من أهل العلم سلفاً وخلفاً.
ويرد عليه:
1- أن توجيه الخطاب إليه لا يقتضي تخصيص الحكم له، كما في آية {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وآيات كثيرة.
2- ولأن قيام الليل يقع من غيره؛ فيسمى نافلة اتفاقاً.
3- ولحديث عائشة رضي الله عنها: «إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة- تعني سورة المزمل- قم الليل. فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حَوْلاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا، حتى أنزل الله- في آخر هذه السورة- التخفيف، فصار قيامه تطوعاً بعد فرضه» . رواه مسلم (1) .
__________
(1) في صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم139. وهو جزء من حديث طويل رواه أيضاً أحمد في المسند (6/ 54) والنسائي في قيام الليل باب2.[/rtl]
[rtl](1/138)[/rtl]
[rtl]فهذا يدل على أنهم فهموا أن الأمر من قوله تعالى: "قم" لهم معه، مع أنه موجه إليه بخطاب الأفراد. وأنه كان فرضاً عليه وعلى الناس، فصار تطوعاً عليه وعلى الناس.
4- ولحديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين وغيرهما: قام رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى تورمت قدماه. وهذا لمداومته على القيام كل ليلة ببضع عشرة ركعة. فقيل له: قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» (1) .
فلو كانوا يعلمون أن قيام الليل واجب عليه، ويفهمونه من القرآن لما أنكروا- مشفقين عليه- أن يقوم بما هو واجب عليه، ولأن قوله: «أفلا أكون عبداً شكورا» ، يفيد أنه متطوع بهذا القيام باختيار، ليؤدي شكر نعمة ربه عليه.
فإن قيل: إن السؤال والجواب راجعان إلى تورم قدميه، وذلك ناشىء على المداومة؟
قيل: إذا أنكرت الشيء الناشىء عن المداومة فقد أنكرت المداومة، والمداومة على الفرض لا تنكر، فبقى الدليل سالماً.
ثانيا؛ ولهذا كله، قال هؤلاء الموردون؟
إن قيام الليل تطوع ونفل في حقه وفي حق أمته.
وبقي للأولين أن يقولوا:
أ- إن قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} خاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتفاقاً، وقد جعل جزاء لتهجده بالليل، ولما كان الجزاء خاصاً به فالعمل المجزي عنه خاص به. فلهذا حملنا قوله على معنى دون غيرك.
ب- ولما رأيناه واظب على التهجد ولم يتركه، حملناه على أنه كان مفروضاً عليه. وحملنا "نافلة" على معنى أنها فريضة زائدة فوق الصلوات الخمس.
فيقول المخالفون في هذا:
إنكم حملتم النافلة على الفريضة، وهذا خلاف أصل معناها الذي هو التطوع.
وأما ما ذكرتم من خصوص الجزاء به؛ فإنا نقول إن الخطاب موجه له في الأول وفي الآخر؛ ففي الأول لما لم يعارضنا معارض ألحقنا به أمته؛ وفي الثاني لما منعنا مانع، وهو اختصاصه بالمقام المحمود لم نلحقهم به. وبقي الجزاء مساوياً للعمل في صورة اللفظ حيث كان كل منهما موجها إليه.
وإذا تأملت في هذا البحث الذي سقناه أدركت أن القول بعدم الخصوصية هو الراجح،
__________
(1) اخرجه البخاري في تفسير سورة48 باب2، والتهجد باب6. ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم حديث79و80. والترمذي في الصلاة باب187. والنسائي في قيام الليل باب17. وابن ماجة في الإقامة باب200. وأحمد في المسند (4/ 251، 255) .[/rtl]
[rtl](1/139)[/rtl]
[rtl]فالآية حث وترغيب على قيام الليل للعموم، ووعد له- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالمقام المحمود.
المسألة الثالثة: المقام المحمود والشفاعة
ما هو المقام المحمود؟
هو مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، للشفاعة العظمى، يشفع للخلائق (1) وقد جهدوا من كرب الموقف. فجاءوا إلى كبراء الرسل- عليهم الصلاة والسلام- يسألونهم أن يشفعوا لهم إلى ربهم، ليفصل القضاء، ويريحهم من كرب الموقف، فيتدافع الشفاعة أولئك الرسل- عليهم الصلاة والسلام- ويتنصلون منها بأعذار رهيبة للرب جل جلاله، حتى ينتهوا إليه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيتقدم فيشفع، ويسأل فيعطى. جاء هذا كله مفصلًا في الأحاديث الصحيحة المستفيضة (2) . فيحمده الخلق كلهم لما يرون من فضله عند ربه، ولما وصل إليهم من الخير المطلوب بسببه.
ثم له- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعد هذه الشفاعة العظمى شفاعات أخرى بينتها صحاح الأحاديث.
ولعموم فضل هذه الشفاعة العظمى لأهل الموقف كلهم قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كمافي صحيح مسلم:
«أنا سيد الناس يوم القيامة» (3) . والسيد من يتولى أمر السواد، فظهر عموم سيادته بعموم نفعه.
وقد فسر المقام المحمود بمقام الشفاعة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رواه عنه البخاري في صحيحه (4) ، وفسره بها غيره (5) .
__________
(1) ثبت في حديث الشفاعة الطويل من أكثر من طريق، وفيه: « ... ارفع رأسك وقل يُسمعْ واشفعْ تشفع» أن الشفاعة ثابتة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وقد أخرج هذا الحديث البخاري في التوحيد باب19 و24 و36، والرقاق باب51، وأحاديث الأنبياء باب3، وتفسير سورة2 باب1، وسورة17 باب5. ومسلم في الإيمان حديث322 و327. والترمذي في تفسير سورة17 باب19، والقيامة باب15. وابن ماجة في الزهد باب37. والدارمي في المقدمة باب8. وأحمد في المسند (1/ 5، 282، 296، 436/2، 3/ 116، 144، 178، 244، 248) .
(2) راجع الحاشية السابقة.
(3) صحيح مسلم (كتاب الإيمان حديث327 و328، وكتاب الفضائل حديث 3) من حديث أبي هريرة. وأخرجه أيضاً البخاري في تفسير سورة الإسراء باب5، والترمذي في صفة القيامة باب10.
(4) كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الإسراء، باب11، حديث رقم4718؛ عن ابن عمر قال: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفعْ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود» .
(5) منهم أبو هريرة كما في مسند أحمد (2/ 44) .[/rtl]
[rtl](1/140)[/rtl]
[rtl]المسألة الرابعة: هل المقام المحمود خاص به؟
قد علمت من المسألة السابقة أن مقام الشفاعة العظمى، وهي خاصة به فهو خاص به.
ويدل عليه حديث جابر الصحيح:
«من قال حين يسمع النداء- الأذان-: اللهم، رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته- حلت له شفاعتي يوم القيامة» (1) . فهو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الموعود بالمقام المحمود.
تنبيه وإلحاق:
قد جعل الله تعالى جزاء نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على تهجده، وخلوته بربه في مناجاته، هذا المقام الذي يحمده فيه الخلق، ويتقبل فيه شفاعته، ويستجيب دعوته، ويفتح عليه فيه بمحامد من ذكره، لم يفتح عليه بها قبل.
ففي هذا تنبيه للمؤمنين على حسن عاقبة القائمين لربهم في جنح الليل، وما يكون لهم من مقامات عند ربهم على حسب منازلهم. فكما كان المؤمنون ملحقين بنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في مشروعية هذه العبادة، كذلك هم ملحقون به في حسن الجزاء عليها.
وان كان قد خصص هو عليه السلام بذلك الجزاء الأعظم؛ فلهم جزاؤهم: من مقامات القرب، والزلفى، والقبول، والرضا، على ما يناسب منازلهم، جزاء بما كانوا يعملون.
جعلنا الله من العابدين له المخلصين في أقوالهم وأفعالهم، وأوردنا حوض النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ورزقنا شفاعته.
***[/rtl]
[rtl]صدق المدخل والمخرج [/rtl]
[rtl]{وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (82) } [الإسراء: 80] .[/rtl]
[rtl]المناسبة : [/rtl]
[rtl]مضى في الآيات السابقة ذكر الله تعالى ما كان من المشركين من الكيد لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومحاولتهم فتنته في دينهم والله يثبته، ومبالغتهم في عداوته وإيذائه حتى كادوا يستفزونه ويزعجونه من ارض مكة فيخرجونه منها.[/rtl]
[rtl]وجاء بعدها أمر الله تعالى بإقامة الصلاة والتهجد باللي، وفي ذلك أمر الله له بالقيام بعبادة ربه والتوجه والانقطاع إليه وعدم المبالاة والاشتغال عن مهام العبادة بهم.[/rtl]
[rtl]فجاء بعد ذلك الأمر الذي في هذه الآية بسؤاله أن يختار له، وفي ذلك تفويض أمره إلى ربه، ورضاه بما يختار له، فالآيات السابقة أمر بالتجرد لعبادته، وهذه أمر بالتسليم لمشيئته، فبتلك يكون منقطعا إليه، وبهذه يكون معتمدا عليه.[/rtl]
[rtl]الألفاظ :[/rtl]
[rtl]المدخل : يكون بمعنى الإدخال، ويكون بمعنى زمانه أو مكانه[/rtl]
[rtl]المخرج : يكون أيضا بمعنى الإخراج، ويكون بمعنى زمانه أو مكانه.[/rtl]
[rtl]الصدق : أصله وصف للقول بمعنى ثبوته ومطابقته للواقع.[/rtl]
[rtl]ويوصف به الفعل إذا وقع على وجهه، وكما ينبغي أن يكون ، وتضاف اليه الأشياء الكاملة في أنفسها، الحسنة في ظاهرها وباطنها[/rtl]
[rtl]لدن : بمعنى عند [/rtl]
[rtl]السبلطان : بمعنى التسلط، يصدق على التسلط على العقول بالحجة، وعلى غيرها بالملك والولاية[/rtl]
[rtl]النصير : بمعنى ناصر [/rtl]
[rtl]التراكيب : مدخل ومخرج منصوبان على المصدرية أو الظرفية [/rtl]
[rtl]المعنى : قل يا محمد سائلا ربك متضرعا إليه : يا رب أدخلني إدخالا حسنا كاملا تسواى ظاهره وباطنه في الحسن والكمال، وتماثلت بدايته ونهايته وحاله وعاقبته فيهما، أكون فيه على بصيرة ويقين، وثبات وقوة، وأخرجني إخراجا كذلك.[/rtl]
[rtl]وإذا كان بمعنى الظرف كان المعنى : أدخلني في مكان حسن أو زمان حسن..إلخ، وأخرجي كذلك.[/rtl]
[rtl]واجعل لي من عندك تسلطا بالحق العقول بالحجة والبرهان، وعلى الملك بالعدل والإحسان، ينصرني ويؤيدني على كل من يقف في طريق دعوتي غليك، وهداية خلقك من جبابرة البغي أو رؤوس الضلال.[/rtl]
[rtl]توجيه : قدمنا احتمال المصدرية في مدخل ومخرج لأنه أعم، والعموم أنسب بهذا الدعاء الجليل الذي ليس في ألفاظه ما يدل على التخصيص، ولما كان الذي يضاف إلى الصدق لا يكون إلا حسنا لا عيب فيه، ثابتا لا خلل فيه، وصفنا الإدخال والإخراج بما وصفناهما به، لأن ذلك كله من مقتضى الحسن والكمال والثبوت.[/rtl]
[rtl]ولما كان السلطان المطلوب هو من عند الله، ولا يكون إلا سلطانا بالحق، سواء أكان في العلم أم في الحكم ؛ فسرناه بالحجة والبرهان والعدل والإحسان.[/rtl]
[rtl]ترجيح : غذا نظرنا الى ما تقدم من قوله تعالى " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منه" الإسراء 76، قيل : إن المراد بمدخل الصدق هو المدينة، ومخرج الصدق هو مكة.[/rtl]
[rtl]وتكون مكة مخرج صدق لأنه يخرج منها على حق ويقين وبصيرة وبإذن من الله تعالى وتأييده، وتكون المدينة مدخل صدق لذلك كذلك.[/rtl]
[rtl]وإذا نظرنا الى عموم اللفظ حملنا الآية على العموم اعتبارا بحكم اللفظ، ولا يفوت اعتبار المناسبة لما تقدم، فإن الخروج من مكة ودخول المدينة يكون مما دخل في العموم دخولا أوليا، فالحمل على العموم – كما رأيت – محصل لاعتبار اللفظ واعتبار المناسبة ولذلك اخترناه[/rtl]
[rtl]تطبيق : كل فرد من أفراد بني الإنسان في لحظة من لحظات حياته لا ينفك عن المداخل والمخارج فكل ساعة يقضيها من حياته هي مدخل باعتبار دخوله فيها من غيرها، ومخرج باعتبار خروجه منها إلى سواها.[/rtl]
[rtl]فإن قضاها صادق العقد، صادق القول، صادق العمل، وفارقها كذلك، فهي مدخل صدق ومخرج صدق، وإن قضاها وفراقها سيء العقد، سيء القول، سيء العمل، فهي ليست كذلك، بل هي مدخل كذب وفجور، ومخرج كذب وفجور.[/rtl]
[rtl]فالإنسان محتاج في كل لحظة من حياته لتوفيق الله وتأييده، وحفظه وإمداده، فجاء هذا الدعاء القرآني منبها على هذه العقيدة، مشتملا على سؤال ما يحتاج اليه الإنسان في جميع شؤونه في حياته وأطواره فيه – من ألطاف ربه.[/rtl]
[rtl]ولما كان الإنسان في كل لحظة من حياته – لابد – واجدا معارضا وصادا عن الخير والصدق، وقاطعا عن طريق الحق – من نفسه وشياطين الإنس والجن – قرن الدعاء السابق بالدعاء الثاني الذي فيه طلب التأييد من الله بالسلطان المبين، فالدعاءان – على اختصار وإيجازهما – قد جمعا للإنسان كل حاجته من تحصيل الخير ودفع الشر، فهما من أعظم الأدوية الربانية للإنسان، ومن أعظم وسائله الشرعية إلى خالقه، فما أحراهما بأن يلهج بهما في كثير من أوقاته. [/rtl]
[rtl]استنباط : إذا علمنا الله تعالى دعاء، ففي ضمن ذلك التعليم تعليم آخر لنا كيف نعمل ما يناسب ذلك الدعاء، وكيف نسلك السلوك الذي هو مظنة الاستجابة، فلما علمنا تعالى – مثلا – كيف ندعوه بقوله " اهدنا الصراط المستقيم" الفاتحة : الآية6، كان في ذلك إرشاد لنا إلى سلوك الطريق المستقيم، والاهتداء بأهله، والمباينة لغيرهم.[/rtl]
[rtl]فكذلك هنا لما علمنا كيف ندعوه بالحفظ والتوفيق في المدخل والمخرج، كان في ذلك غرشاد لنا إلى ما ينبغي أن نكون عليه في مداخلنا ومخارجنا، وجميع مصادرنا ومواردنا من تحري ما فيه مرضاته واجتناب ما فيه سخطه.[/rtl]
[rtl]ولما علمنا كيف ندعوه بالتقويةوالتأييد بسلطان من لدنه مبين، كان في ذلكارشاد لنا أن نكون أهل قوة في الأيدي، وقوة في البصائر، ودفاع عن الحق بما استطعنا من قوة.[/rtl]
[rtl]سلوك وامتثال : فعلينا أن لا ندخل في أمر إلا على بصيرة به وعلم بحكم الله تعالى فيه، وأن دخوله خير، وأن لا نخرج من أمر إلا على بصيرة وعلم كذلك، لا فرق بين أمر وأمر، من كبير وصغير وجليل وحقير، ونكون – مع بذل غاية ما عندنا من نظر واختيار- معتمدين على ربنا، واثقين بحسن اختياره لنا، مسلمين له فيما اختاره، ضارعين له، مظهرين فقرنا وحاجتنا في كل حال.[/rtl]
[rtl]وعلينا أن نحصل من الأسباب ما يحصل لنا قوة العلم وقوة العمل لنكون أهلا للدفاع عن الحق وحزبه، ومقيمين لسلطان الله في أرضه بالحق والعدل والإحسان، معتمدين – مع تحصيل تلك الأسباب – على الله وحده, ومنتظرين منه الفرج والتيسير.[/rtl]
[rtl]هذان هما الأصلان الأساسيان في سلوك الله : التمسك بالحق، ومدافعة الباطل، فاستمسك بهما تكون – بإذن الله – من الفائزين.[/rtl]
[rtl]مجيء الحق وزهوق الباطل واستجابة دعاء الصادقين.[/rtl]
[rtl]"وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" الإسراء 81 [/rtl]
[rtl]المناسبة : لما أمر الله تعالى نبيه أن يدعوه بحسن المدخل والمخرج والنصرة والتأييد، أمره أن يعلن استجابته لدعوته بمجيء الحق، وفي ذلك نصره، وذهاب الباطل وفي ذلك هلاك أعدائه وذهاب دولتهم.[/rtl]
[rtl]هذا على النظر العام[/rtl]
[rtl]وأما على النظر الخاص فإن الله تعالى بعدما ذكر أن اعداءه كادوا يستفزونه من الأرض، وأمره أن يتوجه إلى عبادته ودعائهن ذكر في هذه الآية ما كان من نصره على المشركين، وفتح مكة عليه، وتنكيس الأصنام التي هي باطلهم، وإعلان كلمة التوحيد الذي هو دينه وهدايته.[/rtl]
[rtl]ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوا هذه الآية عندما يشير إلى الأصنام فتسقط إلى الأرض، ففي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة " يعني عام الفتح" وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" أخرجه البخاري ومسلم.[/rtl]
[rtl]الألفاظ : [/rtl]
[rtl]الحق : الثابت الذي لا يعتريه زوال [/rtl]
[rtl]الباطل : الذي لا ثبات له في نفسه [/rtl]
[rtl]فالإسلام حق ويشمل كل ما هو طاعة، والشرك والكفر باطل، ومثله كل ما هو معصية[/rtl]
[rtl]زهقت الروح : خرجت، وزهق الباطل : ذهب واضمحل.[/rtl]
[rtl]التراكيب : [/rtl]
[rtl]جملة " إن الباطل كان زهوقا" إطناب بالتذييل، المخرج إخراج المثل لتأكيد منطوق الكلام السابق.[/rtl]
[rtl]وشبه الباطل الذي غلب بأدلة الحق، فزالت شبهه من الأذهان، وطواغيته من الأرض، بالحيوان الذي صرع فذبح فزهقت روحه، وذهب على طريق المكنية حيث حذف المشبه به، وهو الحيوان المصروع المذبوح، وذكر المشبه به وهو الباطل المغلوب، وأشير إلى المحذوف بذكر لازمه وهو الزهوق.[/rtl]
[rtl]المعنى : وقل يا محمد – معلنا بما أظهر الله على يدك، وما قضى به من نصرك، وما أجاب به من دعائك- : جاء الإسلام والتوحيد بادلته وحججه وقوته وسلطانه، وذهب الكفر والشرك فبطلت شبهه، واضمحلت دولته، وأصبح الحق غالبا والباطل مغلوبا، وكذلك كان الباطل شأنه الذهاب والاضمحلال.[/rtl]
[rtl]صدق وعد الله :[/rtl]
[rtl]نزلت هذه الآية بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، يلقون من المشركين ما يلقون والمسلمون في ضعف – من العدد- وقلة، والمشركون في فوة، وكثرة، فكانت هذه الآية وعدا بما سيكون من غلبتهم وقوتهم وكثرة عددهم فيبطل الشرك ويذهب سلطانه، وقد صدق الله وعده، ففتح عليهم مكة وتمت لهم على المشركين النصرة.[/rtl]
[rtl]وللإشارة إلى إنجاز هذا الوعد وصدق الخير، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة كما تقدم[/rtl]
[rtl]تفصيل : مجيء الحق هو بظهور أدلته وقيام دولته، وزهوق الباطل هو ببطلان شبهه وذهاب دولته، فأما القسم الأول : فإن الأمر فيه ما زال ولن يزال كذلك، ولن تزداد على الأيام أدلة الحق إلا اتضاحا، ولن تزداد شبه الباطل إلا افتضاحا.[/rtl]
[rtl]وأما القسم الثاني: فإنه مرتبط بأحوال أهل الحق وما يكونون عليه من تمسك به وقيام فيه، أو إهمال له وقعود عنه، فيدال لهم، ويدال عليهم بحسب ذلك.[/rtl]
[rtl]عقيدة : يرتبط قلب المسلم مطمئنا على أن ما هو عليه من الإسلام حث لا شك فيه، وأنه مؤيد منصور ما تمسك به، وأنه إذا خذل فإنما جاءه ذلك من ناحية نفسه، وعلى أن ما عدا الإسلام هو باطل لا شك فيه، وأ صاحبه هالك عند ربه، وأن ما يكون له من سلطان لم يأته من جهة باطله وإنما جاءه من أسباب عمرانية مما يقتضيه الحق وفرط فيه أهله فحرموا ثمرته.[/rtl]
[rtl]سلوك [/rtl]
[rtl]على أهل الحق أن يكون الحق راسخا في قلوبهم عقائد وجاريا على ألسنتهم كلمات، وظاهرا على جوارحهم أعمالا، يؤيدون الحق حيثما كان وممن كان، ويخذلون الباطل حيثما كان وممن كان، يقولون كلمة الحق على القريب والبعيد، على الموافق والمخالف، ويحكمون بالحق كذلك على الجميع، ويبذلون نفوسهم وأموالهم في سبيل نشره بين الناس وهدايتهم إليه بدعوة الحق وحكمة الحق وأسبابه ووسائله، على ذلك يعيشون وعليه يموتون.[/rtl]
[rtl]فلنجعل هذا السلوك سلوكنا وليكن من همنا.[/rtl]
[rtl]فما وفينا منه حمدنا الله تعالى عليه، وما قصرنا فيه تبنا واستغفرنا ربنا، فمن صدقت عزيمته ووطن على العمل نفسه – أعين ويسر للخير، وربك التواب الرحيم .[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القرآن شفاء ورحمة
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) } [الإسراء: 82] .
تمهيد:
لما جاء في الآية السابقة الإخبار بمجيء الحق، وفي مجيئه صحة الأرواح والأبدان والأحوال. وبزهوق الباطل، وفي ذهابه ذهاب العلل والأمراض. كذلك جاء في هذه الآية بذكر القرآن، والإخبار عما فيه من الشفاء والرحمة؛ تنبيها على أنه هو الشافي من أمراض الباطل وعلله، وأنه هو مصدر الحق وحجة ناصره، ومحصل الرحمة لأتباعه والمتمسكين به.
{من} لابتداء الغاية، أو للتبعيض، لأنه نزل مبعضاً، فكل بعض نزل منه شفاء ورحمة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب8، والقرآن باب17 و81. والترمذي في الصلاة باب43. والنسائي في الأذان باب38.[/rtl]
[rtl](الشفاء) البراء من المرض مرض الأبدان، أو مرض النفوس.
(الرحمة) النعمة.
(الظلم) وضع الشيء في غير محله: كوضع الكفر موضع الإيمان.
(الخسار) النقص والضياع يكون في الأموال، يقال: خسر ماله إذا ضيعه. ويكون في النفوس، فيقال: خسر نفسه إذا ضيعها ولم يستعملها فيما خُلقت له من الطاعة والكمال. ويكون في الدين فيقال: خسر دينه إذا ضيعه ولم يعمل به، فخاسر القرآن من ضيعه ولم يؤمن به.
قرنت جملة ننزل بالواو مع أن ما قبلها إنشائية؛ وذلك على وجهين:
الأول: أن تكون معطوفة على جاء الحق، أي وقل: ننزل. فعطفت الخبرية على الخبرية التي لها محل، وهو المفعولية بالقول.
الثاني: أن تكون (الواو) للاستئناف: وهي في الحقيقة صلة في الكلام لتقويته، وقرنت جملة لا يزيد بالواوة لأنها معطوفة على جملة الصلة.
وعبر بالمضارع في {ننزل} و {يزيد} : قصد المعنى للتجدد؛ لأن الآيات كانت تنزل شيئاً فشيئاً.
وتنكير {شفاء} و {رحمة} للتعظيم.
وقدم (الشفاء) ، لأنه برء من النقص، على (الرحمة) ، لأنها حصول الكمال، تقديم التحلية وآيات القرآن سبب في حصول الشفاء، فجعلت هي شفاء على طريق المبالغة تنبيهاً على تحقق حصوله بها.
المعنى:
وننزل عليك يا محمد- بحسب الوقائع والمناسبات- آيات من القرآن العظيم، هي شفاء يستشفي بها المؤمنون، ونعمة عظيمة أنعمنا بها عليهم يؤمنون بها ويحلون حلالها، ويحرمون حرامها، ويعملون بما فيها فينالون سعادة الدنيا والآخرة.
أما الكافرون الظالمون الذين قابلوا بالكفر ما يجب أن يقابل بالإيمان، وقابلوا بالرد ما يجب أن يقابل بالقبول، فإن نزول تلك الآيات يكون سبباً في زيادة خسارهم، وضياع الخير عليهم، إذ كل آية من تلك الآيات كانت كافية في شفائهم لو استشفوا بها، ونزول الرحمة عليهم لو اهتدوا بها إلى الإسلام.
لكنهم يقابلون كل آية بالكفر والجحود، فيخسرون في كل مرة كنزاً عظيماً. وهكذا يزداد خسارهم بقدر كفرهم المتجدد بنزول الآيات.
تنظير:
وصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء في مواضع من كتابه منها هذه، ومنها قوله تعالى في:[/rtl]
[rtl]{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) } [يونس: 57] . ومنها:
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] .
وأفادت الآيات كلها أنه شفاء لأهل الإيمان الذين يؤمنون دون غيرهم، فإنهم بإعراضهم عنه كانوا من الخاسرين.
وجاءت آية يونس بتقييد الشفاء بها في الصدور الذي هو مستقر العقائد، لأن ذلك هو المقصود الأول من هداية القرآن، وأصل لغيره، فإنه إذا شفيت الصدور من عقائد السوء، ونزعات الشكوك، واعتقدت الحق، وارتبطت على اليقين؛ زكت النفوس واستقام سلوك الإنسان فرده وجماعاته، ورقي درجات الكمال.
فلا ينافي ذلك أن القرآن شفاء أيضاً للنفوس من سىّء الأخلاق كما هو مقتضى الإطلاق في آية الإسراء هذه، وآية السجدة، لأن الأخلاق ناشئة عن العقائد ولازمة لها، ولأنهما كليهما لا تكمل النفس الإنسانية إلاّ بالشفاء فيهما. ولا ينافي أيضاً حصول الشفاء للأبدان بالقرآن في بعض الأحوال كما هو مقتضى الإطلاق أيضاً، ومقتضى ما سيأتي من الآثارة وإن كان هذا ليس هو المقصود بالقصد الأول من شفاء القرآن.
تقسيم:
الأمراض الإنسانية قسمان:
أمراض أرواح وأمراض أبدان، وكلاهما أنواع.
وأمراض الأرواح المقصودة بالذات هنا ترجع إلى نوعين:
الأول مرض العقول: بجمود النظر، وفساد الإدراك، وتقليد الآباء، واعتقاد الباطل، والشك في الحق.
والثاني مرض النفوس: بفساد الأخلاق، وانحطاط الصفات. أما الأعمال فهي تابعة لهما فتصلح بصلاحهما وتفسد بفسادهما.
والقرآن قد جاء داعياً إلى النظر، والتفكر، والاعتبار، والتدبير، مبيناً بما ساق من حجج رسله الطريق الأقوم في الإدراك الصحيح، والسبيل الأسدَّ في الفهم والتفهيم، ناعيا على المقلدين تقليدهم، كاشفاً لأهل الباطل عن باطلهم، ذاكراً من قواطع البراهين البينة الواضحة، ما لا يبقى معه خفاء في الحق ولاريب.
وجاء أيضاً مبيناً للأخلاق الفاسدة، وذاكراً سوء أثرها وقبح مغبتها، مبيناً كذلك الأخلاق الصحيحة وعظيم نفعها، وحسن عاقبتها. فهذا شفاؤه للنفوس والعقول، وهو راجع إلى تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق وبهما سلامة الأرواح وكمالها وعليهما قوام الهيئة الاجتماعية وانتظامها. على أن القرآن هو شفاء للاجتماع البشري، كما هو شفاء لأفراده: فقد شرع من أصول[/rtl]
[rtl]العدل، وقواعد العمران، ونظم التعامل، وسياسة الناس، ما فيه العلاج الكافي، والدواء الشافي لأمراض المجتمع الإنساني من جميع أمراضه وعلله.
شفاء العقائد والأخلاق.
شفاء العقائد والأخلاق أساس الأعمال والمجتمع. هذه الأمراض لا تكاد تخلو آيات القرآن من معالجتها، وبيان ما هو شفاء لها. ولا شفاء لها إلاّ بالقرآن، والبيان النبوي راجع إلى القرآن. ومن طلب شفاءها في غير القرآن فإنه لا يزيدها إلاّ مرضا.
فهذه الأمم الغربية بسجونها، ومشانقها، ومحاكمها، وقوتها، قد امتلأت بالجنايات والفظائع المنكرة التي تقشعر منها الأبدان.
وهذه الممالك الإسلامية التي تقيم الحدود القرآنية كالمملكة الحجازية، والمملكة اليمانية، قد ضرب الأمن رواقه عليهما، واستقرت السكينة فيهما دون سجون ولا مشانق، مثل أولئك؛ وما ذلك إلاّ لأنهم داووا الملك بدواء القرآن فكان الشفاء التام.
شفاء الأبدان:
وأما الأمراض البدنية، فقد قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «ما أنزل الله داء إلاّ أنزل له شفاء» رواه البخاري من طريق أبي هريرة (1) .
وقال: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برىء بإذن الله تعالى» رواه مسلم من طريق جابر (2) .
وثبت عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه استشفى واسترقى ببعض آيات القرآن العظيم (3) ، وأقر على ذلك من فعله من أصحابه.
روى البخاري من طريق يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
«كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده. (قالت عائشة) : فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أوى إلى فراشه» (4) .
وروى الشيخان، واللفظ للبخاري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
__________
(1) في كتاب الطب باب 1 حديث 5678.
(2) في كتاب السلام باب 26 حديث 69.
(3) في صحيح البخاري في كتاب الطب بابان: الأول باب. الرقى بالقرآن والمعوذات رقم 32، والثاني باب الرقى بفاتحة الكتاب رفم 33. وفي الصحاح الخمسة الأخرى أبواب ثابتة في الاستشفاء والاسترقاء بآيات القرآن.
(4) أخرجه البخاري في الطب باب 39 حديث رتم 5748.[/rtl]
[rtl]«انطلق نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء.
فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء. فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؛ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا (1) .
فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ الحمد لله رب العالمين؛ فكأنما نشط من عقال (2) . فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفهم جعلهم الذي صالحوهم عليه.
فقال بعضهم: اقسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا له. فقال: وما يدريك أنها رقية؟!. ثم قال: قد أصبتم؛ أقسموا واضربوا لي معكم سهما» (3) فضحك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
فثبت بهذين الحديثين أن في القرآن شفاء للأبدان.
وحصل عندنا من جميع ما تقدم أنه شفاء للأرواح والأبدان للأفراد والمجتمع.
مداواة الأبدان بالطب والقرآن:
ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الأمر بالتداوي قولًا وعملاً.
وثبت عنه الاستشفاء بالقرآن. ولا منافاة بينهما، فإن الإنسان مركب من روح من عالم النور، وجسم من عالم المادة المركبة.
فمن الحكمة الإلهية أن شرع الله لنا عند الأمراض على لسان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الجمع بين الأدوية المادية، التي هي المناسبة للبدن، والآيات القرآنية التي هي المناسبة للروح، مع ما في الأدوية القرآنية من اطمئنان القلب بالله، وقوته به، وانتعاشه بذكره، وفي ذلك من تقوية للروح ونعيمها ما يهون عليها ألم المرض، ويشفيها بإذن الله تعالى عليه.
ومثل الآيات القرآنية في ذلك، كل ما ثبت في السنة من الرقى النبوية المأثورة.
__________
(1) الجعل (بضم الجيم وسكون العين) : ما يجعل على العمل من أجر.
(2) قوله «نشط من عقال» ويقال «أنشط من عقال» أي حل. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (57/5- مادة نشط) .
(3) أخرجه البخاري في الإجارة باب16، والطب باب33 و39. ومسلم في السلام حديث66. وأبو داود في البيوع باب37، والطب باب19. وأحمد في المسند (3/ 10، 44) .[/rtl]
[rtl]تحذير:
فرط قوم: فأهملوا الاستشفاء بالذكر المأثور، واقتصروا على الدواء المادي، فحرموا أنفسهم من خير كثير، إذا لم يكونوا له كالمنكرين.
وأفرط آخرون: فأهملوا الدواء المادي، وزهدوا الناس فيه وتزيدوا في جانب المأثور، حتى خرجوا عنه واتخذوا لهم من ذلك حرفة وموردا للمعاش. ونسوا أنواع أشفية القرآن الروحية والإجتماعية، التي هي المقصود بالمقام الأول من تنزيله مقتصرين على الوجه الذي وجد منه سبيلاً إلى الاسترزاق على ما أحدثوا فيه وما ابتدعوا، فعكسوا الأمر، وخالفوا السنة، ووقعوا في المحظور من عدة وجوه.
وهذان الطرفان مذمومان.
والعدل، هو الوسط الذي لا يهمل هذا ولا ذاك ويقف في الوارد عندما ورد ويتناوله على ما ورد.
تطبيق:
نزول الآيات في الكافرين، لا يمنع من تطبيقها على من شاركهم في مثل الحال الذي أنكرته عليهم من المؤمنين، لأن الوصف المذموم مذموم، سواء أكان المتصف به مؤمناً أم كان كافرا. فالذين تتلى عليهم الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وتوضح لهم الدلائل الشرعية، وهم لها معرضون، وعن تدبرها غافلون، وبها يتهاونون، يزدادون بكل مرة [[إثما]] بإعراضهم وغفلتهم وتهاونهم، فيخسرون بقدر ما يفوتهم من الهداية على حسب حالتهم، وإذا لم يكن كخسار الكافرين، فهو كخسار المعرضين، الغافلين، المتهاونين، وكفى به خساراً يتنزه عنه المؤمنون ويأباه الكافرون.
سلوك:
نتناول القرآن العظيم دواء من عند ربنا:
شفاء لأمراض عقولنا وأمراض نفوسنا، وأمراض مجتمعنا، فنتطلب ذلك منه؛ بتدبر وتفهم إشاراته، ووجوه دلالاته.
وشفاء أيضاً لأبداننا؛ فنفعل كما كان يفعل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا أوى إلى فراشه، على ما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها وعلى ما جاء من نحو ذلك، مما ثبت عنه عليه وآله الصلاة والسلام، وانتهى إليه علمنا.
غير مقصرين ولا غالين، وعلى ربنا متوكلين.
سائلين الله أن يشفينا بالقرآن أجمعين. آمين يا رب العالمين.[/rtl]
[rtl]صفتان من صفات النوع الإنساني: الإعراض عن النعمة واليئوس من الرحمة
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) } [الإسراء: 83 و 84] .
تمهيد:
في النوع الإنساني غرائز غالبة عليه، لا يسلم منها إلاّ من عصم الله، أو وفق إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي آيات القرآن العظيم بيان لكثير من تلك الغرائز، للتحذير من شرها، والتنبيه على سوء مغبتها، منها هذه الآية الكريمة.
المناسبة:
لما ذكر تعالى أن القرآن يكون شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً، بين تعالى سبب خسار أولئك الظالمين، وهو إعراضهم عن الله، وبعدهم عنه، ويأسهم من رحمته. وعلم منه أن المؤمنين الذين كان القرآن لهم شفاء ورحمة هم على الضد منهم: فهم أهل إقبال على الله تعالى، وقرب منه، ورجاء فيه.
{أنعمنا} أوصلنا أنواع الإحسان.
{الإنسان} المراد به النوع، باعتبار مجموعه، فلا ينافي خروج أفراد كثيرين بالعصمة والتوفيق.
{أعرض} صد بوجهه إلى ناحية أخرى، فأرى عرض وجهه، أي ناحية وجهه.
{نأى} بعد.
{بجانبه} بناحيته بشقه الأيمن أو الأيسر، والباء للتعدية أي أبعد جانبه.
{مسه} أصابه.
{الشر} البلايا والرزايا بأنواعها.
{يئوسا} شديد اليؤس والقنوط، وعدم انتظار الفرج.
جيء بفعل الشرط وجوابه (1) ماضيين، لتحقق وقوعهما؛ ولذلك كان التعليق بـ "إذا" وجواب الشرط والفعل والمعطوف عليه، فيهما الصورة التامة للمعرض غاية الإعراض؛ فإنه يصرف عنك وجهه، وهذا مفاد الفعل الأول (2) ويلوي عنك [[عطفه]] ويبعد جانبه، ويوليك ظهره،
__________
(1) فعل الشرط: أنعمنا. وجوابه: أعرض، وناى.
(2) أي "أعرض".[/rtl]
[rtl]وهذا مفاد الفعل الثاني (1) . ثم هما كناية عن الاستكبار وعدم الاكتراث، وعدم الالتفات إلى مولي النعم، سواء حصلت هذه الصورة بالفعل أو لم تحصل.
المعنى:
أ- وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض تمام الإعراض.
إما بعدم قبول تلك النعمة استكباراً، أو تهاونا كما يكون من الذين يكفرون بالقرآن أو يخالفونه، وهو من أعظم نعم الله عليهم.
وإما بعدم القيام بحق الله في تلك النعمة، وعدم شكره عليها، كنعمة العقل، والبدن، والحال (2) وغيرها ... ، إذا لم تُستعمل في طاعة الله، ولم يقم بحقه فيها.
ب- وإذا مس الإنسان الشر، ونزلت به المصائب، وحلت به النوائب، استولى عليه اليأس والقنوط، وانسدت في وجهه أبواب الرجاء.
توجيه:
يرتبط اليأس من رحمة الله بالإعراض عن نعمته من جهتين:
الأولى: أن من أعرض عن نعمة الله قطع صلته بخالقه، وذهب ممعنًا في بعده. فإذا نزلت به المصيبة كان كالمنقطع به في البيداء: يجد نفسه وحده فيأخذه اليأس والقنوط من كل جانب.
الثانية: أن الإعراض عن النعمة ترك لها ولموليها، والآيس متروك لوحده، مغضوب عليه، قد تَرَكَ فَتُرِكَ، وكان جزاؤه من جنس عمله.
انتقال واعتبار:
تلك حالة أهل الإعراض.
أما أهل الإقبال على الله تعالى والقبول لإنعامه، فإن قلوبهم عامرة بالله، وصلتهم متينة به؛ فإذا نزلت بهم المصائب، رجعوا إليه وانتظروا رحمته، فكان ذكره غناهم في الفقر، وأنسهم في الوحشة، ونعيمهم في الألم؛ وكان لهم من الرجاء أنواع رحمته، ما يهون عليهم جميع المصائب.
تبصير وتحذير:
بصرنا القرآن في هذين الوصفين الذميمين: الإعراض عن النعمة، واليأس من الرحمة، ونحن نراهما فاشيين في أكثر الناس على تفاوت بينهم، على حسب ما عندهم من إيمان وعمل صالح.
بصرنا القرآن بهما ليحذرنا منهما ومن سوء عواقبهما، فإن الإعراض عن النعمة كفر بها
__________
(1) أي " نأى".
(2) كذا في الأصل. ولعل الصواب (الجاه) .[/rtl]
[rtl]ومقتض لسلبها، وأن اليأس من رحمة الله جهل به، وكفر بما هو متقلب فيه من نعمه وموجب لانطماس القلب، وشلل البدن، وانقطاع الأعمال.
فليحذر المؤمن من هذين الوصفين الذميمين، وليعمل على اجتنابهما واجتثاثهما من أصلهما.
سلوك:
على المرء أن يقبل نعم الله تعالى، ويقبل عليها إقبال المستعظم لها، العارف بحقها، وعظيم الفضل بها، ليقوم بشكرها، وذكر الله عندها، وليتفحصها، وليتأملها نعمة نعمة، ليشكر الله عليها واحدة واحدة بالقلب واللسان والأركان، حسب المستطاع.
حتى ما يكون من باب المصائب والآلام، فإنه يتناوله على أنه نعمة من الله تعالى، بما فيه من أجر وتمحيص، وما يحصل به من رجوع وإنابة، وما يكون منه من تربية وتدريب على السلوك اللازم في الحياة الفردية وإلاجتماعية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
وليكن دائماً متمسكاً بحبل الرجاء في الله، تيسير الأسباب، وكشف الكروب، ودفع المكروه؛ فالرجاء حسن ظن في الرب، وقوة في القلب، وباعث على العمل، ومخفف أو مذهب للألم.
فيا لها من عظيم أجرها، جليل نفعها في الدنيا والدين.
فهنيئاً للشاكرين الراجين.
ويا ويح الكافرين- كفر عقيدة أو كفر نعمة- القانطين.
مباينة سلوك أهل الحق لسلوك أهل الباطل:
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} .
قد استفيد بما تقدم تقسيم الخلق إلى قسمين: أهل إيمان ورجاء، وأهل كفر وقنوط؛ فجاء البيان في هذه الآية بأن كل فريق له مذهبه وطريقه الذي يكون عليه.
{شاكلته} طريقته ومذهبه، المشاكلة اللائقة به، التي صارت له طبيعة وخلقا.
{أهدى سبيلاً} ، أسد مذهباً، وأقوم طريقاً.
التعبير بالمضارع مع لفظة على، يفيد تجدد العمل وانبناءه على الخلق والطبيعة.
المعنى:
قل يا محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كل فريق منا ومنكم يعمل في حياته على طريقته ومذهبه، فأعمالنا مباينة لأعمالكم، لأن طريقتنا مباينة لطريقتكم، فربكم أعلم بمن هو أقوم طريقاً، وأسد مذهباً، فيثيب المهتدين، ويعاقب الضالين.
فوائد استدراج الضال لقبول الهداية:
أ- وذلك بمناصفته بأنك على ناحيتك، وهو على ناحيته، وإظهار التساوي معه أمام علم الله[/rtl]
[rtl]وقدرته، وهذا من أنجع الأسباب في إنجاح الدعوة. وعليه في القرآن آيات كثيرة منها سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فينبغي لدعاة الحق أن يلزموه ولا يهملوه.
ب- والبراءة من أهل الباطل، وذلك بإعلان المباينة لهم، والمخالفة لهم في عملهم، وما انبنى عليه عملهم بأسلوب المناصفة الذي جاءت به الآية فتحصل البراءة مع الفائدة المتقدمة.
انبناء الأعمال على العقائد والأخلاق:
فإن الآية- وإن كانت بالخطاب الأول للمشركين، ثم لأمثالهم من الكافرين- تفيد أن كل أحد تبنى أعماله على مذهبه وطريقته، التي هي خلقه وطبيعته.
ونأخذ من هذا:
أن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد، وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر، وفي الجسد مضغة (9) إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (2) .
فعل المؤمن ما يناسب إيمانه:
فإن كان يعمل على طريقته وطبيعته اللائقة به، ولا يليق بالمؤمن ولا يشاكله إلاّ الصدق في القول، والإحسان، والوفاء، والأمانة، فلا يظلم من ظلمه، ولا يخون من خانه، ولا يكذب على من كذب عليه، فلا تجري أفعاله في مقابلة الناقص على ما يشاكل ذلك الناقص، بل تجري أفعاله على ما يشاكله هو في إيمانه وكماله.
مراقبة الله في السلوك:
فإن علمنا بأنه أعلم بمن هو أهدى سبيلاً، يدعونا إلى المبالغة في تقويم سلوكنا، حتى نكون على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فإنه هو أهدى الطرق، وأقربها.
وما ذلك الصراط المستقيم إلاّ القرآن العظيم، والهدي النبوي الكريم وسلوك السلف الصالح، وذلك هو دين الإسلام.
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين الاستقامة، والنجاة يوم القيامة، بمنه وكرمه آمين.
__________
(1) المضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها.
(2) جزء من حديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . رواه البخاري في الايمان باب39، ومسلم في المساقاة حديث107، وابن ماجة في الفتن باب14. والدارمي في البيوع باب1.[/rtl]
[rtl]القسم الثاني في سورة الفرقان
في هذا القسم:
1- الفرقان.
2- كلام الظالمين في الكتاب الحكيم، والرسول الكريم، ورد رب العالمين.
3- منزلة الرسالة العلية والضرورات البشرية.
4- فتنة العباد بعضهم ببعض.
5- ندامة الظالم على تركه السبيل القويم، وصحبته للمضلين.
6- شكوى النبي الكريم، وتسليته وتثبيته.
7- تثبيت القلوب بالقرآن العظيم.
8- الحق والبيان في آيات القرآن.
9- حشر الكفار إلى النار.
10- من إكرام الله تعالى عبده، تحميله أعباء الرسالة وحده.
11- عدم طاعة الكافرين، والجهاد بالقرآن العظيم.
12- تعاقب الليل والنهار للتفكير والعمل.
13- القرآن يصف عباد الرحمن.
14- السجود والقيام.
15- الدعاء بصرف العذاب.
16- عدم الإسراف والتقتير.
17- عبادة الله وحده، وعدم قتل النفس، والبعد عن الزنا.
18- الوعيد على فعل هذه الموبقات.
19- استثناء التائبين من المذنبين.
20- بشارة التائبين إلى رب العالمين.
21- اجتناب شهادة الزور.
22- المرور باللغو مر الكرام.
23- قبول التذكير، والعمل به.
24- طلب الكمال والخير وقرور العين.
25- جزاء عباد الرحمن.
26- قيمة العباد عند ربهم بقدر عبادتهم.[/rtl]
[rtl]الفرقان
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } [الفرقان:1و2] .
{تبارك} مادة (ب ر ك) كلها ترجع إلى معنى الثبوت، منها: بروك الإبل، استناختها، والبركة كالقربة مثل الحوض يثبت فيها الماء. والبراكاء الثبات في الحرب، ومنها البركة بمعنى النماء والزيادة، ولا ينمو ويزيد إلا ما كان ثابت الأصل، وشأن ثابت الأصل أن ينمو ويزيد، فلم تخرج عن معنى الثبوت؛ وتبارك من البركة فمعناه تزايد خيره.
والله تعالى له الكمال، ومنة الإنعام، فتبارك: أي تزايد كماله وانعامه، فلا تحصى إنعاماته، ولا تحد كمالاته.
وثبوت الكمال ينافي وينفي ضده؛ فيقتضي التنزه عن النقص.
فانتظم اللفظ ثلاثة معاني:
التنزه عن النقص، والاتصاف بالكمال، والإفاضة للإنعام. (فتبارك: تقدس وتعاظم) الفعل الأول مفيد للأول والفعل الثاني مفيد للثاني والثالث.
{نزل} مادة (ن ز ل) كلها ترجع إلى معنى الهبوط من عل، والحلول في أسفل.
ونزّل المضاعف أبلغ في المعنى من أنزل، وقد يفيد كثرة النزول كما هنا؛ لأنه نزله مفرقاً على نيف وعشرين سنة. وقد يفيد القوة في نزول واحد كما في قوله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرفان: 32] .؛ لأن تنزيل الجملة أقوى من إنزال التفصيل.
{الفرقان} أصله مصدر فرق بمعنى فصل. وهو أبلغ في الدلالة على المعنى من فرق المصدر المجرد، بما فيه من زيادة الألف والنون، كما كان القرآن أبلغ من القراءة لذلك.
وهو هنا إسم من أسماء هذا الكتاب الكريم.
{نذيرًا} مادة (ن ذ ر) كلها ترجع إلى الإعلام والتحتيم، فمنها: نذر على نفسه الصوم أوجبه وحتمه وأعلم به ونذر بالعدو كفرح علم به وأنذره، أعلمه؛ ولا يستعمل إلا في إبلاع ما فيه تخويف، فهو إعلام بتأكيد وتحتيم. ونذير هنا بمعنى منذر من فعيل بمعنى مفعل.
{الذي نزل} عرف المسند إليه بالموصولية لزيادة تقرير الغرض الذي إليه سيق الكلام لأن[/rtl]
[rtl]الغرض بيان كمالات الله تعالى وإنعاماته، وتنزيل الفرقان منها، فهو من أعظم نعم الله على البشر، ومن آيات الله الدالة على قدرته وعلمه وحكمته.
{عبده} إضافة تشريف لأنه أكمل العباد.
المعنى:
تقدس وتعاظم الرب الذي نزل الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال وحزبيهما من الناس، مفصلاً آيات على محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل عباده؛ ليكون بذلك الكتاب- لجميع الإنس والجن- منذراً لهم يعلمهم بعذابه، ويخوفهم بشديد عقابه إن لم يعبدوه وحده، ويخلعوا غيره من آلهتهم الباطلة، ويدخلوا في الدين الذي جاءهم به وهو الإسلام.
توحيد:
هذا الفعل وهو "تبارك" لا يسند إلاّ إلى الله تعالى؛ ذلك لأن العظمة الحقيقية بالكمال والإنعام والتقديس بالتنزه التام ليسا إلاّ له. وما من كامل من مخلوقاته إلاّ وهو- جل جلاله- الذي كمله. وما من منعم عليه منهم إلاّ وهو تعالى الذي أنعم عليه، وما من زكي منهم إلاّ وهو- سبحانه- الذي زكاه.
سلوك:
هذا الرب الكامل المكمل، المنعم المتفضل القدوس، هو الذي أنزل هذا الفرقان. فإذا أردت أن ترقى في درجات الكمال، وتظفر بأنواع الإنعام وتزكي نفسك الزكاء التام، فعليك بهدى هذا الفرقان، فهو بساط القدس، ومعراج الكمال، ومائدة الاكرام.
وقد سئلت عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن خلق النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (1) » (2) .
فقه واستنباط:
لما سمى الله كتابه الفرقان، علمنا أنه به يفرق بين الحق والباطل، ولكل هذا وذاك. فهو الحكم العدل، والقول الفصل بين كل متنازعين يدعي كل منهما أنه على الحق، فيما هو عليه من عقد، أو قول، أو عمل.
فما تقابل حق وباطل، وما تعالجت حجة وشبهة إلاّ وفي هذا الكتاب الحكيم ما يفرق ما
__________
(1) كان خلقه القرآن: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.
(2) جزء من حديث روي في الصحاح مطولاً ومختصراً. رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث139. وأبو داود في التطوع باب26. والترمذي في البر باب69. والنسائي في قيام الليل باب2. وابن ماجة في الأحكام باب14. والدارمي في الصلاة باب165. وأحمد في المسند (6/ 54، 91، 111، 153، 216،) .[/rtl]
[rtl]بينهما (1) . وإنما يتفاوت الناس في إدراك ذلك منه على حسب ما عندهم من قوة علم، وصدق بصيرة، وحسن إخلاص.
فعلينا- إذن- أن يكون أول فزعنا في الفرق والفصل إليه.
وأن يكون أول جهدنا في استجلاء ذلك من نصوصه ومراميه، مستعينين بالسنة القولية والعملية على استخراج لَآلِيه.
فإذا حكم قبلنا وسلمنا وكنا مع ما حكم له، وفارقنا ما حكم عليه؛ فالله سماه الفرقان، لنعلم أنه فارق بنفسه، ولنعمل بالفرق به، ولا يكمل إيماننا بأنه الفرقان، إلاّ بالعلم والعمل.
ولما جعل- تعالى- غاية تنزيل الفرقان أن يكون عبده نذيراً، اقتضى ذلك أن نذارته تكون بالقرآن؛ لتقوم الحجة، وتتم الحكمة، وتحصل الفائدة وتشمل النعمة.
وقد صرح بهذا في قوله تعالى:
{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2] .
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] .
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91،92] .
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] .
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] .
فعلينا- إذن- أن نعلم أن القرآن هو كتاب النذارة والهداية، فنستخرج أصولها وفنونها من آياته، وهذا حظ العلم، وأن يكون اهتداؤنا في أنفسنا وهدينا لغيرنا به وهذا حظ العمل وهما ركنا الإيمان.
***
تطبيق وتحاكم:
في العالم الإسلامي كله اليوم طائفتان من المؤمنين (2) ، يتنازعان خطة الهداية والنذارة والتذكير.
ولكل منهما- في سلوكها للقيام بتلك الخطة- سبيل.
وكل منهما تدعي أنها على الصواب، وأنها الأحق والأولى بنفع العباد.
__________
(1) قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} سورة الأنعام، الآية 38.
(2) يشير إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وما يشبهها، وإلى الطرقية المبتدعة (عن حاشية المطبوع: ص249) .[/rtl]
[rtl]فرأينا أن نطبق فصل الفرقان عليهما، وننظر: كيف يفرق ما بينهما ومن هي المصيبة أو المخطئة. وفي ضمن ذلك تحاكمهما إليه وفصل النزاع بينهما بحكمه.
وإنما اخترناهما للتطبيق والتمثيل، لخطر الخطة التي تنازعا عليها، وعظيم النفع والضرر الذي يحصل من خطأ المخطىء، وصواب المصيب بها؛ ولأن الهداية والنذارة والتذكير أمور لها أنزل القرآن، فتنازعهما عليها تنازع عليه.
فأحق فصل أن نمثل به لنعلم فصله هو بين المتنازعين فيه.
وها نحن نعرض بعض حال كل طائفة في قيامها بالخطة، ثم نسوق آيات القرآن، وننظر من أسعد الطائفتين بها:
الطائفة الأولى:
يذكرون من يدعونهم بغير القرآن بأحزاب وأوراد من وضعهم، لا مما ثبت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلاّ قليلاً.
ولهم عليهم في أموالهم حق في أوقات من السنة معلومة.
والطائفة الثانية:
يذكرون الناس بالقرآن فيأمرونهم بقراءته وتدبره، ويبينون لهم معانيه، ويحثونهم على التمسك به والرجوع إليه.
ويدعونهم إلى الأذكار النبوية الثابتة في الكتب الصحاح، لرجوعها إلى القرآن لحكم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] .
ولا يطلبون عليهم في ذلك أجراً.
والله تعالى يقول في الحال الأول: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} [ق: 45] . وغيرها من الآيات المتقدمة في هذا المجلس.
ويقول- تعالى- في الحال الثاني لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] .
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] .
ويقول في آية صريحة صراحة تامة في بيان من يجب أن يتبع من الدعاة: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] .
ومن هم المهتدون؛ هم المتبعون للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . واتباعه بالنسبة لموضوعنا هو اتباعه في طريق دعوته الخلق إلى الله.[/rtl]
وقد ثبت بالقرآن أنه كان يدعو بالقرآن، ويذكر به، وأنه لا يسأل على ذلك أجراً.
بان- والحمد لله- بما ذكرنا حكم القرآن بين الطائفتين، واتضح طريق الحق في الدعوة والإرشاد لمن يريد سلوكه منهما.
والله نسأل لنا ولهم قبول الحق والتعاون عليه والقوة والإخلاص في الصدع (1) به والثبات عليه.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] .
***
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) } [الإسراء: 82] .
تمهيد:
لما جاء في الآية السابقة الإخبار بمجيء الحق، وفي مجيئه صحة الأرواح والأبدان والأحوال. وبزهوق الباطل، وفي ذهابه ذهاب العلل والأمراض. كذلك جاء في هذه الآية بذكر القرآن، والإخبار عما فيه من الشفاء والرحمة؛ تنبيها على أنه هو الشافي من أمراض الباطل وعلله، وأنه هو مصدر الحق وحجة ناصره، ومحصل الرحمة لأتباعه والمتمسكين به.
{من} لابتداء الغاية، أو للتبعيض، لأنه نزل مبعضاً، فكل بعض نزل منه شفاء ورحمة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب8، والقرآن باب17 و81. والترمذي في الصلاة باب43. والنسائي في الأذان باب38.[/rtl]
[rtl](1/141)[/rtl]
(الرحمة) النعمة.
(الظلم) وضع الشيء في غير محله: كوضع الكفر موضع الإيمان.
(الخسار) النقص والضياع يكون في الأموال، يقال: خسر ماله إذا ضيعه. ويكون في النفوس، فيقال: خسر نفسه إذا ضيعها ولم يستعملها فيما خُلقت له من الطاعة والكمال. ويكون في الدين فيقال: خسر دينه إذا ضيعه ولم يعمل به، فخاسر القرآن من ضيعه ولم يؤمن به.
قرنت جملة ننزل بالواو مع أن ما قبلها إنشائية؛ وذلك على وجهين:
الأول: أن تكون معطوفة على جاء الحق، أي وقل: ننزل. فعطفت الخبرية على الخبرية التي لها محل، وهو المفعولية بالقول.
الثاني: أن تكون (الواو) للاستئناف: وهي في الحقيقة صلة في الكلام لتقويته، وقرنت جملة لا يزيد بالواوة لأنها معطوفة على جملة الصلة.
وعبر بالمضارع في {ننزل} و {يزيد} : قصد المعنى للتجدد؛ لأن الآيات كانت تنزل شيئاً فشيئاً.
وتنكير {شفاء} و {رحمة} للتعظيم.
وقدم (الشفاء) ، لأنه برء من النقص، على (الرحمة) ، لأنها حصول الكمال، تقديم التحلية وآيات القرآن سبب في حصول الشفاء، فجعلت هي شفاء على طريق المبالغة تنبيهاً على تحقق حصوله بها.
المعنى:
وننزل عليك يا محمد- بحسب الوقائع والمناسبات- آيات من القرآن العظيم، هي شفاء يستشفي بها المؤمنون، ونعمة عظيمة أنعمنا بها عليهم يؤمنون بها ويحلون حلالها، ويحرمون حرامها، ويعملون بما فيها فينالون سعادة الدنيا والآخرة.
أما الكافرون الظالمون الذين قابلوا بالكفر ما يجب أن يقابل بالإيمان، وقابلوا بالرد ما يجب أن يقابل بالقبول، فإن نزول تلك الآيات يكون سبباً في زيادة خسارهم، وضياع الخير عليهم، إذ كل آية من تلك الآيات كانت كافية في شفائهم لو استشفوا بها، ونزول الرحمة عليهم لو اهتدوا بها إلى الإسلام.
لكنهم يقابلون كل آية بالكفر والجحود، فيخسرون في كل مرة كنزاً عظيماً. وهكذا يزداد خسارهم بقدر كفرهم المتجدد بنزول الآيات.
تنظير:
وصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء في مواضع من كتابه منها هذه، ومنها قوله تعالى في:[/rtl]
[rtl](1/142)[/rtl]
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] .
وأفادت الآيات كلها أنه شفاء لأهل الإيمان الذين يؤمنون دون غيرهم، فإنهم بإعراضهم عنه كانوا من الخاسرين.
وجاءت آية يونس بتقييد الشفاء بها في الصدور الذي هو مستقر العقائد، لأن ذلك هو المقصود الأول من هداية القرآن، وأصل لغيره، فإنه إذا شفيت الصدور من عقائد السوء، ونزعات الشكوك، واعتقدت الحق، وارتبطت على اليقين؛ زكت النفوس واستقام سلوك الإنسان فرده وجماعاته، ورقي درجات الكمال.
فلا ينافي ذلك أن القرآن شفاء أيضاً للنفوس من سىّء الأخلاق كما هو مقتضى الإطلاق في آية الإسراء هذه، وآية السجدة، لأن الأخلاق ناشئة عن العقائد ولازمة لها، ولأنهما كليهما لا تكمل النفس الإنسانية إلاّ بالشفاء فيهما. ولا ينافي أيضاً حصول الشفاء للأبدان بالقرآن في بعض الأحوال كما هو مقتضى الإطلاق أيضاً، ومقتضى ما سيأتي من الآثارة وإن كان هذا ليس هو المقصود بالقصد الأول من شفاء القرآن.
تقسيم:
الأمراض الإنسانية قسمان:
أمراض أرواح وأمراض أبدان، وكلاهما أنواع.
وأمراض الأرواح المقصودة بالذات هنا ترجع إلى نوعين:
الأول مرض العقول: بجمود النظر، وفساد الإدراك، وتقليد الآباء، واعتقاد الباطل، والشك في الحق.
والثاني مرض النفوس: بفساد الأخلاق، وانحطاط الصفات. أما الأعمال فهي تابعة لهما فتصلح بصلاحهما وتفسد بفسادهما.
والقرآن قد جاء داعياً إلى النظر، والتفكر، والاعتبار، والتدبير، مبيناً بما ساق من حجج رسله الطريق الأقوم في الإدراك الصحيح، والسبيل الأسدَّ في الفهم والتفهيم، ناعيا على المقلدين تقليدهم، كاشفاً لأهل الباطل عن باطلهم، ذاكراً من قواطع البراهين البينة الواضحة، ما لا يبقى معه خفاء في الحق ولاريب.
وجاء أيضاً مبيناً للأخلاق الفاسدة، وذاكراً سوء أثرها وقبح مغبتها، مبيناً كذلك الأخلاق الصحيحة وعظيم نفعها، وحسن عاقبتها. فهذا شفاؤه للنفوس والعقول، وهو راجع إلى تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق وبهما سلامة الأرواح وكمالها وعليهما قوام الهيئة الاجتماعية وانتظامها. على أن القرآن هو شفاء للاجتماع البشري، كما هو شفاء لأفراده: فقد شرع من أصول[/rtl]
[rtl](1/143)[/rtl]
شفاء العقائد والأخلاق.
شفاء العقائد والأخلاق أساس الأعمال والمجتمع. هذه الأمراض لا تكاد تخلو آيات القرآن من معالجتها، وبيان ما هو شفاء لها. ولا شفاء لها إلاّ بالقرآن، والبيان النبوي راجع إلى القرآن. ومن طلب شفاءها في غير القرآن فإنه لا يزيدها إلاّ مرضا.
فهذه الأمم الغربية بسجونها، ومشانقها، ومحاكمها، وقوتها، قد امتلأت بالجنايات والفظائع المنكرة التي تقشعر منها الأبدان.
وهذه الممالك الإسلامية التي تقيم الحدود القرآنية كالمملكة الحجازية، والمملكة اليمانية، قد ضرب الأمن رواقه عليهما، واستقرت السكينة فيهما دون سجون ولا مشانق، مثل أولئك؛ وما ذلك إلاّ لأنهم داووا الملك بدواء القرآن فكان الشفاء التام.
شفاء الأبدان:
وأما الأمراض البدنية، فقد قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «ما أنزل الله داء إلاّ أنزل له شفاء» رواه البخاري من طريق أبي هريرة (1) .
وقال: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برىء بإذن الله تعالى» رواه مسلم من طريق جابر (2) .
وثبت عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه استشفى واسترقى ببعض آيات القرآن العظيم (3) ، وأقر على ذلك من فعله من أصحابه.
روى البخاري من طريق يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
«كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده. (قالت عائشة) : فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أوى إلى فراشه» (4) .
وروى الشيخان، واللفظ للبخاري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
__________
(1) في كتاب الطب باب 1 حديث 5678.
(2) في كتاب السلام باب 26 حديث 69.
(3) في صحيح البخاري في كتاب الطب بابان: الأول باب. الرقى بالقرآن والمعوذات رقم 32، والثاني باب الرقى بفاتحة الكتاب رفم 33. وفي الصحاح الخمسة الأخرى أبواب ثابتة في الاستشفاء والاسترقاء بآيات القرآن.
(4) أخرجه البخاري في الطب باب 39 حديث رتم 5748.[/rtl]
[rtl](1/144)[/rtl]
فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء. فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؛ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا (1) .
فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ الحمد لله رب العالمين؛ فكأنما نشط من عقال (2) . فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفهم جعلهم الذي صالحوهم عليه.
فقال بعضهم: اقسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا له. فقال: وما يدريك أنها رقية؟!. ثم قال: قد أصبتم؛ أقسموا واضربوا لي معكم سهما» (3) فضحك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.
فثبت بهذين الحديثين أن في القرآن شفاء للأبدان.
وحصل عندنا من جميع ما تقدم أنه شفاء للأرواح والأبدان للأفراد والمجتمع.
مداواة الأبدان بالطب والقرآن:
ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الأمر بالتداوي قولًا وعملاً.
وثبت عنه الاستشفاء بالقرآن. ولا منافاة بينهما، فإن الإنسان مركب من روح من عالم النور، وجسم من عالم المادة المركبة.
فمن الحكمة الإلهية أن شرع الله لنا عند الأمراض على لسان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الجمع بين الأدوية المادية، التي هي المناسبة للبدن، والآيات القرآنية التي هي المناسبة للروح، مع ما في الأدوية القرآنية من اطمئنان القلب بالله، وقوته به، وانتعاشه بذكره، وفي ذلك من تقوية للروح ونعيمها ما يهون عليها ألم المرض، ويشفيها بإذن الله تعالى عليه.
ومثل الآيات القرآنية في ذلك، كل ما ثبت في السنة من الرقى النبوية المأثورة.
__________
(1) الجعل (بضم الجيم وسكون العين) : ما يجعل على العمل من أجر.
(2) قوله «نشط من عقال» ويقال «أنشط من عقال» أي حل. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (57/5- مادة نشط) .
(3) أخرجه البخاري في الإجارة باب16، والطب باب33 و39. ومسلم في السلام حديث66. وأبو داود في البيوع باب37، والطب باب19. وأحمد في المسند (3/ 10، 44) .[/rtl]
[rtl](1/145)[/rtl]
فرط قوم: فأهملوا الاستشفاء بالذكر المأثور، واقتصروا على الدواء المادي، فحرموا أنفسهم من خير كثير، إذا لم يكونوا له كالمنكرين.
وأفرط آخرون: فأهملوا الدواء المادي، وزهدوا الناس فيه وتزيدوا في جانب المأثور، حتى خرجوا عنه واتخذوا لهم من ذلك حرفة وموردا للمعاش. ونسوا أنواع أشفية القرآن الروحية والإجتماعية، التي هي المقصود بالمقام الأول من تنزيله مقتصرين على الوجه الذي وجد منه سبيلاً إلى الاسترزاق على ما أحدثوا فيه وما ابتدعوا، فعكسوا الأمر، وخالفوا السنة، ووقعوا في المحظور من عدة وجوه.
وهذان الطرفان مذمومان.
والعدل، هو الوسط الذي لا يهمل هذا ولا ذاك ويقف في الوارد عندما ورد ويتناوله على ما ورد.
تطبيق:
نزول الآيات في الكافرين، لا يمنع من تطبيقها على من شاركهم في مثل الحال الذي أنكرته عليهم من المؤمنين، لأن الوصف المذموم مذموم، سواء أكان المتصف به مؤمناً أم كان كافرا. فالذين تتلى عليهم الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وتوضح لهم الدلائل الشرعية، وهم لها معرضون، وعن تدبرها غافلون، وبها يتهاونون، يزدادون بكل مرة [[إثما]] بإعراضهم وغفلتهم وتهاونهم، فيخسرون بقدر ما يفوتهم من الهداية على حسب حالتهم، وإذا لم يكن كخسار الكافرين، فهو كخسار المعرضين، الغافلين، المتهاونين، وكفى به خساراً يتنزه عنه المؤمنون ويأباه الكافرون.
سلوك:
نتناول القرآن العظيم دواء من عند ربنا:
شفاء لأمراض عقولنا وأمراض نفوسنا، وأمراض مجتمعنا، فنتطلب ذلك منه؛ بتدبر وتفهم إشاراته، ووجوه دلالاته.
وشفاء أيضاً لأبداننا؛ فنفعل كما كان يفعل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا أوى إلى فراشه، على ما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها وعلى ما جاء من نحو ذلك، مما ثبت عنه عليه وآله الصلاة والسلام، وانتهى إليه علمنا.
غير مقصرين ولا غالين، وعلى ربنا متوكلين.
سائلين الله أن يشفينا بالقرآن أجمعين. آمين يا رب العالمين.[/rtl]
[rtl](1/146)[/rtl]
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) } [الإسراء: 83 و 84] .
تمهيد:
في النوع الإنساني غرائز غالبة عليه، لا يسلم منها إلاّ من عصم الله، أو وفق إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي آيات القرآن العظيم بيان لكثير من تلك الغرائز، للتحذير من شرها، والتنبيه على سوء مغبتها، منها هذه الآية الكريمة.
المناسبة:
لما ذكر تعالى أن القرآن يكون شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً، بين تعالى سبب خسار أولئك الظالمين، وهو إعراضهم عن الله، وبعدهم عنه، ويأسهم من رحمته. وعلم منه أن المؤمنين الذين كان القرآن لهم شفاء ورحمة هم على الضد منهم: فهم أهل إقبال على الله تعالى، وقرب منه، ورجاء فيه.
{أنعمنا} أوصلنا أنواع الإحسان.
{الإنسان} المراد به النوع، باعتبار مجموعه، فلا ينافي خروج أفراد كثيرين بالعصمة والتوفيق.
{أعرض} صد بوجهه إلى ناحية أخرى، فأرى عرض وجهه، أي ناحية وجهه.
{نأى} بعد.
{بجانبه} بناحيته بشقه الأيمن أو الأيسر، والباء للتعدية أي أبعد جانبه.
{مسه} أصابه.
{الشر} البلايا والرزايا بأنواعها.
{يئوسا} شديد اليؤس والقنوط، وعدم انتظار الفرج.
جيء بفعل الشرط وجوابه (1) ماضيين، لتحقق وقوعهما؛ ولذلك كان التعليق بـ "إذا" وجواب الشرط والفعل والمعطوف عليه، فيهما الصورة التامة للمعرض غاية الإعراض؛ فإنه يصرف عنك وجهه، وهذا مفاد الفعل الأول (2) ويلوي عنك [[عطفه]] ويبعد جانبه، ويوليك ظهره،
__________
(1) فعل الشرط: أنعمنا. وجوابه: أعرض، وناى.
(2) أي "أعرض".[/rtl]
[rtl](1/147)[/rtl]
المعنى:
أ- وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض تمام الإعراض.
إما بعدم قبول تلك النعمة استكباراً، أو تهاونا كما يكون من الذين يكفرون بالقرآن أو يخالفونه، وهو من أعظم نعم الله عليهم.
وإما بعدم القيام بحق الله في تلك النعمة، وعدم شكره عليها، كنعمة العقل، والبدن، والحال (2) وغيرها ... ، إذا لم تُستعمل في طاعة الله، ولم يقم بحقه فيها.
ب- وإذا مس الإنسان الشر، ونزلت به المصائب، وحلت به النوائب، استولى عليه اليأس والقنوط، وانسدت في وجهه أبواب الرجاء.
توجيه:
يرتبط اليأس من رحمة الله بالإعراض عن نعمته من جهتين:
الأولى: أن من أعرض عن نعمة الله قطع صلته بخالقه، وذهب ممعنًا في بعده. فإذا نزلت به المصيبة كان كالمنقطع به في البيداء: يجد نفسه وحده فيأخذه اليأس والقنوط من كل جانب.
الثانية: أن الإعراض عن النعمة ترك لها ولموليها، والآيس متروك لوحده، مغضوب عليه، قد تَرَكَ فَتُرِكَ، وكان جزاؤه من جنس عمله.
انتقال واعتبار:
تلك حالة أهل الإعراض.
أما أهل الإقبال على الله تعالى والقبول لإنعامه، فإن قلوبهم عامرة بالله، وصلتهم متينة به؛ فإذا نزلت بهم المصائب، رجعوا إليه وانتظروا رحمته، فكان ذكره غناهم في الفقر، وأنسهم في الوحشة، ونعيمهم في الألم؛ وكان لهم من الرجاء أنواع رحمته، ما يهون عليهم جميع المصائب.
تبصير وتحذير:
بصرنا القرآن في هذين الوصفين الذميمين: الإعراض عن النعمة، واليأس من الرحمة، ونحن نراهما فاشيين في أكثر الناس على تفاوت بينهم، على حسب ما عندهم من إيمان وعمل صالح.
بصرنا القرآن بهما ليحذرنا منهما ومن سوء عواقبهما، فإن الإعراض عن النعمة كفر بها
__________
(1) أي " نأى".
(2) كذا في الأصل. ولعل الصواب (الجاه) .[/rtl]
[rtl](1/148)[/rtl]
فليحذر المؤمن من هذين الوصفين الذميمين، وليعمل على اجتنابهما واجتثاثهما من أصلهما.
سلوك:
على المرء أن يقبل نعم الله تعالى، ويقبل عليها إقبال المستعظم لها، العارف بحقها، وعظيم الفضل بها، ليقوم بشكرها، وذكر الله عندها، وليتفحصها، وليتأملها نعمة نعمة، ليشكر الله عليها واحدة واحدة بالقلب واللسان والأركان، حسب المستطاع.
حتى ما يكون من باب المصائب والآلام، فإنه يتناوله على أنه نعمة من الله تعالى، بما فيه من أجر وتمحيص، وما يحصل به من رجوع وإنابة، وما يكون منه من تربية وتدريب على السلوك اللازم في الحياة الفردية وإلاجتماعية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
وليكن دائماً متمسكاً بحبل الرجاء في الله، تيسير الأسباب، وكشف الكروب، ودفع المكروه؛ فالرجاء حسن ظن في الرب، وقوة في القلب، وباعث على العمل، ومخفف أو مذهب للألم.
فيا لها من عظيم أجرها، جليل نفعها في الدنيا والدين.
فهنيئاً للشاكرين الراجين.
ويا ويح الكافرين- كفر عقيدة أو كفر نعمة- القانطين.
مباينة سلوك أهل الحق لسلوك أهل الباطل:
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} .
قد استفيد بما تقدم تقسيم الخلق إلى قسمين: أهل إيمان ورجاء، وأهل كفر وقنوط؛ فجاء البيان في هذه الآية بأن كل فريق له مذهبه وطريقه الذي يكون عليه.
{شاكلته} طريقته ومذهبه، المشاكلة اللائقة به، التي صارت له طبيعة وخلقا.
{أهدى سبيلاً} ، أسد مذهباً، وأقوم طريقاً.
التعبير بالمضارع مع لفظة على، يفيد تجدد العمل وانبناءه على الخلق والطبيعة.
المعنى:
قل يا محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كل فريق منا ومنكم يعمل في حياته على طريقته ومذهبه، فأعمالنا مباينة لأعمالكم، لأن طريقتنا مباينة لطريقتكم، فربكم أعلم بمن هو أقوم طريقاً، وأسد مذهباً، فيثيب المهتدين، ويعاقب الضالين.
فوائد استدراج الضال لقبول الهداية:
أ- وذلك بمناصفته بأنك على ناحيتك، وهو على ناحيته، وإظهار التساوي معه أمام علم الله[/rtl]
[rtl](1/149)[/rtl]
ب- والبراءة من أهل الباطل، وذلك بإعلان المباينة لهم، والمخالفة لهم في عملهم، وما انبنى عليه عملهم بأسلوب المناصفة الذي جاءت به الآية فتحصل البراءة مع الفائدة المتقدمة.
انبناء الأعمال على العقائد والأخلاق:
فإن الآية- وإن كانت بالخطاب الأول للمشركين، ثم لأمثالهم من الكافرين- تفيد أن كل أحد تبنى أعماله على مذهبه وطريقته، التي هي خلقه وطبيعته.
ونأخذ من هذا:
أن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد، وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر، وفي الجسد مضغة (9) إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (2) .
فعل المؤمن ما يناسب إيمانه:
فإن كان يعمل على طريقته وطبيعته اللائقة به، ولا يليق بالمؤمن ولا يشاكله إلاّ الصدق في القول، والإحسان، والوفاء، والأمانة، فلا يظلم من ظلمه، ولا يخون من خانه، ولا يكذب على من كذب عليه، فلا تجري أفعاله في مقابلة الناقص على ما يشاكل ذلك الناقص، بل تجري أفعاله على ما يشاكله هو في إيمانه وكماله.
مراقبة الله في السلوك:
فإن علمنا بأنه أعلم بمن هو أهدى سبيلاً، يدعونا إلى المبالغة في تقويم سلوكنا، حتى نكون على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فإنه هو أهدى الطرق، وأقربها.
وما ذلك الصراط المستقيم إلاّ القرآن العظيم، والهدي النبوي الكريم وسلوك السلف الصالح، وذلك هو دين الإسلام.
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين الاستقامة، والنجاة يوم القيامة، بمنه وكرمه آمين.
__________
(1) المضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها.
(2) جزء من حديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . رواه البخاري في الايمان باب39، ومسلم في المساقاة حديث107، وابن ماجة في الفتن باب14. والدارمي في البيوع باب1.[/rtl]
[rtl](1/150)[/rtl]
في هذا القسم:
1- الفرقان.
2- كلام الظالمين في الكتاب الحكيم، والرسول الكريم، ورد رب العالمين.
3- منزلة الرسالة العلية والضرورات البشرية.
4- فتنة العباد بعضهم ببعض.
5- ندامة الظالم على تركه السبيل القويم، وصحبته للمضلين.
6- شكوى النبي الكريم، وتسليته وتثبيته.
7- تثبيت القلوب بالقرآن العظيم.
8- الحق والبيان في آيات القرآن.
9- حشر الكفار إلى النار.
10- من إكرام الله تعالى عبده، تحميله أعباء الرسالة وحده.
11- عدم طاعة الكافرين، والجهاد بالقرآن العظيم.
12- تعاقب الليل والنهار للتفكير والعمل.
13- القرآن يصف عباد الرحمن.
14- السجود والقيام.
15- الدعاء بصرف العذاب.
16- عدم الإسراف والتقتير.
17- عبادة الله وحده، وعدم قتل النفس، والبعد عن الزنا.
18- الوعيد على فعل هذه الموبقات.
19- استثناء التائبين من المذنبين.
20- بشارة التائبين إلى رب العالمين.
21- اجتناب شهادة الزور.
22- المرور باللغو مر الكرام.
23- قبول التذكير، والعمل به.
24- طلب الكمال والخير وقرور العين.
25- جزاء عباد الرحمن.
26- قيمة العباد عند ربهم بقدر عبادتهم.[/rtl]
[rtl](1/151)[/rtl]
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } [الفرقان:1و2] .
{تبارك} مادة (ب ر ك) كلها ترجع إلى معنى الثبوت، منها: بروك الإبل، استناختها، والبركة كالقربة مثل الحوض يثبت فيها الماء. والبراكاء الثبات في الحرب، ومنها البركة بمعنى النماء والزيادة، ولا ينمو ويزيد إلا ما كان ثابت الأصل، وشأن ثابت الأصل أن ينمو ويزيد، فلم تخرج عن معنى الثبوت؛ وتبارك من البركة فمعناه تزايد خيره.
والله تعالى له الكمال، ومنة الإنعام، فتبارك: أي تزايد كماله وانعامه، فلا تحصى إنعاماته، ولا تحد كمالاته.
وثبوت الكمال ينافي وينفي ضده؛ فيقتضي التنزه عن النقص.
فانتظم اللفظ ثلاثة معاني:
التنزه عن النقص، والاتصاف بالكمال، والإفاضة للإنعام. (فتبارك: تقدس وتعاظم) الفعل الأول مفيد للأول والفعل الثاني مفيد للثاني والثالث.
{نزل} مادة (ن ز ل) كلها ترجع إلى معنى الهبوط من عل، والحلول في أسفل.
ونزّل المضاعف أبلغ في المعنى من أنزل، وقد يفيد كثرة النزول كما هنا؛ لأنه نزله مفرقاً على نيف وعشرين سنة. وقد يفيد القوة في نزول واحد كما في قوله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرفان: 32] .؛ لأن تنزيل الجملة أقوى من إنزال التفصيل.
{الفرقان} أصله مصدر فرق بمعنى فصل. وهو أبلغ في الدلالة على المعنى من فرق المصدر المجرد، بما فيه من زيادة الألف والنون، كما كان القرآن أبلغ من القراءة لذلك.
وهو هنا إسم من أسماء هذا الكتاب الكريم.
{نذيرًا} مادة (ن ذ ر) كلها ترجع إلى الإعلام والتحتيم، فمنها: نذر على نفسه الصوم أوجبه وحتمه وأعلم به ونذر بالعدو كفرح علم به وأنذره، أعلمه؛ ولا يستعمل إلا في إبلاع ما فيه تخويف، فهو إعلام بتأكيد وتحتيم. ونذير هنا بمعنى منذر من فعيل بمعنى مفعل.
{الذي نزل} عرف المسند إليه بالموصولية لزيادة تقرير الغرض الذي إليه سيق الكلام لأن[/rtl]
[rtl](1/153)[/rtl]
{عبده} إضافة تشريف لأنه أكمل العباد.
المعنى:
تقدس وتعاظم الرب الذي نزل الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال وحزبيهما من الناس، مفصلاً آيات على محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل عباده؛ ليكون بذلك الكتاب- لجميع الإنس والجن- منذراً لهم يعلمهم بعذابه، ويخوفهم بشديد عقابه إن لم يعبدوه وحده، ويخلعوا غيره من آلهتهم الباطلة، ويدخلوا في الدين الذي جاءهم به وهو الإسلام.
توحيد:
هذا الفعل وهو "تبارك" لا يسند إلاّ إلى الله تعالى؛ ذلك لأن العظمة الحقيقية بالكمال والإنعام والتقديس بالتنزه التام ليسا إلاّ له. وما من كامل من مخلوقاته إلاّ وهو- جل جلاله- الذي كمله. وما من منعم عليه منهم إلاّ وهو تعالى الذي أنعم عليه، وما من زكي منهم إلاّ وهو- سبحانه- الذي زكاه.
سلوك:
هذا الرب الكامل المكمل، المنعم المتفضل القدوس، هو الذي أنزل هذا الفرقان. فإذا أردت أن ترقى في درجات الكمال، وتظفر بأنواع الإنعام وتزكي نفسك الزكاء التام، فعليك بهدى هذا الفرقان، فهو بساط القدس، ومعراج الكمال، ومائدة الاكرام.
وقد سئلت عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن خلق النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (1) » (2) .
فقه واستنباط:
لما سمى الله كتابه الفرقان، علمنا أنه به يفرق بين الحق والباطل، ولكل هذا وذاك. فهو الحكم العدل، والقول الفصل بين كل متنازعين يدعي كل منهما أنه على الحق، فيما هو عليه من عقد، أو قول، أو عمل.
فما تقابل حق وباطل، وما تعالجت حجة وشبهة إلاّ وفي هذا الكتاب الحكيم ما يفرق ما
__________
(1) كان خلقه القرآن: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.
(2) جزء من حديث روي في الصحاح مطولاً ومختصراً. رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث139. وأبو داود في التطوع باب26. والترمذي في البر باب69. والنسائي في قيام الليل باب2. وابن ماجة في الأحكام باب14. والدارمي في الصلاة باب165. وأحمد في المسند (6/ 54، 91، 111، 153، 216،) .[/rtl]
[rtl](1/154)[/rtl]
فعلينا- إذن- أن يكون أول فزعنا في الفرق والفصل إليه.
وأن يكون أول جهدنا في استجلاء ذلك من نصوصه ومراميه، مستعينين بالسنة القولية والعملية على استخراج لَآلِيه.
فإذا حكم قبلنا وسلمنا وكنا مع ما حكم له، وفارقنا ما حكم عليه؛ فالله سماه الفرقان، لنعلم أنه فارق بنفسه، ولنعمل بالفرق به، ولا يكمل إيماننا بأنه الفرقان، إلاّ بالعلم والعمل.
ولما جعل- تعالى- غاية تنزيل الفرقان أن يكون عبده نذيراً، اقتضى ذلك أن نذارته تكون بالقرآن؛ لتقوم الحجة، وتتم الحكمة، وتحصل الفائدة وتشمل النعمة.
وقد صرح بهذا في قوله تعالى:
{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2] .
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] .
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91،92] .
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] .
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] .
فعلينا- إذن- أن نعلم أن القرآن هو كتاب النذارة والهداية، فنستخرج أصولها وفنونها من آياته، وهذا حظ العلم، وأن يكون اهتداؤنا في أنفسنا وهدينا لغيرنا به وهذا حظ العمل وهما ركنا الإيمان.
***
تطبيق وتحاكم:
في العالم الإسلامي كله اليوم طائفتان من المؤمنين (2) ، يتنازعان خطة الهداية والنذارة والتذكير.
ولكل منهما- في سلوكها للقيام بتلك الخطة- سبيل.
وكل منهما تدعي أنها على الصواب، وأنها الأحق والأولى بنفع العباد.
__________
(1) قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} سورة الأنعام، الآية 38.
(2) يشير إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وما يشبهها، وإلى الطرقية المبتدعة (عن حاشية المطبوع: ص249) .[/rtl]
[rtl](1/155)[/rtl]
وإنما اخترناهما للتطبيق والتمثيل، لخطر الخطة التي تنازعا عليها، وعظيم النفع والضرر الذي يحصل من خطأ المخطىء، وصواب المصيب بها؛ ولأن الهداية والنذارة والتذكير أمور لها أنزل القرآن، فتنازعهما عليها تنازع عليه.
فأحق فصل أن نمثل به لنعلم فصله هو بين المتنازعين فيه.
وها نحن نعرض بعض حال كل طائفة في قيامها بالخطة، ثم نسوق آيات القرآن، وننظر من أسعد الطائفتين بها:
الطائفة الأولى:
يذكرون من يدعونهم بغير القرآن بأحزاب وأوراد من وضعهم، لا مما ثبت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلاّ قليلاً.
ولهم عليهم في أموالهم حق في أوقات من السنة معلومة.
والطائفة الثانية:
يذكرون الناس بالقرآن فيأمرونهم بقراءته وتدبره، ويبينون لهم معانيه، ويحثونهم على التمسك به والرجوع إليه.
ويدعونهم إلى الأذكار النبوية الثابتة في الكتب الصحاح، لرجوعها إلى القرآن لحكم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] .
ولا يطلبون عليهم في ذلك أجراً.
والله تعالى يقول في الحال الأول: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} [ق: 45] . وغيرها من الآيات المتقدمة في هذا المجلس.
ويقول- تعالى- في الحال الثاني لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] .
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] .
ويقول في آية صريحة صراحة تامة في بيان من يجب أن يتبع من الدعاة: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] .
ومن هم المهتدون؛ هم المتبعون للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . واتباعه بالنسبة لموضوعنا هو اتباعه في طريق دعوته الخلق إلى الله.[/rtl]
[rtl](1/156)[/rtl]
بان- والحمد لله- بما ذكرنا حكم القرآن بين الطائفتين، واتضح طريق الحق في الدعوة والإرشاد لمن يريد سلوكه منهما.
والله نسأل لنا ولهم قبول الحق والتعاون عليه والقوة والإخلاص في الصدع (1) به والثبات عليه.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] .
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]كلام الظالمين في الكتاب الحكيم والرسول الكريم ورد رب العالمين
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) } [الفرقان: 4 و5 و6] .
{كفروا} غطوا الحق بإنكاره وعدم الاعتراف والإعلان به. وكل من غطى شيئاً وستره فقد كفره. وسمي الليل كافراً لأنه يغطي الأشياء بظلامه، والزارع كافرًا لأنه يغطي البذار بالتراب (2) .
{إفك} : كذب مصروف عن وجه الحق، من أفَكه يَفِكه أَفْكًا أي صرفه.
{افتراه} : اختلقه واخترع صورته.
{جاءوا} : وردوه وانتهوا إليه.
{ظلمًا} : وضع الشيء في غير موضعه.
{زورًا} : شهادة بالباطل.
{أساطير} : جمع أسطورة أي أخبار وحكايات مسطورة في كتب الأوائل، ليست محل الثقة.
{اكتتبها} : أمر بكتابتها له، وافتعل يأتي للطلب كاحتجم وافتصد.
{تملى} : تلقى عليه ليحفظها فيلقيها على الناس.
__________
(1) صَدَعَ الأمْرَ: وَصَدَعَ بالأمر: بيّنه وجَهَرَ به. وفي التنزيل العزيز: {فاصدع بما تؤمر} الحجر: 94.
(2) ومن هذا المعنى قوله تعالى: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته} الحديد: 20.[/rtl]
[rtl](1/157)[/rtl]
[rtl]{بكرة} ما بين الفجر والطلوع.
{أصيلا} ما بعد العصر إلى الغروب.
{السر} الخفي من كل شيء.
{غفورا} ستاراً للذنوب كثير التجاوز عنها.
{رحيمًا} دائم الإفاضة للنعم.
المعنى:
وقال الذين أنكروا الحق- مع ظهوره وجحدوه مع وضوحه-: ما هذا الكلام الذي يتلوه محمد علينا، إلاّ كلام كذب مصروف عن وجه الحق، اخترعه وصوره، وأعانه عليه غيره أناس آخرون.
فقد سموا الحق الصراح والصدق الخالص إفكًا.
وجعلوا إخبار الأمين الذي كانوا يدعونه هم أمينًا، افتراء.
وجعلوا القرآن الذي عجزوا عن معارضته، كلاماً عادياً متعاوناً على تركيبه وتصويره، فسموا الشيء بغير اسمه، ووضعوا الوصف في غير موضعه، فانتهوا بذلك إلى ظلم عظيم أتوه ووقعوا فيه.
وقد شهدوا بالباطل فنسبوا للرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما هو بريء منه من الافتراء والاستعانة بغيره، فانتهوا إلى وزر عظيم تحملوه.
وقالوا- أيضاً-: هذا الذي يتلوه علينا، هو من أخبار الأوائل وكتبهم المسطورة التي سطروها من أعاجيب أحاديثهم، مما يتلهى به ولا يوثق بصحته، توصل إليها من غيره أمر فكتبت له فكاتبها له يمليها عليه دائما في طرفي النهار فيحفظها هو ويأتينا بها.
قل- يا محمد- أنزل هذا الذي أتلوه عليكم الخالق الذي يعلم الشيء الخفي والأمر المكتوم في العالم العلوي والعالم السفلي.
أمهلكم فلم يعاجلكم بالعذاب، وبقي يجدد لكم التذكير مع إعراضكم وعنادكم، وقبح صنيعكم، وسوء ردكم، إلاّ أنه من شأنه الصفح والتجاوز ودوام الإنعام والتفضل.
فهل لكم أن ترجعوا إلى هذا الرب الغفور الرحيم؟
مزيد بيان:
بهر العرب ما رأوا وما سمعوا من رجل كان بالأمس معرضاً عنهم تاركاً لهم وشأنهم، يشهد موسم الحج معهم ويحتسب مشاهد وثنيتهم، ولكنه لا يعاديهم ولا ينكر عليهم، ويسير بينهم بالصدق والجد والعفاف وكمال المروءة سيرة تخالف سيرتهم، فهم لذلك يحبونه ويعظمونه ويدعونه الأمين، لقبًا خصصوه به فصار يُدعى به بينهم.
فأصبح اليوم- وقد جاوز الأربعين- ينكر عليهم، ويسفه أحلامهم، ويقبح عبادتهم وما[/rtl]
[rtl](1/158)[/rtl]
[rtl]يعبدون؛ ويصبر على أذاهم ولا يقابلهم بالمثل، ويستمر على دعوته غير مبال بهم، ولا حاسب شيئاً لكثرتهم، ولا لسطوتهم.
ومن كلامه مثل كلامهم في ألفاظه وفي تراكيبه، ثم هم يعجزون عن معارضته بمثل أقصر سورة منه.
ثم يشهدون الفرق بينه وبين كلام محمد نفسه؛ فهو إذا حدثهم بما اعتادوا من حديثه معهم، حتى إذا تلى عليهم القرآن جاءهم بما هو فوق كلامه وكلامهم، وما تقصر عن معارضته ألسنتهم.
بهرهم هذا، وهذا، وأخذ العناد بعقولهم، واستحوذت عليهم شياطينهم فحاروا فيما يقذفون به هذا الرسول وهذا الكتاب، فأخذوا يقولون عن الكتاب:
إنه إفك مفترى!! ورأوه أكبر مما كانوا يسمعون من كلام محمد فلم يكن ليأتي به وحده وهو فوق المعتاد من كلامه، فإذا هنالك أقوام يعينونه.
ومن هم الأقوام؟ وهو- بعد- في نفر قليل ممن آمن به، وهم هم في كثرتهم وتساندهم، وقد عجزوا عن الإتيان بشيء مثله، فالقليل أحرى بالعجز من الكثير.
ويقولون: إنه أساطير الأولين، وقد كان منهم من عرف شيئاً من أخبار الفرس وملوكهم، وكان يحدثهم بها، ويقصها عليهم، ويزعم لهم أنها مثل ما يأتي به محمد فقالوا- وقد علموا الفرق- هذه منها وهي مثلها!.
ولكن محمداً عرفوه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فكيف اتصل بهاته التي زعموها أساطير؟
فاخترعوا وسيلة لذلك أنه يكتبها له غيره ويمليها عليه وهو يحفظها!! ومن هو هذا الذي يكتب ويملي عليه، وهم قد عرفوا مدخل محمد ومخرجه ومغداه ومجلسه، وعرفوا بلدتهم ومن يساكنهم فكيف لا يرونه ولا مرة بين يدي هذا الكاتب المملي، ولا يشاهدونه يوما في صحبته؟!.
فاخترعوا لذلك أنه يمليها عليه في طرفي النهار في ظلام من الوقت، وسكون من الناس.
وقالوا في الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إنه مفتر، يستعين على افترائه بغيره، ويتظاهر باستقلاله، وينسب لله ما هو من حكايات الأوائل وأوضاعهم، فكيذب عليه- تعالى- لديهم.
رد الله عليهم كل ما قالوا فيهما:
بأنه ظلم وزور.
وأن ما يتلوه عليه هذا النبي الكريم، من ذلك الكتاب الحكيم، ليس إلاّ من خالق المخلوقات، العالم بأسرارها.
أسلوب في البيان:
لقد جاءوا الظلم والزور في قولهم الأول وقولهم الثاني.[/rtl]
[rtl](1/159)[/rtl]
[rtl]وقوله: "قل" أمر بما يرد قولهم الأول، وقولهم الثاني، غير أنه قصد إلى الإيجاز وعدم التكرار.
فجعل مع قولهم الأول الوصف وهو الظلم، واكتفى بذكره هنا عن إعادته.
وجعل مع قولهم الثاني الدليل: وهو إنزال من يعلم السر واكتفى بذكره هنا عن ذكره مع الأول فحذف من كل ما أثبت مع الآخر. وجعل الوصف مع الأول والدليل مع الثاني ترقياً من الدعوى للدليل.
وجه الدليل:
القرآن أعجز العرب ببلاغته، حتى عرفوا- وعرف العلماء بلسانهم المرتاضين ببيانهم- أنه ليس مثله من طوق البشر. هذه هي الناحية الظاهرة في إعجاز القرآن والاستدلال به له ولمن أتي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وهنالك ناحية أخرى هي أعظم وأعم: وهي ناحيته العلمية التي يذعن لها كل ذي فهم من جميع الأمم، في كل قطر وفي كل زمن.
وهذه الناحية هي التي احتج بها في هذا الموطن:
فقد استدل على أن القرآن لا يمكن أن يكون أتى به محمد من عنده، ولا يمكن أن يستعين عليه بغيره، ولا أن يكون من أوضاع الأوائل، بأنه ينطوي على أشياء من أسرار هذا الكون لا يعلمها إلّا خالقه، فمن ذلك:
ما أنبأ به من أسرار الأمم الخالية، وبيّن من أسرار الكتب الماضية.
وما أنبأ من أحداث مستقبلة، وما ذكر من حقائق كونية، كانت لذلك العهد عند جميع البشر مجهولة؛ كالزوجية في كل شيء، وسبح الكواكب في الفضاء، وسير الشمس إلى مستقر مجهول معين عند الله لها.
وغير ذلك من أسرار العمران والاجتماع، وما تصلح عليه حياة الإنسان، مما تتوالى على تصديقه تجارب العلماء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم.
فكتاب اشتمل على كل هذه الأسرار لا يمكن أن يأتي به مخلوق.
ترغيب:
قد دعانا الله إلى العلم ورغبنا فيه في غير ما آية، وأعلمنا أنه خلق لنا ما في السموات وما في الأرض جميعاً.
وأمرنا بالنظر فيما خلقه لنا وأعلمنا هنا أن هذه المخلوقات أسرار بينها القرآن واشتمل عليها.
وكان ذلك من حجته العلمية على الخلق فكان في هذا ترغيب لنا في التقصي في العلم[/rtl]
[rtl](1/160)[/rtl]
[rtl]والتعمق في البحث، لنطلع على كل ما نستطيع الاطلاع عليه من تلك الأسرار: أسرار آيات الأكوان والعمران، وآيات القرآن؛ فنزداد علماً وعرفاناً، ونزيد الدين حجة وبرهاناً، ونجني من هذا الكون جلائل ودقائق النعم، فيعظم شكرنا للرب الكريم المنعم.
فقهنا الله في كتابه، ووفقنا إلى الاهتداء به، والسير على سننه.
***
منزلة الرسالة العلية والضروريات البشرية
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) } [الفرقان: 20] .
لما طعنوا في رسالته، بأنه بشر يفعل ما يفعله البشر بقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} ، رد الله عليهم بأن هذا هو حال جميع المرسلين من قبله، واحتج عليهم بما يعلمون من ذلك بما يسمعون من أهل الكتاب جيرانهم، وبما عندهم من أخبار عاد وثمود من بني جلدتهم.
(الإرسال) هو البعث لتبليغ شيء أو قضائه، وفي لسان الشرع: هو إنزال الله تعالى الوحي على من اصطفاه من خلقه لينذر به من أمره بإنذار. من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192- 194] . فالرسالة وحي مع أمر بالتبليغ.
مفعول أرسلنا محذوف تقديره رجالًا، وعليه عاد الضمير في أنهم، وهو صاحب الحال، والحال هي الجملة التي بعد إلّا، والجملة الثانية حال بالعطف على الأولى. والاستثناء مفرغ من الأحوال.
وتقدير الكلام: وما أرسلنا قبلك رجالاً من المرسلين إلّا حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلاّ في هذه الحال.
وإن واللام والحصر بما وإلا، [[كل]] هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، وهو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلّا بشراً رداً على منكري ذلك المشركين.
وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون؛ لأن ذلك من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم.
وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية عن البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها.
المعنى:
وما ينكر عليك هؤلاء من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق، مع أنك رسول الله! وقد[/rtl]
[rtl](1/161)[/rtl]
[rtl]علموا أنه ما من رسول كان قبلك إلا وهذه حالته، وما أنت إلاّ واحد منهم، فلا عيب عليك في ذلك، ولا حجة لهم عليك به.
تاريخ:
هذه المقالة شنشنة (1) قديمة من الأمم التي أرسلت إليها الرسل، فقابلتها بالجهل والعناد.
فقد قال لنوح قومه: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] .
وقال لهود قومه: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33] .
ولصالح: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 154] .
ولشعيب: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 186] .
ولموسى وهارون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] .
وعن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم أنهم قالوا لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] .
فقال المشركون للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما قاله أمثالهم لإخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
[[تعليل]] :
ما اعترض المعترضون على الرسل ببشريتهم إلّا من جهلهم، وسوء نظرهم، وغباوتهم.
1- أما جهلهم: فقد جهلوا ما في البشرية من استعداد لنيل أرقى الكمالات.
وجهلوا ما تقتضيه الرسالة من مشاكلة بين الرسول والمرسل إليهم لتحصل المفاهمة والاتصال.
وجهلوا ما يؤهل به البشر لرتبة الرسالة من كمال في الروح، والعقل، والأخلاق، والسلوك، مما كان الرسل متصفين به كله أمام أعين أقوامهم.
2- وأما سوء نظرهم: فإنهم نظروا إلى بشرية الرسل فقاسوهم بهم، وقالوا لهم: أنتم مثلنا، مع وجود الفارق الواضح بينهم وبين الرسل في الصفات النفسية التي بها كمال الإنسان!
__________
(1) الشًنْشِنَةُ: السجية والطبيعة، وقيل: القطعة والمضغة من اللحم. وفي حديث عمر قال لابن عباس رضي الله عنهما في كلام: «شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ» أي فيه شبه من أبيه في الرأي والحزم والذكاء. وهو مثل، وأول من قاله أبو أخزم الطائي؛ وذلك أن أخزم كان عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال:
إِنَّ بَنِيَّ زَمَّلُونِي بِالدَّمِ ... شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ
ويروى "نشنشة" بتقديم النون. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 504) .[/rtl]
[rtl](1/162)[/rtl]
[rtl]3- وأما غباوتهم: فإنهم لغلبة الجسمانيات على حسهم وإهمالهم استعمال عقولهم، لم يتفطنوا للكمال المشاهد الذي امتاز به الرسل بين أقوامهم.
تعليم:
هذه العلل التي صدر اعتراض المعترضين عنها، قد علمنا الله تعالى في كتابه العزيز ما يعصمنا منها:
1- فعلمنا: أن الإنسان مستعد لأن تخضع له العوالم بما فيه من روح الله.
وأنه يلتحق بعالم الملائكة الأطهار بتلك الروح عندما تكون على أصل طهرها وقدسها.
علمنا هذا بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 23] . فأخضع له ملائكته أشرف العوالم.
وبقوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] . فاتصل بهم، وخاطبهم، وعلمهم.
فلا عجب أن يأتي المماثلون له من أبنائه في طهره وعصمته على سنته في الاتصال بالملائكة، ومخاطبتهم.
2- وعلمنا: أن الرسول لا يكون إلاّ من جنس المرسل إليهم، ليحصل الاتصال، ويمكن التلقي. وأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لأرسل لهم ملك، وأنهم لو أنزل عليهم بشر لكسي حلة البشرية ولا التلبس عليهم أمره، ولقالوا فيه مثل ما قالوا في المرسلين من البشر.
علمنا هذا بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95] .
وبقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] .
3- وعلمنا: أن البشر يؤهل للرسالة باصطفاء الله له، ومن مقتضى ذلك الاصطفاء تطهيره من أول نشأته من أوضار (1) البشرية، وظلم الجسمانية وتسفلها؛ فتبقى روحه على غاية الطهر، والعلوية النورانية مستعدة للاتصال بالملأ الأعلى، حتى تستكمل قواها فيأتيها الملك بالوحي. علمنا هذا بمثل قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] .
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47] .
وقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعم: 24] . وغيره كثير.
4- وعلمنا: أن الرسل وإن كانوا موافقين لنا في الخلقة البشرية، فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية، من حيث الطهر والكمال:
__________
(1) الأوضار: جمع وضر، وهو الدرن (المعجم الوسيط: [ص: 1039] ) .[/rtl]
[rtl](1/163)[/rtl]
[rtl]فنفوسهم بقيت على طهرها لم تدنس بشيء، ونفوسنا لا تخلو من تدنس، والموفق من داوم على غسلها بالتوبة وتحليتها بالصالحات.
وكمالهم فطري، ويبلغون فيه- بعملهم المتواصل، وعصمتهم الربانية- إلى الغايات التي لا تنال، وكمالنا ليس كذلك في الأمور الثلاثة: الفطرة، والعمل المتواصل، والعصمة.
علمنا هذه بقوله تعالى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] .
فبالنظر الصحيح فيما مَنَّ الله عليهم به، ندرك أنهم ليسوا مثلنا، وإن ساوونا في الخلقة البشرية.
5- وعلمنا: ألا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل نعبر من الظواهر إلى البواطن، وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير.
علمنا هذا بقوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] . فلا ينظر إلى بهرجة (1) الكثرة، ولكن إلى حقيقة وحالة الشيء الكثير فيعتبر بحسبهما.
وبقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} [الفجر: 15، 16] . فلا يجوز أن نغتر بالمال، والقوة، والجاه، وأنواع النعيم إذا سيقت إلينا فنحسب أنها هي نفس الكرامة الربانية التي دعينا إلى العمل لنيلها، بل إنما نعدها كذلك إذا كان معها التوفيق إلى شكرها بالقيام بحقوقها، وصرفها في وجوهها.
ولا نغتر بحالة الضيق، والعسر، والضعف، فنحسب أنها إهانة من الله لصاحبها؛ بل علينا أن ننظر إلى ما معها من صبر ورجاء وبر، أو ضجر ويأس وفجور.. فنعلم حينئذ أنها مع الأولى للتمحيص والتثبت، ومع الأخيرة للزجر والعقاب بعدل وحكمة من أحكم الحاكمين.
وبقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] .
فعلمنا أنه بشر، ولكنه خصص بالوحي إليه بتوحيد الله، وبما يقتضيه مقام الإيحاء إليه من طهر وكمال، حتى لا يحجب عنا بشريته التي نشاهدها بأبصارنا كمال حاله ومنزلته الذي ندركه ببصائرنا.
عقيدة:
الرسول إنسان ذو روح طاهرة نورانية علوية؛ بها تَأَتَّى له تلقي الوحي من الملائكة.
وذو جسد بشري تجري عليه ضروريات البشرية الخلقية دون نقائصها الكسبية، لأنه
__________
(1) يقال: بَهْرَجَ الكلام وغيره: زيفه، ورده لزيفه (المعجم الوسيط: [ص: 73] ) .[/rtl]
[rtl](1/164)[/rtl]
[rtl]مصرف بتلك الروح العلوية الظاهرة التي لا يصدر عنها إلاّ الخير، وبهذا الجسد البشري تأتى للبشر الأخذ عنه والإقتداء به.
ومأخذ هذه العقيدة من الآيات التي تلوناها في فصل التعليم المتقدم.
تحذير:
علينا أن نحذر من أن نعترض أو نحكم بالأنظار السطحية، دون بحث عن الحقائق، أو أن نلحق شيء بشيء دون أن نتحقق انتفاء جميع الفوارق؛ فقد انتشرت بعدم الحذر من هذين الأمرين جهالات، وارتكبت ضلالات.
وبالنظر السطحي ازدرى إبليس آدم فامتنع من السجود له واعترض على خالقه، فكانت عليه اللعنة إلى يوم الدين.
وبعد النظر إلى الفوارق، قال أحد ابني آدم لأخيه لما تقبل قربانه دونه هو: {لَأَقْتُلَنَّكَ} ، حتى ذكّره أخوه بوجود الفارق فقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .
حقيقة الأول ترجع إلى الجهل المركب. وحقيقة الثاني ترجع إلى القياس الفاسد، وهما أعظم أصول الفساد والضلال.
سلوك:
الأنبياء والمرسلون أكمل النوع الإنساني، وهم المثل الأعلى في كماله وقد كان أصل كمالهم بطهر أرواحهم وكمالها؛ فأقبل على روحك بالتزكية والتطهير، والترقية والتكميل، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالإقتداء بهم، والاهتداء بهديهم. وقد قال الله تعالى لنبينا- عليه الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] .
فاقرأ ما قصه القرآن العظيم من أقوالهم وأعمالهم، وأحوالهم وسيرهم، وتفقه فيه، وتمسك به؛ تكن إن شاء الله- تعالى- من الكاملين.
***
فتنة العباد بعضهم لبعض
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) } [الفرقان: 20] .
أفاد ما تقدم من الآية، أن الرسل يأكلون الطعام فيحتاجون للغذاء وتحصيله. وأنهم يمشون في الأسواق للسعي والتكسب، وأفاد آخر الآية الحكمة الربانية في ذلك؛ وهي أن يكون بذلك فتنة واختباراً للعباد، وتلك سنة الله تعالى في خلقه: فقد جعل بعضهم لبعض فتنة.
قال في "لسان العرب" (1) الأزهري وغيره: جماع معنى (الفتنة) الابتلاء، والامتحان،
__________
(1) لسان العرب (13/ 317- مادة فتن) .[/rtl]
[rtl](1/165)[/rtl]
[rtl]والاختبار. وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد اهـ. ومنه قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] . وقوله: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] . وقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] . وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] .
{أتصبرون} الصبر حبس النفس على المكروه. والمكروه لها فعل ما فيه تعب، وترك ما فيه لذة. ويكون في المشروع والمقدور، ففي الأول بالقيام بالمأمورات، والترك للمنهيات. وفي الثاني بالرضا والتسليم في المصائب والبلايا للخالق، وعدم الاعتراض عليه، وعدم السعي في إزالتها بغير الوجه المأذون فيه.
و (البصير) هو المشاهد للأشياء ظاهرها وباطنها، ذواتها ونعوتها وأحوالها؛ مباديها وغاياتها وعواقبها.
الاستفهام في {أتصبرون} بمعنى الأمر أي اصبروا وخرج الأمر في صورة الاستفهام تنبيهاً على قلة الصبر في الوجود. فهو من الأمر المعدوم الذي يسأل عنه: هل يوجد؛ وفي ذلك بعث للهمم على تحصيله والتمسك به.
وجملة {وكان} الخ معطوفة على جملة {وجعلنا} ، وعدل عن مقتضى الظاهر وهو وكنا بصراء بالإضمار إلى {وكان ربك بصيرا} بالإظهار، للتنبيه على أن فتنته لعباده من مقتضى ربوبيته لهم، وحسن تدبيره فيهم. وموقع هذه الجملة بعد الجملة الأولى لبيان أن فتنته لهم هي من علم وبصر بصواب ذلك وحكمته. وأنه مطلع على حقيقة ما يكون منهم عند الاختيار ليجازيهم عليه، وفي هذا وعد ووعيد للممتحنين.
المعنى:
امتحنا بعضكم ببعض لتظهر حقائقكم عند الامتحان.
جعلنا الرسل يأكلون كما يأكل البشر، ويكسبون كما يتكسبون لنمتحن العباد بهم فيظهر من يتبعهم بالإيمان واليقين؛ لما معهم من الحق والكمال. ويصبر على ما يلحقه من اتباعهم من الجهد والبلاء، ممن يحتقرهم ويعرض عنهم لما يرى من بشريتهم.
كما جعلنا الأمم فتنة لرسلها وامتحانا لهم، ليظهر صبرهم على ما يلاقون منهم من إذاية وشر، فتعلو درجاتهم ويضاعف أجرهم.
وجعلنا الغني امتحاناً للفقيرحتى يظهر صبره على حاله، وكفه لعينه ويده عن شيء غيره.
كما جعلنا الفقير امتحاناً للغني حتى يظهر صبره على القيام بواجبه نحوه.
وجعلنا الصحيح فتنة للمريض حتى يظهر صبره على بلواه ورضاه بما أعطاه الله.
كما جعلنا المريض فتنة للصحيح حتى يظهر صبره على القيام بواجبه نحوه من العطف عليه، وعيادته، ومواساته.[/rtl]
[rtl](1/166)[/rtl]
[rtl]وجعلنا الرعية فتنة للراعي حتى يظهر صبره على القيام بواجب رعايتها.
كما جعلنا الراعي فتنة للرعية ليظهر صبرها على طاعته.
وهكذا في جميع أقسام الناس.
أتصبرون على هذا الامتحان فإن الصبر عليه عزيز شديد؟
فاصبروا فإنه لا يخرجكم من هذا الامتحان خالصين خلوص الذهب الإبريز إلاّ الصبر.
وكان ربك يا محمد بصيراً عالماً بعاقبة الامتحان في عباده، مطلعاً على كل ما يكون منهم عند الامتحان ليجازيهم عليه.
سؤال وجوابه:
الله تعالى عالم بما يكون من عباده بعد امتحانهم، قبل أن يمتحنهم فما هي حكمة الامتحان؛ والجواب: أن الله تعالى إنما يحاسب عباده على ما عملوه وكسبوه واكتسبوه، بما عندهم من التمكن من الفعل والترك، وما عندهم من الاختيارة لا على علمه منهم قبل أن يعملوه، فلهذا يمتحنون لتظهر حقائقهم ويقع جزاؤهم على ما كسبت أيديهم باختيارهم.
ولا حجة لهم في تقدم علمه تعالى بما يكون منهم؛ لأن تقدم العلم لم يكن ملجئاً لهم على أعمالهم؛ ففي هذا الامتحان قيام حجة الله على العاملين أمام أنفسهم وأمام الناس، كما فيه إظهار لحقيقتهم لأنفسهم ولغيرهم.
تطبيق:
كما يفتن الفرد بالفرد، كذلك تفتن الأمة بالأمة: من ذلك أننا- معشر الأمة الإسلامية- قد فتنا بغيرنا من أمم الغرب، وفتنوا هم أيضاً بنا:
فنحن ندين بالإسلام وهو دين السعادة الدنيوية والأخروية ولكن حيثما كنا- إلاّ قليلاً- لسنا سعداء لا في مظاهر تديننا، ولا في أحوال دنيانا.
ففي الأولى: نأتي بما يبرأ منه الإسلام، ونصرح بأنه من صميمه.
وفي الثانية: ترانا في حالة من الجهل والفقر والذل والاستعباد يرثي لها الجماد.
قلما يرانا الغربيون على هذه الحالة ينفرون من الإسلام، ويسخرون منه، إلاّ من نظر منهم بعين العلم والإنصاف، فإنه يعرف أن ما نحن عليه هو ضد الإسلام. فكنا فتنة عظيمة عليهم، وحجاباً كثيفاً لهم عن الإسلام. فكنا- ويا للأسف- فتنة للقوم الظالمين.
وهم من ناحيتهم نراهم في عز وسيادة، وتقدم علمي وعمراني، فننظر إلى تلك الناحية منهم فنندفع في تقليدهم في كل شيء، حتى معائبهم ومفاسدهم، ونزدري كل شيء عندنا حتى أعز عزيز. إلاّ من نظر بعين العلم فعرف أن كل ما عندهم من خير، هو عندنا في ديننا وتاريخنا، وأن ذلك هو الذي تقدموا وسادوا به. وأن ما عندهم من شر هو شر على حقيقته، وأن ضرره فيهم هو[/rtl]
[rtl](1/167)[/rtl]
[rtl]ضرره، وأنه لا يجوز أن يتابعوا عليه، فكانوا فتنة لنا حتى ينظر من ينظر بعين الحق للحقائق ممن تبهره الظواهر فتسلبه إدراكه فيغدو لا يفرق بين اللب والقشور.
إقتداء:
علمنا من هذه الآية وغيرها:
أن الله تعالى يمتحن عباده ويختبرهم ليظهر حقائقهم. فلنقتد به تعالى في هذا: فنبني أمورنا على الامتحان والاختبار، فلا نقرر علماً، ولا نصدر حكماً إلاّ بعد ذلك، وخصوصاً في معرفة الناس والحكم عليهم؛ فالظواهر كثيرا ما تخالف البواطن، والتصنّع والتكلّف قلّما يسلم منهما أحد، ولا يعصم من الخطأ مع هذه المغالطات كلها إلاّ الامتحان والاختبار فاعتصم بهما.
اهتداء:
كل من اتصل بك من أهلك، وبنيك، وأبيك، وأمك، وأصحابك، وعشيرتك، وقومك، وكل من ترتبط به برباط من أبناء جنسك، هو فتنة وامتحان لك:
هل تقوم بواجبك نحو من جلب خير له؟ أو دفع شر عنه؟ أو جلب خير منه لغيره؟ أو دفع شره عن غيره؟
وهل تكف يدك عن شيئه؟ وتكف بصرك عما متع به، وتسأل الله مما عنده من فضله؟.
وإنما تقوم بواجبك نحوه مما تقدم، وتكف يدك وعينك عنه، وتسأل الله مما عنده راضياً بما قسم لك، معتقداً الخير كل الخير في قسمه؛ إذا تدرعت بالصبر على إتيانه، وإن كان عليك ثقيلاً. والكف عما يطلب منك الانكفاف عنه، وإن كان منك قريباً، وفي طبعك لذيذاً.
وإنما يكون لك هذا الصبر، إذا كنت دائم اليقين بعلم الله بك، واطلاعه عليك، وأنه كان بك بصيراً.
هذه الحقائق كلها هدتنا هذه الآية الكريمة إليها:
هدتنا إلى أنا امتحنا ببعضنا، وأن الذي يخلصنا في هذا الامتحان، ويخرجنا سالمين هو الصبر.
وأن حالتنا في الامتحان منكشفة لمن سيجازينا عليها.
فلنهتد بهدايتها إلى ما هدتنا اليه، ولنتدرّع في هذا الامتحان العظيم بالصبر المتين، ولنستحضر في قلوبنا مراقبة الله لنا؛ لتثبت قدمنا في مقام الصبر بروح اليقين، فبذلك نخرج- إن شاء الله تعالى- من نار الفتنة ذهباً خالصاً نقياً، وجوهراً طيباً زكيا، فنسعد في الدارين برضى رب العالمين والله وليّ التوفيق.[/rtl]
[rtl](1/168)[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]ندامة الظالم على تركه السبيل القويم، وصحبته للمضلِّين
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) } [الفرقان: 27 و28 و29] .
لما سأل المشركون أن يروا الملائكة: أخبروا بأنهم سيرونهم في يوم يكون شره عليهم عظيماً.
وذكر في الآيات السابقة ما يكون في ذلك اليوم من حبوط أعمالهم، وتشقق السماء بالغمام، وتنزل الملائكة وغير ذلك.
وذكر في هذه الآية ما يكون في ذلك القوم من ندم الظالم وسوء حاله.
(الظلم) وضع الشيء في غير موضعه: كوضع الكفر موضع الإيمان، ووضع المعصية موضع الطاعة. وحق الله تعالى أن يؤمن به، ويوحّد، ويطاع، فمن كفر أو أشرك به أو عصاه فقد ظلم، وهو هنا الكافر والمشرك، لأنه الذي لم يتخذ مع الرسول سبيلا.
(الويلة) : الهلكة كالويل بمعنى الهلاك. (فلان) : يكنى به عن الأعلام كما يكنى بالهن عن الأجناس.
(الخليل) : فعيل بمعنى فاعل وهو ما تخللت مودته القلب، وامزجت بالنفس، فكانت له مكانة منهما، وسلطان عليهما. هذا في جانب الخلق، وأما في جانب الله تعالى فبالمعنى الذي يليق بقدسه وتنزيهه، فإبراهيم- عليه السلام- خليل الرحمن بما له عنده تعالى من عظيم المنزلة، ورفعة الشأن، وقبول الدعوة، وما له عليه من جزيل الإنعام.
(الإضلال) : الصد والصرف عن طريق الحق والنجاة.
(الذكر) : القرآن العظيم، وفسر بالشهادتين، وبالإسلام؛ والقرآن فيه ذلك كله، وهو الذي سيأتي على الأثر، وذكر هجرهم له، ولذلك اخترناه في معنى الذكر هنا.
(الشيطان) : الخبيث الشرير الذي استولى عليه، وتمكن منه خلق الإفساد والإضرار من الجن والإنس.
(الخذول) : الكثير الخذل، أي التسليم والترك لمن نزل به البلاء في وقت الحاجة إلى إنقاذه.
شأن من وقع في غيظ وحسرة وندامة أن يعض يديه، ويأكل بنانه كأنه لما لم يجد شيئاً يطفي فيه غيظه، رجع على نفسه بذلك: فعض اليد لازم لحالة الحسرة والغيظ والندامة، فلذا يكنى به عنها من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم. وذلك لا يمنع من وجود العض منه حقيقة، بل وقوع ذلك هو الشأن الغالب.[/rtl]
[rtl]وجملة {يقول يا ليتني} حالية فهو يعض حالة كونه قائلًا: يا ليتني، فبينت هذه الجملة ما يقول. كما بينت التي قبلها ما يعمل، فصورتاه في حاله الشنيع الفظيع.
و {يوم} ، منصوب بـ "أذكر" أو معطوف على يوم يرون الملائكة، كما عطف عليه: ويوم تشقق السماء.
و {يوم يرون} منصوب بـ "لذكر"، أو بيمنعون البشرى كما يدل عليه لا بشرى يومئذ للمجرمين.
والتنكير في قوله {سبيلا} للإفراد: أي سبيلًا واحداً لا تعدد فيه بخلاف ما كان عليه الظالم من سبل أهوائه المتعددة المتشعبة.
والألف في {يا ويلنا} منقلبة عن ياء المتكلم، والأصل يا ويلتي، نادى ويلته أي هلكته لتحضر في ذلك الوقت؛ لأنه وقتها. وليس نداؤها رغبة في حضورها، فالهلاك لا يرغب فيه، وإنما نادى الهلاك ليحضر لما حصل له من اليأس والقنوط من أسباب النجاة، فلم يبق له إلاّ الهلاك؛ كما يقول العليل للطبيب وقد أيس من معالجة جرح بيده مثلًا: اقطع، فهذا وقت القطع.
وهكذا يخرج كل نداء في حالة شدة لما لا يخلص منها، وإنما يزيد في اشتدادها كما ينادي الشقي: «يا شقوتاه» والمفتضح: «يا فضيحتاه» والمصاب: «يا مصيبتاه» .
وكنى (بفلان) لأن لكل ظالم خليلاً له اسمه الخاص فلا يمكن التصريح بأسماء الجميع، فما بقي إلاّ الكناية عنها بفلان.
وجملة {لقد أضلني} بيان لسبب تمنيه السابق.
و"أل" في الشيطان والإنسان للجنس، فيدخل في جنس الشيطان خليل الظالم الذي صده عن الذكر، وقرين خليله من الجن الذي سوّل له ذلك وأعانه، وقرينه هو الذي زينه له ودعاه إليه.
والجملة من كلام الظالم لإعلان خيبته، وإظهار ألمه منها، لما وجد نفسه وحده مخذولاً ممن أضله وأغواه.
المعنى:
ويوم يعض الظالم لنفسه بالكفر لربه، أو الشرك على يديه ندماً وحسرة على تفريطه، وعدم اتباعه لسبيل الحق مع الرسول الذي أرسل إليه، وعلى توريطه لنفسه بصحبته لخليله وطاعته له، حتى صرفه عن الإيمان بالقرآن، بعدما جاءه وسمعه وتمكن من الإيمان به، فأغواه ذلك الخليل وقرينه، وقرينه هو حتى أردوه ثم خذلوه في ذلك اليوم العظيم في وقت الحسرة والندامة، فلم يجد منهم نصراً ولا معونة، كما هو شأن الشياطين في خذلان من يغووه ويردوه.
إلحاق واعتبار:
كما علينا أن نتبع سبيل الرسول- عليه وآله الصلاة والسلام- التي جاء بها من عند الله[/rtl]
[rtl]تعالى، وهي الإسلام، كذلك علينا أن نتبع سبيله في القيام بشرائع الإسلام علماً وعملاً: في أبواب العبادات وأحكام المعاملات، وفي تطبيق أصول الإسلام وفروعه على الحياة العامة والخاصة. وهذه هي سنته التي كان عليها، وكان عليها أصحابه، وأهل القرن الثاني من التابعين، وأهل القرن الثالث من أتباع التابعين: تلك القرون المشهود لها بالخيرية على غيرها بلسان المعصوم.
وكما أن من عدل عن الإسلام ولم يسلك سبيله وقع في ضلال الكفر، كذلك من عدل من السنة ولم يسلك سبيلها وقع في ضلال الابتداع.
وكما أن من لم يتخذ مع الرسول سبيل الإسلام يندم أشد الندم ويتحسر أعظم الحسرة على ما كان من تفريطه.
كذلك من لم يتخذ مع الرسول سبيل السنة إذ كل منهما قد ظلم نفسه، وفرط في سبيل نجاته.
فالآية، وإن كانت في الكافر والمشرك، فهي تتناول بطريق الاعتبار لكل الأهواء والبدع، وبهذا كانت الآية متناولة بوعظها وترهيبها جميع الخلق ممن لم يدخل في الإسلام، أو دخل فيه ولم يلزم سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
تحذير:
عندما تتخلل محبة شخص من الناس قلبك، وتمزج بروحك ويستولي بسلطان مودته عليك، تصير أقواله وأفعاله كلها عندك مرضية، وعيوبه ونقائصه عنك محجوبة، فتمسي طوع بنانه، ورهن إشارته، يوجهك حيث شاء ويصرفك عما أراد. وهذه حالة من أخطر الأحوال عليك، لأنك فيها قد سلبت تمييزك، وخسرت إرادتك، وصرت آلة في يد غيرك؛ فقد ترى الخير وتدعى إليه فيصرفك عنه، وقد ترى الشر وتحذر منه فيوقعك فيه.
وهب هذا الخليل كان مخلصاً لك، [[وحدباً]] عليك، فإنه غير معصوم من الخطأ والضلال. أما إذا كان شريراً مفسداً فهنالك الهلاك المحقق، والوبال الشديد.
وقد ذكر لنا الله تعالى في هذه الآية ما كان من سوء مثال الظالم بسبب انقياده لخليله، واتباعه له من غير روية وصدق تمييز.
يحذرنا من سلطان الخلة الذي يهمل معه شأن الإرادة والتمييز، ويعلمنا أن علينا أن نحافظ على إرادتنا وتمييزنا، ونظرنا لأنفسنا مع الصديق والعدو، ومع الخليل وغير الخليل، بل نحافظ عليها مع الخليل أكثر، لأنه مظنة الخوف بما له من المكانة في القلب والسلطان على النفس.
إرشاد:
لما كان خليل المرء بهذه المنزلة فعليك أن تختار من تخالل، فلا تخالَّ إلاّ من حسنت سريرته،[/rtl]
[rtl]واستقامت سيرته، وغلب الصواب على أقواله وأعماله، ليكون دليلك إلى الخير، وسائقك إليه، مع محافظتك على إرادتك وتمييزك معه على كل حال.
علامة:
إذا أردت أن تعرف شر خلانك، وأحقهم بهجرك له وابتعادك عنه: فانظر فيما يرغبك هو فيه، وما يرغبك عنه.
فإذا وجدته يرغبك عن القرآن، وعما جاء به القرآن فإياك وإياه، فتلك أصدق علامة على خبثه وسوء عاقبة قربه، فابتعد عنه في الدنيا، قبل أن تعض على يديك على صحبتك له في الأخرى.
وإذا وجدته يرغبك في القرآن وما جاء به القرآن، فذلك الخليل الزكي الصادق، فاستمسك به، وحافظ عليه.
وإن خلة أسست على الرجوع إلى القرآن، والتحاب على القرآن، والتناصح بالقرآن؛ لخلة نافعة دنيا وأخرى، لأنها أسست على أساس التقوى.
وقد قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] .
***
شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليته وتثبيته
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) } [الفرقان: 30] .
لما ذكر تعالى ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن، والإعراض والصد عنه، وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة، على ما كان منهم من ذلك في الدنيا- ذكر ما قاله النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الشكوى لربه بهم من تركهم للقرآن العظيم وهجره.
{مهجوراً} متروكا مقاطعاً مرفوعاً عنه.
{الرسول} : محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، و (قومه) قريش.
في قوله: {يا رب} إظهار لعظيم التجائه، وشدة اعتماده، وتمام تفويضه لمالكه ومدبر أمره، وموالي الإنعام عليه.
وفي التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه، وفي التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب؛ بيان لعظيم جرمهم بتركهم للقرآن، وهو قريب منهم في متناولهم، وقد أتاهم به واحد منهم، أقرب الناس إليهم، فصدوا وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب، وهذا أقبح الصد وأظلمه.[/rtl]
[rtl]وفي قوله: {اتخذوا} الخ ... بيان أنهم جعلوا الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم. وذلك أعظم من أن يقال: هجروه، الذي يفيد وقوعه الهجران منهم دون دلالة على الثبوت والملازمة.
المعنى:
قال الرسول شاكياً لربه: إن قومي الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم، قد صدوا عنه وتركوه، وثبتوا على تركه وهجره.
استنتاج واعتبار:
في شكوى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من هجرة القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور وأبغضها لديه.
وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه.
ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به؛ فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد.
تنزيل:
ونحن- معشر المسلمين- قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل، وإن كنا به مؤمنين:
1- بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها، وقلنا: تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين، وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقّدة، واشكالاتها المتعددة، واصطلاحاتها المحدثة، مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة.
2- وبين القرآن أصول الأحكام، وأمهات مسائل الحلال والحرام، ووجوه النظر والاعتبار، مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام، فهجرنا، واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجرّدة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفنى الأعمار قبل الوصول إليها.
3- وبين القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساوىء الأخلاق ومضارها، وبين السبيل للتخلّي عن هذه والتحلّي بتلك، مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس والسلامة من الخيبة بتدسيتها (1) .
__________
(1) دَسَّى نفسه: أخفاها وأخملها لؤما مخافة أن يُتنبه له فيُستضاف. ودسّاها: أغواها وأفسدها. ودَسَّى غيره: أغواه وأفسده. ودَسَّى عنه حديثاً: احتمله (المعجم الوسيط: [ص:284] ) . وفي التنزيل العزيز: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10] .[/rtl]
[rtl]فهجرنا ذلك كله، ووضعنا أوضاعا من عند أنفسنا، واصطلاحات من اختراعاتنا، خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطُّع (1) ، وعن السنة البيضاء إلى الأحداث والبدع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي، والتخيل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام، وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها، والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها، ومعارضة هداية القرآن بها.
4- وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة، لننظر ونستفيد ونعمل.
فهجرنا ذلك كله إلى خريدة (2) العجائب، وبدائع الزهور، والحوت والصخرة، وقرن الثور!
5- ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته ولا يتم ذلك إلاّ بتفسيره وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه.
فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، بل يصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك!
وفي جامع الزيتونة- عمره الله تعالى- إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير، فإنه -ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية، بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه، في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أياماً أو شهوراً؛ فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلاّ قليلاً دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير. وإنما قضى سنته في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات. كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية.
فهذا هجر آخر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن!
وعلمنا القرآن أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم، وينتهوا عما نهاهم عنه (3) ، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن. فهجرناها كما هجرناه، وعاملناها بما عاملناه، حتى إنه ليقل في المتصدرين للتدريس - من كبار العلماء في أكبر المعاهد- من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها، مطالعة، فضلاً عن غيرهم من أهل العلم، وفضلاً عن غيرها من كتب السنة (4) .
__________
(1) التنطّع؛ الغلوّ والتكلّف (المعجم الوسيط: [ص:930] ) .
(2) الخريدة: اللؤلؤة لم تثقب. (المعجم الوسيط: [ص:225] ) .
(3) قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
(4) وخرج الإمام بعد هذه التبعة بأن أتم القرآن الكريم تفسيراً وأتم موطأ مالك شرحاً (حاشية المطبوع: [ص:284] ) .[/rtl]
[rtl]وكم وكم وكم بين القرآن!!! وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران!!!
بيان واستشهاد:
شر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به، ويصرفون وجهه الناس إليهم وإلى ما وضعوه عنه؛ لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم، فكان شرهم متعديا، وبلاؤهم متجاوزاً وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك.
وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم، في كتاب (أعلام الموقعين) عن حماد بن سلمة، ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة، عن معاذ بن جبل، قال:
«تكون فتن، فيكثر المال، ويفتح القرآن، حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير، والمنافق والمؤمن.
فيقرؤه الرجل فلا يتبع، فيقول: والله لأقرأنه علانية، فيقرؤه علانية فلا يتبع. فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. فإياكم وإياه، فإنه بدعة وضلالة» .
قال معاذ ثلاث مرات. أهـ.
فانظر في قطرنا وفي غير قطرنا، كم تجد ممن بنى موضعاً للصلاة، ووضع كتباً من عنده، أو مما وضعه أسلافه من قبله، وروجها بين أتباعه، فأقبلوا عليها وهجروا القرآن.
وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه، إذ لا نفع بما صرف عباده عن كتاب الله. وإنما يدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمي صنيع هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه وأكد في التحذير بالتكرير.
وهذا الحديث وإن كان موقوفا على معاذ، فهو في حكم المرفوع، لأنه بمغيب مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، إلاّ بتوقيف من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
سبيل النجاة:
لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوَّع الذي نذوقه ونقاسيه:
إلا بالرجوع إلى القرآن: إلى علمه وهديه.
وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه.
والتفقه فيه وفي السنة النبوية وشرحه وبيانه.
والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد، وصحة الفهم، والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين، والاهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين.
وهذا أمر قريب على من قربه الله عليه، ميسر على من توكل على الله فيه.[/rtl]
[rtl]وقد بدت طلائعه- والحمد لله- وهي آخذة في الزيادة إن شاء الله، وسبحانه من يحيي العظام وهي رميم.
***
التسلية والتثبيت
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) } [الفرقان: 31] .
لما شكا- عليه الصلاة والسلام- قومه، سلَّاه الله تعالى وعزّاه، وأمره بالصبر والثبات، ووعده ورجاه.
(العدو) : وزنه فعول يكون للواحد والجماعة.
(كاف) : بمعنى مثل.
والإشارة في {وكذلك} للجعل المفهم مما تقدم: أي مثل ذلك الجعل للأعداء لك جعلنا لكل نبي إلخ..
المعنى:
مثلما جعلنا لك أعداء من قومك كفروا بك، وهجروا كتابك، وصدوا عنك، وبالغوا في أذيتك- جعلنا لكل نبي ممن نبأنا أعداء من أهل الذنب والإجرام.
فما أصابك إلاّ ما أصابهم، فاصبر كما صبروا. وكفى بربك هادياً يهديك إلى طريق الحق، ويبصرك الرشد، ويعرفك بما تؤدي به رسالة ربك.
فلا تتحّير في أمرك لما ترى من صدود قومك وناصراً ينصرك على أعدائك.
يأمره بالصبر ويثبته بالتأسي، ويعده بأنه يهديه في طريق التبليغ، وينصره على معارضيه حتى يتم أمر الله على يده.
ترهيب:
هؤلاء الذين سماهم الله تعالى أعداء لنبيه، ووصفهم بالإجرام، هم أولئك الذين هجروا القرآن وصدوا عنه، فهذا تخويف عظيم ووعيد شديد لكل من كان هاجرا للقرآن العظيم بوجه من وجوه الهجران.
إقتداء وتأس:
حق على حزب القرآن الداعين به، والداعين إليه، أن يقتدوا بالأنبياء والمرسلين في الصبر على الدعوة، والمضي فيها، والثبات عليها.
وأن يداووا أنفسهم عند ألمها واضطرابها، بالتأسي بأولئك السادة الأخيار.[/rtl]
[rtl]بشارة:
قد وعد الله تعالى نبيه- بعد ما أمره بالتأسي والصبر- بالهداية والنصر.
وفي هذا بشارة للدعاة من أمته من بعده، السائرين في الدعوة بالقرآن وإلى القرآن على نهجه، أن يهديهم وينصرهم.
كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . معهم بالفضل والنصر والتأييد، وهذا عام للمجاهدين المحسنين، والحمد لله رب العالمين.
***
تثبيت القلوب بالقرآن العظيم
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) } [الفرقان: 32] .
هذا اعتراض آخر من اعتراضاتهم الباطلة، نسقه مع ما تقدم منها ليجاب عنه، ويبين خطؤهم فيه، كما فعل بما تقدمه.
{لولا} مع المضارع للتحضيض، نحو: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46] . ومع الماضي للوم والتوبيخ، نحو {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وهي هنا مع الماضي فتكون للوم على عدم حصول المذكور وحصول ضده، والمقصود من اللوم هنا الاعتراض على عدم نزوله جملة واحدة، ونزوله مفرقاً. فالمعترض عليه هو نزوله مفرقاً.
{نزل} يأتي مرادفاً لأنزل والتضعيف أخو الهمزة، ويأتي مفيداً للتكثير فيفيد تكرر النزول وتجديده.
وخرج على هذا قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ -من الكتاب- وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3] .
وأما هنا فلا يصح حمله على التكثير المفيد للتدريج، لئلا يناقض قولهم جملة واحدة، فيكون من التضعيف المرادف للهمزة.
وعندي أن (نزَّل) المضاعف يرد لكثرة الفعل ولقوته؛ فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدمة، وجاء لقوته في هذه الآية؛ لأن إنزال الجملة مرة واحدة أقوى من إنزال كل جزء من الأجزاء بمفرده.
{كذلك} الإشارة للإنزال المفرق المفهوم من قولهم {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً} ؛ لأنه في معنى: لِمَ نزل عليه جملة، ولم ينزل عليه مفرقاً؟[/rtl]
[rtl](التثبيت) : ثبات الشيء إقامته ورسوخه دون اضطراب، وذلك من قوته، كما أن اضطراب المضطرب من ضعفه. فتفسير تثبيت الفؤاد هنا بتقويته تفسير بلازم معناه على أنه مراد منه أيضا أصل المعنى، وهو السكون وعدم الاضطراب. فتثبيته- إذن- هو تسكينه وتقويته.
(الترتيل) مادة (ر ت ل) كلها ترجع إلى تناسق الشيء وحسن تنضيده: منه ثغر رتل بالتحريك، أي مفلج بين الأسنان فرج لا يركب بعضها بعضا.
وترتيل القرآن في التلاوة هو إلقاء حروفه حرفاً حرفاً، وكلماته كلمة كلمة، وآياته آية آية، على تؤدة ومهل. حتى يتبين للقارىء وللسامع، ولا يخفى عليه شيء منه.
وأما ترتيله في نزوله- وهو المراد هنا- فإنه: إنزاله آية وآيتين وآيات، مفرقاً نجوما على حسب الوقائع.
{وقال الذين كفروا} وصل (1) ؛ لأنه قيل من أقوالهم؛ فعطف على ما تقدم من مثله.
{كذلك لنثبت} الأصل أنزلناه كذلك، فأوجز بحذف المتعلق لوجود ما يدل عليه من إعراضهم. وفصل؛ لأنه جواب عن اعتراضهم.
{ورتلناه} وصل؛ لأنه معطوف على أنزلناه المحذوف.
والتنوين في {ترتيلا} تنوين تنويع وتعظيم، أي نوعاً من الترتيل عظيماً.
المعنى:
وقال الذين كفروا- وهم قريش، أو اليهود أو الجميع، وهو الظاهر، لأن قريشاً واليهود كان يتصل بينهم الكلام في شأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وشأن القرآن. قالوا معترضين ومقترحين: لمَ لَمْ ينزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة وغيرها، ونزل عليه مفرقاً؛ فقال الله تعالى جواباً لهم: أنزلناه كذلك الإنزال مفرقاً؛ لنثبت به قلبك فيسكن ويطمئن، ونقويه فيصبر ويتحمل.
وأنزلناه مرتلاً ومفرقاً تفريقاً مرتباً، منزلاً كل قسم منه في الوقت المناسب لإنزاله والحالة الداعية إليه اللائقة به.
مزيد بيان للاعتراض والجواب:
أما اعتراضهم، فكان لأنهم سمعوا القرآن يذكر أن الكتاب أنزل على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما أنزلت الكتب على الأنبياء- عليهم السلام- من قبله بمثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} . [العنكبوت: 47] . فقالوا: لماذا نزل هذا الكتاب مفرقاً، ولم ينزل مثل تلك الكتب جملة واحدة؟!
__________
(1) وصل جملة: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ ... } .[/rtl]
[rtl]وهم لما عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه، أخذوا يباهتون بالباطل، ويعترضون بمثل هذا الاعتراض.
وأما الجواب، فكان ببيان حكمتين في إنزاله مفرقاً:
الحكمة الأولى: تثبيت قلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
والحكمة الثانية: تفريقه مرتبا على الواقع.
وكان في تينك الحكمتين مزيتان عظيمتان للقرآن العظيم على غيره من كتب الله تعالى؟
فكان ما اعترضوا به على أنه نقص فيه عنها هو كمال له عليها.
شرح الحكمة الأولى:
كان كل نجم ينزل من القرآن العظيم- والنجم القسم الذي ينزل معًا آية أو آيتين أو أكثر- يزداد به عجزهم وعنادهم ظهوراً، وتزداد حجة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصدقه وضوحاً؛ فيزداد بذلك سكون قلبه وطمأنينته بظهور أمره على عدوه، وعلو كلمة الحق على كلمة الباطل.
وفي ذلك تقوية له، وأي تقوية! لا عن شك كان في قلبه أو تردد ولكن البراهين المتوالية، والحجج المتتالية، تزيد في سكون القلب واطمئنانه، وإن كان معقودا من أول أمره على اليقين. فهذا وجه من تثبيت فؤاده بالآيات المتفرقات في النزول.
وقد كان كل نجم من نجوم القرآن ينزل بشيء من العلم والعرفان، مما يرجع إلى العقائد أو الأخلاق أو الأحكام أو التذكير بالأمم الماضية وأخبار الرسل المقتدمين، أو باليوم الآخر أو بسنة الله في المكذبين، إلى غير ذلك من علوم القرآن؛ فيقوى قلبه عند نزول كل نجم بما يكتسبه منه من معرفة وعلم.
وكان يلقى من الجهد والعناء في تبليغ الرسالة ما تضعف عن تحمله القوى البشرية. فإذا نزل عليه القرآن، واتصل بالملك الروحاني النوراني، وقذف في قلبه ذلك الوحي القرآني، تقوى قلبه على تحمل أعباء الرسالة ومثاق التبليغ.
ولما كان البلاء والعناء في سبيل التبليغ متكرراً متجدداً، كان محتاجاً إلى تجديد تقوية قلبه، وكان ذلك مقتضياً لتفريق نزول الآي عليه، فهذه ثلاثة وجوه من التثبيت.
حظنا من العمل بهذه الحكمة:
قلوبنا معرضة لخطرات الوسواس، بل للأوهام والشكوك، فالذي يثبتها ويدفع عنها الاضطراب ويربطها باليقين هو القرآن العظيم.
ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلاّ شكا، وما ازدادت قلوبهم إلاّ مرضًا، حتى رجع كثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد[/rtl]
[rtl]القرآن، وأدلة القرآن، فشفوا بعد ما كادوا، كإمام الحرمين (1) ، والفخر الرازي (2) .
وقلوبنا معرضة لران (3) المعصية التي تظلم منها القلوب وتقسو، حتى تحجب عنها الحقائق، وتطمس أمامها سبل العرفان.
فالذي يجلو عنها ذلك الران، ويزيل منها تلك القسوة، ويكشف لها حقائق العلم، ويوضح لها سبل المعرفة هو القرآن العظيم.
فقراؤه المتفقهون فيه، قلوبهم نيرة، مستعدة لتلقي العلوم والمعارف، مستعدة لسماع الحق وقبوله، لها من نور القرآن فرقان تفرق به بين الحق والباطل، وتميز به بين الهدى والضلال.
وقلوبنا معرضة للضعف عن القيام بأعباء التكليف، وما نحن مطالبون به من الأعمال، والذي يجدد لنا فيها القوة، ويبعث فيها الهمة، هو القرآن العظيم.
فحاجتنا إلى تجديد تلاوته وتدبيره، أكيدة جداً لتقوية قلوبنا باليقين، وبالعلم، وبالهمة، والنشاط، للقيام بالعمل.
شرح الحكمة الثانية:
من محاسن هذه الشريعة المطهرة، أنها نزلت بالتدريج المناسب.
وكما كان في تحريم الخمر.
وكما كان في العدد المفروض عليه الثبات للعدو في آيات الأنفال (4) .
وكما كان في مشروعية قيام الليل في آيات سورة المزمل (5) .
__________
(1) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله ضياء الدين أبو المعالي الجويني الشافعي الشهير بإمام الحرمين. ولد سنة 419 هـ؛ قدم بغداد ثم سافر وجاور في مكة والمدينة، ورجع إلى نيسابور يدرس العلم ويعظ إلى أن توفي بها سنة 478 هـ. من تصانيفه: الإرشاد في علم الكلام، أساليب في الخلاف، البرهان في الأصول، البلغة، وغيرها كثير. انظر هدية العارفن (1/ 626) .
(2) هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الطبرستاني الرازي فخر الدين المعروف بابن الخطيب الشافعي الفقيه. ولد بالري سنة 543هـ وتوفي بهراة سنة 606 هـ. من تصانيفه: مفاتيح الغيب في تفسير القرآن، الآيات البينات، إبطال القياس، إحكام الأحكام، الأربعين في أصول الدين، مصادرات إقليدس، المحصول في علم الأصول، وغيرها كثير. انظر هدية العارفين (107/2، 108) .
(3) الرّان: الغطاء والحجاب الكثيف (المعجم الوسيط: [ص:386] ) .
(4) وهما الآيتان 65 و66 من سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
(5) وهو قوله تعالى في الآية 20 من سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ... } .[/rtl]
[rtl]وما كان ليكون هذا التدريج بغير تفريق الآيات في التنزيل.
ومن محاسنها نسخ الحكم عند انتهاء المصلحة التي اقتضت تشريعه وانقضاء زمنها لحكم آخر أنسب منه للبقاء في الأزمان.
كما كان في آيتي المتوفى عنها في سورة البقرة (1) .
وما كان ذلك ليأتي إلاّ بتفريق الآيات في الإنزال.
وكانت الوقائع تقع، والحوادث تحدث، والشبه تعرض، والاعتراضات ترد.. فكانت الآيات تنزل بما تتطلبه تلك الوقائع من بيان، وما تقتضيه تلك الحوادث من أحكام، وما تستدعيه تلك الشبه من رد، وتلك الاعتراضات من إبطال، إلى غير ما ذكرنا من:
مقتضيات نزول الآيات المعروفة بأسباب النزول.
وفي بيان الواقعة عند وقوعها، وذكر حكم الحادثة عند حدوثها، ورد الشبهة عند عروضها، وإبطال الاعتراض عند وروده- ما فيه من تأثير في النفوس، ووقع في القلوب، ورسوخ في العقول، وجلاء في البيان، وبلاغة في التطبيق، واستيلاء على السامعين.
وما كان هذا كله ليأتي لولا تفريق الآيات في التنزيل، وترتيلها وتنضيدها هذا الترتيل العجيب، وهذا التنضيد الغريب، الذي بلغ الغاية من الحسن والمنفعة، حتى أنه ليصح أن يعد وحده وجهاً من وجوه الإعجاز.
حظنا من العمل بهذه الحكمة:
أن نقرأ القرآن ونتفهمه، حتى تكون آياته على طرف ألسنتنا، ومعانيه نصب أعيننا، لنطبق آياته على أحوالنا، وننزلها عليها كما كانت تنزل على الأحوال والوقائع.
فإذا حدث مرض قلبي أو اجتماعي طلبنا دواءه في القرآن وطبقناه عليه.
وإذا عرضت شبهة أو ورد اعتراض، طلبنا فيه الرد والإبطال.
وإذا نزلت نازلة طلبنا فيه حكمها، وهكذا نذهب في تطبيقه وتنزيله على الشؤون والأحوال إلى أقصى حد يمكننا.
إقتداء:
انظر إلى هذه الحكمة في هذا الترتيل: كيف كان تنزل [[آياته]] على حسب الوقائع؟
أليس في هذا قدوة صالحة لأئمة الجُمَع وخطبائها: في توخيهم بخطبهم الوقائع النازلة، وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال؟
بلى والله، بلى والله!
__________
(1) وهما الآيتان 240 و241 من سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ... } .[/rtl]
ولقد كانت الخطبة النبوية، والخطب السلفية كلها على هذا المنوال، تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال.
وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوة على الأحقاب والأجيال فما هي إلاّ مظهر من مظاهر قصورنا وجمودنا.
فإلى الله المشتكى وبه المستعان.
***
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) } [الفرقان: 27 و28 و29] .
لما سأل المشركون أن يروا الملائكة: أخبروا بأنهم سيرونهم في يوم يكون شره عليهم عظيماً.
وذكر في الآيات السابقة ما يكون في ذلك اليوم من حبوط أعمالهم، وتشقق السماء بالغمام، وتنزل الملائكة وغير ذلك.
وذكر في هذه الآية ما يكون في ذلك القوم من ندم الظالم وسوء حاله.
(الظلم) وضع الشيء في غير موضعه: كوضع الكفر موضع الإيمان، ووضع المعصية موضع الطاعة. وحق الله تعالى أن يؤمن به، ويوحّد، ويطاع، فمن كفر أو أشرك به أو عصاه فقد ظلم، وهو هنا الكافر والمشرك، لأنه الذي لم يتخذ مع الرسول سبيلا.
(الويلة) : الهلكة كالويل بمعنى الهلاك. (فلان) : يكنى به عن الأعلام كما يكنى بالهن عن الأجناس.
(الخليل) : فعيل بمعنى فاعل وهو ما تخللت مودته القلب، وامزجت بالنفس، فكانت له مكانة منهما، وسلطان عليهما. هذا في جانب الخلق، وأما في جانب الله تعالى فبالمعنى الذي يليق بقدسه وتنزيهه، فإبراهيم- عليه السلام- خليل الرحمن بما له عنده تعالى من عظيم المنزلة، ورفعة الشأن، وقبول الدعوة، وما له عليه من جزيل الإنعام.
(الإضلال) : الصد والصرف عن طريق الحق والنجاة.
(الذكر) : القرآن العظيم، وفسر بالشهادتين، وبالإسلام؛ والقرآن فيه ذلك كله، وهو الذي سيأتي على الأثر، وذكر هجرهم له، ولذلك اخترناه في معنى الذكر هنا.
(الشيطان) : الخبيث الشرير الذي استولى عليه، وتمكن منه خلق الإفساد والإضرار من الجن والإنس.
(الخذول) : الكثير الخذل، أي التسليم والترك لمن نزل به البلاء في وقت الحاجة إلى إنقاذه.
شأن من وقع في غيظ وحسرة وندامة أن يعض يديه، ويأكل بنانه كأنه لما لم يجد شيئاً يطفي فيه غيظه، رجع على نفسه بذلك: فعض اليد لازم لحالة الحسرة والغيظ والندامة، فلذا يكنى به عنها من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم. وذلك لا يمنع من وجود العض منه حقيقة، بل وقوع ذلك هو الشأن الغالب.[/rtl]
[rtl](1/169)[/rtl]
و {يوم} ، منصوب بـ "أذكر" أو معطوف على يوم يرون الملائكة، كما عطف عليه: ويوم تشقق السماء.
و {يوم يرون} منصوب بـ "لذكر"، أو بيمنعون البشرى كما يدل عليه لا بشرى يومئذ للمجرمين.
والتنكير في قوله {سبيلا} للإفراد: أي سبيلًا واحداً لا تعدد فيه بخلاف ما كان عليه الظالم من سبل أهوائه المتعددة المتشعبة.
والألف في {يا ويلنا} منقلبة عن ياء المتكلم، والأصل يا ويلتي، نادى ويلته أي هلكته لتحضر في ذلك الوقت؛ لأنه وقتها. وليس نداؤها رغبة في حضورها، فالهلاك لا يرغب فيه، وإنما نادى الهلاك ليحضر لما حصل له من اليأس والقنوط من أسباب النجاة، فلم يبق له إلاّ الهلاك؛ كما يقول العليل للطبيب وقد أيس من معالجة جرح بيده مثلًا: اقطع، فهذا وقت القطع.
وهكذا يخرج كل نداء في حالة شدة لما لا يخلص منها، وإنما يزيد في اشتدادها كما ينادي الشقي: «يا شقوتاه» والمفتضح: «يا فضيحتاه» والمصاب: «يا مصيبتاه» .
وكنى (بفلان) لأن لكل ظالم خليلاً له اسمه الخاص فلا يمكن التصريح بأسماء الجميع، فما بقي إلاّ الكناية عنها بفلان.
وجملة {لقد أضلني} بيان لسبب تمنيه السابق.
و"أل" في الشيطان والإنسان للجنس، فيدخل في جنس الشيطان خليل الظالم الذي صده عن الذكر، وقرين خليله من الجن الذي سوّل له ذلك وأعانه، وقرينه هو الذي زينه له ودعاه إليه.
والجملة من كلام الظالم لإعلان خيبته، وإظهار ألمه منها، لما وجد نفسه وحده مخذولاً ممن أضله وأغواه.
المعنى:
ويوم يعض الظالم لنفسه بالكفر لربه، أو الشرك على يديه ندماً وحسرة على تفريطه، وعدم اتباعه لسبيل الحق مع الرسول الذي أرسل إليه، وعلى توريطه لنفسه بصحبته لخليله وطاعته له، حتى صرفه عن الإيمان بالقرآن، بعدما جاءه وسمعه وتمكن من الإيمان به، فأغواه ذلك الخليل وقرينه، وقرينه هو حتى أردوه ثم خذلوه في ذلك اليوم العظيم في وقت الحسرة والندامة، فلم يجد منهم نصراً ولا معونة، كما هو شأن الشياطين في خذلان من يغووه ويردوه.
إلحاق واعتبار:
كما علينا أن نتبع سبيل الرسول- عليه وآله الصلاة والسلام- التي جاء بها من عند الله[/rtl]
[rtl](1/170)[/rtl]
وكما أن من عدل عن الإسلام ولم يسلك سبيله وقع في ضلال الكفر، كذلك من عدل من السنة ولم يسلك سبيلها وقع في ضلال الابتداع.
وكما أن من لم يتخذ مع الرسول سبيل الإسلام يندم أشد الندم ويتحسر أعظم الحسرة على ما كان من تفريطه.
كذلك من لم يتخذ مع الرسول سبيل السنة إذ كل منهما قد ظلم نفسه، وفرط في سبيل نجاته.
فالآية، وإن كانت في الكافر والمشرك، فهي تتناول بطريق الاعتبار لكل الأهواء والبدع، وبهذا كانت الآية متناولة بوعظها وترهيبها جميع الخلق ممن لم يدخل في الإسلام، أو دخل فيه ولم يلزم سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
تحذير:
عندما تتخلل محبة شخص من الناس قلبك، وتمزج بروحك ويستولي بسلطان مودته عليك، تصير أقواله وأفعاله كلها عندك مرضية، وعيوبه ونقائصه عنك محجوبة، فتمسي طوع بنانه، ورهن إشارته، يوجهك حيث شاء ويصرفك عما أراد. وهذه حالة من أخطر الأحوال عليك، لأنك فيها قد سلبت تمييزك، وخسرت إرادتك، وصرت آلة في يد غيرك؛ فقد ترى الخير وتدعى إليه فيصرفك عنه، وقد ترى الشر وتحذر منه فيوقعك فيه.
وهب هذا الخليل كان مخلصاً لك، [[وحدباً]] عليك، فإنه غير معصوم من الخطأ والضلال. أما إذا كان شريراً مفسداً فهنالك الهلاك المحقق، والوبال الشديد.
وقد ذكر لنا الله تعالى في هذه الآية ما كان من سوء مثال الظالم بسبب انقياده لخليله، واتباعه له من غير روية وصدق تمييز.
يحذرنا من سلطان الخلة الذي يهمل معه شأن الإرادة والتمييز، ويعلمنا أن علينا أن نحافظ على إرادتنا وتمييزنا، ونظرنا لأنفسنا مع الصديق والعدو، ومع الخليل وغير الخليل، بل نحافظ عليها مع الخليل أكثر، لأنه مظنة الخوف بما له من المكانة في القلب والسلطان على النفس.
إرشاد:
لما كان خليل المرء بهذه المنزلة فعليك أن تختار من تخالل، فلا تخالَّ إلاّ من حسنت سريرته،[/rtl]
[rtl](1/171)[/rtl]
علامة:
إذا أردت أن تعرف شر خلانك، وأحقهم بهجرك له وابتعادك عنه: فانظر فيما يرغبك هو فيه، وما يرغبك عنه.
فإذا وجدته يرغبك عن القرآن، وعما جاء به القرآن فإياك وإياه، فتلك أصدق علامة على خبثه وسوء عاقبة قربه، فابتعد عنه في الدنيا، قبل أن تعض على يديك على صحبتك له في الأخرى.
وإذا وجدته يرغبك في القرآن وما جاء به القرآن، فذلك الخليل الزكي الصادق، فاستمسك به، وحافظ عليه.
وإن خلة أسست على الرجوع إلى القرآن، والتحاب على القرآن، والتناصح بالقرآن؛ لخلة نافعة دنيا وأخرى، لأنها أسست على أساس التقوى.
وقد قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] .
***
شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليته وتثبيته
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) } [الفرقان: 30] .
لما ذكر تعالى ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن، والإعراض والصد عنه، وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة، على ما كان منهم من ذلك في الدنيا- ذكر ما قاله النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الشكوى لربه بهم من تركهم للقرآن العظيم وهجره.
{مهجوراً} متروكا مقاطعاً مرفوعاً عنه.
{الرسول} : محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، و (قومه) قريش.
في قوله: {يا رب} إظهار لعظيم التجائه، وشدة اعتماده، وتمام تفويضه لمالكه ومدبر أمره، وموالي الإنعام عليه.
وفي التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه، وفي التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب؛ بيان لعظيم جرمهم بتركهم للقرآن، وهو قريب منهم في متناولهم، وقد أتاهم به واحد منهم، أقرب الناس إليهم، فصدوا وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب، وهذا أقبح الصد وأظلمه.[/rtl]
[rtl](1/172)[/rtl]
المعنى:
قال الرسول شاكياً لربه: إن قومي الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم، قد صدوا عنه وتركوه، وثبتوا على تركه وهجره.
استنتاج واعتبار:
في شكوى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من هجرة القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور وأبغضها لديه.
وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه.
ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به؛ فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد.
تنزيل:
ونحن- معشر المسلمين- قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل، وإن كنا به مؤمنين:
1- بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها، وقلنا: تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين، وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقّدة، واشكالاتها المتعددة، واصطلاحاتها المحدثة، مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة.
2- وبين القرآن أصول الأحكام، وأمهات مسائل الحلال والحرام، ووجوه النظر والاعتبار، مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام، فهجرنا، واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجرّدة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفنى الأعمار قبل الوصول إليها.
3- وبين القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساوىء الأخلاق ومضارها، وبين السبيل للتخلّي عن هذه والتحلّي بتلك، مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس والسلامة من الخيبة بتدسيتها (1) .
__________
(1) دَسَّى نفسه: أخفاها وأخملها لؤما مخافة أن يُتنبه له فيُستضاف. ودسّاها: أغواها وأفسدها. ودَسَّى غيره: أغواه وأفسده. ودَسَّى عنه حديثاً: احتمله (المعجم الوسيط: [ص:284] ) . وفي التنزيل العزيز: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10] .[/rtl]
[rtl](1/173)[/rtl]
4- وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة، لننظر ونستفيد ونعمل.
فهجرنا ذلك كله إلى خريدة (2) العجائب، وبدائع الزهور، والحوت والصخرة، وقرن الثور!
5- ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته ولا يتم ذلك إلاّ بتفسيره وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه.
فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، بل يصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك!
وفي جامع الزيتونة- عمره الله تعالى- إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير، فإنه -ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية، بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه، في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أياماً أو شهوراً؛ فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلاّ قليلاً دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير. وإنما قضى سنته في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات. كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية.
فهذا هجر آخر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن!
وعلمنا القرآن أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم، وينتهوا عما نهاهم عنه (3) ، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن. فهجرناها كما هجرناه، وعاملناها بما عاملناه، حتى إنه ليقل في المتصدرين للتدريس - من كبار العلماء في أكبر المعاهد- من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها، مطالعة، فضلاً عن غيرهم من أهل العلم، وفضلاً عن غيرها من كتب السنة (4) .
__________
(1) التنطّع؛ الغلوّ والتكلّف (المعجم الوسيط: [ص:930] ) .
(2) الخريدة: اللؤلؤة لم تثقب. (المعجم الوسيط: [ص:225] ) .
(3) قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
(4) وخرج الإمام بعد هذه التبعة بأن أتم القرآن الكريم تفسيراً وأتم موطأ مالك شرحاً (حاشية المطبوع: [ص:284] ) .[/rtl]
[rtl](1/174)[/rtl]
بيان واستشهاد:
شر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به، ويصرفون وجهه الناس إليهم وإلى ما وضعوه عنه؛ لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم، فكان شرهم متعديا، وبلاؤهم متجاوزاً وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك.
وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم، في كتاب (أعلام الموقعين) عن حماد بن سلمة، ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة، عن معاذ بن جبل، قال:
«تكون فتن، فيكثر المال، ويفتح القرآن، حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير، والمنافق والمؤمن.
فيقرؤه الرجل فلا يتبع، فيقول: والله لأقرأنه علانية، فيقرؤه علانية فلا يتبع. فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. فإياكم وإياه، فإنه بدعة وضلالة» .
قال معاذ ثلاث مرات. أهـ.
فانظر في قطرنا وفي غير قطرنا، كم تجد ممن بنى موضعاً للصلاة، ووضع كتباً من عنده، أو مما وضعه أسلافه من قبله، وروجها بين أتباعه، فأقبلوا عليها وهجروا القرآن.
وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه، إذ لا نفع بما صرف عباده عن كتاب الله. وإنما يدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمي صنيع هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه وأكد في التحذير بالتكرير.
وهذا الحديث وإن كان موقوفا على معاذ، فهو في حكم المرفوع، لأنه بمغيب مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، إلاّ بتوقيف من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
سبيل النجاة:
لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوَّع الذي نذوقه ونقاسيه:
إلا بالرجوع إلى القرآن: إلى علمه وهديه.
وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه.
والتفقه فيه وفي السنة النبوية وشرحه وبيانه.
والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد، وصحة الفهم، والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين، والاهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين.
وهذا أمر قريب على من قربه الله عليه، ميسر على من توكل على الله فيه.[/rtl]
[rtl](1/175)[/rtl]
***
التسلية والتثبيت
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) } [الفرقان: 31] .
لما شكا- عليه الصلاة والسلام- قومه، سلَّاه الله تعالى وعزّاه، وأمره بالصبر والثبات، ووعده ورجاه.
(العدو) : وزنه فعول يكون للواحد والجماعة.
(كاف) : بمعنى مثل.
والإشارة في {وكذلك} للجعل المفهم مما تقدم: أي مثل ذلك الجعل للأعداء لك جعلنا لكل نبي إلخ..
المعنى:
مثلما جعلنا لك أعداء من قومك كفروا بك، وهجروا كتابك، وصدوا عنك، وبالغوا في أذيتك- جعلنا لكل نبي ممن نبأنا أعداء من أهل الذنب والإجرام.
فما أصابك إلاّ ما أصابهم، فاصبر كما صبروا. وكفى بربك هادياً يهديك إلى طريق الحق، ويبصرك الرشد، ويعرفك بما تؤدي به رسالة ربك.
فلا تتحّير في أمرك لما ترى من صدود قومك وناصراً ينصرك على أعدائك.
يأمره بالصبر ويثبته بالتأسي، ويعده بأنه يهديه في طريق التبليغ، وينصره على معارضيه حتى يتم أمر الله على يده.
ترهيب:
هؤلاء الذين سماهم الله تعالى أعداء لنبيه، ووصفهم بالإجرام، هم أولئك الذين هجروا القرآن وصدوا عنه، فهذا تخويف عظيم ووعيد شديد لكل من كان هاجرا للقرآن العظيم بوجه من وجوه الهجران.
إقتداء وتأس:
حق على حزب القرآن الداعين به، والداعين إليه، أن يقتدوا بالأنبياء والمرسلين في الصبر على الدعوة، والمضي فيها، والثبات عليها.
وأن يداووا أنفسهم عند ألمها واضطرابها، بالتأسي بأولئك السادة الأخيار.[/rtl]
[rtl](1/176)[/rtl]
قد وعد الله تعالى نبيه- بعد ما أمره بالتأسي والصبر- بالهداية والنصر.
وفي هذا بشارة للدعاة من أمته من بعده، السائرين في الدعوة بالقرآن وإلى القرآن على نهجه، أن يهديهم وينصرهم.
كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . معهم بالفضل والنصر والتأييد، وهذا عام للمجاهدين المحسنين، والحمد لله رب العالمين.
***
تثبيت القلوب بالقرآن العظيم
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) } [الفرقان: 32] .
هذا اعتراض آخر من اعتراضاتهم الباطلة، نسقه مع ما تقدم منها ليجاب عنه، ويبين خطؤهم فيه، كما فعل بما تقدمه.
{لولا} مع المضارع للتحضيض، نحو: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46] . ومع الماضي للوم والتوبيخ، نحو {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وهي هنا مع الماضي فتكون للوم على عدم حصول المذكور وحصول ضده، والمقصود من اللوم هنا الاعتراض على عدم نزوله جملة واحدة، ونزوله مفرقاً. فالمعترض عليه هو نزوله مفرقاً.
{نزل} يأتي مرادفاً لأنزل والتضعيف أخو الهمزة، ويأتي مفيداً للتكثير فيفيد تكرر النزول وتجديده.
وخرج على هذا قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ -من الكتاب- وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3] .
وأما هنا فلا يصح حمله على التكثير المفيد للتدريج، لئلا يناقض قولهم جملة واحدة، فيكون من التضعيف المرادف للهمزة.
وعندي أن (نزَّل) المضاعف يرد لكثرة الفعل ولقوته؛ فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدمة، وجاء لقوته في هذه الآية؛ لأن إنزال الجملة مرة واحدة أقوى من إنزال كل جزء من الأجزاء بمفرده.
{كذلك} الإشارة للإنزال المفرق المفهوم من قولهم {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً} ؛ لأنه في معنى: لِمَ نزل عليه جملة، ولم ينزل عليه مفرقاً؟[/rtl]
[rtl](1/177)[/rtl]
(الترتيل) مادة (ر ت ل) كلها ترجع إلى تناسق الشيء وحسن تنضيده: منه ثغر رتل بالتحريك، أي مفلج بين الأسنان فرج لا يركب بعضها بعضا.
وترتيل القرآن في التلاوة هو إلقاء حروفه حرفاً حرفاً، وكلماته كلمة كلمة، وآياته آية آية، على تؤدة ومهل. حتى يتبين للقارىء وللسامع، ولا يخفى عليه شيء منه.
وأما ترتيله في نزوله- وهو المراد هنا- فإنه: إنزاله آية وآيتين وآيات، مفرقاً نجوما على حسب الوقائع.
{وقال الذين كفروا} وصل (1) ؛ لأنه قيل من أقوالهم؛ فعطف على ما تقدم من مثله.
{كذلك لنثبت} الأصل أنزلناه كذلك، فأوجز بحذف المتعلق لوجود ما يدل عليه من إعراضهم. وفصل؛ لأنه جواب عن اعتراضهم.
{ورتلناه} وصل؛ لأنه معطوف على أنزلناه المحذوف.
والتنوين في {ترتيلا} تنوين تنويع وتعظيم، أي نوعاً من الترتيل عظيماً.
المعنى:
وقال الذين كفروا- وهم قريش، أو اليهود أو الجميع، وهو الظاهر، لأن قريشاً واليهود كان يتصل بينهم الكلام في شأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وشأن القرآن. قالوا معترضين ومقترحين: لمَ لَمْ ينزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة وغيرها، ونزل عليه مفرقاً؛ فقال الله تعالى جواباً لهم: أنزلناه كذلك الإنزال مفرقاً؛ لنثبت به قلبك فيسكن ويطمئن، ونقويه فيصبر ويتحمل.
وأنزلناه مرتلاً ومفرقاً تفريقاً مرتباً، منزلاً كل قسم منه في الوقت المناسب لإنزاله والحالة الداعية إليه اللائقة به.
مزيد بيان للاعتراض والجواب:
أما اعتراضهم، فكان لأنهم سمعوا القرآن يذكر أن الكتاب أنزل على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما أنزلت الكتب على الأنبياء- عليهم السلام- من قبله بمثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} . [العنكبوت: 47] . فقالوا: لماذا نزل هذا الكتاب مفرقاً، ولم ينزل مثل تلك الكتب جملة واحدة؟!
__________
(1) وصل جملة: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ ... } .[/rtl]
[rtl](1/178)[/rtl]
وأما الجواب، فكان ببيان حكمتين في إنزاله مفرقاً:
الحكمة الأولى: تثبيت قلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
والحكمة الثانية: تفريقه مرتبا على الواقع.
وكان في تينك الحكمتين مزيتان عظيمتان للقرآن العظيم على غيره من كتب الله تعالى؟
فكان ما اعترضوا به على أنه نقص فيه عنها هو كمال له عليها.
شرح الحكمة الأولى:
كان كل نجم ينزل من القرآن العظيم- والنجم القسم الذي ينزل معًا آية أو آيتين أو أكثر- يزداد به عجزهم وعنادهم ظهوراً، وتزداد حجة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصدقه وضوحاً؛ فيزداد بذلك سكون قلبه وطمأنينته بظهور أمره على عدوه، وعلو كلمة الحق على كلمة الباطل.
وفي ذلك تقوية له، وأي تقوية! لا عن شك كان في قلبه أو تردد ولكن البراهين المتوالية، والحجج المتتالية، تزيد في سكون القلب واطمئنانه، وإن كان معقودا من أول أمره على اليقين. فهذا وجه من تثبيت فؤاده بالآيات المتفرقات في النزول.
وقد كان كل نجم من نجوم القرآن ينزل بشيء من العلم والعرفان، مما يرجع إلى العقائد أو الأخلاق أو الأحكام أو التذكير بالأمم الماضية وأخبار الرسل المقتدمين، أو باليوم الآخر أو بسنة الله في المكذبين، إلى غير ذلك من علوم القرآن؛ فيقوى قلبه عند نزول كل نجم بما يكتسبه منه من معرفة وعلم.
وكان يلقى من الجهد والعناء في تبليغ الرسالة ما تضعف عن تحمله القوى البشرية. فإذا نزل عليه القرآن، واتصل بالملك الروحاني النوراني، وقذف في قلبه ذلك الوحي القرآني، تقوى قلبه على تحمل أعباء الرسالة ومثاق التبليغ.
ولما كان البلاء والعناء في سبيل التبليغ متكرراً متجدداً، كان محتاجاً إلى تجديد تقوية قلبه، وكان ذلك مقتضياً لتفريق نزول الآي عليه، فهذه ثلاثة وجوه من التثبيت.
حظنا من العمل بهذه الحكمة:
قلوبنا معرضة لخطرات الوسواس، بل للأوهام والشكوك، فالذي يثبتها ويدفع عنها الاضطراب ويربطها باليقين هو القرآن العظيم.
ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلاّ شكا، وما ازدادت قلوبهم إلاّ مرضًا، حتى رجع كثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد[/rtl]
[rtl](1/179)[/rtl]
وقلوبنا معرضة لران (3) المعصية التي تظلم منها القلوب وتقسو، حتى تحجب عنها الحقائق، وتطمس أمامها سبل العرفان.
فالذي يجلو عنها ذلك الران، ويزيل منها تلك القسوة، ويكشف لها حقائق العلم، ويوضح لها سبل المعرفة هو القرآن العظيم.
فقراؤه المتفقهون فيه، قلوبهم نيرة، مستعدة لتلقي العلوم والمعارف، مستعدة لسماع الحق وقبوله، لها من نور القرآن فرقان تفرق به بين الحق والباطل، وتميز به بين الهدى والضلال.
وقلوبنا معرضة للضعف عن القيام بأعباء التكليف، وما نحن مطالبون به من الأعمال، والذي يجدد لنا فيها القوة، ويبعث فيها الهمة، هو القرآن العظيم.
فحاجتنا إلى تجديد تلاوته وتدبيره، أكيدة جداً لتقوية قلوبنا باليقين، وبالعلم، وبالهمة، والنشاط، للقيام بالعمل.
شرح الحكمة الثانية:
من محاسن هذه الشريعة المطهرة، أنها نزلت بالتدريج المناسب.
وكما كان في تحريم الخمر.
وكما كان في العدد المفروض عليه الثبات للعدو في آيات الأنفال (4) .
وكما كان في مشروعية قيام الليل في آيات سورة المزمل (5) .
__________
(1) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله ضياء الدين أبو المعالي الجويني الشافعي الشهير بإمام الحرمين. ولد سنة 419 هـ؛ قدم بغداد ثم سافر وجاور في مكة والمدينة، ورجع إلى نيسابور يدرس العلم ويعظ إلى أن توفي بها سنة 478 هـ. من تصانيفه: الإرشاد في علم الكلام، أساليب في الخلاف، البرهان في الأصول، البلغة، وغيرها كثير. انظر هدية العارفن (1/ 626) .
(2) هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الطبرستاني الرازي فخر الدين المعروف بابن الخطيب الشافعي الفقيه. ولد بالري سنة 543هـ وتوفي بهراة سنة 606 هـ. من تصانيفه: مفاتيح الغيب في تفسير القرآن، الآيات البينات، إبطال القياس، إحكام الأحكام، الأربعين في أصول الدين، مصادرات إقليدس، المحصول في علم الأصول، وغيرها كثير. انظر هدية العارفين (107/2، 108) .
(3) الرّان: الغطاء والحجاب الكثيف (المعجم الوسيط: [ص:386] ) .
(4) وهما الآيتان 65 و66 من سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
(5) وهو قوله تعالى في الآية 20 من سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ... } .[/rtl]
[rtl](1/180)[/rtl]
ومن محاسنها نسخ الحكم عند انتهاء المصلحة التي اقتضت تشريعه وانقضاء زمنها لحكم آخر أنسب منه للبقاء في الأزمان.
كما كان في آيتي المتوفى عنها في سورة البقرة (1) .
وما كان ذلك ليأتي إلاّ بتفريق الآيات في الإنزال.
وكانت الوقائع تقع، والحوادث تحدث، والشبه تعرض، والاعتراضات ترد.. فكانت الآيات تنزل بما تتطلبه تلك الوقائع من بيان، وما تقتضيه تلك الحوادث من أحكام، وما تستدعيه تلك الشبه من رد، وتلك الاعتراضات من إبطال، إلى غير ما ذكرنا من:
مقتضيات نزول الآيات المعروفة بأسباب النزول.
وفي بيان الواقعة عند وقوعها، وذكر حكم الحادثة عند حدوثها، ورد الشبهة عند عروضها، وإبطال الاعتراض عند وروده- ما فيه من تأثير في النفوس، ووقع في القلوب، ورسوخ في العقول، وجلاء في البيان، وبلاغة في التطبيق، واستيلاء على السامعين.
وما كان هذا كله ليأتي لولا تفريق الآيات في التنزيل، وترتيلها وتنضيدها هذا الترتيل العجيب، وهذا التنضيد الغريب، الذي بلغ الغاية من الحسن والمنفعة، حتى أنه ليصح أن يعد وحده وجهاً من وجوه الإعجاز.
حظنا من العمل بهذه الحكمة:
أن نقرأ القرآن ونتفهمه، حتى تكون آياته على طرف ألسنتنا، ومعانيه نصب أعيننا، لنطبق آياته على أحوالنا، وننزلها عليها كما كانت تنزل على الأحوال والوقائع.
فإذا حدث مرض قلبي أو اجتماعي طلبنا دواءه في القرآن وطبقناه عليه.
وإذا عرضت شبهة أو ورد اعتراض، طلبنا فيه الرد والإبطال.
وإذا نزلت نازلة طلبنا فيه حكمها، وهكذا نذهب في تطبيقه وتنزيله على الشؤون والأحوال إلى أقصى حد يمكننا.
إقتداء:
انظر إلى هذه الحكمة في هذا الترتيل: كيف كان تنزل [[آياته]] على حسب الوقائع؟
أليس في هذا قدوة صالحة لأئمة الجُمَع وخطبائها: في توخيهم بخطبهم الوقائع النازلة، وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال؟
بلى والله، بلى والله!
__________
(1) وهما الآيتان 240 و241 من سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ... } .[/rtl]
[rtl](1/181)[/rtl]
وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوة على الأحقاب والأجيال فما هي إلاّ مظهر من مظاهر قصورنا وجمودنا.
فإلى الله المشتكى وبه المستعان.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]الحق والبيان في آيات القرآن
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) } [الفرقان: 33] .
لما رد تعالى اعتراضاتهم، وأبطل شبهاتهم.. أخبر تعالى بأنه لا يزال القرآن كذلك: يدمغ باطلهم بحقه فيزهقه، ويصدع غشاء تمويههم بصادق بيانه فيمزقه؛ لطمأنة قلب نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتثبيته ووعد له بدوام النصر والتأييد.
(المثل) هو الشبه. هذا أصله، ثم يطلق على الكلام الذي قيل أول ما قيل في مقام، ثم لحسنه وإيجازه حفظ وجرى على الألسنة، وصار يقال في كل مقام يشابه مقاله الأصلي الذي قيل فيه أولاً لمشابهة المقام الثاني للمقام الأول.
ثم صار يطلق أيضاً على كل كلام فيه بيان لشيء وتصوير له، سواء أطابق ذلك البيان والتصوير الواقع وأتى بالحق، أم لم يطابق الواقع ولم يأت الحق. وهذا المعنى هو المراد هنا.
فإن المشركين جاءوا بكلمات في حق الله تعالى، وفي حق كتابه، وفي حق ملائكته، وفي حق نبيه لم يطابقوا فيها الواقع، ولا أتوا فيها بحق:
كقولهم في الله وملائكته: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] .
وفي نبيه: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] .
وفي القرآن: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان:5] . {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] .
فهذه هي أمثالهم التي ضربوها فضلوا.
وجاء القرآن بعد كلماتهم الباطلة بكلمات الحق الدامغة مثل قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [الفرقان: 6] . {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] . {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] .
فهذه هي أمثال الله التي جاءت بالحق وأحسن تفسيرا.[/rtl]
[rtl](التفسير) : الكشف عن المعنى.
وصلت الجملة لمشاركتها لما قبلها في الخبرية، والمخبر عنهم والموضوع المتحدث عنه مما جاءوا به من الباطل، وما رد عليهم من الحق.
وجملة {جئناك} خالية من كاف الخطاب المفعول في: {لا يأتونك} . والحصر بالنفي وإلاّ في تلك الحال- والتقدير: ولا يأتونك بمثل في حال من أحوالك إلاّ في حال مجيئنا لك بالحق وأحسن تفسيراً.
والتعبير بالمضارع في {يأتونك} يفيد الحدوث وتجدد الإتيان منهم.
والتعبير بالماضي في {جئناك} مع أنه في معنى المستقبل يفيد تحقق المجيء، وهو المناسب لمقام الوعد والتثبيت.
المعنى:
ولا يأتيك يا محمد، هؤلاء المشركون وأمثالهم، بكلام يحسنونه ويزخرفونه، يصورون به شبهة باطلة، أو اعتراضاً فاسداً، إلاّ جئناك بالكلام الحق الذي يدمغ باطلهم، ويدحض شبههم وينقض اعتراضهم، ويكون أحسن بياناً وأكمل تفصيلاً.
إهتداء:
إذا تتبعت آيات القرآن وجدتها قد أتت بالعدد الوافر من شُبَه الضالين واعتراضاتهم، ونقضتها بالحق الواضح والبيان الكاشف في أوجز لفظ وأقربه وأبلغه.
وهذا قسم عظيم جليل من علوم القرآن يتحتم على رجال الدعوة والإرشاد أن يكون لهم به فضل عناية، ومزيد دراية وخبرة.
ولا نحسب شبهة ترد على الإسلام، إلاّ وفي القرآن العظيم ردها بهذا الوعد الصادق من هذه الآية الكريمة.
فعلينا عند ورود كل شبهة من كل ذي ضلالة أن نفزع إلى آي القرآن، ولا إخالنا إذا أخلصنا القصد وأحسنا النظر إلاّ واجديها فيها.
وكيف لا نجدها في آيات ربنا التي هي الحق وأحسن تفسيراً؟!
إقتداء:
لنقتد بالقرآن فيما نأتي به من كلام في مقام الحجاج، أو مقام الإرشاد.
فلنتوخ دائماً الحق الثابت بالبرهان أو بالعيان، ولنفسره أحسن التفسير ولنشرحه أكمل الشرح، ولنقربه إلى الأذهان غاية التقريب.
وهذا يستدعي صحة الإدراك، وجودة الفهم ومتانة العلم لتصور الحق ومعرفته.[/rtl]
[rtl]ويستدعي حسن البيان وعلوم اللسان لتصوير الحق وتجليته والدفاع عنه.
فللإقتداء بالقرآن في الإتيان بالحق وأحسن بيان، علينا أن نحصل هذه كلها، ونتدرب فيها، ونتمرن عليها، حتى نبلغ إلى ما قدر لنا منها.
هذا ما على أهل الدعوة والإرشاد، وخدمة الإسلام والقرآن.
فأما ما على عموم المسلمين من هذا الإقتداء: فهو دوام القصد إلى الإتيان بالحق، وبذل الجهد في التعبير بأحسن لفظ وأقربه.
ومن أخلص قصده في شيء وجعله من وكده أُعين- بإذن الله تعالى- عليه.
***
حشر الكفار إلى النار
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) } [الفرقان: 34] .
لما أبطل شبههم، بيّنَ مآلهم وجزاءهم.
(الحشر) السوق والجمع، (المكان) المنزل، (والسبيل) الطريق.
فصلت الجملة (1) لأنها بيان لحالهم في الآخرة، وهو غير الموضوع المتقدم.
عرف المسند إليه بالإشارة في قوله: {أولئك شر مكانًا} ؛ للتنبيه على أن المشار إليه وهو "الذين" المتقدم، حقيق بما بعد إسم الإشارة من قوله: {شر مكانًا وأضل سبيلاً} ؛ بسبب ما اتصف به المشار إليه المتقدم، مما دلت عليه الصلة، وهو حشرهم على وجوههم إلى جهنم، الذي ما أصابهم إلاّ بما قدمت أيديهم. في الحقيقة هم أحقاء بكونهم شراً مكاناً، وأضل سبيلاً، بسبب ما أداهم إلى ذلك الحشر، فاكتفي بذكر المسبب عن السبب (2) .
وأفعل التفضيل (3) لم يذكر معه المفضل عليه؛ ليفيد أن مكانهم شر مكان من أمكنة الشر، وسبيلهم أضل سبيل من سبل الضلال.
وإسناد الضلال للسبيل مجاز.
المعنى:
هؤلاء المشركون القائلون للمقالات المتقدمة، ومن كان على شاكلتهم في الكفر والعناد
__________
(1) أي جملة: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} فصلت ولم توصل بالواو.
(2) أي حشرهم على وجوههم سببه ما قدمت أيديهم.
(3) وهو قوله "شر" و"أضل".[/rtl]
[rtl]الذين يجمعون ويساقون إلى جهنم مقلوبين على وجوههم: أولئك شر مكاناً ومستقرا، فإنهم أهل النار، وأضل طريقاً فإنهم سلكوا طريق الكفر الذي أداهم إلى ذلك المستقر.
حديث:
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- أن رجلًا قال: «يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه؛ قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!» (1) .
فقه:
من هذا الحديث علمنا: أنه يجب فيما يرد من الأخبار عن اليوم الآخر أن يحمل على ظاهره، ولو كان غير معتاد في الدنيا؛ لأن أحوال العالم الآخر لا تقاس على أحوال هذا العالم.
توجيه:
رفعوا وجوههم في الدنيا عن السجود لله، فأذل الله تلك الوجوه فمشوا عليها في المحشر.
ورفعوا رؤوسهم كبراً عن الحق، فنكسها الله يوم القيامة.
ومشوا في طريق النظر والاستدلال مشياً مقلوباً، فمشوا في الآخرة مشياً مقلوباً.
فكان ما نالهم من سوء تلك الحال جزاء وفاقاً لما أتوا من قبح الأعمال، وما ربك بظلام للعبيد.
تحذير:
فيما يذكره الله- تعالى- من هذا الجزاء العادل، تخويف عظيم لنا من سوء الأعمال التي تؤدي إلى سوء الجزاء، وخصوصا من مثل ما ذكر فيما تقدم من ترك السجود والكبر على الحق والنظر المقلوب.
عصمنا الله والمسلمين أجمعين بالعلم والدين، وهدانا سنن المرسلين آمين يا رب العالمين.
***
من إكرام الله تعالى عبده تحميله أعباء الرسالة وحده
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) } [الفرقان: 51] .
قد استفيد من الآيات المتقدمة ما كان يكابده النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من إذاية
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 25 باب 1، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم حديث 54.[/rtl]
[rtl]قومه، وما كان يلقاه من مكابرتهم للحق، وتعنتهم بالباطل، وقد أحاط به الأعداء من كل جانب، ولقيته العقبات من كل ناحية، وما كان يعانيه من الجهد الجهيد في إنذارهم، وتبليغ دين الله تعالى إليهم.
وهو في ذلك كله جاهد في القيام بتبليغ الأمانة، ناهض بأعباء الرسالة، ماض في تلك السبيل، ليس معه من نذير.
وقد كان ذلك مما تتفسخ له القوى البشرية لولا تأييد من الله، فأراد تعالى في هذه الآية أن يثبته في مقامه، ويؤنسه في انفراده؛ فيبين له أن تخصيصه بالقيام هذا المقام العظيم، هو لأجل تعظيمه وتكريمه، وتخصيصه بالأجر الكثير، والثواب الذي ليس له من مثيل.
(البعث) الإرسال.
(القرية) منازل الناس حيث يقيمون ويكونون مجتمعاً كبيراً أو صغيراً.
(النذير) المخوف من الوقوع في الشر والهلاك.
مفعول المشيئة محذوف قياسا، وتقدير الكلام: ولو شئنا أن نبعث. والبعث في كل قرية منتف بحكم لو، لأنها هنا تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها.
المعنى:
لو أردنا لأرسلنا في كل بلدة ومصر رسولاً، ينذرهم ويخوفهم من حلول نقمتنا بهم، بكفرهم بنا، ومعصيتهم لنا، فيخف عنك عبء ما حملت، ويسقط عنك بذلك تعب كثير.
ولكنا لم نرد ذلك، وحملناك أنت وحدك أعباء وأثقال النذارة لجميع القرى؛ ليظهر فضلك بعموم رسالتك؛ ويعظم أجرك بعظم جهادك وصبرك؛ ويكثر ثوابك بكثرة من يؤمن بك، ومن تود وتعمل ليؤمن بك.
حديث:
صح عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «أعطيت خمسا لم يعطهم أحد قبلي،
كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود،
وأحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي،
وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً؛ فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان،
ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر،
وأعطيتُ الشفاعة» .
هكذا جاء هذا الحديث عن جابر بن عبد الله في صحيح مسلم (1) .
__________
(1) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 3.[/rtl]
[rtl]وجاء فيه من طريق أبي هريرة زيادة: «وختم بي النبيون» (1)
فتعميم رسالته وختم النبوة به في الحديث الصحيح من طريقيه من مقتضى معنى الآية: فإنه لما عممت رسالته، ولم يكن معه رسول في حياته، وختمت به النبوة، فلا يكون كذلك بعد وفاته. ثبتت له كرامة الخصوصية، وعظمة المنزلة، وجزالة المثوبة، وهو ما كنا بيناه في معنى الآية.
وما أحسن التفسير عندما تعضده الأحاديث الصحاح!!.
تأس ورجاء:
قد ثبت في السنة ما يكون من كثرة الجهل، وموت السنة، وانتشار البدعة؛ وقد أيد ذلك الواقع والمشاهدة.
فإذا كان دعاة العلم والسنة وخصوم الجهل والبدعة، فلا بد أن يكونوا قليلاً من العدد الكثير. خصوصا في مبدإ أمرهم وأول دعوتهم، ولا بد أن يلقوا ما يلقون، ويقاسوا ما يقاسون. ومما يثبت قلوبهم في عظيم مواقفهم: تأسيهم بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي جاء وحده بالحق، والناس كلهم على الباطل، فما زال يجاهد حتى لقي ربه.
ومما يثبت قلوبهم أيضاً: رجاؤهم- إذا أخلصوا النية وأحسنوا الإقتداء- فيما يكون لهم من الثواب كذلك فيمن اهتدى بهم، وفيمن بذلوا جهدهم في هدايته، وكانت لهم الرغبة العظيمة في إيصال الخير إليه وإن لم يرجع إليهم.
***
عدم طاعة الكافرين والجهاد بالقرآن العظيم
{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) } [الفرقان: 52] .
لما بين له ما خصصه به من الكرامة، دعاه إلى مقابلة ذلك بعدم طاعة أهل الكفر، والثبات على جهادهم بالقرآن.
(الفاء) تفريعية. و (الطاعة) الامتثال للطلب.
و (الجهاد) بذل الجهد من ناحيتك في مقابلة من هو باذل جهده في الناحية المقابلة لك، هذا مقتضى صيغة فعال.
{جِهَادًا كَبِيرًا} مصدر مبين للنوع المطلوب بصفته، وهي {كَبِيرًا} .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 5. ونصه: «فُضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» .[/rtl]
[rtl]المعنى:
لما أكرمناك بعموم رسالتك، وختم النبوة بك فقابل هذه النعمة بإخلاص الطاعة لربك.
ولا تطع الكافرين أعداء الله وأعداءك، في أي شيء يدعونك إليه من مقتضيات كفرهم: كالرجوع إليهم، والسكوت عن بعض كفرهم.
وابذل كل جهدك في دعوتهم للدين الحق، ومقاومة ما هم عليه من الباطل بالقرآن العظيم، وجاهدهم بهذا القرآن جهاداً كبيراً، بتحمل كل ما يأتيك من ناحيتهم من بلاء وإذاية والصبر عليه، والثبات على الدعوة والمقاومة.
تعميم:
كما لا تجوز طاعة الكافرين في شيء مما يمليه عليهم كفرهم، كذلك لا تجوز طاعة العصاة في شيء مما تمليه عليهم معصيتهم، لأن الجميع فيه مخالفة لدين الله.
وكما يجاهد أهل الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبيرة كذلك يجاهد به أهل المعصية لأنه كتاب الهداية لكل ضال، والدعوة لكل مرشد.
وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة على التنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة.
إقتداء:
ما كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليطيع الكافرين، وإنما جاء هذا النهي تهييجاً له على تمام مخالفتهم ومعاكستهم في جميع مناحي ومظاهر كفرهم.
والخطاب وإن كان له فالحكم شامل لأمته، فلا يجوز للمسلم أن يطيع كافراً أو عاصياً في أي شيء من نواحي الكفر، ونواحي المعصية.
وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه، فكذلك هو فرض على أمته هكذا على الإجمال. وعند التفصيل تجده فرضاً على الدعاة والمرشدين الذين يقومون بهذا الفرض الكفائي على المسلمين.
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر.
استدلال:
هذه الآية نص صريح في أن الجهاد في الدعوة إلى الله وإحقاق الحق من الدين، وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين، وإنكار الجاحدين، هو بالقرآن العظيم.
ففيه بيان العقائد وأدلتها، ورد الشبه عنها.
وفيه بيان الأخلاق محاسنها ومساويها، وطرق الوصول إلى التحلي بالأولى، والتخلي عن الثانية ومعالجتها.[/rtl]
[rtl]وفيه أصول الأحكام وعللها.
وهكذا فيه كل ما يحتاج إليه المجاهد به في دين الله.
فيستفاد منها كما يستفاد من آيات أخرى غيرها، أن على الدعاة والمرشدين أن تكون دعوتهم وإرشادهم بالقرآن العظيم.
ميزان:
عندما يختلف عليك الدعاة، الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى، فانظر: من يدعوك بالقرآن إلى القرآن، ومثله ما صح من السنة لأنها تفسيره وبيانه، فاتبعه لأنه هو المتبع للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في دعوته وجهاده بالقرآن، والمتمثل لما دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن.
نعمة ومنقبة:
قد سمّى الله تعالى الجهاد بالقرآن جهاداً كبيراً. وفي هذا منقبة كبرى للقائمين بالدعوة إلى الله بالقرآن العظيم. وفي ذلك نعمة عظيمة من الله عليهم حيث يسرهم لهذا الجهاد، حتى ليصح أن يسموا بهذا الإسم الشريف "مجاهدون". فحق عليهم أن يقدروا هذه النعمة، ويؤدوا شكرها بالقول والعمل، والإخلاص والصبر والثبات واليقين.
جعلنا الله والمسلمين منهم وحشرنا في زمرتهم أجمعين.
***
تعاقب الليل والنهار للتفكير والعمل
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان: 62] .
لما سأل المشركون بقولهم: {وما الرحمن} ؟ كما يسألون عن المجهول! ذكر لهم القرآن ما يعرفهم به من عظيم آياته، وجلائل إنعاماته، التي هي من آثار رحمته؛ فذكر لهم بروج السماء، والشمس والقمر، ثم ذكر لهم تعاقب الليل والنهار.
{خلفة} يقولون: خلفت الفاكهة بعضها بعضاً خلفاً- بالتحريك وخلفة، إذا صارت خلفاً من الأولى. وخلف زيد عمراً يخلفه إذا جاء بعده في مكانه. فالخلفة مصدر. وهو لما كان على وزن فعلة دال على الهيئة كالركبة بمعنى الهيئة من الركوب، فالخلفة إذن هيئة من الخلوف. فإذا قلت: خلفه خلفاً أو خلوفاً.. فقد أردت مطلق الحدث، وإذا قلت: خلفه خلفة فقد أردت هيئة خاصة من المخلوف.
(التذكر) قبول التذكير، فإن مخلوقات الله مذكرات للعبد بربه. فتذكره هو قبوله ذلك التذكير، واعتباره واتعاظه به.[/rtl]
[rtl](الشكور) مصدر شكر بمعنى القيام بعبادته وطاعته، لأجل نعمه.
{أو} للتفضيل والتنويع؛ لأن المستفيدين من اختلاف الليل والنهار هم المتذاكرون والشاكرون، فلا تمنع من أن يكون الشخص الواحد متذكراً شاكراً في آن واحد.
{خلفة} مفعول ثان لجعل، على معنى جعلها ذوي خلفة. وفي الإخبار تقول: الليل والنهار خلفة، والرجلان خلفة على هذا المعنى، أي يخلف أحدهما الآخر.
وكان مفرداً على الاثنين لأنه مصدر (1) .
والجار في {لمن أراد} يتعلق بـ {جعل} وكان الجعل لهما، لأنهما المستفيدان منه، ولم يكرر الإسم الموصول لأن الشخص الواحد يمكن أن يتصف بالصفتين معاً.
وكرر فعل الإرادة لأنها لا بد منها في التذكر وفي الشكر.
وقيل: {أن يذكر} ليفيد المضارع الحدوث والتجدد، فإن الغفلة مستولية على الإنسان، والآيات المرئية ما تزال تحدث له التذكر وتجدده له.
وقيل: {شكوراً} لمناسبة رؤوس الآي.
المعنى:
يقول تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار، ووضعهما يختلفان ويتعاقبان على هيئة مخصوصة في التخالف والتعاقب؛ ليستفيد من ذلك العباد.
من أراد أن يتذكر فيعتبر بما فيهما من انتقال وتغير ونظام وتقدير. ويستدل بذلك على وجود خالقهما، وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته، ورحمته بمخلوقاته.
أو أراد أن يشكر؛ فيقوم بعبادة خالقه المنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها التي منها هذا الاختلاف والتعاقب بين هذين الوقتين، الذي لا يصلح حال الإنسان، ولا تنتظم أعماله ولا يستقيم عمرانه إلاّ به.
فقه لغوي:
اختيرت لفظة الخلفة هنا، لدلالتها على الهيئة، فتكون منبهة على هيئة هذا الاختلاف، بالطول والقصر المختلفين في جهات من الأرض. وذلك منبه على أسباب هذا الاختلاف من وضع جرم الأرض وجرم الشمس.
وذلك كله من آيات الله الدالة عليه، وبتلك الهيئة من الاختلاف المقدر المنظم عظمت النعمة على البشر، وشملتهم الرحمة.
فكانت هذه اللفظة الواحدة منبهة على ما في اختلاف الليل والنهار من آية دالة، ومن نعمة عامة وهكذا جميع ألفاظ القرآن في أنتقائها لمواضعها.
__________
(1) المصادر يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع[/rtl]
[rtl]فقه شرعي:
لما كان جعل الليل والنهار خلفة لأجل التذكر والعمل، كان كل واحد منهما صالحاً للعمل الذي يعمل في صاحبه. فمن فاته عمل بالليل أتى به في النهار، ومن فاته عمل بالنهار أتى به في الليل. وهذا إذا كان من العادات فهو على سبيل التدارك، وإذا كان من العبادات فهو على سبيل القضاء.
وقد روى ابن جرير- بسند حسن (1) : «أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: فاتتني الصلاة الليلة! فقال: أدرك ما فاتك من ليلتها في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكوراً» .
ومن هذا ما رواه مسلم والأربعة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل» (2) .
فقه قرآني:
حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها، مبنية على الأركان الثلاثة:
الإرادة، والفكر، والعمل.
وهي المذكورات في هذه الآية، لأن التذكر بالتفكر والشكر بالعمل. فاستفادة الإنسان مما خلقه الله له، وجعله لأجله، لا تكون إلاّ بهذه الثلاثة.
وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لا بد للإنسان منها:
فالعمل متوقف على البدن.
والفكر متوقف على العقل.
والإرادة متوقفة على الخلق.
فالتفكير الصحيح من العقل الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم.
فلهذا كان الإنسان مأموراً بالمحافظة على هذه الثلاثة: عقله، وخلقه، وبدنه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم، ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء، وتوقي الأذى، والتريض على العمل.
__________
(1) تفسير الطبري (9/ 405- الأثر رقم 26450) بإسناده عن ابن حميد قال: «ثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمربن عطية، عن شقيق» .
(2) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 142، وأبو داود في التطوع باب 19، والترمذي في الجمعة باب 56، والنسائي في قيام الليل باب 65، وابن ماجة في الإقامة باب 177، والدارمي في الصلاة باب 167. ورواه أيضاً مالك في الموطأ (كتاب القرآن، باب ما جاء في تحزيب القرآن، حديث 3) موقوفاً على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.[/rtl]
موعظة:
قال الإمام ابن العربي: سمعت ذا نشمند الأكبر- يعني الغزالي- يقول:
«إن الله خلق العبد حياً عالماً وبذلك كماله. وسلط عليه آفة النوم، وضرورة الحدث، ونقصان الخلقة، إذن الكمال للأول الخالق.
فما أمكن الرجل من دفع النوم، بقلة الأكل، والسهر في الطاعة فليفعل.
ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة، ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغواً.
وينام نحو سدس النهار راحة فيذهب له ثلثاه، ويبقى له من العمر عشرون سنة.
ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره سهرة في لذة باقية، عند الغني الوفي، الذي ليس بعديم ولا ظلوم» .اهـ.
سلوك:
حافظ على العبادات في أوقاتها، واقض ما فاتك.
واربط أعمالك بأوقاتها، وتدارك ما فاتك.
ووجه قصدك إلى ما ترى من آيات الله متفكراً.
ووجه قصدك في جميع أعمالك لله سامعاً مطيعاً- تكن عبداً ذاكراً شاكراً سعيداً- إن شاء الله- في الدارين.
وفقنا الله إلى ذلك والمسلمين أجمعين.
***
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) } [الفرقان: 33] .
لما رد تعالى اعتراضاتهم، وأبطل شبهاتهم.. أخبر تعالى بأنه لا يزال القرآن كذلك: يدمغ باطلهم بحقه فيزهقه، ويصدع غشاء تمويههم بصادق بيانه فيمزقه؛ لطمأنة قلب نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتثبيته ووعد له بدوام النصر والتأييد.
(المثل) هو الشبه. هذا أصله، ثم يطلق على الكلام الذي قيل أول ما قيل في مقام، ثم لحسنه وإيجازه حفظ وجرى على الألسنة، وصار يقال في كل مقام يشابه مقاله الأصلي الذي قيل فيه أولاً لمشابهة المقام الثاني للمقام الأول.
ثم صار يطلق أيضاً على كل كلام فيه بيان لشيء وتصوير له، سواء أطابق ذلك البيان والتصوير الواقع وأتى بالحق، أم لم يطابق الواقع ولم يأت الحق. وهذا المعنى هو المراد هنا.
فإن المشركين جاءوا بكلمات في حق الله تعالى، وفي حق كتابه، وفي حق ملائكته، وفي حق نبيه لم يطابقوا فيها الواقع، ولا أتوا فيها بحق:
كقولهم في الله وملائكته: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] .
وفي نبيه: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] .
وفي القرآن: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان:5] . {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] .
فهذه هي أمثالهم التي ضربوها فضلوا.
وجاء القرآن بعد كلماتهم الباطلة بكلمات الحق الدامغة مثل قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [الفرقان: 6] . {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] . {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] .
فهذه هي أمثال الله التي جاءت بالحق وأحسن تفسيرا.[/rtl]
[rtl](1/182)[/rtl]
وصلت الجملة لمشاركتها لما قبلها في الخبرية، والمخبر عنهم والموضوع المتحدث عنه مما جاءوا به من الباطل، وما رد عليهم من الحق.
وجملة {جئناك} خالية من كاف الخطاب المفعول في: {لا يأتونك} . والحصر بالنفي وإلاّ في تلك الحال- والتقدير: ولا يأتونك بمثل في حال من أحوالك إلاّ في حال مجيئنا لك بالحق وأحسن تفسيراً.
والتعبير بالمضارع في {يأتونك} يفيد الحدوث وتجدد الإتيان منهم.
والتعبير بالماضي في {جئناك} مع أنه في معنى المستقبل يفيد تحقق المجيء، وهو المناسب لمقام الوعد والتثبيت.
المعنى:
ولا يأتيك يا محمد، هؤلاء المشركون وأمثالهم، بكلام يحسنونه ويزخرفونه، يصورون به شبهة باطلة، أو اعتراضاً فاسداً، إلاّ جئناك بالكلام الحق الذي يدمغ باطلهم، ويدحض شبههم وينقض اعتراضهم، ويكون أحسن بياناً وأكمل تفصيلاً.
إهتداء:
إذا تتبعت آيات القرآن وجدتها قد أتت بالعدد الوافر من شُبَه الضالين واعتراضاتهم، ونقضتها بالحق الواضح والبيان الكاشف في أوجز لفظ وأقربه وأبلغه.
وهذا قسم عظيم جليل من علوم القرآن يتحتم على رجال الدعوة والإرشاد أن يكون لهم به فضل عناية، ومزيد دراية وخبرة.
ولا نحسب شبهة ترد على الإسلام، إلاّ وفي القرآن العظيم ردها بهذا الوعد الصادق من هذه الآية الكريمة.
فعلينا عند ورود كل شبهة من كل ذي ضلالة أن نفزع إلى آي القرآن، ولا إخالنا إذا أخلصنا القصد وأحسنا النظر إلاّ واجديها فيها.
وكيف لا نجدها في آيات ربنا التي هي الحق وأحسن تفسيراً؟!
إقتداء:
لنقتد بالقرآن فيما نأتي به من كلام في مقام الحجاج، أو مقام الإرشاد.
فلنتوخ دائماً الحق الثابت بالبرهان أو بالعيان، ولنفسره أحسن التفسير ولنشرحه أكمل الشرح، ولنقربه إلى الأذهان غاية التقريب.
وهذا يستدعي صحة الإدراك، وجودة الفهم ومتانة العلم لتصور الحق ومعرفته.[/rtl]
[rtl](1/183)[/rtl]
فللإقتداء بالقرآن في الإتيان بالحق وأحسن بيان، علينا أن نحصل هذه كلها، ونتدرب فيها، ونتمرن عليها، حتى نبلغ إلى ما قدر لنا منها.
هذا ما على أهل الدعوة والإرشاد، وخدمة الإسلام والقرآن.
فأما ما على عموم المسلمين من هذا الإقتداء: فهو دوام القصد إلى الإتيان بالحق، وبذل الجهد في التعبير بأحسن لفظ وأقربه.
ومن أخلص قصده في شيء وجعله من وكده أُعين- بإذن الله تعالى- عليه.
***
حشر الكفار إلى النار
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) } [الفرقان: 34] .
لما أبطل شبههم، بيّنَ مآلهم وجزاءهم.
(الحشر) السوق والجمع، (المكان) المنزل، (والسبيل) الطريق.
فصلت الجملة (1) لأنها بيان لحالهم في الآخرة، وهو غير الموضوع المتقدم.
عرف المسند إليه بالإشارة في قوله: {أولئك شر مكانًا} ؛ للتنبيه على أن المشار إليه وهو "الذين" المتقدم، حقيق بما بعد إسم الإشارة من قوله: {شر مكانًا وأضل سبيلاً} ؛ بسبب ما اتصف به المشار إليه المتقدم، مما دلت عليه الصلة، وهو حشرهم على وجوههم إلى جهنم، الذي ما أصابهم إلاّ بما قدمت أيديهم. في الحقيقة هم أحقاء بكونهم شراً مكاناً، وأضل سبيلاً، بسبب ما أداهم إلى ذلك الحشر، فاكتفي بذكر المسبب عن السبب (2) .
وأفعل التفضيل (3) لم يذكر معه المفضل عليه؛ ليفيد أن مكانهم شر مكان من أمكنة الشر، وسبيلهم أضل سبيل من سبل الضلال.
وإسناد الضلال للسبيل مجاز.
المعنى:
هؤلاء المشركون القائلون للمقالات المتقدمة، ومن كان على شاكلتهم في الكفر والعناد
__________
(1) أي جملة: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} فصلت ولم توصل بالواو.
(2) أي حشرهم على وجوههم سببه ما قدمت أيديهم.
(3) وهو قوله "شر" و"أضل".[/rtl]
[rtl](1/184)[/rtl]
حديث:
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- أن رجلًا قال: «يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه؛ قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!» (1) .
فقه:
من هذا الحديث علمنا: أنه يجب فيما يرد من الأخبار عن اليوم الآخر أن يحمل على ظاهره، ولو كان غير معتاد في الدنيا؛ لأن أحوال العالم الآخر لا تقاس على أحوال هذا العالم.
توجيه:
رفعوا وجوههم في الدنيا عن السجود لله، فأذل الله تلك الوجوه فمشوا عليها في المحشر.
ورفعوا رؤوسهم كبراً عن الحق، فنكسها الله يوم القيامة.
ومشوا في طريق النظر والاستدلال مشياً مقلوباً، فمشوا في الآخرة مشياً مقلوباً.
فكان ما نالهم من سوء تلك الحال جزاء وفاقاً لما أتوا من قبح الأعمال، وما ربك بظلام للعبيد.
تحذير:
فيما يذكره الله- تعالى- من هذا الجزاء العادل، تخويف عظيم لنا من سوء الأعمال التي تؤدي إلى سوء الجزاء، وخصوصا من مثل ما ذكر فيما تقدم من ترك السجود والكبر على الحق والنظر المقلوب.
عصمنا الله والمسلمين أجمعين بالعلم والدين، وهدانا سنن المرسلين آمين يا رب العالمين.
***
من إكرام الله تعالى عبده تحميله أعباء الرسالة وحده
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) } [الفرقان: 51] .
قد استفيد من الآيات المتقدمة ما كان يكابده النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من إذاية
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 25 باب 1، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم حديث 54.[/rtl]
[rtl](1/185)[/rtl]
وهو في ذلك كله جاهد في القيام بتبليغ الأمانة، ناهض بأعباء الرسالة، ماض في تلك السبيل، ليس معه من نذير.
وقد كان ذلك مما تتفسخ له القوى البشرية لولا تأييد من الله، فأراد تعالى في هذه الآية أن يثبته في مقامه، ويؤنسه في انفراده؛ فيبين له أن تخصيصه بالقيام هذا المقام العظيم، هو لأجل تعظيمه وتكريمه، وتخصيصه بالأجر الكثير، والثواب الذي ليس له من مثيل.
(البعث) الإرسال.
(القرية) منازل الناس حيث يقيمون ويكونون مجتمعاً كبيراً أو صغيراً.
(النذير) المخوف من الوقوع في الشر والهلاك.
مفعول المشيئة محذوف قياسا، وتقدير الكلام: ولو شئنا أن نبعث. والبعث في كل قرية منتف بحكم لو، لأنها هنا تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها.
المعنى:
لو أردنا لأرسلنا في كل بلدة ومصر رسولاً، ينذرهم ويخوفهم من حلول نقمتنا بهم، بكفرهم بنا، ومعصيتهم لنا، فيخف عنك عبء ما حملت، ويسقط عنك بذلك تعب كثير.
ولكنا لم نرد ذلك، وحملناك أنت وحدك أعباء وأثقال النذارة لجميع القرى؛ ليظهر فضلك بعموم رسالتك؛ ويعظم أجرك بعظم جهادك وصبرك؛ ويكثر ثوابك بكثرة من يؤمن بك، ومن تود وتعمل ليؤمن بك.
حديث:
صح عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «أعطيت خمسا لم يعطهم أحد قبلي،
كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود،
وأحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي،
وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً؛ فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان،
ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر،
وأعطيتُ الشفاعة» .
هكذا جاء هذا الحديث عن جابر بن عبد الله في صحيح مسلم (1) .
__________
(1) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 3.[/rtl]
[rtl](1/186)[/rtl]
فتعميم رسالته وختم النبوة به في الحديث الصحيح من طريقيه من مقتضى معنى الآية: فإنه لما عممت رسالته، ولم يكن معه رسول في حياته، وختمت به النبوة، فلا يكون كذلك بعد وفاته. ثبتت له كرامة الخصوصية، وعظمة المنزلة، وجزالة المثوبة، وهو ما كنا بيناه في معنى الآية.
وما أحسن التفسير عندما تعضده الأحاديث الصحاح!!.
تأس ورجاء:
قد ثبت في السنة ما يكون من كثرة الجهل، وموت السنة، وانتشار البدعة؛ وقد أيد ذلك الواقع والمشاهدة.
فإذا كان دعاة العلم والسنة وخصوم الجهل والبدعة، فلا بد أن يكونوا قليلاً من العدد الكثير. خصوصا في مبدإ أمرهم وأول دعوتهم، ولا بد أن يلقوا ما يلقون، ويقاسوا ما يقاسون. ومما يثبت قلوبهم في عظيم مواقفهم: تأسيهم بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي جاء وحده بالحق، والناس كلهم على الباطل، فما زال يجاهد حتى لقي ربه.
ومما يثبت قلوبهم أيضاً: رجاؤهم- إذا أخلصوا النية وأحسنوا الإقتداء- فيما يكون لهم من الثواب كذلك فيمن اهتدى بهم، وفيمن بذلوا جهدهم في هدايته، وكانت لهم الرغبة العظيمة في إيصال الخير إليه وإن لم يرجع إليهم.
***
عدم طاعة الكافرين والجهاد بالقرآن العظيم
{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) } [الفرقان: 52] .
لما بين له ما خصصه به من الكرامة، دعاه إلى مقابلة ذلك بعدم طاعة أهل الكفر، والثبات على جهادهم بالقرآن.
(الفاء) تفريعية. و (الطاعة) الامتثال للطلب.
و (الجهاد) بذل الجهد من ناحيتك في مقابلة من هو باذل جهده في الناحية المقابلة لك، هذا مقتضى صيغة فعال.
{جِهَادًا كَبِيرًا} مصدر مبين للنوع المطلوب بصفته، وهي {كَبِيرًا} .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 5. ونصه: «فُضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» .[/rtl]
[rtl](1/187)[/rtl]
لما أكرمناك بعموم رسالتك، وختم النبوة بك فقابل هذه النعمة بإخلاص الطاعة لربك.
ولا تطع الكافرين أعداء الله وأعداءك، في أي شيء يدعونك إليه من مقتضيات كفرهم: كالرجوع إليهم، والسكوت عن بعض كفرهم.
وابذل كل جهدك في دعوتهم للدين الحق، ومقاومة ما هم عليه من الباطل بالقرآن العظيم، وجاهدهم بهذا القرآن جهاداً كبيراً، بتحمل كل ما يأتيك من ناحيتهم من بلاء وإذاية والصبر عليه، والثبات على الدعوة والمقاومة.
تعميم:
كما لا تجوز طاعة الكافرين في شيء مما يمليه عليهم كفرهم، كذلك لا تجوز طاعة العصاة في شيء مما تمليه عليهم معصيتهم، لأن الجميع فيه مخالفة لدين الله.
وكما يجاهد أهل الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبيرة كذلك يجاهد به أهل المعصية لأنه كتاب الهداية لكل ضال، والدعوة لكل مرشد.
وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة على التنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة.
إقتداء:
ما كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليطيع الكافرين، وإنما جاء هذا النهي تهييجاً له على تمام مخالفتهم ومعاكستهم في جميع مناحي ومظاهر كفرهم.
والخطاب وإن كان له فالحكم شامل لأمته، فلا يجوز للمسلم أن يطيع كافراً أو عاصياً في أي شيء من نواحي الكفر، ونواحي المعصية.
وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه، فكذلك هو فرض على أمته هكذا على الإجمال. وعند التفصيل تجده فرضاً على الدعاة والمرشدين الذين يقومون بهذا الفرض الكفائي على المسلمين.
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر.
استدلال:
هذه الآية نص صريح في أن الجهاد في الدعوة إلى الله وإحقاق الحق من الدين، وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين، وإنكار الجاحدين، هو بالقرآن العظيم.
ففيه بيان العقائد وأدلتها، ورد الشبه عنها.
وفيه بيان الأخلاق محاسنها ومساويها، وطرق الوصول إلى التحلي بالأولى، والتخلي عن الثانية ومعالجتها.[/rtl]
[rtl](1/188)[/rtl]
وهكذا فيه كل ما يحتاج إليه المجاهد به في دين الله.
فيستفاد منها كما يستفاد من آيات أخرى غيرها، أن على الدعاة والمرشدين أن تكون دعوتهم وإرشادهم بالقرآن العظيم.
ميزان:
عندما يختلف عليك الدعاة، الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى، فانظر: من يدعوك بالقرآن إلى القرآن، ومثله ما صح من السنة لأنها تفسيره وبيانه، فاتبعه لأنه هو المتبع للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في دعوته وجهاده بالقرآن، والمتمثل لما دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن.
نعمة ومنقبة:
قد سمّى الله تعالى الجهاد بالقرآن جهاداً كبيراً. وفي هذا منقبة كبرى للقائمين بالدعوة إلى الله بالقرآن العظيم. وفي ذلك نعمة عظيمة من الله عليهم حيث يسرهم لهذا الجهاد، حتى ليصح أن يسموا بهذا الإسم الشريف "مجاهدون". فحق عليهم أن يقدروا هذه النعمة، ويؤدوا شكرها بالقول والعمل، والإخلاص والصبر والثبات واليقين.
جعلنا الله والمسلمين منهم وحشرنا في زمرتهم أجمعين.
***
تعاقب الليل والنهار للتفكير والعمل
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان: 62] .
لما سأل المشركون بقولهم: {وما الرحمن} ؟ كما يسألون عن المجهول! ذكر لهم القرآن ما يعرفهم به من عظيم آياته، وجلائل إنعاماته، التي هي من آثار رحمته؛ فذكر لهم بروج السماء، والشمس والقمر، ثم ذكر لهم تعاقب الليل والنهار.
{خلفة} يقولون: خلفت الفاكهة بعضها بعضاً خلفاً- بالتحريك وخلفة، إذا صارت خلفاً من الأولى. وخلف زيد عمراً يخلفه إذا جاء بعده في مكانه. فالخلفة مصدر. وهو لما كان على وزن فعلة دال على الهيئة كالركبة بمعنى الهيئة من الركوب، فالخلفة إذن هيئة من الخلوف. فإذا قلت: خلفه خلفاً أو خلوفاً.. فقد أردت مطلق الحدث، وإذا قلت: خلفه خلفة فقد أردت هيئة خاصة من المخلوف.
(التذكر) قبول التذكير، فإن مخلوقات الله مذكرات للعبد بربه. فتذكره هو قبوله ذلك التذكير، واعتباره واتعاظه به.[/rtl]
[rtl](1/189)[/rtl]
{أو} للتفضيل والتنويع؛ لأن المستفيدين من اختلاف الليل والنهار هم المتذاكرون والشاكرون، فلا تمنع من أن يكون الشخص الواحد متذكراً شاكراً في آن واحد.
{خلفة} مفعول ثان لجعل، على معنى جعلها ذوي خلفة. وفي الإخبار تقول: الليل والنهار خلفة، والرجلان خلفة على هذا المعنى، أي يخلف أحدهما الآخر.
وكان مفرداً على الاثنين لأنه مصدر (1) .
والجار في {لمن أراد} يتعلق بـ {جعل} وكان الجعل لهما، لأنهما المستفيدان منه، ولم يكرر الإسم الموصول لأن الشخص الواحد يمكن أن يتصف بالصفتين معاً.
وكرر فعل الإرادة لأنها لا بد منها في التذكر وفي الشكر.
وقيل: {أن يذكر} ليفيد المضارع الحدوث والتجدد، فإن الغفلة مستولية على الإنسان، والآيات المرئية ما تزال تحدث له التذكر وتجدده له.
وقيل: {شكوراً} لمناسبة رؤوس الآي.
المعنى:
يقول تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار، ووضعهما يختلفان ويتعاقبان على هيئة مخصوصة في التخالف والتعاقب؛ ليستفيد من ذلك العباد.
من أراد أن يتذكر فيعتبر بما فيهما من انتقال وتغير ونظام وتقدير. ويستدل بذلك على وجود خالقهما، وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته، ورحمته بمخلوقاته.
أو أراد أن يشكر؛ فيقوم بعبادة خالقه المنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها التي منها هذا الاختلاف والتعاقب بين هذين الوقتين، الذي لا يصلح حال الإنسان، ولا تنتظم أعماله ولا يستقيم عمرانه إلاّ به.
فقه لغوي:
اختيرت لفظة الخلفة هنا، لدلالتها على الهيئة، فتكون منبهة على هيئة هذا الاختلاف، بالطول والقصر المختلفين في جهات من الأرض. وذلك منبه على أسباب هذا الاختلاف من وضع جرم الأرض وجرم الشمس.
وذلك كله من آيات الله الدالة عليه، وبتلك الهيئة من الاختلاف المقدر المنظم عظمت النعمة على البشر، وشملتهم الرحمة.
فكانت هذه اللفظة الواحدة منبهة على ما في اختلاف الليل والنهار من آية دالة، ومن نعمة عامة وهكذا جميع ألفاظ القرآن في أنتقائها لمواضعها.
__________
(1) المصادر يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع[/rtl]
[rtl](1/190)[/rtl]
لما كان جعل الليل والنهار خلفة لأجل التذكر والعمل، كان كل واحد منهما صالحاً للعمل الذي يعمل في صاحبه. فمن فاته عمل بالليل أتى به في النهار، ومن فاته عمل بالنهار أتى به في الليل. وهذا إذا كان من العادات فهو على سبيل التدارك، وإذا كان من العبادات فهو على سبيل القضاء.
وقد روى ابن جرير- بسند حسن (1) : «أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: فاتتني الصلاة الليلة! فقال: أدرك ما فاتك من ليلتها في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكوراً» .
ومن هذا ما رواه مسلم والأربعة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل» (2) .
فقه قرآني:
حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها، مبنية على الأركان الثلاثة:
الإرادة، والفكر، والعمل.
وهي المذكورات في هذه الآية، لأن التذكر بالتفكر والشكر بالعمل. فاستفادة الإنسان مما خلقه الله له، وجعله لأجله، لا تكون إلاّ بهذه الثلاثة.
وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لا بد للإنسان منها:
فالعمل متوقف على البدن.
والفكر متوقف على العقل.
والإرادة متوقفة على الخلق.
فالتفكير الصحيح من العقل الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم.
فلهذا كان الإنسان مأموراً بالمحافظة على هذه الثلاثة: عقله، وخلقه، وبدنه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم، ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء، وتوقي الأذى، والتريض على العمل.
__________
(1) تفسير الطبري (9/ 405- الأثر رقم 26450) بإسناده عن ابن حميد قال: «ثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمربن عطية، عن شقيق» .
(2) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 142، وأبو داود في التطوع باب 19، والترمذي في الجمعة باب 56، والنسائي في قيام الليل باب 65، وابن ماجة في الإقامة باب 177، والدارمي في الصلاة باب 167. ورواه أيضاً مالك في الموطأ (كتاب القرآن، باب ما جاء في تحزيب القرآن، حديث 3) موقوفاً على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.[/rtl]
[rtl](1/191)[/rtl]
قال الإمام ابن العربي: سمعت ذا نشمند الأكبر- يعني الغزالي- يقول:
«إن الله خلق العبد حياً عالماً وبذلك كماله. وسلط عليه آفة النوم، وضرورة الحدث، ونقصان الخلقة، إذن الكمال للأول الخالق.
فما أمكن الرجل من دفع النوم، بقلة الأكل، والسهر في الطاعة فليفعل.
ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة، ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغواً.
وينام نحو سدس النهار راحة فيذهب له ثلثاه، ويبقى له من العمر عشرون سنة.
ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره سهرة في لذة باقية، عند الغني الوفي، الذي ليس بعديم ولا ظلوم» .اهـ.
سلوك:
حافظ على العبادات في أوقاتها، واقض ما فاتك.
واربط أعمالك بأوقاتها، وتدارك ما فاتك.
ووجه قصدك إلى ما ترى من آيات الله متفكراً.
ووجه قصدك في جميع أعمالك لله سامعاً مطيعاً- تكن عبداً ذاكراً شاكراً سعيداً- إن شاء الله- في الدارين.
وفقنا الله إلى ذلك والمسلمين أجمعين.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القرآن يصف عباد الرحمن
الصفة الأولى والثانية:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } [الفرقان: 63] .
لما تجاهل المشركون الرحمن، واستكبروا عن السجود له، عرفهم القرآن بالرحمن: بخلقه، وتدبيره وإنعامه، كما مضى في الآيات المتقدمة.
ثم عرفهم بعباده الذين عرفوه بذلك، فآمنوا به، وخضعوا له، بما اشتملت عليه هذه الآيات من صفاتهم.
وكما كانت مخلوقات الله المذكورة سابقاً دالة عليه، ومعرفة به، بما فيها من آثار قدرته وآثار[/rtl]
[rtl]رحمته، كذلك كان عباده المذكورون أدلة عليه، ومعرفين به، بأقوالهم، وأفعالهم، وهديهم، وسلوكهم ومظاهر آثار رحمة الله عليهم.
فذكروا بعد ذلك تلك المخلوقات، وذكرت هي قبلهم؛ لأنها كانت أدلة لهم، والدليل سابق على المستدل، سبق المستفاد منه على المستفيد.
وفي تعريف القرآن لعباد الرحمن بعد تعريفه بالرحمن، تشريف كبير لهم، وتبكيت لأولئك المتجاهلين المتكبرين.
ووجه آخر في المناسبة، وهو أنه لما ذكر التذكر والشكر في الليل والنهار في الآية المتقدمة، ذكر صفات المتذكرين الشاكرين، وما أثمره لهم تذكرهم وشكرهم، ترغيباً في التذكر والشكر. وقولهم للجاهلين سلاماً من مقتضى هونهم ورفقهم، فلذلك قرن به وعطف عليه.
{عباد} جمع عبد بمعنى المملوك الذليل الخاضع، أو جمع عابد كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار: بمعنى المطيع والقائم بما يرضي ربه، والأول هنا أظهر.
{الرحمن} المنعم الذي تتجدد نعمه في كل آن.
{يمشون على الأرض} يتنقلون عليها.
{هونًا} هان الأمر يهون هونًا بمعنى سهل. ومنه {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي سهل. وشيء هين على وزن فعل أي سهل، ويقال هين بالتخفيف.
ومن صفات المؤمن أنه هين لين، من الهون بمعنى السهولة في أخلاقه ومعاملته.
وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً: «حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس» (1) .
وهو على ما فسرنا من السهولة في أخلاقه ومعاملته، وذلك هو الذي يقربه من الناس.
وفسر الهون في الآية بالحلم، والوقار، والسكينة، والتواضع والطاعة، وكلها ترجع إلى السهولة واللين.
وفسر بعدم الفساد في الأرض، وعدم التجبر والتكبر، لأنها كلها أضداد للسهولة واللين.
{خاطبهم} كلهم {الجاهلون} السفهاء القليلو الأدب السيئو الأخلاق. والجهل ضد العلم، ويطلق بمعنى السفه والطيش؛ لأنهما عنه ينشآن.
ومنه قول الشاعر.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 4415) . وأخرجه أيضاً الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع باب 45 (حديث ول 24) بلفظ: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار: على كل قريب هين سهل» .[/rtl]
[rtl]أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا (1)
ومنه {الجاهلون} في الآية.
{سلاماً} السلام كالسلامة معناهما: التعري من الآفات والمكروهات.
وصلت الجملة بما قبلها بالواو، لاشتراكهما في القصد وهو التعريف بالرحمن وبعباده. وعباد مبتدأ، والذين خبر.
وأضاف العباد للرحمن تخصيصاً لهم وتفصيلاً وتقريباً، وفيه تعريض بأولئك المتجاهلين المتكبرين المبعدين.
وهوناً منصوباً على أنه مفعول مطلق، والتقدير مشياً هوناً أو على أنه حال من فاعل يمشون، أي هينين. ومجيء المصدر حالاً كثير، ولمصدريته أفراد والموصوف جمع، نظير الزيدون عدل.
و {يمشون على الأرض هونا} تركيب كنائي، أريد به معناه، ولازم معناه:
فهم يمشون هينين برفق وتثبت، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، هذا أصل المعنى وهو مراد.
ومراد أيضاً لازمه وهو سهولتهم وتواضعهم وعدم تكبرهم ورفقهم في الأمور وبعدهم عن الإفساد.
ومراد لازم آخر أيضاً: وهو سيرهم في الحياة وتصرفهم في جميع الأمور، ومعاملتهم للناس، فإذا كانوا أهل رفق وسهولة في مشيتهم في الأرض، فكذلك هم أهل رفق وسهولة في الأمور الأخرى مما ذكرنا؛ لأن الرفق والسهولة خلق فيهم، فكما هو في المشي هو في غيره.
وكانت الصلة بالمضارع (2) ليفيد التجدد، فإن المشي هو في الأرض ضروري للإنسان.
وكان المعطوف على الصلة بصورة الشرط (3) ؛ لأن خطاب الجاهلين لهم ليس مما يكون دائماً.
وكان التعليق بلذا لأن مخاطبة الجاهلين لهم بالسوء أمر محقق.
ومتى سلم أهل العلم والدين من الجاهلين؟!!
__________
(1) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم، ومطلعها:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا ... وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ لِأَنْدَرِينَا (شعر عمرو بن كلثوم: [ص:40] .- طبعة الدار العالمية) .
وقوله: «فنجهل فوق جهل الجاهلينا» معناه: فنهلكه فنعاقبه بما هو أعظم من جهله. وقال الزوزني في شرح المعلقات [ص:252] .: «أي لا يسفهن أحد علينا فنسفه عليهم فوق سفههم علينا» .
(2) في: {يمشون} .
(3) في قوله: {وإذا خاطبهم} .[/rtl]
[rtl]ولم يذكر ما يخاطبهم به الجاهلون للعلم بأن خطاب الجاهل أي السفيه لا يكون إلاّ سوءاً مما يمليه عليه جهله وسفهه.
ونصب {سلاماً} على أنه مفعول مطلق والتقدير: قالوا قولاً سلاماً، أي ذا سلام، فيشمل كل قول فيه سلامة من الأذى والمكروه: كسلام عليكم، ويغفر الله لكم، وسامحكم الله، ونحو ذلك.
أو نصب على أنه مفعول به، أي قالوا هذا اللفظ سلاماً نفسه.
المعنى:
يقول تعالى: وعباد الرحمن ومماليكه القائمون بحق العبودية له، هم أهل الرفق والسهولة الذين يمشون على الأرض هينين في مشيهم، وفي معالجتهم لشؤون الحياة، ومعاملتهم للناس لحلمهم وتواضعهم، غير مستكبرين ولا متجبرين، ولا ساعين في الأرض بالفساد.
وإذا خاطبهم السفهاء بما لا ينبغي من الخطاب قابلوهم بالحلم، وقالوا لهم: سلاماً، لأنهم سلموا من الجهل؛ فسلم المخاطب لهم من أن يجهلوا عليه ولو جهلوا؛ أو قالوا لهم من الكلام ما فيه سلامة من الأذى والمكروه.
الأحكام:
في الآية استحباب الرفق في المشي، وكراهية العنف والاضطراب؛ ومن العنف الضرب بالرجل والخفق بالنعل، فإذا كانا بعجب وخيلاء فهو حرام.
وفيها الإغضاء عن الجاهل ومقابلة كلمته السيئة بالكلام الحسن وكراهة مجاراته في خطابه ومماثلته، وإذا كان في ذلك فتنة أو مفسدة محققة كان حرامًا.
تمييز:
ليس من الهون في المشي التثاقل والتماوت فيه.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجماعة رآهم كذلك: «لا تميتوا علينا ديننا أماتكم الله» .
وأن عائشة رضي الله عنها، رأت قوماً يتماوتون، فسألت عنهم؛ فقيل لها: هؤلاء قوم من القراء. فقالت: لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع.
وكان مشيه- رضي الله عنه- إلى السرعة خلقة لا تكلفاً. والخير في الوسط.
وليس هون المشي وحده يعرفك بأن صاحبه من عباد الرحمن، فرب ماش هوناً رويداً وهو ذئب أطلس (1) . ولكن بالهون في المشي، وبما ذكرنا في فصل التراكيب والمعنى من لوازمه.
__________
(1) الذئب الأطلس: هو الذنب الأمعط الذي في لونه طلسة. والطلسة: الغبرة إلى السواد. انظر (المعجم الوسيط: [ص:561] ) .[/rtl]
[rtl]بيان وردّ:
اشتملت الآية على بيان الأدب في معاملة الجاهلين من أفراد الناس، سواء أكانوا مسلمين أم غيرهم.
وما اشتملت عليه من الأدب قد جاء في آيات كثير: مثل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] .
فهو أدب مشروع مؤكد وحكم دائم محكم، وهو في معاملات الأفراد كما ترى.
فلا ينافي ما شرع من الحرب عند وجود أسبابها، وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات. وهي من الأمور العامة كما ترى.
فبطل قول من زعم أن هذه الآية بالنسبة لغير المسلم منسوخة بآية السيف، لأن هذه الآية ثابت حكمها في حال وآية السيف ثابت حكمها في حال أخرى، فلا تنسخ إحداهما الأخرى. وما أكثر ما قتلت أحكام بآية السيف هذه! وهي عند التحقيق غير معارضة لها؛ لمباينة حالها لحالها.
تمثيل واستدلال:
جاء في الصحيح من طرق مجموع ألفاظها:
أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ (والسام الموت) ففهمتها عائشة- رضي الله عنها- فقالت: وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:- مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؛ فَقَالَ لَهَا: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؛ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ: قد قلت: «وَعَلَيْكُمْ» فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ (لأنه دعاء بحق) وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ (1) (لأنه دعاء بباطل وظلم) .
فقد خاطبه هؤلاء الجاهلون بالسوء فقال لهم كلمة سالمة من القبح، ليس فيها لفظ الإذاية، وهو السام، بعيدة عن الإفحاش، خالصة للرفق، فهي من العقول السلام: أي ذي السلام من مقتضى الآية على الوجه الأول من وجهيها.
__________
(1) روي في الصحاح من طرق عديدة؛ فرواه البخاري في الأدب باب 35 و38، والجهاد باب 98، والاستئذان باب 22، والدعوات باب 59 و63. ومسلم في السلام حديث 10 و11 و13. والترمذي في السير باب 40، والاستئذان باب 7. وأحمد في المسند (2/ 114، 170، 221، 3/ 140، 144، 210، 214، 218، 234، 241، 262، 289، 283، 37/6، 116، 134، 135، 199، 229) .[/rtl]
[rtl]ففي الحديث مثال لقول السلام في خطاب الجاهل، ودليل على عموم الحكم وإحكامه.
سؤال وجوابه:
على الوجه الثاني في الآية وهو أنه يقول للجاهل سلاماً، يقال: هل يسلم عليه إذا كان كافراً؟.
فيقال: نعم؛ كما قال إبراهيم لأبيه {سَلَامٌ عَلَيْكَ} . وقد قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] . ولم يستثن إلاّ قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} .
نعم هو سلام موادعة ومتاركة، لا سلام تحية وكرامة.
لطيفة تاريخية:
قالوا: إن إبراهيم ابن المهدي العباسي كان منحرفاً عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فرآه في النوم قد تقدمه لعبور قنطرة، فقال له إبراهيم:
«إنما تدعي هذا الأمر يعني الخلافة بامرأة، يعني فاطمة- رضي الله عنها- ونحن أحق به منك. وحكى إبراهيم رؤياه للمأمون، وقال له: فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه!
فقال له المأمون: فما أجابك به؛ قال كان يقول لي:"سلاماً سلاماً" فنبهه المأمون على هذه الآية، وقال: يا عم، قد أجابك بأبلغ جواب! فخزي إبراهيم واستحيا. اهـ.
فرضي الله عن الإمام الهاشمي ما أبلغه حياً وميتاً!!
توجيه وسلوك:
القول السلام محمود ومطلوب في كل حال، وإنما خصت حالة خطاب الجاهل، لأنها الحالة التي تثور فيها ثائرة الغضب بما يكون من سفهه ومهاترته.
فعلى المؤمن أن يكون حاضر البال بهذه الآية عندما تسوق إليه الأقدار جاهلاً، فيخاطبه بما لا يرضيه حتى يسلم من شره، ويكسر من شرته (1) ، فيسلم له عرضه ومروءته ودينه، ويسلم ذلك الجاهل أيضا من اللجاج في الشر والتمادي فيه.
فيكون المؤمن بقوله السلام، وتأدبه بأدب القرآن قد حصل السلامة للجميع.
وأعظم به من فضل وأجر في الدنيا والدين.
وفقنا الله لذلك والمسلمين أجمعين.
__________
(1) الشِّرَّة: الحدة (المعجم الوسيط: [ص:478] ) .[/rtl]
[rtl]الصفة الثالثة:
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) } [الفرقان: 64] .
لما ذكر فيما تقدم سلوكهم مع الخلق ذكر في هذه الآية سلوكهم في القيام بعبادة الحق. وفيما تقدم بيان حالهم عند اختلاطهم بالعباد، وفي هذه بيان حالهم عند تفردهم لرب العباد.
{يبيتون} من البيتوتة، وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. ويقابلها الظلول وهو أن يدركك النهار.
(السُّجَّدُ) جمع ساجد. (والقيام) جمع قائم، وهو من الأوزان التي يشترك فيها المصدر والجمع.
{الذين} عطف على الخبر الأول، وأعيد لفظ {الذين} لاستقلال الحالة الثانية عن الأولى.
وقدم الجار ليفيد تخصيص عبادتهم بربهم ويفيد الكلام عبادتهم وإخلاصهم.
وقدم {سجداً} لأن السجود أقرب أحوال العبد للرب، لحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (1) .
ووقع {قياماً} في موقعه مناسباً للفاصلة.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يحيون الليل، فيبيتون يصلون لربهم، يراوحون بين السجود والقيام.
بيان وترغيب:
هذه الآية من آيات الحث على قيام الليل، مثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] .
وقد بينت السنة المطهرة مقداره. فثبت في الموطأ من طريق أبي سلمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلم في الصلاة حديث 215. والنسائي في المواقيت باب 35، والتطبيق باب 78. والترمذي في الدعوات باب 118. وأحمد في المسند (2/ 421) .[/rtl]
[rtl]إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً» (1) .
والسلام بعد كل ركعتين لحديث: «صلاة الليل مثنى مثنى» (2) .
وثبت عند مسلم (3) من طريق سعد بن هشام، عنها (4) بأنه كان يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين، فتلك ثلاث عشرة.
وقد ثبت ذلك في الموطأ من طريق عروة عنها، قالت:
«كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة» (5) .
وهذا هو الغالب من أحواله، وقد كان يصلي أقل منه في بعض الأحوال.
فقد ثبت عند البخاري من طريق مسروق عنها: «أن صلاته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالليل سبع، وتسع، وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر» (6) .
ومثل ما جاء عن عائشة من انتهاء ركعاته إلى ثلاث عشرة جاء في الموطأ (7) من حديث ابن عباس.
__________
(1) الحديث في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث رقم 3) . وأخرجه أيضاً البخاري في التراويح باب 1. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 125. والترمذي في الصلاة باب 208. والنسائي في قيام الليل باب 36. وأحمد في المسند (36/6، 73، 104) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث 7) والترمذي في الجمعة باب 65، من حديث ابن عمر أنه كان يقول: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين» . وأخرجه مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث 13) والبخاري في الوتر باب 1، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 145؛ عن عبد الله بن عمر، أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى» .
(3) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث 87 و88.
(4) أي عن عائشة رضي الله عنها.
(5) أخرجه مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث10) . وأخرجه أيضاً مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديثا 123.
(6) أخرجه البخاري في التهجد باب 1.
كتاب صلاة الليل، حديث رقم 11. ولفظ الحديث عن عبد الله بن عباس أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي خالته. قال: «فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله في طولها. فنام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منه فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي. قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع. ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها. فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح» .[/rtl]
[rtl]وجاء فيه أيضاً من حديث زيد بن خالد الجهني (1) .
وفي هذه السنة العملية الثابتة بيان للقدر الأكمل، الذي يكون به العبد ممن يصدق عليهم هذا الوصف من صفات عباد الرحمان.
الصفة الرابعة:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) } [الفرقان: 65، 66] .
لما ذكر حسن سلوكهم مع الخلق، واجتهادهم في عبادة الحق، ذكر خوفهم من ربهم، واعتمادهم عليه في نجاتهم، وعدم اعتزازهم بأعمالهم، فهم يأتون ما يأتون من محاسن الأعمال، ولا يعتمدون إلاّ على الكبير المتعال.
(الغرام) مادة (غ ر م) تدور على معنى الملازمة مع الثقل والشدة، ولذا فسر الغرام بالشر، وبالعذاب، وبالهلاك الملازم.
{ساءت} ، بمعنى قبحت، مثل بئس لإنشاء الذم.
{المستقر} محل الإقامة أي البقاء.
{ساءت} فاعلة الضمير المخصوص بالذم.
و {مستقراً ومقاماً} تمييز مفسر للضمير.
وجملة {إن عذابها} تعليل للجملة الدعائية، وفصلت عنها لكمال الانقطاع بينهما.
وجملة: {إنها ساءت} مؤكدة لمضمون الجملة قبلها مع اختلاف في المعنى: فإن ما أفادته الأولى من فداحة عذابها وملازمته، أكدته الثانية بما أفاده من مقامه ومستقرها، ففصلت عنها لما بينهما من كمال الاتصال نظير: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2] .
والتأكيد فيها بـ"إنّ"، لأنه قد لوح وأشير في الكلام السابق إلى هذا الخبر، وشأن السامع لهذا أن يستشرف له استشراف المتردد الطالب، فينزل منزلة المتردد فيؤكد له الخبر.
ووجه التلويح بهذا الخبر: أنه لما سئل صرف عذاب جهنم كان هذا مشيرًا، إلى قبح هذا العذاب وشدته. فهذا نظير {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] .
المعنى:
من صفاتهم أنهم يدعون الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم؛ لأن عذابها عذاب
__________
(1) كتاب صلاة الليل، حديث رقم 12.[/rtl]
[rtl]شديد، فادح، ملح، ملازم. ولأنها بئست المستقر الذي يستقر ويثبت فيه، وبئست المقام الذي يقام ويمكث فيه.
***
رد واستدلال:
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد، أن يعبد الله تعالى لا طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره.
وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم.
ومثلها قول إبراهيم- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] ، وفي نصوص لا تحصى كثرة.
وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه، أو طمع في ثوابه. وأخطاؤا فيما زعموا:
فإن العبادة مبناها الخضوع والذل والافتقار، والشعور بالحاجة والاضطرار. وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومن أتم مظهر لها، أن يخاف، ويطمع، كما يذل، ويخضع؛ ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق الإجلال والتعظيم للربوبية.
ولهذا كان الأنبياء- عليهم وآلهم الصلاة والسلام- هم أشد الخلق تعظيماً لله، وأكثرهم خوفاً من الله، وتعوذاً من عذاب الله، وسؤالًا لما عند الله، وكفى بهم حجة وقدوة.
وإن هذه المقالة (1) تكاد تُفضي إلى طرح الرجاء والخوف، وعليهما مبنى الأعمال، لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والاحتياج.
ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ: «وإليك نسعى ونحفد (2) ، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد» وهذا ضروري في الدين.
ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليها:
الغلو وقلة الفقه في الدين، وفي الكتاب والسنة، وما كان عليه هَدْيُ السابقين الأولين.
إعتبار ونصيحة:
إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام.
وإن الدنيا هي مطية الآخرة؛ فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا، ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة.
وإن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا؛ فمن لازمها بالكفر،
__________
(1) أي مقالة القائلين بأن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه.
(2) نحفد: نسرع في العمل والخدمة (النهاية في غريب الحديث والأثر: 406/1- مادة حفد) .[/rtl]
[rtl]ومات عليه، دامت له تلك الملازمة، ومن لازمها بالإصرار على الكبائر كانت له، على حسب تلك الملازمة.
فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه، وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة، وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة، ويلازم مجالس الطاعة والسنة.
وأن يسرع بالتوبة مفارقاً الذنوب، وألا يصر على شيء من القبائح والعيوب.
وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه، فالله يحب التوابين ويغفر للأوابين جعلنا منهم أجمعين آمين.
أيهما أكمل:
العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب؟ أم العبادة دونهما؟
زيادة بيان على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} .
تمهيد:
قد قال قوم: إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات!.
وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} فيما سبق.
وقلنا في الإنكار عليهم:
"وزعموا" أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه، أو طمع في ثوابه، ((وأخطأوا فيما زعموا)) .
وذكرنا إثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها.
***
وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة!! نشر الشيخ المولود الحافظي مقالًا رداً علينا، دون أن يذكر جميع أدلتنا، ودون أن يتعرض لنقضها في سندها أو متنها، أو عدم انطباقها، أو إفادتها لما سبقت لإفادته، ودون أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة.
وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال. فرأينا- إثر إطلاعنا على مقاله- أن نعود لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه: من أن وضع العبادة الشرعية، على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعى. ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول:[/rtl]
[rtl]حقيقة العبادة:
إن العبادة هي غاية الذل والخضوع، مع الشعور بغاية الضعف والافتقار. ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويَوْجَلَ، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع:
1- فخوف العبد من عقاب ربه، هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه، وشهوده لعزته وقهره، وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه، وأنه لا يؤمن من مكروهه.
2- وطمعه في ثوابه، هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه، وفضله، وتصديقه بوعده؛ فهو يعبده ويخاف ألا يقبل عبادته، ويخشى نقمته. ويعبده ويرجو رحمته، وينتظر مثوبته. وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها، وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، والاعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة، والغنى والرحمة والكمال.
فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب، ورجاء الثواب، لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره، أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين.
الأدلة:
والدليل على هذا ستسمعه، من الكتاب، والسنة، وأقوال السلف:
أولاً: أما الكتاب: فقوله تعالى:
1- {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15، 16، 17] .
ووجه الدليل من الآية:
أن هؤلاء المذكورين فيها، هم الكمل من عباد الله الصالحين، بدليل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه المروي في الصحيح- قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ» (1) .
ثُمَّ قَرَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ومع كمالهم لم تتجرد عبادتهم من الخوف والطمع.
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 35، وبدء الخلق باب 8، وتفسير سورة 32 باب 1. ومسلم في الإيمان حديث 312، وصفة الجنة حديث 2- 5. والترمذي في صفة الجنة باب 15، وتفسير سورة 32 باب 2، وسورة 56 باب 1. وابن ماجة في الزهد باب 39. والدارمي في الرقاق باب 98 و105. وأحمد في المسند (2/ 313، 370، 407، 416، 438، 462، 466، 495، 506) . ج[/rtl]
[rtl]ووجه آخر:
وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم؛ لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون؛ فذكرها مع الخوف والطمع، فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك.
ووجه ثالث:
وهو أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم؛ لنقتدي بهم فيها، فعلم أن العبادة التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفاً وطمعاً.
2- ومثل هذه الآية:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 191- 194] .
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
وتزيد عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار، وغفران وتكفير السيئات.
3- ومثلها قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] .
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
4- ومثلها قوله تعالى:
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 7- 10] .
ووجه الدليل منها مثل ما تقدم وتزيد ببيان أن خوف اليوم العبوس لا ينافي الإطعام لوجه الله.
5- ومثلها قوله تعالى:
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 19- 22] .[/rtl]
[rtl]ووجه الدليل كما تقدم، وفيها أيضاً بيان أن خوف سوء الحساب لا ينافي الصبى ابتغاء وجه الله تعالى.
6- ومثلها قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57- 61] ، ووجه الدليل كما تقدم.
ومعنى الآية: أنهم يعطون ما أعطوا من أعمال البر والطاعات، وقلوبهم خائفة من أنهم راجعون إلى ربهم، فيخافون ألا تقبل منهم. ففيها بيان أنهم كانوا يعملون راجين قبول الأعمال، خائفين من عدم قبولها.
فهؤلاء هم الكمل من عباد الله، وهذه هي عبادتهم في صريح هذه الآيات الكريمة التي ذكرت فيها صفاتهم.
وكلها بكثرتها وصراحتها دالة دلالة قطعية لما قلناه: من أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب والخوف من العقاب؛ إذ ذلك هو أظهر مظاهر العبودية بذلها وخضوعها، وضعفها وحاجتها وفقرها، وحالتها المباينة غاية المباينة لمقام الربوبية، مقام ذي الجلال والإكرام.
ولا تجد في القرآن العظيم، آية واحدة دالة دلالة صريحة على ذكر عبادة- هكذا- دون خوف أو طمع.
7- ونزيد على الآيات المتقدمة، آية دالة على حال عبادة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] .
ووجه الدليل في الآية: أن إبراهيم عليه السلام أخبر عن نفسه بصيغة المضارع، المفيد للتجدد، أنه يطمع من الله أن يغفر له خطيئته؛ فدل ذلك على أنه كان في عبادته طامعاً. ومعلوم أنه معصوم، وأنه مؤمن من العذاب، وأن ما سماه خطيئة هو بالنسبة إلى مقامه الرفيع من باب: "حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ" (1) .
ومع ذلك كله فالمقصود من الدليل حاصل، وهو أنه خاف المؤاخذة- المؤاخذة اللائقة بمقامه- وطمع في الغفران، وكانت عبادته على الطمع والخوف.
ولا يقال: إنه كان معلماً للناس؛ لأنه إخبار عن نفسه، وخبره صدق ثابت، فلا بد أن يكون كما أخبر.
__________
(1) نص حديث ذكره القاري في الأسرار المرفوعة [ص:186] . والشوكاني في الفوائد المجموعة [ص:250] . والعجلوني في كشف الخفا (428/1) والألباني في السلسلة الضعيفة [ص:100] .[/rtl]
[rtl]ثانياً: وأما من السنة فمنها:
1- دعاء القنوت المشهور: «نَرْجُو رَحْمَتَكَ ونَخْشَى عَذَابَكَ إنَّ عَذَابَكَ الجِدُّ» .
ووجه الدليل منه: أن الصلاة أشرف أحوال العبد وأجل مقاماته، وأعظم عباداته، وقد علم أن يدعو فيها هذا الدعاء الصريح، في رجاء الرحمة وخوف العذاب، وما كان ذلك إلاّ لأن العبادة الشرعية موضوعة عليهما.
2- ومنها حديث:
«وَأَمَّا السُّجُودُ فَادْعُوا فِيهِ فَقَمِنٌ (1) أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وهو حديث صحيح (2) .
وفي الصحيح أيضاً: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (3) .
ووجه الدليل: أن أقرب أحوال العبد من ربه السجود، وهو محل للدعاء، والداعي يرجو القبول، ويخاف المنع، فالعبادة في أقرب أحوال العبد موضوعة على الرجاء والخوف.
3- ومنها الحديث الصحيح:
«إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ. اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلتَ.
فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» (4) .
ووجه الدليل منه: أنه تعليم لما يقوله المسلم فيما قد يكون آخر حال يلقي عليه ربه، ولا ينبغي أن يلقاه إلاّ على أكمل حال؛ فعلمنا هذا الدعاء الصريح في الرغبة والرهبة ليقوله المؤمن، ولو كان من أكمل الكمل.
__________
(1) قمن: بفتح الميم وكسرها، لغتان مشهورتان؛ ومعناه: حقيق وقدير.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، حديث رقم 207 عن ابن عباس بلفظ: قال: كشف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلاّ الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» .
وروى أحمد في المسند (1/ 155) نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلم في الصلاة حديث 215. والترمذي في الدعوات باب 118. والنسائي في المواقيت باب 35، والتطبيق باب 78. وأحمد في المسند (2/ 421) .
(4) من حديث البراء بن عازب. أخرجه البخاري في الوضوء باب 75، والدعوات باب 5. ومسلم في الذكر حديث 56. وأبو داود في الأدب باب 98.[/rtl]
[rtl]فدل على أن الرغبة والرهبة عليهما وضعت العبادة في جميع الأحوال.
4- ومنها الحديث الصحيح:
قالت عائشة- رضي الله عنها-: «كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَفَقَدْتُهُ فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ (1) ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ (2) أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (3) .
ووجه الدليل: أنه في الحال التي هو فيها أقرب ما يكون من ربه، وهي حالة سجوده، استعاذ برضى الله من سخطه، [[وبعافيته]] من عقوبته.
ثم لما لم يستطع الاحاطة بأفعاله، رد الأمر لذاته، فاستعاذ به منه. وهو في الجميع مستعيذ، والمستعيذ طالب، والطالب راج وطامع في نيل المطلوب. فلم يفارق عبادته الرجاء والطمع حتى في هذه الحالة التي بينه وبين ربه، لأنه كان ساجداً في جنح الليل، دون حضور أحد من الناس، إلاّ عائشة التي كانت نائمة واستيقظت، فاطلعت عليه في تلك الحال.
5- ومنها الحديث الصحيح عن ابن عباس- رضي الله عنه- الذي كان يعلمهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إياه كان يعلمهم السورة من القرآن رواه مالك وفيه: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» (4) .
ووجه الدليل منه: أنه علمهم هذه الاستعاذة الصريحة في الخوف والرجاء كسائر ما علمهم من الدعوات المبنية عليهما.
وهكذا تجد جميع دعواته المأثورة على الرغبة، والرهبة، والرجاء والخوف. ولا تجد دعاء واحداً علمهم فيه أن يتوجهوا إلى الله تعالى، دون رغبة ولا رهبة، ولا رجاء ولا خوف.
__________
(1) «أعوذ برضاك من سخطك» : قال النووي في شرح صحيح مسلم: «
قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا مَعْنَى لَطِيف؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ اِسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيرهُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطه، وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَته، وَالرِّضَاء وَالسَّخَط ضِدَّانِ مُتَقَابِلَانِ. وَكَذَلِكَ الْمُعَافَاة وَالْعُقُوبَة فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْر مَا لَا ضِدّ لَهُ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى اِسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ لَا غَيْر، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَار مِنْ التَّقْصِير فِي بُلُوغ الْوَاجِب مِنْ حَقِّ عِبَادَته وَالثَّنَاء عَلَيْهِ» .
(2) لا أحصي ثناء عليك: أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل: لا أحيط به.
(3) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 222. وأبو داود في الصلاة باب 148. والنسائي في الطهارة باب 119، والتطبيق باب 47 و 66 و71 و 72، وعشرة النساء باب 4. وابن ماجة في الإقامة باب 119. وأحمد في المسند (6/ 58، 147، 201، 238) .
(4) الحديث في الموطأ (كتاب القرآن، باب ما جاء في الدعاء، حديث رقم 33) . وأخرجه أيضاً مسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 134.[/rtl]
[rtl]ولو كانت العبادة الخالية من الطمع والخوف هي أكمل العبادة ... لكان بيَّنها لهم بياناً شافياً صريحاً، كعادته في بيان الكمالات، وهو الحريص على دلالتهم على كل خير. فكيف لا يدلهم على هذا المقام بصريح المقال، لو كان من الكمال، بحيث يدعي لها بعض الناس؟؟!
النتيجة:
فقد بان بما ذكرنا توارد آيات الكتاب، وأحاديث السنة في صراحة وجلاء على مشروعية العبادة، مقرونة بالرغبة والرهبة، والرجاء والخوف.
ولم نظفر بآية واحدة، أو حديث واحد، فيه التصريح بمشروعيتها مجردة منهما، فضلًا عن أنها أكمل منها معهما.
وما كنا لنترك أدلة الكتاب والسنة الصريحة لرأي أحد كائناً من كان.
6- وإننا نورد فيما يلي حديثا من صحيح البخاري، يبين لنا كيف كان الصحابة- سادة هذه الأمة- يعبدون الله تعالى، يرجون قبول أعمالهم لديه:
«قال أبو بردة بن أبي موسى الأشعري. قال لي عبد الله بن عمر:
هل تدري ما قال أبي لأبيك؛ قال قلت: لا.
قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى، هل يسرك إسلامنا مع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهجرتنا معه، وجهادنا وعملنا كله معه يرد لنا، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً: رأساً برأس؟
قال أبي- يعني أبا موسى - لا والله؛ قد جاهدنا بعد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصلينا، وصمنا، وعملنا خيرا كثيراً، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك.
فقال أبي- يعني عمر- لكني أنا، والذي نفس عمر بيده، لوددت أن ذلك يرده لنا، وأن كل شيء عملناه بعد أن نجونا منه كفافاً رأساً برأس.
فقلت- أبو بردة-: إن أباك والله خير من أبي» (1) .
ووجه الدليل: عملهم على الرجاء، وخوفهم من عدم القبول، والعقاب على المخالفة، وإن اختلفا فيما اختلفا فيه.
ولا نجد في كلام واحد منهم، أنه كان يجرد عبادته عن الطمع والخوف، وما كان المقام الأكمل لقوتهم وهم أفقه الناس في الدين، وأحرصهم على الخير. هذه هي أدلتنا فيما ذهبنا إليه، ورددنا على مخالفيه.
وهي أكثر من هذا عدًّا في كتاب الله وسنة رسوله، وفيما ذكرناه كفاية- إن شاء الله- لمن
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب 45.[/rtl]
[rtl]نصح وأنصف، وأخلص الإيمان بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
***
والآن نعطف بالكلام على مقال الشيخ ونحصره في مواضع:
1- أنكرنا على من زعموا أن مرتبة العبادة العليا- أن يعبد الله تعالى لذاته، دون الطمع في ثوابه، ولا الخوف من عقابه، ونسبنا إليهم الخطأ.
ولما وجدنا آيات الكتاب وأحاديث السنة طافحة، بأن عبادة الله مقرونة بالخوف والطمع كما قدمنا، نسبنا خطأهم إلى قلة التفقه في الدين أي في أدلة الدين، وهي الآيات والأحاديث المذكورة.
وما عسى أن يقال فيمن لم تكفه تلك الآيات والأحاديث كلها، على صراحتها واتفاقها، إلا أنه لم يتفقه فيها؟
ولما لم نجد آية واحدة ولا حديثاً واحداً يصرح بمدعاهم.. حملناهم على الغلو.
هذا كله دون أن نصرح بشخص ولا بطائفة؛ لأن الكلام مع القول والدليل.
فأبى حضرته إلاّ أن يحمل كلامنا على طائفة مخصوصة يحب هو اليوم التظاهر بالدفاع عنها، ثم تطرق من ذلك إلى رمينا بما يناسب غرضه من الجراءة وقلة النصيحة، والتطاول على الأئمة ... إلى ما يريد أن يصفنا به؛ ليقول القارىء إن حضرته موصوف بضده، وربك أعلم بتلك الأوصاف وأهلها!!
2- كان استدلالنا بآية {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} ، على الوجه الذين بيناه فيما تقدم، دون أن نذكر الحصر، ولا أن نشير إليه، ولا من مقتضى موضوعنا أن نقصر عباد الرحمن على تلك الصفات.
لكن حضرته أخذ يقرر في قواعد الحصر الضرورية عند المبتدئين، وخرج من ذلك إلى أن الآية لا حصر فيها، وأننا تسرعنا، وما تدبرنا، ولم نحسن تطبيق قواعد العلوم على موضوع النزاع!!
وفي الحق: أن حضرته هو الذي لم يحسن تنزيل ما طول به في الحصر على كلام لم ندع فيه الحصر، ولم نستدل به، وإنما استدللنا بالآية مثل ما استدللنا بغيرها على الوجه الذي تقدم، وعلى ما معه من الوجوه.
3- ما في كلام الإمام الرازي، من أن الله مستحق للعبادة لذاته، وأنه لو أمر بالعبادة بلا ثواب ولا عقاب لوجبت.. فهو حق مسلم، وليس هو موضوع النزاع، إذ موضوع النزاع:
هل العبادة مع الخوف والرجاء أكمل؛ أم العبادة دونهما؟[/rtl]
[rtl]وما فيه من أن «من عبد الله للثواب والعقاب.. فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والله واسطة» :
إذا كان يعني به أنه عبد الله للثواب من حيث ذاته، والعقاب من حيث ذاته، دون امتثال للأمر، وتوجه للرب.. فهذا ليس كلامنا فيه.
وإن كان يعني أنه يعبد للثواب والعقاب من حيث أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب وخوف العقاب.. فهو يعبد الله امتثالاً لأمره فكلامه ممنوع؛ لأن العبادة هي التوجه بالطاعة لله امتثالاً لأمره، وقياماً بحقه، مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربويية، وذلك يبعث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غنى وفضل الربوبية، وذلك على الرجاء المأمور به.
فالمعبود في الحقيقة والواقع هو المتوجه إليه بالطاعة، وهو الله تعالى؛ لا الثواب الذي تعلق به الرجاء، ولا العقاب الذي تعلق به الخوف.
وكيف يكون الثواب هو المعبود، والعقاب هو المعبود، والله هو الذي شرعهما؟! فهل يشرع عبادة غيره؟!
وما هذا إلاّ من عدم التأمل في مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 58] . أي شأنه أن يحذر ومن حقه أن يحذر.
وهل هذا إلاّ من عدم التفقه في قوله تعالى- في أم القرآن والسبع المثاني التي يناجي بها المصلي ربه، وهو في أعظم عبادة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . فإن المستعين طالب للإعانة، والطالب راج قبول طلبه خائف من عدم قبوله.
وقوله تعالى فيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . طلباً كذلك، فليتفقه المتفقهون في كلام رب العالمين.
4- ونقل كلام الإمام الرازي في باب المحبة قوله:
«وأما العارفون، فقد قالوا: يحب الله تعالى لذاته، وأما حب خدمته وحب ثوابه فدرجة نازلة» .
ونحن نقول: إن الذات الأقدس الموصوف بالكمالات، المفيض للإنعامات.. تتعلق به قلوب المحبين، موصوفاً بكمالاته وإنعاماته التي منها ثوابه وجزاؤه، وتلك المحبة تبعث على خدمته بطاعته، والتقرب إليه بأنواع العبادات.
وأما عبادة الذات مجرداً عن الإنعام
الصفة الأولى والثانية:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } [الفرقان: 63] .
لما تجاهل المشركون الرحمن، واستكبروا عن السجود له، عرفهم القرآن بالرحمن: بخلقه، وتدبيره وإنعامه، كما مضى في الآيات المتقدمة.
ثم عرفهم بعباده الذين عرفوه بذلك، فآمنوا به، وخضعوا له، بما اشتملت عليه هذه الآيات من صفاتهم.
وكما كانت مخلوقات الله المذكورة سابقاً دالة عليه، ومعرفة به، بما فيها من آثار قدرته وآثار[/rtl]
[rtl](1/192)[/rtl]
فذكروا بعد ذلك تلك المخلوقات، وذكرت هي قبلهم؛ لأنها كانت أدلة لهم، والدليل سابق على المستدل، سبق المستفاد منه على المستفيد.
وفي تعريف القرآن لعباد الرحمن بعد تعريفه بالرحمن، تشريف كبير لهم، وتبكيت لأولئك المتجاهلين المتكبرين.
ووجه آخر في المناسبة، وهو أنه لما ذكر التذكر والشكر في الليل والنهار في الآية المتقدمة، ذكر صفات المتذكرين الشاكرين، وما أثمره لهم تذكرهم وشكرهم، ترغيباً في التذكر والشكر. وقولهم للجاهلين سلاماً من مقتضى هونهم ورفقهم، فلذلك قرن به وعطف عليه.
{عباد} جمع عبد بمعنى المملوك الذليل الخاضع، أو جمع عابد كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار: بمعنى المطيع والقائم بما يرضي ربه، والأول هنا أظهر.
{الرحمن} المنعم الذي تتجدد نعمه في كل آن.
{يمشون على الأرض} يتنقلون عليها.
{هونًا} هان الأمر يهون هونًا بمعنى سهل. ومنه {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي سهل. وشيء هين على وزن فعل أي سهل، ويقال هين بالتخفيف.
ومن صفات المؤمن أنه هين لين، من الهون بمعنى السهولة في أخلاقه ومعاملته.
وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً: «حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس» (1) .
وهو على ما فسرنا من السهولة في أخلاقه ومعاملته، وذلك هو الذي يقربه من الناس.
وفسر الهون في الآية بالحلم، والوقار، والسكينة، والتواضع والطاعة، وكلها ترجع إلى السهولة واللين.
وفسر بعدم الفساد في الأرض، وعدم التجبر والتكبر، لأنها كلها أضداد للسهولة واللين.
{خاطبهم} كلهم {الجاهلون} السفهاء القليلو الأدب السيئو الأخلاق. والجهل ضد العلم، ويطلق بمعنى السفه والطيش؛ لأنهما عنه ينشآن.
ومنه قول الشاعر.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 4415) . وأخرجه أيضاً الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع باب 45 (حديث ول 24) بلفظ: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار: على كل قريب هين سهل» .[/rtl]
[rtl](1/193)[/rtl]
ومنه {الجاهلون} في الآية.
{سلاماً} السلام كالسلامة معناهما: التعري من الآفات والمكروهات.
وصلت الجملة بما قبلها بالواو، لاشتراكهما في القصد وهو التعريف بالرحمن وبعباده. وعباد مبتدأ، والذين خبر.
وأضاف العباد للرحمن تخصيصاً لهم وتفصيلاً وتقريباً، وفيه تعريض بأولئك المتجاهلين المتكبرين المبعدين.
وهوناً منصوباً على أنه مفعول مطلق، والتقدير مشياً هوناً أو على أنه حال من فاعل يمشون، أي هينين. ومجيء المصدر حالاً كثير، ولمصدريته أفراد والموصوف جمع، نظير الزيدون عدل.
و {يمشون على الأرض هونا} تركيب كنائي، أريد به معناه، ولازم معناه:
فهم يمشون هينين برفق وتثبت، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، هذا أصل المعنى وهو مراد.
ومراد أيضاً لازمه وهو سهولتهم وتواضعهم وعدم تكبرهم ورفقهم في الأمور وبعدهم عن الإفساد.
ومراد لازم آخر أيضاً: وهو سيرهم في الحياة وتصرفهم في جميع الأمور، ومعاملتهم للناس، فإذا كانوا أهل رفق وسهولة في مشيتهم في الأرض، فكذلك هم أهل رفق وسهولة في الأمور الأخرى مما ذكرنا؛ لأن الرفق والسهولة خلق فيهم، فكما هو في المشي هو في غيره.
وكانت الصلة بالمضارع (2) ليفيد التجدد، فإن المشي هو في الأرض ضروري للإنسان.
وكان المعطوف على الصلة بصورة الشرط (3) ؛ لأن خطاب الجاهلين لهم ليس مما يكون دائماً.
وكان التعليق بلذا لأن مخاطبة الجاهلين لهم بالسوء أمر محقق.
ومتى سلم أهل العلم والدين من الجاهلين؟!!
__________
(1) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم، ومطلعها:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا ... وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ لِأَنْدَرِينَا (شعر عمرو بن كلثوم: [ص:40] .- طبعة الدار العالمية) .
وقوله: «فنجهل فوق جهل الجاهلينا» معناه: فنهلكه فنعاقبه بما هو أعظم من جهله. وقال الزوزني في شرح المعلقات [ص:252] .: «أي لا يسفهن أحد علينا فنسفه عليهم فوق سفههم علينا» .
(2) في: {يمشون} .
(3) في قوله: {وإذا خاطبهم} .[/rtl]
[rtl](1/194)[/rtl]
ونصب {سلاماً} على أنه مفعول مطلق والتقدير: قالوا قولاً سلاماً، أي ذا سلام، فيشمل كل قول فيه سلامة من الأذى والمكروه: كسلام عليكم، ويغفر الله لكم، وسامحكم الله، ونحو ذلك.
أو نصب على أنه مفعول به، أي قالوا هذا اللفظ سلاماً نفسه.
المعنى:
يقول تعالى: وعباد الرحمن ومماليكه القائمون بحق العبودية له، هم أهل الرفق والسهولة الذين يمشون على الأرض هينين في مشيهم، وفي معالجتهم لشؤون الحياة، ومعاملتهم للناس لحلمهم وتواضعهم، غير مستكبرين ولا متجبرين، ولا ساعين في الأرض بالفساد.
وإذا خاطبهم السفهاء بما لا ينبغي من الخطاب قابلوهم بالحلم، وقالوا لهم: سلاماً، لأنهم سلموا من الجهل؛ فسلم المخاطب لهم من أن يجهلوا عليه ولو جهلوا؛ أو قالوا لهم من الكلام ما فيه سلامة من الأذى والمكروه.
الأحكام:
في الآية استحباب الرفق في المشي، وكراهية العنف والاضطراب؛ ومن العنف الضرب بالرجل والخفق بالنعل، فإذا كانا بعجب وخيلاء فهو حرام.
وفيها الإغضاء عن الجاهل ومقابلة كلمته السيئة بالكلام الحسن وكراهة مجاراته في خطابه ومماثلته، وإذا كان في ذلك فتنة أو مفسدة محققة كان حرامًا.
تمييز:
ليس من الهون في المشي التثاقل والتماوت فيه.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجماعة رآهم كذلك: «لا تميتوا علينا ديننا أماتكم الله» .
وأن عائشة رضي الله عنها، رأت قوماً يتماوتون، فسألت عنهم؛ فقيل لها: هؤلاء قوم من القراء. فقالت: لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع.
وكان مشيه- رضي الله عنه- إلى السرعة خلقة لا تكلفاً. والخير في الوسط.
وليس هون المشي وحده يعرفك بأن صاحبه من عباد الرحمن، فرب ماش هوناً رويداً وهو ذئب أطلس (1) . ولكن بالهون في المشي، وبما ذكرنا في فصل التراكيب والمعنى من لوازمه.
__________
(1) الذئب الأطلس: هو الذنب الأمعط الذي في لونه طلسة. والطلسة: الغبرة إلى السواد. انظر (المعجم الوسيط: [ص:561] ) .[/rtl]
[rtl](1/195)[/rtl]
اشتملت الآية على بيان الأدب في معاملة الجاهلين من أفراد الناس، سواء أكانوا مسلمين أم غيرهم.
وما اشتملت عليه من الأدب قد جاء في آيات كثير: مثل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] .
فهو أدب مشروع مؤكد وحكم دائم محكم، وهو في معاملات الأفراد كما ترى.
فلا ينافي ما شرع من الحرب عند وجود أسبابها، وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات. وهي من الأمور العامة كما ترى.
فبطل قول من زعم أن هذه الآية بالنسبة لغير المسلم منسوخة بآية السيف، لأن هذه الآية ثابت حكمها في حال وآية السيف ثابت حكمها في حال أخرى، فلا تنسخ إحداهما الأخرى. وما أكثر ما قتلت أحكام بآية السيف هذه! وهي عند التحقيق غير معارضة لها؛ لمباينة حالها لحالها.
تمثيل واستدلال:
جاء في الصحيح من طرق مجموع ألفاظها:
أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ (والسام الموت) ففهمتها عائشة- رضي الله عنها- فقالت: وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:- مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؛ فَقَالَ لَهَا: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؛ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ: قد قلت: «وَعَلَيْكُمْ» فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ (لأنه دعاء بحق) وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ (1) (لأنه دعاء بباطل وظلم) .
فقد خاطبه هؤلاء الجاهلون بالسوء فقال لهم كلمة سالمة من القبح، ليس فيها لفظ الإذاية، وهو السام، بعيدة عن الإفحاش، خالصة للرفق، فهي من العقول السلام: أي ذي السلام من مقتضى الآية على الوجه الأول من وجهيها.
__________
(1) روي في الصحاح من طرق عديدة؛ فرواه البخاري في الأدب باب 35 و38، والجهاد باب 98، والاستئذان باب 22، والدعوات باب 59 و63. ومسلم في السلام حديث 10 و11 و13. والترمذي في السير باب 40، والاستئذان باب 7. وأحمد في المسند (2/ 114، 170، 221، 3/ 140، 144، 210، 214، 218، 234، 241، 262، 289، 283، 37/6، 116، 134، 135، 199، 229) .[/rtl]
[rtl](1/196)[/rtl]
سؤال وجوابه:
على الوجه الثاني في الآية وهو أنه يقول للجاهل سلاماً، يقال: هل يسلم عليه إذا كان كافراً؟.
فيقال: نعم؛ كما قال إبراهيم لأبيه {سَلَامٌ عَلَيْكَ} . وقد قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] . ولم يستثن إلاّ قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} .
نعم هو سلام موادعة ومتاركة، لا سلام تحية وكرامة.
لطيفة تاريخية:
قالوا: إن إبراهيم ابن المهدي العباسي كان منحرفاً عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فرآه في النوم قد تقدمه لعبور قنطرة، فقال له إبراهيم:
«إنما تدعي هذا الأمر يعني الخلافة بامرأة، يعني فاطمة- رضي الله عنها- ونحن أحق به منك. وحكى إبراهيم رؤياه للمأمون، وقال له: فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه!
فقال له المأمون: فما أجابك به؛ قال كان يقول لي:"سلاماً سلاماً" فنبهه المأمون على هذه الآية، وقال: يا عم، قد أجابك بأبلغ جواب! فخزي إبراهيم واستحيا. اهـ.
فرضي الله عن الإمام الهاشمي ما أبلغه حياً وميتاً!!
توجيه وسلوك:
القول السلام محمود ومطلوب في كل حال، وإنما خصت حالة خطاب الجاهل، لأنها الحالة التي تثور فيها ثائرة الغضب بما يكون من سفهه ومهاترته.
فعلى المؤمن أن يكون حاضر البال بهذه الآية عندما تسوق إليه الأقدار جاهلاً، فيخاطبه بما لا يرضيه حتى يسلم من شره، ويكسر من شرته (1) ، فيسلم له عرضه ومروءته ودينه، ويسلم ذلك الجاهل أيضا من اللجاج في الشر والتمادي فيه.
فيكون المؤمن بقوله السلام، وتأدبه بأدب القرآن قد حصل السلامة للجميع.
وأعظم به من فضل وأجر في الدنيا والدين.
وفقنا الله لذلك والمسلمين أجمعين.
__________
(1) الشِّرَّة: الحدة (المعجم الوسيط: [ص:478] ) .[/rtl]
[rtl](1/197)[/rtl]
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) } [الفرقان: 64] .
لما ذكر فيما تقدم سلوكهم مع الخلق ذكر في هذه الآية سلوكهم في القيام بعبادة الحق. وفيما تقدم بيان حالهم عند اختلاطهم بالعباد، وفي هذه بيان حالهم عند تفردهم لرب العباد.
{يبيتون} من البيتوتة، وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. ويقابلها الظلول وهو أن يدركك النهار.
(السُّجَّدُ) جمع ساجد. (والقيام) جمع قائم، وهو من الأوزان التي يشترك فيها المصدر والجمع.
{الذين} عطف على الخبر الأول، وأعيد لفظ {الذين} لاستقلال الحالة الثانية عن الأولى.
وقدم الجار ليفيد تخصيص عبادتهم بربهم ويفيد الكلام عبادتهم وإخلاصهم.
وقدم {سجداً} لأن السجود أقرب أحوال العبد للرب، لحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (1) .
ووقع {قياماً} في موقعه مناسباً للفاصلة.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يحيون الليل، فيبيتون يصلون لربهم، يراوحون بين السجود والقيام.
بيان وترغيب:
هذه الآية من آيات الحث على قيام الليل، مثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] .
وقد بينت السنة المطهرة مقداره. فثبت في الموطأ من طريق أبي سلمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلم في الصلاة حديث 215. والنسائي في المواقيت باب 35، والتطبيق باب 78. والترمذي في الدعوات باب 118. وأحمد في المسند (2/ 421) .[/rtl]
[rtl](1/198)[/rtl]
والسلام بعد كل ركعتين لحديث: «صلاة الليل مثنى مثنى» (2) .
وثبت عند مسلم (3) من طريق سعد بن هشام، عنها (4) بأنه كان يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين، فتلك ثلاث عشرة.
وقد ثبت ذلك في الموطأ من طريق عروة عنها، قالت:
«كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة» (5) .
وهذا هو الغالب من أحواله، وقد كان يصلي أقل منه في بعض الأحوال.
فقد ثبت عند البخاري من طريق مسروق عنها: «أن صلاته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالليل سبع، وتسع، وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر» (6) .
ومثل ما جاء عن عائشة من انتهاء ركعاته إلى ثلاث عشرة جاء في الموطأ (7) من حديث ابن عباس.
__________
(1) الحديث في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث رقم 3) . وأخرجه أيضاً البخاري في التراويح باب 1. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 125. والترمذي في الصلاة باب 208. والنسائي في قيام الليل باب 36. وأحمد في المسند (36/6، 73، 104) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث 7) والترمذي في الجمعة باب 65، من حديث ابن عمر أنه كان يقول: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين» . وأخرجه مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث 13) والبخاري في الوتر باب 1، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 145؛ عن عبد الله بن عمر، أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى» .
(3) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث 87 و88.
(4) أي عن عائشة رضي الله عنها.
(5) أخرجه مالك في الموطأ (كتاب صلاة الليل، حديث10) . وأخرجه أيضاً مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديثا 123.
(6) أخرجه البخاري في التهجد باب 1.
كتاب صلاة الليل، حديث رقم 11. ولفظ الحديث عن عبد الله بن عباس أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي خالته. قال: «فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله في طولها. فنام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منه فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي. قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع. ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها. فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح» .[/rtl]
[rtl](1/199)[/rtl]
وفي هذه السنة العملية الثابتة بيان للقدر الأكمل، الذي يكون به العبد ممن يصدق عليهم هذا الوصف من صفات عباد الرحمان.
الصفة الرابعة:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) } [الفرقان: 65، 66] .
لما ذكر حسن سلوكهم مع الخلق، واجتهادهم في عبادة الحق، ذكر خوفهم من ربهم، واعتمادهم عليه في نجاتهم، وعدم اعتزازهم بأعمالهم، فهم يأتون ما يأتون من محاسن الأعمال، ولا يعتمدون إلاّ على الكبير المتعال.
(الغرام) مادة (غ ر م) تدور على معنى الملازمة مع الثقل والشدة، ولذا فسر الغرام بالشر، وبالعذاب، وبالهلاك الملازم.
{ساءت} ، بمعنى قبحت، مثل بئس لإنشاء الذم.
{المستقر} محل الإقامة أي البقاء.
{ساءت} فاعلة الضمير المخصوص بالذم.
و {مستقراً ومقاماً} تمييز مفسر للضمير.
وجملة {إن عذابها} تعليل للجملة الدعائية، وفصلت عنها لكمال الانقطاع بينهما.
وجملة: {إنها ساءت} مؤكدة لمضمون الجملة قبلها مع اختلاف في المعنى: فإن ما أفادته الأولى من فداحة عذابها وملازمته، أكدته الثانية بما أفاده من مقامه ومستقرها، ففصلت عنها لما بينهما من كمال الاتصال نظير: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2] .
والتأكيد فيها بـ"إنّ"، لأنه قد لوح وأشير في الكلام السابق إلى هذا الخبر، وشأن السامع لهذا أن يستشرف له استشراف المتردد الطالب، فينزل منزلة المتردد فيؤكد له الخبر.
ووجه التلويح بهذا الخبر: أنه لما سئل صرف عذاب جهنم كان هذا مشيرًا، إلى قبح هذا العذاب وشدته. فهذا نظير {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] .
المعنى:
من صفاتهم أنهم يدعون الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم؛ لأن عذابها عذاب
__________
(1) كتاب صلاة الليل، حديث رقم 12.[/rtl]
[rtl](1/200)[/rtl]
***
رد واستدلال:
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد، أن يعبد الله تعالى لا طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره.
وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم.
ومثلها قول إبراهيم- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] ، وفي نصوص لا تحصى كثرة.
وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه، أو طمع في ثوابه. وأخطاؤا فيما زعموا:
فإن العبادة مبناها الخضوع والذل والافتقار، والشعور بالحاجة والاضطرار. وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومن أتم مظهر لها، أن يخاف، ويطمع، كما يذل، ويخضع؛ ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق الإجلال والتعظيم للربوبية.
ولهذا كان الأنبياء- عليهم وآلهم الصلاة والسلام- هم أشد الخلق تعظيماً لله، وأكثرهم خوفاً من الله، وتعوذاً من عذاب الله، وسؤالًا لما عند الله، وكفى بهم حجة وقدوة.
وإن هذه المقالة (1) تكاد تُفضي إلى طرح الرجاء والخوف، وعليهما مبنى الأعمال، لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والاحتياج.
ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ: «وإليك نسعى ونحفد (2) ، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد» وهذا ضروري في الدين.
ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليها:
الغلو وقلة الفقه في الدين، وفي الكتاب والسنة، وما كان عليه هَدْيُ السابقين الأولين.
إعتبار ونصيحة:
إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام.
وإن الدنيا هي مطية الآخرة؛ فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا، ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة.
وإن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا؛ فمن لازمها بالكفر،
__________
(1) أي مقالة القائلين بأن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه.
(2) نحفد: نسرع في العمل والخدمة (النهاية في غريب الحديث والأثر: 406/1- مادة حفد) .[/rtl]
[rtl](1/201)[/rtl]
فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه، وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة، وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة، ويلازم مجالس الطاعة والسنة.
وأن يسرع بالتوبة مفارقاً الذنوب، وألا يصر على شيء من القبائح والعيوب.
وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه، فالله يحب التوابين ويغفر للأوابين جعلنا منهم أجمعين آمين.
أيهما أكمل:
العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب؟ أم العبادة دونهما؟
زيادة بيان على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} .
تمهيد:
قد قال قوم: إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات!.
وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} فيما سبق.
وقلنا في الإنكار عليهم:
"وزعموا" أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه، أو طمع في ثوابه، ((وأخطأوا فيما زعموا)) .
وذكرنا إثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها.
***
وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة!! نشر الشيخ المولود الحافظي مقالًا رداً علينا، دون أن يذكر جميع أدلتنا، ودون أن يتعرض لنقضها في سندها أو متنها، أو عدم انطباقها، أو إفادتها لما سبقت لإفادته، ودون أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة.
وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال. فرأينا- إثر إطلاعنا على مقاله- أن نعود لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه: من أن وضع العبادة الشرعية، على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعى. ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول:[/rtl]
[rtl](1/202)[/rtl]
إن العبادة هي غاية الذل والخضوع، مع الشعور بغاية الضعف والافتقار. ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويَوْجَلَ، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع:
1- فخوف العبد من عقاب ربه، هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه، وشهوده لعزته وقهره، وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه، وأنه لا يؤمن من مكروهه.
2- وطمعه في ثوابه، هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه، وفضله، وتصديقه بوعده؛ فهو يعبده ويخاف ألا يقبل عبادته، ويخشى نقمته. ويعبده ويرجو رحمته، وينتظر مثوبته. وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها، وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، والاعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة، والغنى والرحمة والكمال.
فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب، ورجاء الثواب، لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره، أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين.
الأدلة:
والدليل على هذا ستسمعه، من الكتاب، والسنة، وأقوال السلف:
أولاً: أما الكتاب: فقوله تعالى:
1- {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15، 16، 17] .
ووجه الدليل من الآية:
أن هؤلاء المذكورين فيها، هم الكمل من عباد الله الصالحين، بدليل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه المروي في الصحيح- قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ» (1) .
ثُمَّ قَرَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ومع كمالهم لم تتجرد عبادتهم من الخوف والطمع.
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 35، وبدء الخلق باب 8، وتفسير سورة 32 باب 1. ومسلم في الإيمان حديث 312، وصفة الجنة حديث 2- 5. والترمذي في صفة الجنة باب 15، وتفسير سورة 32 باب 2، وسورة 56 باب 1. وابن ماجة في الزهد باب 39. والدارمي في الرقاق باب 98 و105. وأحمد في المسند (2/ 313، 370، 407، 416، 438، 462، 466، 495، 506) . ج[/rtl]
[rtl](1/203)[/rtl]
وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم؛ لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون؛ فذكرها مع الخوف والطمع، فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك.
ووجه ثالث:
وهو أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم؛ لنقتدي بهم فيها، فعلم أن العبادة التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفاً وطمعاً.
2- ومثل هذه الآية:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 191- 194] .
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
وتزيد عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار، وغفران وتكفير السيئات.
3- ومثلها قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] .
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
4- ومثلها قوله تعالى:
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 7- 10] .
ووجه الدليل منها مثل ما تقدم وتزيد ببيان أن خوف اليوم العبوس لا ينافي الإطعام لوجه الله.
5- ومثلها قوله تعالى:
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 19- 22] .[/rtl]
[rtl](1/204)[/rtl]
6- ومثلها قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57- 61] ، ووجه الدليل كما تقدم.
ومعنى الآية: أنهم يعطون ما أعطوا من أعمال البر والطاعات، وقلوبهم خائفة من أنهم راجعون إلى ربهم، فيخافون ألا تقبل منهم. ففيها بيان أنهم كانوا يعملون راجين قبول الأعمال، خائفين من عدم قبولها.
فهؤلاء هم الكمل من عباد الله، وهذه هي عبادتهم في صريح هذه الآيات الكريمة التي ذكرت فيها صفاتهم.
وكلها بكثرتها وصراحتها دالة دلالة قطعية لما قلناه: من أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب والخوف من العقاب؛ إذ ذلك هو أظهر مظاهر العبودية بذلها وخضوعها، وضعفها وحاجتها وفقرها، وحالتها المباينة غاية المباينة لمقام الربوبية، مقام ذي الجلال والإكرام.
ولا تجد في القرآن العظيم، آية واحدة دالة دلالة صريحة على ذكر عبادة- هكذا- دون خوف أو طمع.
7- ونزيد على الآيات المتقدمة، آية دالة على حال عبادة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] .
ووجه الدليل في الآية: أن إبراهيم عليه السلام أخبر عن نفسه بصيغة المضارع، المفيد للتجدد، أنه يطمع من الله أن يغفر له خطيئته؛ فدل ذلك على أنه كان في عبادته طامعاً. ومعلوم أنه معصوم، وأنه مؤمن من العذاب، وأن ما سماه خطيئة هو بالنسبة إلى مقامه الرفيع من باب: "حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ" (1) .
ومع ذلك كله فالمقصود من الدليل حاصل، وهو أنه خاف المؤاخذة- المؤاخذة اللائقة بمقامه- وطمع في الغفران، وكانت عبادته على الطمع والخوف.
ولا يقال: إنه كان معلماً للناس؛ لأنه إخبار عن نفسه، وخبره صدق ثابت، فلا بد أن يكون كما أخبر.
__________
(1) نص حديث ذكره القاري في الأسرار المرفوعة [ص:186] . والشوكاني في الفوائد المجموعة [ص:250] . والعجلوني في كشف الخفا (428/1) والألباني في السلسلة الضعيفة [ص:100] .[/rtl]
[rtl](1/205)[/rtl]
1- دعاء القنوت المشهور: «نَرْجُو رَحْمَتَكَ ونَخْشَى عَذَابَكَ إنَّ عَذَابَكَ الجِدُّ» .
ووجه الدليل منه: أن الصلاة أشرف أحوال العبد وأجل مقاماته، وأعظم عباداته، وقد علم أن يدعو فيها هذا الدعاء الصريح، في رجاء الرحمة وخوف العذاب، وما كان ذلك إلاّ لأن العبادة الشرعية موضوعة عليهما.
2- ومنها حديث:
«وَأَمَّا السُّجُودُ فَادْعُوا فِيهِ فَقَمِنٌ (1) أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وهو حديث صحيح (2) .
وفي الصحيح أيضاً: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (3) .
ووجه الدليل: أن أقرب أحوال العبد من ربه السجود، وهو محل للدعاء، والداعي يرجو القبول، ويخاف المنع، فالعبادة في أقرب أحوال العبد موضوعة على الرجاء والخوف.
3- ومنها الحديث الصحيح:
«إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ. اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلتَ.
فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» (4) .
ووجه الدليل منه: أنه تعليم لما يقوله المسلم فيما قد يكون آخر حال يلقي عليه ربه، ولا ينبغي أن يلقاه إلاّ على أكمل حال؛ فعلمنا هذا الدعاء الصريح في الرغبة والرهبة ليقوله المؤمن، ولو كان من أكمل الكمل.
__________
(1) قمن: بفتح الميم وكسرها، لغتان مشهورتان؛ ومعناه: حقيق وقدير.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، حديث رقم 207 عن ابن عباس بلفظ: قال: كشف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلاّ الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» .
وروى أحمد في المسند (1/ 155) نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلم في الصلاة حديث 215. والترمذي في الدعوات باب 118. والنسائي في المواقيت باب 35، والتطبيق باب 78. وأحمد في المسند (2/ 421) .
(4) من حديث البراء بن عازب. أخرجه البخاري في الوضوء باب 75، والدعوات باب 5. ومسلم في الذكر حديث 56. وأبو داود في الأدب باب 98.[/rtl]
[rtl](1/206)[/rtl]
4- ومنها الحديث الصحيح:
قالت عائشة- رضي الله عنها-: «كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَفَقَدْتُهُ فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ (1) ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ (2) أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (3) .
ووجه الدليل: أنه في الحال التي هو فيها أقرب ما يكون من ربه، وهي حالة سجوده، استعاذ برضى الله من سخطه، [[وبعافيته]] من عقوبته.
ثم لما لم يستطع الاحاطة بأفعاله، رد الأمر لذاته، فاستعاذ به منه. وهو في الجميع مستعيذ، والمستعيذ طالب، والطالب راج وطامع في نيل المطلوب. فلم يفارق عبادته الرجاء والطمع حتى في هذه الحالة التي بينه وبين ربه، لأنه كان ساجداً في جنح الليل، دون حضور أحد من الناس، إلاّ عائشة التي كانت نائمة واستيقظت، فاطلعت عليه في تلك الحال.
5- ومنها الحديث الصحيح عن ابن عباس- رضي الله عنه- الذي كان يعلمهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إياه كان يعلمهم السورة من القرآن رواه مالك وفيه: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» (4) .
ووجه الدليل منه: أنه علمهم هذه الاستعاذة الصريحة في الخوف والرجاء كسائر ما علمهم من الدعوات المبنية عليهما.
وهكذا تجد جميع دعواته المأثورة على الرغبة، والرهبة، والرجاء والخوف. ولا تجد دعاء واحداً علمهم فيه أن يتوجهوا إلى الله تعالى، دون رغبة ولا رهبة، ولا رجاء ولا خوف.
__________
(1) «أعوذ برضاك من سخطك» : قال النووي في شرح صحيح مسلم: «
قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا مَعْنَى لَطِيف؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ اِسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيرهُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطه، وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَته، وَالرِّضَاء وَالسَّخَط ضِدَّانِ مُتَقَابِلَانِ. وَكَذَلِكَ الْمُعَافَاة وَالْعُقُوبَة فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْر مَا لَا ضِدّ لَهُ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى اِسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ لَا غَيْر، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَار مِنْ التَّقْصِير فِي بُلُوغ الْوَاجِب مِنْ حَقِّ عِبَادَته وَالثَّنَاء عَلَيْهِ» .
(2) لا أحصي ثناء عليك: أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل: لا أحيط به.
(3) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 222. وأبو داود في الصلاة باب 148. والنسائي في الطهارة باب 119، والتطبيق باب 47 و 66 و71 و 72، وعشرة النساء باب 4. وابن ماجة في الإقامة باب 119. وأحمد في المسند (6/ 58، 147، 201، 238) .
(4) الحديث في الموطأ (كتاب القرآن، باب ما جاء في الدعاء، حديث رقم 33) . وأخرجه أيضاً مسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 134.[/rtl]
[rtl](1/207)[/rtl]
النتيجة:
فقد بان بما ذكرنا توارد آيات الكتاب، وأحاديث السنة في صراحة وجلاء على مشروعية العبادة، مقرونة بالرغبة والرهبة، والرجاء والخوف.
ولم نظفر بآية واحدة، أو حديث واحد، فيه التصريح بمشروعيتها مجردة منهما، فضلًا عن أنها أكمل منها معهما.
وما كنا لنترك أدلة الكتاب والسنة الصريحة لرأي أحد كائناً من كان.
6- وإننا نورد فيما يلي حديثا من صحيح البخاري، يبين لنا كيف كان الصحابة- سادة هذه الأمة- يعبدون الله تعالى، يرجون قبول أعمالهم لديه:
«قال أبو بردة بن أبي موسى الأشعري. قال لي عبد الله بن عمر:
هل تدري ما قال أبي لأبيك؛ قال قلت: لا.
قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى، هل يسرك إسلامنا مع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهجرتنا معه، وجهادنا وعملنا كله معه يرد لنا، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً: رأساً برأس؟
قال أبي- يعني أبا موسى - لا والله؛ قد جاهدنا بعد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصلينا، وصمنا، وعملنا خيرا كثيراً، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك.
فقال أبي- يعني عمر- لكني أنا، والذي نفس عمر بيده، لوددت أن ذلك يرده لنا، وأن كل شيء عملناه بعد أن نجونا منه كفافاً رأساً برأس.
فقلت- أبو بردة-: إن أباك والله خير من أبي» (1) .
ووجه الدليل: عملهم على الرجاء، وخوفهم من عدم القبول، والعقاب على المخالفة، وإن اختلفا فيما اختلفا فيه.
ولا نجد في كلام واحد منهم، أنه كان يجرد عبادته عن الطمع والخوف، وما كان المقام الأكمل لقوتهم وهم أفقه الناس في الدين، وأحرصهم على الخير. هذه هي أدلتنا فيما ذهبنا إليه، ورددنا على مخالفيه.
وهي أكثر من هذا عدًّا في كتاب الله وسنة رسوله، وفيما ذكرناه كفاية- إن شاء الله- لمن
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب 45.[/rtl]
[rtl](1/208)[/rtl]
***
والآن نعطف بالكلام على مقال الشيخ ونحصره في مواضع:
1- أنكرنا على من زعموا أن مرتبة العبادة العليا- أن يعبد الله تعالى لذاته، دون الطمع في ثوابه، ولا الخوف من عقابه، ونسبنا إليهم الخطأ.
ولما وجدنا آيات الكتاب وأحاديث السنة طافحة، بأن عبادة الله مقرونة بالخوف والطمع كما قدمنا، نسبنا خطأهم إلى قلة التفقه في الدين أي في أدلة الدين، وهي الآيات والأحاديث المذكورة.
وما عسى أن يقال فيمن لم تكفه تلك الآيات والأحاديث كلها، على صراحتها واتفاقها، إلا أنه لم يتفقه فيها؟
ولما لم نجد آية واحدة ولا حديثاً واحداً يصرح بمدعاهم.. حملناهم على الغلو.
هذا كله دون أن نصرح بشخص ولا بطائفة؛ لأن الكلام مع القول والدليل.
فأبى حضرته إلاّ أن يحمل كلامنا على طائفة مخصوصة يحب هو اليوم التظاهر بالدفاع عنها، ثم تطرق من ذلك إلى رمينا بما يناسب غرضه من الجراءة وقلة النصيحة، والتطاول على الأئمة ... إلى ما يريد أن يصفنا به؛ ليقول القارىء إن حضرته موصوف بضده، وربك أعلم بتلك الأوصاف وأهلها!!
2- كان استدلالنا بآية {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} ، على الوجه الذين بيناه فيما تقدم، دون أن نذكر الحصر، ولا أن نشير إليه، ولا من مقتضى موضوعنا أن نقصر عباد الرحمن على تلك الصفات.
لكن حضرته أخذ يقرر في قواعد الحصر الضرورية عند المبتدئين، وخرج من ذلك إلى أن الآية لا حصر فيها، وأننا تسرعنا، وما تدبرنا، ولم نحسن تطبيق قواعد العلوم على موضوع النزاع!!
وفي الحق: أن حضرته هو الذي لم يحسن تنزيل ما طول به في الحصر على كلام لم ندع فيه الحصر، ولم نستدل به، وإنما استدللنا بالآية مثل ما استدللنا بغيرها على الوجه الذي تقدم، وعلى ما معه من الوجوه.
3- ما في كلام الإمام الرازي، من أن الله مستحق للعبادة لذاته، وأنه لو أمر بالعبادة بلا ثواب ولا عقاب لوجبت.. فهو حق مسلم، وليس هو موضوع النزاع، إذ موضوع النزاع:
هل العبادة مع الخوف والرجاء أكمل؛ أم العبادة دونهما؟[/rtl]
[rtl](1/209)[/rtl]
إذا كان يعني به أنه عبد الله للثواب من حيث ذاته، والعقاب من حيث ذاته، دون امتثال للأمر، وتوجه للرب.. فهذا ليس كلامنا فيه.
وإن كان يعني أنه يعبد للثواب والعقاب من حيث أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب وخوف العقاب.. فهو يعبد الله امتثالاً لأمره فكلامه ممنوع؛ لأن العبادة هي التوجه بالطاعة لله امتثالاً لأمره، وقياماً بحقه، مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربويية، وذلك يبعث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غنى وفضل الربوبية، وذلك على الرجاء المأمور به.
فالمعبود في الحقيقة والواقع هو المتوجه إليه بالطاعة، وهو الله تعالى؛ لا الثواب الذي تعلق به الرجاء، ولا العقاب الذي تعلق به الخوف.
وكيف يكون الثواب هو المعبود، والعقاب هو المعبود، والله هو الذي شرعهما؟! فهل يشرع عبادة غيره؟!
وما هذا إلاّ من عدم التأمل في مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 58] . أي شأنه أن يحذر ومن حقه أن يحذر.
وهل هذا إلاّ من عدم التفقه في قوله تعالى- في أم القرآن والسبع المثاني التي يناجي بها المصلي ربه، وهو في أعظم عبادة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . فإن المستعين طالب للإعانة، والطالب راج قبول طلبه خائف من عدم قبوله.
وقوله تعالى فيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . طلباً كذلك، فليتفقه المتفقهون في كلام رب العالمين.
4- ونقل كلام الإمام الرازي في باب المحبة قوله:
«وأما العارفون، فقد قالوا: يحب الله تعالى لذاته، وأما حب خدمته وحب ثوابه فدرجة نازلة» .
ونحن نقول: إن الذات الأقدس الموصوف بالكمالات، المفيض للإنعامات.. تتعلق به قلوب المحبين، موصوفاً بكمالاته وإنعاماته التي منها ثوابه وجزاؤه، وتلك المحبة تبعث على خدمته بطاعته، والتقرب إليه بأنواع العبادات.
وأما عبادة الذات مجرداً عن الإنعام
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]وأما عبادة الذات مجرداً عن الإنعامات- فهو نوع من التعطيل في الاعتقاد، والتقصير في الشهود.[/rtl]
[rtl]وإذا كانت المحبة عملًا من أعمال العبد القلبية التي يتقرب بها إلى الله.. فهي عبادة.
وقد بينا بالأدلة المتقدمة أن العبادة في الإسلام، موضوعة على مصاحبة الرجاء والخوف، والمحب للرب ذي الجلال والإكرام، والبطش والإنعام- لا يغيب عن إجلاله بالخوف والتذلل له بالطمع، كحاله في سائر العبادات.
5- ونقل من كلام النيسابوري قوله: «المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة، وعلى المنعم لا على النعمة» .
ونرد عليه:
(أ) فإن كان مراده: أن نظرهم على المعبود أي اعتمادهم في القبول على المعبود لا على العبادة- فهذا حق، وليس كلامنا فيه.
(ب) وإن كان مراده: أن نظرهم على المعبود أي توجههم إلى المعبود دون العبادة- فهذا أيضاً حق؛ لأن العبادة متوجه بها إليها، وليس كلامنا في هذا.
(ج) وإن كان مراده: دون تقرب بالعبادة، فهذا باطل، لأن الله تعالى قال: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي ما يقربكم إليه من طاعته.
(د) وإن كان مراده: دون شعور بالعبادة، فهذا أيضاً باطل؛ لأن العابد ينوي العبادة ويقصد بها القربة، ويتوجه بها مخلصاً فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فكيف يكون لا شعور له بها؟
وأما قوله: «وعلى المنعم لا على النعمة» .
(أ) فإن أراد: أن المتقرب إليه هو الله المنعم دون النعمة- فهذا حق، وليس كلامنا فيه.
(ب) وإن أراد: أن رجاء نعمة الثواب حين التوجه لله والتقرب إليه بالطاعة ينافي التقرب إلى المنعم، ويعد تقرباً للنعمة- فهذا هو الذي أبطلناه بالأدلة السابقة، ونقضناه في الموضع الثالث.
(ج) وإن أراد: أن ذكر العبد لنعم الله عليه مخل بكمال عبادته- فهذا باطل أيضاً؛ لأن عبادة الله شكرا على ما آتى من النعم، وطلبا للمزيد من أرفع المقامات. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 120] . {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل: 19] ، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] ، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبرا هيم: 7] .
6- استدل النيسابوري:
«بأنه قيل لبني إسرائيل: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} . ولأمة محمد {اذْكُرُونِي} » .
وهذا منقوض بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}[/rtl]
[rtl][آل عمران: 103] . وقوله: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود} [الأحزاب: 9] .
7- نقل من كلام النيسابوري ما يفيد:
«أن عبادة الله لكونه إلهاً، وكون المخلوق عبداً، لا يكون معها رغبة في الثواب، ولا رهبة من العقاب، وأنها هي أعلى الرتب» .
ونحن نقول: من مقتضى شعورك بعبوديتك.. شعورك بضعفك وفقرك، وأن من مقتضى علمك بالله، شهودك لقوته وفضله. وذاك الشعور، وهذا الشهود، يبعثان فيك الرجاء والخوف؛ فتكون وأنت تعبده لأنه إله، ولأنك عبد راج خائف.
ودعوى تجرد العبادة عنهما، قد أبطلناها بالأدلة السابقة.
8- نقل قول الإمام ابن العربي:
«أمر الله عباده بعبادته، وهي أداء الطاعة بصفة القربة، وذلك بإخلاص النية؛ بتجريد العمل عن كل شيء إلاّ لوجهه، وذلك هو الإخلاص الذي تقدم بيانه» .
ثم زعم هو من عنده:
«أن من مقتضى تجريد العمل عن كل شيء: تجريده من رجاء الثواب، وخوف العقاب. وأن الإخلاص هو ما كان لوجه الله لكونه إلها لا غير» .
وهذا صريح منه في أن رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص، وهو باطل لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] . فخافوا وعملهم لوجه الله بنص القرآن.
وروى الأئمة في الصحيح أن أبا طلحة قال: يا رسول الله، إني أسمع الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} -[آل عمران: 92] . وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها (1) عند الله، فضعها حيث أراك الله.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «بخ (2) ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ (3) » (4) !!
__________
(1) أرجو برها وذخرها: يعني لا أريد ثمرتها الدنيوية الفانية بل أطلب مثوبتها الآجلة الأخروية الباقية.
(2) قال أهل اللغة: بخ، بإسكان الخاء وتنوينها مكسورة. قال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه.
(3) قوله «مال رابح» رويت بوجهين: «رابح» بالباء، و «رايح» بالياء. فرابح بالباء معناها واضح. ورايح بالياء فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخرة.
(4) أخرجه البخاري في التركاة باب 44، والوكالة باب 15، والوصايا باب 17 و 26، وتفسير سورة 3 باب 5، والأشربة باب 13. ومسلم في الزكاة باب 42. والدارمي في الزكاة باب 23. وأحمد في المسند (3/ 141، 256، 285) . ورواه مالك في الموطأ (كتاب الصدقة حديث 2) .[/rtl]
[rtl]فأقره على قوله: أرجو برها وذخرها. ولم يقل له: إن هذا مناف للإخلاص، كما يقول الشيخ وهو (يسمبط ويشنبط) (1) في كلام الإمام ابن العربي.
ثم ما لك- يا أخي- ولابن العربي؟!
حسبك ابن سينا وأمثاله، الذين يحاولون تطبيق العبادة الإسلامية على الفلسفة اليونانية، والآراء الأفلاطونية.
أما ابن العربي فهو حكيم إسلامي، وفقيه قرآني، وعالم سني- حقيقي- لا يبني أنظاره إلاّ على أصول الإسلام، ودلائل الكتاب والسنة. وهناك كلامه في إرادة المأذون فيه مع العبادة من أمور الدنيا، به الرجاء والخوف.
واسمع كلامه الصريح من الدليل الصحيح، في الرد على مثل زعمك: قال على قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] .: "المسألة الثانية، قال علماؤنا: في هذا دليل على جواز التجارة في الحج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافاً للفراء في أن الحج دون تجارة أفضل أجرا".
وقال على قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} [الأحزاب: 29] .: "وهذا يدل على أن العبد يعمل محبة في الله ورسوله لذاتيهما وفي الدار الآخرة لما فيها من منفعة الثواب".
9- ونقل كلاماً للإمام الغزالي في المحبة، وقدمنا في الموضع الثامن الكلام على مثله، وبينا أن المحبة عبادة، وأنها موضوعة كسائر العبادات الشرعية على الرجاء والخوف بالأدلة المتقدمة.
10- وقال: وكان من دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الْأَشْياءِ إلَيَّ، وَاجْعَلْ خَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ» وقد تقرر: أن خوفه خوف إجلال وتعظيم، لا خوف النار والعقاب اهـ.
ونقول: إن خوف الإجلال لا يخرج به العبد عن ضعف وذل العبودية، ومشاهدة قوة وفضل الربوبية، فلا يتجرد خوفه الإجلالي عن خوف المؤاخذة: المؤاخذة التي ليست ناراً ولا عذاباً، ولكنها مؤاخذة مناسبة لذلك المقام العالي.
بدليل أن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وهو مثل نبينا عليه الصلاة السلام في العصمة، وعدم التعذيب بالنار والعقاب، وقد خاف المؤاخذة- فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي
__________
(1) يسمبط ويشنبط: عبارة عامة تجري على الألسنة في المغرب كله، ومعناها القول الذي لا ضابط له ولا أصل، وإنما يلقيه صاحبه جزافاً وخبط عشواء وينقل بلا وعي ولا دراية (حاشية المطبوع-[ص:348] ) .[/rtl]
[rtl]يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] ، ولا خطيئة له، ولجميع الأنبياء والمرسلين، لا من الكبائر ولا من الصغائر على كل حال.
وبدليل أنه هو عليه الصلاة والسلام قال:
«وَاللهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، رواه البخاري (1) . وليس هذا لذنب لا صغير ولا كبير، وإنما لعلمه بالله، وعظيم حقه وشدة تعظيمه لربه؛ فيخاف المؤاخذة، فيطلب المغفرة.
فَبَانَ بهذا أن خوف الإجلال لا يتجرد عن خوف المؤاخذة.
وبعد هذا البيان، نقول لحضرته: لا تستدل بالحديث دون بيان رتبته، ولا ذكر لمخرجه، وما هكذا يكون استدلال الأمناء من العلماء، وإنه يرمي الأحاديث هكذا مهملة، اختلط الحق بالباطل، وتجرأ على السنة النبوية الغبي والجاهل، حتى بلغ الأمر إلى نسبة الأحاديث إلى كتب الإسلام المتفق عليها ولا وجود لها فيها!
أما نحن:
فلا نعرف هذا الدعاء في الصحاح المتداولة عندنا، فليتك تبين من أين جئت به؛ حتى نعرف مقدار ما تعتمد في احتجاجك عليه.
11- وقال: للأنبياء عليهم الصلاة والسلام حالتان:
(أ) حالة مع الله تعالى لا يرون فيها غير جلاله وعظمته.
(ب) وحالة مع الخلق.. يستغفرون ويستعيذون من النار وسوء المنقلب، وفتنة القبر والدجال، ويطلبون الرحمة والثواب والجنان اهـ.
قد بينا أن رؤية جلال الله مما يبعث على الخوف من المؤاخذة، كما مضى عن ابراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلا يتجردون عن الخوف: خوف الإجلال وخوف المؤاخذة في حالتهم مع الله. وقد دل حديث عائشة الذي قدمناه.. أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، كان في سجوده في جوف الليل، والناس نيام فيما بينه وبين ربه- استعاذ برضا الله من سخطه، وبمعافاته من عقابه. فكانوا يستعيذون ويرجون ويخافون في حالتهم مع الله.
وأما حالتهم مع الناس فإنهم كانوا يعلمون، وكانوا يخبرون عن أنفسهم بخوفهم وطمعهم.
كما أخبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطمعه، وأخبر محمد عليه الصلاة والسلام أصحابه بأنه أتقاهم لله، وأخوفهم له، وأخبر عن استغفاره لربه، وإخبارهم حق صدق لا شك فيه.
ولا يجوز أن يقال:
__________
(1) في كتاب الدعوات، باب 3، حديث رقم 6307؛ من حديث أبي هريرة.[/rtl]
[rtl]إنهم قالوه لمجرد التعليم، وهو في الواقع لا حقيقة له؛ إذ الإخبار عن النفس بشيء أنه كان وهو لم يكن.. هو الكذب الذي عصمهم الله منه، ونزههم عنه، ولو تفطن حضرته لهذا لما قال ما قال!!
12- وذكر حديث الإحسان:
«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (1) .
وهذا الحديث يقتضي دوام المراقبة لله عند كل حركة وسكون، حتى لا تكون من العبد مخالفة فيهما، وحتى يأتي بعبادته على غاية الإتقان في صورتها وأتم الإخلاص بها.
وقد علمت أن مقتضى العبادة الشرعية الشعور بضعف وذل وفقر العبودية أمام عز وقوة وفضل الربوبية؛ فينبعث الرجاء والخوف في العابد، وهما مما يحملانه على تمام الإحسان في العبادة: بإتقانها والإخلاص فيها.
ثم من مقتضى مراقبة الله تعالى، مشاهدته: أي مشاهدة جلاله وجماله؛ جلاله بصفات القهر والبطش والملك والسلطان، وجماله بصفات الفضل والرحمة والإحسان؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجلال يخاف العبد ويخشى؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجمال يرجو ويطمع. فصدق الشهود لا بد معه من الرجاء والخوف.
وإذا غاب العبد عن الشعور بالموجودات، فإنه لا يغيب عن مشاهدة جلال وجمال الذات، الباعثين للخوف والرجاء. وإذا لم يشهدهما وزعم أنه يشهد الذات مجرداً.. فإنه لم يكن في الحقيقة مشاهداً، بل كان غافلًا معطلاً جامداً.
وأما غيبوبة العابد عن نفسه- إن كانت- فإنها حالة عارضة غير ثابتة، وليست مشروعة لا بنص من آية ولا من حديث، فضلاً عن أن تكون فاضلة كاملة.
فالحديث دل على المراقبة والمشاهدة الشرعيتين، اللتين يكون العبد عابدا ًالعبادة الشرعية، الموضوعة على الرجاء والخوف حسب الأدلة المتقدمة.
13- ونقل كلام ابن سينا في كتاب الإشارات وكلام شراحه، وهو مثل ما تقدم لنا إبطاله بأدلة الكتاب والسنة، والشرح بهما لمعنى العبادة المشروعة.
وإذا كنا نبحث عن العبادة التي شرعها الله لعباده على لسان رسوله.. فإننا لا نعرفها إلاّ من الكتاب والسنة، وقد قدمنا من أدلتها ما جلى المسألة للعيان، وأغنى فيها عن كل كلام.
__________
(1) رواه من حديث أبي هريرة البخاري في الإيمان باب 37، وتفسير سورة 31 باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 5 و6. ورواه مسلم في الإيمان حديث 1 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.[/rtl]
[rtl]الخلاصة:
1- إن العبادة المشروعة هي القصد إلى الطاعة، مع الشعور بضعف العبد وذله، وحاجته وفقره، ومشاهدته لجلال ربه وقدرته وعزته، وجماله وفضله ورحمته؛ فيكون بتلك المشاهدة خائفاً من عقابه أو مؤاخذته راجياً لثوابه وانعامه.
2- وإن هذه العبادة هي عبادة الكُمَّلِ من عباد الله الذين وصفهم بأفضل صفاتهم في كتابه، وهي عبادة أنبيائه ورسله، الذين ذكر عبادتهم القرآن، وهي عبادة محمد- صلى الله عليه وآله رسلم- التي دلت عليها صحاح الأثار، وعبادة أصحابه الثابتة النقول.
3- وخلصنا من هذا إلى أن العبادة المجردة من الخوف والرجاء- منافية لصدق مشاهدة الجلال والجمال، مخالفة لعبادة الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين. وأنه لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة، مثل واحد من الأدلة المتقدمة المتكاثرة.
وأنها ما دامت كذلك ليس لنا أن نعدها مشروعة، فضلاً عن أن نعدها كاملة، فضلاً عن أن ندعي أنها أكمل؛ لأن مشروعية الشيء لا تثبت إلاّ بدليل صحيح صريح.
وأتى لنا ذلك في العبادة المجردة عن الرجاء والخوف؟!
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. والحمد لله رب العالمين.
غرة رمضان 1351 هـ.
***
الصفة الخامسة:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } [الفرقان: 67] .
مضى وصفهم بأنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وترب النفس على استصغار الدنيا وما فيها، وعلى تعظيم الرب والوقوف عند حدوده. فلا يعظمن شيء من الدنيا عند أهل الصلاة فيمسكوا عن بذله في الحق، ولا يستهويهم شيء منها فينتهكوا لأجله حدود الله وحرماته.
ولما كان المال هو أعز شيء في هذه الدنيا، وهو أعظم سبب لنيل مبتغياتها، وصفوا بأنهم في تصرفاتهم فيه على أكمل حال، وهي حالة العدل، التي أثمرتها لهم الصلاة، فلا يمسكونه عن حق، ولا يبذلونه في باطل.
{أنفقوا} بذلوا المال في وجه من الوجه.
(الإسراف) مجاوزة الحد المشروع، (الإقتار) التقتير، التضييق.
(القوام) العدل بين الشيئين، أي المعتدل ما بينهما. وسمي العدل بين الشيئين قواماً، لاستقامة طرفيه واعتدالهما، فلا إلى هذا ولا إلى ذاك.[/rtl]
[rtl]{وكان} أي هو، أي إنفاقهم المفهوم من أنفقوا، {بين ذلك} خبر كان، و {قوامًا} حال مؤكدة. فلو قيل: وكان بين ذلك لكان كافياً، ولكن أكد بـ {قوامًا} ، لما فيه من صريح اللفظ المفهم للعدل، والإنفاق يكون ولا يكون والشأن أن يكون؛ ولهذا علق، وكان التعليق بـ "إذا". وقدم نفي السرف على نفي التقتير؛ لأن الإسراف شرهما، ففيه مجاوزة الحدود، وضياع المال، وفي التقتير مفسدته مع بقاء المال فينفقه في الخير، وقد يبقى لغيره فينتفع به.
المعنى:
إذا أنفقوا أموالهم لم يتجاوزوا الحد المشروع، ولم يضيقوا فيقصروا في القدر المطلوب. وكان إنفاقهم بين التجاوز والتضييق، عدلاً مستو لا إفراط فيه ولا تفريط.
وصفهم بالقصد الذي هو وسط بين الغلو والتقصير، وهو الحالة بين الحالتين، والحسنة بين السيئتين.
تحديد:
الإسراف مذموم فهو ما كان في منهي عنه نهي تحريم، أو كراهة، أو في مباح قد يؤدي إليهما.
فالأول: كمن أولم وليمة أنفق فيها جميع ماله، وأصبح بعدها هو وأهله للضيعة والحاجة.
والثاني: كمن أولم وليمة دعته إلى الاستدانة، وإن كان يظن القدرة على الأداء، لأن الدين محذر ومستعاذ منه.
والثالث: كالاستمرار على إيلام الولائم مع القدرة عليها في الحال، مما قد يؤدي إلى الأمرين المذكورين في المآل.
والتقتير مذموم أيضاً:
فهو ما كان إمساكاً عن مأمور به أمر وجوب.
أو استحباب.
أو عن مباح يؤدي إليهما.
فالأول: كمن يمسك عن أهله شحاً حتى يذيقهم ألم الجوع والبرد.
والثاني: كمن لا يذيقهم بعض الطيبات التي يخص بها نفسه من السوق.
والثالث: كمن يمسك عن تطييب خاطر زوجته ببعض الكماليات مع قدرته عليها، مما قد يفسد قلب زوجته عليه، أو يحملها على ما لا يرضيه.
والقوام العدل هو الممدوح:
فهو أن ينفق في الواجب والمندوب، وما يؤدي إليهما، ويمسك عن المحرم والمكروه وما يؤدي إليهما، ويتسع في الحلال دون مداومة في الأوقات، واستيفاء لجميع اللذات واستهتار بالمشتهيات.[/rtl]
[rtl]تطبيق:
حالة وطننا في الأعم الأغلب في الولائم والمآتم لا تخلو من السرف فيها، الذي يؤدي إلى التقتير من بعدها فيكون الإثم قد أصاب صاحبها بنوعيه، وأحاط به من ناحيتيه، والشر يجر إلى الشر، والإثم يهدي إلى مثله، وعلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين علق كثير ممن سمعناهم يشكون هذه الحالة- آمالهم في معالجتها، خصوصاً في المآتم. حقق الله الأمال.
وثم نوع آخر موجود في غالب القطر، وبكثر في بعض الجبال.
وهو أن بعض المأمورين من شيوخ الطوائف، يأتون بثلة من أتباعهم، فينزلون على المنتمين إليهم من ضعفاء الناس، فيذبح لهم العناق إن كانت، ويستدين لشرائها إن لم تكن، ويفرغ المزاود، ويكنس لهم ما في البيت، ويصبح معدماً فقيراً مديناً، ويصبح من يومه صبيته يتضاغون، ويمسي أهل ذلك البيت المسكين يطحنهم البؤس، ويميتهم الشقاء ميتات متعددة في اليوم.
وشر ما في هذا الشر أنه يرتكب باسم الدين، ويحسبه الجهال أنه قربة لرب العالمين: فأما إذا جاء وقت شد الرحال إلى الأحياء والأموات، وتقديم النذور والزيارات، فحدث هنالك عن أنواع السرف والكلفات، والتضييع للحقوق والواجبات.
نصيحة:
فيا ليت الذين تأتيهم تلك الوفود ويسألونهم فرداً فرداً عن حالهم، ومن أين بما جاؤوهم به من أموالهم؛ فعساهم أن يطلعوا على بؤس أولئك المساكين فترق لهم قلوبهم، ويرجعوا إليهم مالهم أو يزيدوهم من عندهم، وليقتصروا على من يجدونهم أهل قدرة على ما دفعوه لهم من أموالهم. فهذه نصيحة إذا عملوا بها خففت من الشر والبؤس عن الزائرين، ومن الإثم واللوم عن المزورين.
فهل بها من عاملين؟ وفقنا الله والمسلمين.
الصفة السادسة والسابعة والثامنة:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] .
ثبت في الصحيحن- واللفظ لمسلم (1) - أن عبد الله بن مسعود قال:
__________
(1) في كتاب الإيمان حديث رقم 142.[/rtl]
[rtl]«قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر [عند الله] . (1) ؟
قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك.
قال: ثم أي؟
قال: أن تقتل ولدك مخافة من أن يطعم معك.
قال: قلت: ثم أي؟
قال: أن تزاني حليلة جارك.
فأنزل الله [عز وجل] . (1) تصديقها: {الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... } » (2) .
المطابقة بين الآية وسبب نزولها:
تواردت الآية والحديث في الإثم الأول على شيء واحد، وتواردا أيضاً في الثاني والثالث. إلاّ أن في الحديث ذكر فرد من العام هو شر أفراده وأكبرها إثماً، وفي الآية ذكر العام.
ولا شك أن شر قتل النفس هو قتل الولد، لما في ذلك زيادة على قتل النفس من الخروج عن حنان الفطرة، وارتكاب ضد ما توجبه الرعاية والكفالة، وسوء الظن بالله المتكفل برزق الخليقة. كما أن الزنا بحليلة الجار، هو شر أفراد الزنا لما فيه زيادة على الزنا من انتهاك حرمة الجار، وخيانة الأمانة، فإنهم ما تجاوروا حتى أمن بعضهم بعضاً، وإدخال الفساد على أساس التكوين الاجتماعي في الناس وهو التجاور والتقارب.
لما أثبت لهم أصول الطاعات في الآيات المتقدمة، نفى عنهم أمهات المعاصي في هذه الآية؛ تنبيهاً على أن الإيمان الكامل هو ما تثبت معه الطاعات وتنتفي المعاصي، وذلك هو غاية الامتثال للأوامر والنواهي.
وفيه تعريض بما كان عليه المشركون من الاتصاف بهذه المعاصي من دعائهم آلهتهم مع الله، وقتلهم النفس وارتكابهم فاحشة الزنا.
وقدم إثبات الطاعات على انتفاء المعاصي؛ تنبيهاً على أن من راض نفسه على الطاعة ودانت نفسه بالإخبات والانقياد للأوامر الشرعية، ضعفت منه أو زالت دواعي الشر والفساد، فانكف عن المعصية.
نكتة استطرادية:
فمن هنا نعلم أن على المسلم الذي يعمل لتزكية نفسه، أن يواظب على الطاعات بأنواعها،
__________
(1) ما بين حاصرتين زيادة من صحيح مسلم.
(2) وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان حديث رقم 141. والبخاري في تفسير سورة 2 باب 3، وسورة 25 باب 2، والأدب باب 20، والديات باب 1، والحدود باب 20، والتوحيد باب40. وأبو داود في الطلاق باب 50. والترمذي في تفسير سورة 25 باب 1 و2. والنسائي في التحريم باب 4. وأحمد في المسند (1/ 380، 431، 434، 462) .[/rtl]
[rtl]وأن يجتهد في حصول الأنس بها، والخشوع فيها؛ فإن ذلك زيادة على ما يثبت فيه من أصول الخير، يقلع منه أصول الشر ويميت منه بواعثه.
قامت الشريعة على المحافظة على حقوق الله، وحقوق عباده، وحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ فمن دعا مع الله غيره، وأشرك به سواه، فقد أبطل حق الله وأعدم عبادته. ومن قتل النفس فقد تعدى على أول حق جعله الله لعباده بفضله، وهو حق الوجود، وعمل على إبطال وجودهم وفناء نوعهم وزوال عبادتهم، فلهذا قرن قتل النفس بدعاء غير الله معه.
ولما كان الزنا فيه بطلان النسب وفساد الخلق والجسد، وذلك مؤد إلى الاضمحلال والزوال، والشرور والأهوال، قرن بقتل النفس فذلك قتل حقيقي، وهذا قتل معنوي.
(الدعاء) هو النداء لطلب أمر أو تنبيه عليه.
(الإله) هو المعبود.
(حرم الله النفس) جعل لها حرمة ومنعة، فلا يجوز التعدي عليها. ومادة (ح ر م) تفيد المنع في جميع تصاريفها.
(الحق) هو الثابت من مقتضيات القتل في الشرع.
وصف النفس بالإسم الموصول المعروف الصلة؛ لأن تحريم الله لها أمر مركوز في النفوس، معروف للبشر بما جاءهم من جميع الشرائع. وكان النفي للفعل بصيغة المضارع للإشارة إلى استمرار ذلك النفي.
المعنى:
والذين لا يدعون ولا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون به سواه في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة، ويفردونه بالطاعة، ويوحدونه في ربوبيته وألوهيته.
ولا يقتلون النفس التي جعل الله لها حرمة، وحرم قتلها بالسبب إلاّ الحق الثابت في دين الله المعارض لحرمتها، المقتضي لقتلها بالزنا بعد الإحصان، أو الكفر بعد الإيمان، أو القتل للنفس العمد العدوان.
ولا يزنون فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج.
***
مزيد بيان لتوحيد الرحمن:
ما يزال الذكر الحكيم يسمي العبادة دعاء ويعبر به عنها؛ ذلك لأنه عبادة، فعبر عن النوع ببعض أفراده، وإنما اختير هذا الفرد ليعبر به عن النوع؛ لأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها؛ فإن العابد يظهر ذله أمام عز المعبود، وفقره أمام غناه، وعجزه أمام قدرته، وتمام تعظيمه له وخضوعه بين يديه. ويعرب عن ذلك بلسانه بدعائه وندائه وطلبه منه حوائجه.
فالدعاء هو المظهر الدال على ذلك كله. ولهذا كان مخ عبادته.[/rtl]
[rtl]وقد جاء التنبيه على هذا في السنة المطهرة: فعن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . رواه أحمد والترمذي وأبو داود رحمهم الله والنسائي وابن ماجة (1) .
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» رواه الترمذي (2) رحمه الله.
فتطابق الأثر والنظر على أن الدعاء عبادة فمن دعا غير الله فقد عبده وإن كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة؛ فالحقيقة لا ترتفع بعدم تسميته لها باسمها وتسميته لها بغير اسمها، والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها من الحديثين المتقدمين لا بتسميته.
لما ثبت أن الدعاء عبادة فالداعي عابد، والمدعو معبود، والمعبود إلاه؛ فمن دعا شيئاً فقد اتخذه إلهه؛ لأنه فعل له ما لا يفعل إلاّ للإله؛ فهو وإن لم يسمّه إلهاً بقوله فقد سماه بفعله؛ ألا ترى إلى أهل الكتاب لما اتبعوا أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم- وهما لا يكونان إلاّ من الرب الحق العالم بالمصالح- قال الله تعالى فيهم:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 131] . وإن كانوا لا يسمونهم فحكم عليهم بفعلهم، ولم يعتبر منهم عدم التسمية لهم أرباباً بألسنتهم.
فكذلك يقال فيمن دعا شيئاً أنه اتخذه إلها نظراً لفعله وهو دعاؤه ولا عبرة بعدم تسميته له إلهاً بلسانه.
وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره، أنه قال للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما سمعه يقرأ هذه الآية (3) : "إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ ".
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئاً حرموه، وإذا أحلوا لهم شيئاً أحلوه؟» قال: "قلت نعم" قال: «فتلك عبادتهم إياهم» (4) .
قال الإمام الجصّاص: ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلاّ من جهة العالم بالمصالح، ثم
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (267/4، 271، 276) وأبو داود في الوتر باب 23. والترمذي في تفسير سورة 2 باب 16، وسورة 40 باب 1، والدعوات باب 1. وابن ماجة في الدعاء باب 1. ولم أجده في المجتبى للنسائي، ولعلّه في السنن الكبرى له.
(2) في كتاب الدعاء، باب 1 حديث رقم 3371. وقوله "مخ العبادة" أي خالص العبادة ولبها.
(3) أي الآية السالفة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
(4) رواه الترمذي في تفسير سورة التوبة، باب 10، حديث رقم 3095.[/rtl]
قلد هؤلاء أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم، وقبلوه منهم، وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلل، صاروا متخذين لهم أرباباً إذ نزلوهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب اهـ.
وعلى وزانه تقول: لما كان الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلاّ للإله، كان الداعي لشيء من المخلوقات متخذاً إياه إلهاً، لما نزله بدعائه إياه منزلة الإله، سواء دعاه وحده دون الله، أو دعاه مع الله. والعياذ بالله.
تحذير وإرشاد:
ما أكثر ما تسمع في دعاء الناس "يا ربي والشيخ"، "يا ربي وناس ربي"، "يا ربي والناس الملاح". وهذا من دعاء غير الله، فإياك أيها المسلم وإياه، وادع الله ربك وخالقك وحده وحده وحده، وأنف الشرك راغم.
***
[rtl](1/210)[/rtl]
وقد بينا بالأدلة المتقدمة أن العبادة في الإسلام، موضوعة على مصاحبة الرجاء والخوف، والمحب للرب ذي الجلال والإكرام، والبطش والإنعام- لا يغيب عن إجلاله بالخوف والتذلل له بالطمع، كحاله في سائر العبادات.
5- ونقل من كلام النيسابوري قوله: «المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة، وعلى المنعم لا على النعمة» .
ونرد عليه:
(أ) فإن كان مراده: أن نظرهم على المعبود أي اعتمادهم في القبول على المعبود لا على العبادة- فهذا حق، وليس كلامنا فيه.
(ب) وإن كان مراده: أن نظرهم على المعبود أي توجههم إلى المعبود دون العبادة- فهذا أيضاً حق؛ لأن العبادة متوجه بها إليها، وليس كلامنا في هذا.
(ج) وإن كان مراده: دون تقرب بالعبادة، فهذا باطل، لأن الله تعالى قال: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي ما يقربكم إليه من طاعته.
(د) وإن كان مراده: دون شعور بالعبادة، فهذا أيضاً باطل؛ لأن العابد ينوي العبادة ويقصد بها القربة، ويتوجه بها مخلصاً فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فكيف يكون لا شعور له بها؟
وأما قوله: «وعلى المنعم لا على النعمة» .
(أ) فإن أراد: أن المتقرب إليه هو الله المنعم دون النعمة- فهذا حق، وليس كلامنا فيه.
(ب) وإن أراد: أن رجاء نعمة الثواب حين التوجه لله والتقرب إليه بالطاعة ينافي التقرب إلى المنعم، ويعد تقرباً للنعمة- فهذا هو الذي أبطلناه بالأدلة السابقة، ونقضناه في الموضع الثالث.
(ج) وإن أراد: أن ذكر العبد لنعم الله عليه مخل بكمال عبادته- فهذا باطل أيضاً؛ لأن عبادة الله شكرا على ما آتى من النعم، وطلبا للمزيد من أرفع المقامات. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 120] . {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل: 19] ، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] ، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبرا هيم: 7] .
6- استدل النيسابوري:
«بأنه قيل لبني إسرائيل: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} . ولأمة محمد {اذْكُرُونِي} » .
وهذا منقوض بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}[/rtl]
[rtl](1/211)[/rtl]
7- نقل من كلام النيسابوري ما يفيد:
«أن عبادة الله لكونه إلهاً، وكون المخلوق عبداً، لا يكون معها رغبة في الثواب، ولا رهبة من العقاب، وأنها هي أعلى الرتب» .
ونحن نقول: من مقتضى شعورك بعبوديتك.. شعورك بضعفك وفقرك، وأن من مقتضى علمك بالله، شهودك لقوته وفضله. وذاك الشعور، وهذا الشهود، يبعثان فيك الرجاء والخوف؛ فتكون وأنت تعبده لأنه إله، ولأنك عبد راج خائف.
ودعوى تجرد العبادة عنهما، قد أبطلناها بالأدلة السابقة.
8- نقل قول الإمام ابن العربي:
«أمر الله عباده بعبادته، وهي أداء الطاعة بصفة القربة، وذلك بإخلاص النية؛ بتجريد العمل عن كل شيء إلاّ لوجهه، وذلك هو الإخلاص الذي تقدم بيانه» .
ثم زعم هو من عنده:
«أن من مقتضى تجريد العمل عن كل شيء: تجريده من رجاء الثواب، وخوف العقاب. وأن الإخلاص هو ما كان لوجه الله لكونه إلها لا غير» .
وهذا صريح منه في أن رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص، وهو باطل لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] . فخافوا وعملهم لوجه الله بنص القرآن.
وروى الأئمة في الصحيح أن أبا طلحة قال: يا رسول الله، إني أسمع الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} -[آل عمران: 92] . وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها (1) عند الله، فضعها حيث أراك الله.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «بخ (2) ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ (3) » (4) !!
__________
(1) أرجو برها وذخرها: يعني لا أريد ثمرتها الدنيوية الفانية بل أطلب مثوبتها الآجلة الأخروية الباقية.
(2) قال أهل اللغة: بخ، بإسكان الخاء وتنوينها مكسورة. قال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه.
(3) قوله «مال رابح» رويت بوجهين: «رابح» بالباء، و «رايح» بالياء. فرابح بالباء معناها واضح. ورايح بالياء فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخرة.
(4) أخرجه البخاري في التركاة باب 44، والوكالة باب 15، والوصايا باب 17 و 26، وتفسير سورة 3 باب 5، والأشربة باب 13. ومسلم في الزكاة باب 42. والدارمي في الزكاة باب 23. وأحمد في المسند (3/ 141، 256، 285) . ورواه مالك في الموطأ (كتاب الصدقة حديث 2) .[/rtl]
[rtl](1/212)[/rtl]
ثم ما لك- يا أخي- ولابن العربي؟!
حسبك ابن سينا وأمثاله، الذين يحاولون تطبيق العبادة الإسلامية على الفلسفة اليونانية، والآراء الأفلاطونية.
أما ابن العربي فهو حكيم إسلامي، وفقيه قرآني، وعالم سني- حقيقي- لا يبني أنظاره إلاّ على أصول الإسلام، ودلائل الكتاب والسنة. وهناك كلامه في إرادة المأذون فيه مع العبادة من أمور الدنيا، به الرجاء والخوف.
واسمع كلامه الصريح من الدليل الصحيح، في الرد على مثل زعمك: قال على قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] .: "المسألة الثانية، قال علماؤنا: في هذا دليل على جواز التجارة في الحج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافاً للفراء في أن الحج دون تجارة أفضل أجرا".
وقال على قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} [الأحزاب: 29] .: "وهذا يدل على أن العبد يعمل محبة في الله ورسوله لذاتيهما وفي الدار الآخرة لما فيها من منفعة الثواب".
9- ونقل كلاماً للإمام الغزالي في المحبة، وقدمنا في الموضع الثامن الكلام على مثله، وبينا أن المحبة عبادة، وأنها موضوعة كسائر العبادات الشرعية على الرجاء والخوف بالأدلة المتقدمة.
10- وقال: وكان من دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الْأَشْياءِ إلَيَّ، وَاجْعَلْ خَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ» وقد تقرر: أن خوفه خوف إجلال وتعظيم، لا خوف النار والعقاب اهـ.
ونقول: إن خوف الإجلال لا يخرج به العبد عن ضعف وذل العبودية، ومشاهدة قوة وفضل الربوبية، فلا يتجرد خوفه الإجلالي عن خوف المؤاخذة: المؤاخذة التي ليست ناراً ولا عذاباً، ولكنها مؤاخذة مناسبة لذلك المقام العالي.
بدليل أن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وهو مثل نبينا عليه الصلاة السلام في العصمة، وعدم التعذيب بالنار والعقاب، وقد خاف المؤاخذة- فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي
__________
(1) يسمبط ويشنبط: عبارة عامة تجري على الألسنة في المغرب كله، ومعناها القول الذي لا ضابط له ولا أصل، وإنما يلقيه صاحبه جزافاً وخبط عشواء وينقل بلا وعي ولا دراية (حاشية المطبوع-[ص:348] ) .[/rtl]
[rtl](1/213)[/rtl]
وبدليل أنه هو عليه الصلاة والسلام قال:
«وَاللهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، رواه البخاري (1) . وليس هذا لذنب لا صغير ولا كبير، وإنما لعلمه بالله، وعظيم حقه وشدة تعظيمه لربه؛ فيخاف المؤاخذة، فيطلب المغفرة.
فَبَانَ بهذا أن خوف الإجلال لا يتجرد عن خوف المؤاخذة.
وبعد هذا البيان، نقول لحضرته: لا تستدل بالحديث دون بيان رتبته، ولا ذكر لمخرجه، وما هكذا يكون استدلال الأمناء من العلماء، وإنه يرمي الأحاديث هكذا مهملة، اختلط الحق بالباطل، وتجرأ على السنة النبوية الغبي والجاهل، حتى بلغ الأمر إلى نسبة الأحاديث إلى كتب الإسلام المتفق عليها ولا وجود لها فيها!
أما نحن:
فلا نعرف هذا الدعاء في الصحاح المتداولة عندنا، فليتك تبين من أين جئت به؛ حتى نعرف مقدار ما تعتمد في احتجاجك عليه.
11- وقال: للأنبياء عليهم الصلاة والسلام حالتان:
(أ) حالة مع الله تعالى لا يرون فيها غير جلاله وعظمته.
(ب) وحالة مع الخلق.. يستغفرون ويستعيذون من النار وسوء المنقلب، وفتنة القبر والدجال، ويطلبون الرحمة والثواب والجنان اهـ.
قد بينا أن رؤية جلال الله مما يبعث على الخوف من المؤاخذة، كما مضى عن ابراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلا يتجردون عن الخوف: خوف الإجلال وخوف المؤاخذة في حالتهم مع الله. وقد دل حديث عائشة الذي قدمناه.. أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، كان في سجوده في جوف الليل، والناس نيام فيما بينه وبين ربه- استعاذ برضا الله من سخطه، وبمعافاته من عقابه. فكانوا يستعيذون ويرجون ويخافون في حالتهم مع الله.
وأما حالتهم مع الناس فإنهم كانوا يعلمون، وكانوا يخبرون عن أنفسهم بخوفهم وطمعهم.
كما أخبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطمعه، وأخبر محمد عليه الصلاة والسلام أصحابه بأنه أتقاهم لله، وأخوفهم له، وأخبر عن استغفاره لربه، وإخبارهم حق صدق لا شك فيه.
ولا يجوز أن يقال:
__________
(1) في كتاب الدعوات، باب 3، حديث رقم 6307؛ من حديث أبي هريرة.[/rtl]
[rtl](1/214)[/rtl]
12- وذكر حديث الإحسان:
«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (1) .
وهذا الحديث يقتضي دوام المراقبة لله عند كل حركة وسكون، حتى لا تكون من العبد مخالفة فيهما، وحتى يأتي بعبادته على غاية الإتقان في صورتها وأتم الإخلاص بها.
وقد علمت أن مقتضى العبادة الشرعية الشعور بضعف وذل وفقر العبودية أمام عز وقوة وفضل الربوبية؛ فينبعث الرجاء والخوف في العابد، وهما مما يحملانه على تمام الإحسان في العبادة: بإتقانها والإخلاص فيها.
ثم من مقتضى مراقبة الله تعالى، مشاهدته: أي مشاهدة جلاله وجماله؛ جلاله بصفات القهر والبطش والملك والسلطان، وجماله بصفات الفضل والرحمة والإحسان؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجلال يخاف العبد ويخشى؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجمال يرجو ويطمع. فصدق الشهود لا بد معه من الرجاء والخوف.
وإذا غاب العبد عن الشعور بالموجودات، فإنه لا يغيب عن مشاهدة جلال وجمال الذات، الباعثين للخوف والرجاء. وإذا لم يشهدهما وزعم أنه يشهد الذات مجرداً.. فإنه لم يكن في الحقيقة مشاهداً، بل كان غافلًا معطلاً جامداً.
وأما غيبوبة العابد عن نفسه- إن كانت- فإنها حالة عارضة غير ثابتة، وليست مشروعة لا بنص من آية ولا من حديث، فضلاً عن أن تكون فاضلة كاملة.
فالحديث دل على المراقبة والمشاهدة الشرعيتين، اللتين يكون العبد عابدا ًالعبادة الشرعية، الموضوعة على الرجاء والخوف حسب الأدلة المتقدمة.
13- ونقل كلام ابن سينا في كتاب الإشارات وكلام شراحه، وهو مثل ما تقدم لنا إبطاله بأدلة الكتاب والسنة، والشرح بهما لمعنى العبادة المشروعة.
وإذا كنا نبحث عن العبادة التي شرعها الله لعباده على لسان رسوله.. فإننا لا نعرفها إلاّ من الكتاب والسنة، وقد قدمنا من أدلتها ما جلى المسألة للعيان، وأغنى فيها عن كل كلام.
__________
(1) رواه من حديث أبي هريرة البخاري في الإيمان باب 37، وتفسير سورة 31 باب 2، ومسلم في الإيمان حديث 5 و6. ورواه مسلم في الإيمان حديث 1 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.[/rtl]
[rtl](1/215)[/rtl]
1- إن العبادة المشروعة هي القصد إلى الطاعة، مع الشعور بضعف العبد وذله، وحاجته وفقره، ومشاهدته لجلال ربه وقدرته وعزته، وجماله وفضله ورحمته؛ فيكون بتلك المشاهدة خائفاً من عقابه أو مؤاخذته راجياً لثوابه وانعامه.
2- وإن هذه العبادة هي عبادة الكُمَّلِ من عباد الله الذين وصفهم بأفضل صفاتهم في كتابه، وهي عبادة أنبيائه ورسله، الذين ذكر عبادتهم القرآن، وهي عبادة محمد- صلى الله عليه وآله رسلم- التي دلت عليها صحاح الأثار، وعبادة أصحابه الثابتة النقول.
3- وخلصنا من هذا إلى أن العبادة المجردة من الخوف والرجاء- منافية لصدق مشاهدة الجلال والجمال، مخالفة لعبادة الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين. وأنه لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة، مثل واحد من الأدلة المتقدمة المتكاثرة.
وأنها ما دامت كذلك ليس لنا أن نعدها مشروعة، فضلاً عن أن نعدها كاملة، فضلاً عن أن ندعي أنها أكمل؛ لأن مشروعية الشيء لا تثبت إلاّ بدليل صحيح صريح.
وأتى لنا ذلك في العبادة المجردة عن الرجاء والخوف؟!
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. والحمد لله رب العالمين.
غرة رمضان 1351 هـ.
***
الصفة الخامسة:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } [الفرقان: 67] .
مضى وصفهم بأنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وترب النفس على استصغار الدنيا وما فيها، وعلى تعظيم الرب والوقوف عند حدوده. فلا يعظمن شيء من الدنيا عند أهل الصلاة فيمسكوا عن بذله في الحق، ولا يستهويهم شيء منها فينتهكوا لأجله حدود الله وحرماته.
ولما كان المال هو أعز شيء في هذه الدنيا، وهو أعظم سبب لنيل مبتغياتها، وصفوا بأنهم في تصرفاتهم فيه على أكمل حال، وهي حالة العدل، التي أثمرتها لهم الصلاة، فلا يمسكونه عن حق، ولا يبذلونه في باطل.
{أنفقوا} بذلوا المال في وجه من الوجه.
(الإسراف) مجاوزة الحد المشروع، (الإقتار) التقتير، التضييق.
(القوام) العدل بين الشيئين، أي المعتدل ما بينهما. وسمي العدل بين الشيئين قواماً، لاستقامة طرفيه واعتدالهما، فلا إلى هذا ولا إلى ذاك.[/rtl]
[rtl](1/216)[/rtl]
المعنى:
إذا أنفقوا أموالهم لم يتجاوزوا الحد المشروع، ولم يضيقوا فيقصروا في القدر المطلوب. وكان إنفاقهم بين التجاوز والتضييق، عدلاً مستو لا إفراط فيه ولا تفريط.
وصفهم بالقصد الذي هو وسط بين الغلو والتقصير، وهو الحالة بين الحالتين، والحسنة بين السيئتين.
تحديد:
الإسراف مذموم فهو ما كان في منهي عنه نهي تحريم، أو كراهة، أو في مباح قد يؤدي إليهما.
فالأول: كمن أولم وليمة أنفق فيها جميع ماله، وأصبح بعدها هو وأهله للضيعة والحاجة.
والثاني: كمن أولم وليمة دعته إلى الاستدانة، وإن كان يظن القدرة على الأداء، لأن الدين محذر ومستعاذ منه.
والثالث: كالاستمرار على إيلام الولائم مع القدرة عليها في الحال، مما قد يؤدي إلى الأمرين المذكورين في المآل.
والتقتير مذموم أيضاً:
فهو ما كان إمساكاً عن مأمور به أمر وجوب.
أو استحباب.
أو عن مباح يؤدي إليهما.
فالأول: كمن يمسك عن أهله شحاً حتى يذيقهم ألم الجوع والبرد.
والثاني: كمن لا يذيقهم بعض الطيبات التي يخص بها نفسه من السوق.
والثالث: كمن يمسك عن تطييب خاطر زوجته ببعض الكماليات مع قدرته عليها، مما قد يفسد قلب زوجته عليه، أو يحملها على ما لا يرضيه.
والقوام العدل هو الممدوح:
فهو أن ينفق في الواجب والمندوب، وما يؤدي إليهما، ويمسك عن المحرم والمكروه وما يؤدي إليهما، ويتسع في الحلال دون مداومة في الأوقات، واستيفاء لجميع اللذات واستهتار بالمشتهيات.[/rtl]
[rtl](1/217)[/rtl]
حالة وطننا في الأعم الأغلب في الولائم والمآتم لا تخلو من السرف فيها، الذي يؤدي إلى التقتير من بعدها فيكون الإثم قد أصاب صاحبها بنوعيه، وأحاط به من ناحيتيه، والشر يجر إلى الشر، والإثم يهدي إلى مثله، وعلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين علق كثير ممن سمعناهم يشكون هذه الحالة- آمالهم في معالجتها، خصوصاً في المآتم. حقق الله الأمال.
وثم نوع آخر موجود في غالب القطر، وبكثر في بعض الجبال.
وهو أن بعض المأمورين من شيوخ الطوائف، يأتون بثلة من أتباعهم، فينزلون على المنتمين إليهم من ضعفاء الناس، فيذبح لهم العناق إن كانت، ويستدين لشرائها إن لم تكن، ويفرغ المزاود، ويكنس لهم ما في البيت، ويصبح معدماً فقيراً مديناً، ويصبح من يومه صبيته يتضاغون، ويمسي أهل ذلك البيت المسكين يطحنهم البؤس، ويميتهم الشقاء ميتات متعددة في اليوم.
وشر ما في هذا الشر أنه يرتكب باسم الدين، ويحسبه الجهال أنه قربة لرب العالمين: فأما إذا جاء وقت شد الرحال إلى الأحياء والأموات، وتقديم النذور والزيارات، فحدث هنالك عن أنواع السرف والكلفات، والتضييع للحقوق والواجبات.
نصيحة:
فيا ليت الذين تأتيهم تلك الوفود ويسألونهم فرداً فرداً عن حالهم، ومن أين بما جاؤوهم به من أموالهم؛ فعساهم أن يطلعوا على بؤس أولئك المساكين فترق لهم قلوبهم، ويرجعوا إليهم مالهم أو يزيدوهم من عندهم، وليقتصروا على من يجدونهم أهل قدرة على ما دفعوه لهم من أموالهم. فهذه نصيحة إذا عملوا بها خففت من الشر والبؤس عن الزائرين، ومن الإثم واللوم عن المزورين.
فهل بها من عاملين؟ وفقنا الله والمسلمين.
الصفة السادسة والسابعة والثامنة:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] .
ثبت في الصحيحن- واللفظ لمسلم (1) - أن عبد الله بن مسعود قال:
__________
(1) في كتاب الإيمان حديث رقم 142.[/rtl]
[rtl](1/218)[/rtl]
قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك.
قال: ثم أي؟
قال: أن تقتل ولدك مخافة من أن يطعم معك.
قال: قلت: ثم أي؟
قال: أن تزاني حليلة جارك.
فأنزل الله [عز وجل] . (1) تصديقها: {الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... } » (2) .
المطابقة بين الآية وسبب نزولها:
تواردت الآية والحديث في الإثم الأول على شيء واحد، وتواردا أيضاً في الثاني والثالث. إلاّ أن في الحديث ذكر فرد من العام هو شر أفراده وأكبرها إثماً، وفي الآية ذكر العام.
ولا شك أن شر قتل النفس هو قتل الولد، لما في ذلك زيادة على قتل النفس من الخروج عن حنان الفطرة، وارتكاب ضد ما توجبه الرعاية والكفالة، وسوء الظن بالله المتكفل برزق الخليقة. كما أن الزنا بحليلة الجار، هو شر أفراد الزنا لما فيه زيادة على الزنا من انتهاك حرمة الجار، وخيانة الأمانة، فإنهم ما تجاوروا حتى أمن بعضهم بعضاً، وإدخال الفساد على أساس التكوين الاجتماعي في الناس وهو التجاور والتقارب.
لما أثبت لهم أصول الطاعات في الآيات المتقدمة، نفى عنهم أمهات المعاصي في هذه الآية؛ تنبيهاً على أن الإيمان الكامل هو ما تثبت معه الطاعات وتنتفي المعاصي، وذلك هو غاية الامتثال للأوامر والنواهي.
وفيه تعريض بما كان عليه المشركون من الاتصاف بهذه المعاصي من دعائهم آلهتهم مع الله، وقتلهم النفس وارتكابهم فاحشة الزنا.
وقدم إثبات الطاعات على انتفاء المعاصي؛ تنبيهاً على أن من راض نفسه على الطاعة ودانت نفسه بالإخبات والانقياد للأوامر الشرعية، ضعفت منه أو زالت دواعي الشر والفساد، فانكف عن المعصية.
نكتة استطرادية:
فمن هنا نعلم أن على المسلم الذي يعمل لتزكية نفسه، أن يواظب على الطاعات بأنواعها،
__________
(1) ما بين حاصرتين زيادة من صحيح مسلم.
(2) وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان حديث رقم 141. والبخاري في تفسير سورة 2 باب 3، وسورة 25 باب 2، والأدب باب 20، والديات باب 1، والحدود باب 20، والتوحيد باب40. وأبو داود في الطلاق باب 50. والترمذي في تفسير سورة 25 باب 1 و2. والنسائي في التحريم باب 4. وأحمد في المسند (1/ 380، 431، 434، 462) .[/rtl]
[rtl](1/219)[/rtl]
قامت الشريعة على المحافظة على حقوق الله، وحقوق عباده، وحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ فمن دعا مع الله غيره، وأشرك به سواه، فقد أبطل حق الله وأعدم عبادته. ومن قتل النفس فقد تعدى على أول حق جعله الله لعباده بفضله، وهو حق الوجود، وعمل على إبطال وجودهم وفناء نوعهم وزوال عبادتهم، فلهذا قرن قتل النفس بدعاء غير الله معه.
ولما كان الزنا فيه بطلان النسب وفساد الخلق والجسد، وذلك مؤد إلى الاضمحلال والزوال، والشرور والأهوال، قرن بقتل النفس فذلك قتل حقيقي، وهذا قتل معنوي.
(الدعاء) هو النداء لطلب أمر أو تنبيه عليه.
(الإله) هو المعبود.
(حرم الله النفس) جعل لها حرمة ومنعة، فلا يجوز التعدي عليها. ومادة (ح ر م) تفيد المنع في جميع تصاريفها.
(الحق) هو الثابت من مقتضيات القتل في الشرع.
وصف النفس بالإسم الموصول المعروف الصلة؛ لأن تحريم الله لها أمر مركوز في النفوس، معروف للبشر بما جاءهم من جميع الشرائع. وكان النفي للفعل بصيغة المضارع للإشارة إلى استمرار ذلك النفي.
المعنى:
والذين لا يدعون ولا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون به سواه في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة، ويفردونه بالطاعة، ويوحدونه في ربوبيته وألوهيته.
ولا يقتلون النفس التي جعل الله لها حرمة، وحرم قتلها بالسبب إلاّ الحق الثابت في دين الله المعارض لحرمتها، المقتضي لقتلها بالزنا بعد الإحصان، أو الكفر بعد الإيمان، أو القتل للنفس العمد العدوان.
ولا يزنون فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج.
***
مزيد بيان لتوحيد الرحمن:
ما يزال الذكر الحكيم يسمي العبادة دعاء ويعبر به عنها؛ ذلك لأنه عبادة، فعبر عن النوع ببعض أفراده، وإنما اختير هذا الفرد ليعبر به عن النوع؛ لأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها؛ فإن العابد يظهر ذله أمام عز المعبود، وفقره أمام غناه، وعجزه أمام قدرته، وتمام تعظيمه له وخضوعه بين يديه. ويعرب عن ذلك بلسانه بدعائه وندائه وطلبه منه حوائجه.
فالدعاء هو المظهر الدال على ذلك كله. ولهذا كان مخ عبادته.[/rtl]
[rtl](1/220)[/rtl]
«الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . رواه أحمد والترمذي وأبو داود رحمهم الله والنسائي وابن ماجة (1) .
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» رواه الترمذي (2) رحمه الله.
فتطابق الأثر والنظر على أن الدعاء عبادة فمن دعا غير الله فقد عبده وإن كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة؛ فالحقيقة لا ترتفع بعدم تسميته لها باسمها وتسميته لها بغير اسمها، والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها من الحديثين المتقدمين لا بتسميته.
لما ثبت أن الدعاء عبادة فالداعي عابد، والمدعو معبود، والمعبود إلاه؛ فمن دعا شيئاً فقد اتخذه إلهه؛ لأنه فعل له ما لا يفعل إلاّ للإله؛ فهو وإن لم يسمّه إلهاً بقوله فقد سماه بفعله؛ ألا ترى إلى أهل الكتاب لما اتبعوا أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم- وهما لا يكونان إلاّ من الرب الحق العالم بالمصالح- قال الله تعالى فيهم:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 131] . وإن كانوا لا يسمونهم فحكم عليهم بفعلهم، ولم يعتبر منهم عدم التسمية لهم أرباباً بألسنتهم.
فكذلك يقال فيمن دعا شيئاً أنه اتخذه إلها نظراً لفعله وهو دعاؤه ولا عبرة بعدم تسميته له إلهاً بلسانه.
وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره، أنه قال للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما سمعه يقرأ هذه الآية (3) : "إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ ".
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئاً حرموه، وإذا أحلوا لهم شيئاً أحلوه؟» قال: "قلت نعم" قال: «فتلك عبادتهم إياهم» (4) .
قال الإمام الجصّاص: ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلاّ من جهة العالم بالمصالح، ثم
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (267/4، 271، 276) وأبو داود في الوتر باب 23. والترمذي في تفسير سورة 2 باب 16، وسورة 40 باب 1، والدعوات باب 1. وابن ماجة في الدعاء باب 1. ولم أجده في المجتبى للنسائي، ولعلّه في السنن الكبرى له.
(2) في كتاب الدعاء، باب 1 حديث رقم 3371. وقوله "مخ العبادة" أي خالص العبادة ولبها.
(3) أي الآية السالفة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
(4) رواه الترمذي في تفسير سورة التوبة، باب 10، حديث رقم 3095.[/rtl]
[rtl](1/221)[/rtl]
وعلى وزانه تقول: لما كان الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلاّ للإله، كان الداعي لشيء من المخلوقات متخذاً إياه إلهاً، لما نزله بدعائه إياه منزلة الإله، سواء دعاه وحده دون الله، أو دعاه مع الله. والعياذ بالله.
تحذير وإرشاد:
ما أكثر ما تسمع في دعاء الناس "يا ربي والشيخ"، "يا ربي وناس ربي"، "يا ربي والناس الملاح". وهذا من دعاء غير الله، فإياك أيها المسلم وإياه، وادع الله ربك وخالقك وحده وحده وحده، وأنف الشرك راغم.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]الوعيد على فعل هذه الموبقات
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) } [الفرقان: 68، 69] .
إذا أمر القرآن بشيء ذكر فائدته وثمرته للعباد في الدارين، وكذلك إذا نهى عن شيء ذكر مضرته وسوء عاقبته عليهم فيهما. فلما ذكر في صدر الآية نفي تلك المعاصي عن عباد الرحمن الذي يفيد النهي عنها ذكر هذا الوعيد لبيان سوء عاقبتها وقبح أثرها.
نكتة استطرادية:
هذه هي سنة القرآن في التربية، وهي أنجح الطرق في جعل المأمور والمنهي، يتمثل للأمر والنهي من كل نفسه، ويعمل لتنفيذهما بعقله وإرادته. فالتربية التي تنبني على امتثال الأمر والنهي من غير المعصوم، والانقياد لهما انقياداً أعمى- مخالفة لتربية القرآن. والخير كله في اتباع القرآن، في جميع ما يفيده القرآن.
اسم الإشارة راجع للثلاثة المذكورة من قبل.
{يلق} يقابل ويصادف. {أثامًا} عقاباً جزاء على إثمه فالأثام جزاء الإثم.
{يضاعف} يزاد له على الأصل فيعذب عذابين أو أنواعاً من العذاب.
{يخلد} يبقى. وطول البقاء يسمى خلوداً. كما قالت العرب في أثافي الصخور: خوالد، لطول بقائها بعد دروس الأطلال لا لدوام بقائها؛ إذ لا دوام لها.[/rtl]
[rtl]وعلى هذا قول المخبل السعدي:
إِلَّا رَمَاداً هَامِداً دَفَعَتْ ... عَنْهُ الرِّيَاحَ خَوَالِدٌ سُحْمُ
(المهان) الذليل المحتقر الذي يفعل به ما يذله ويحقره.
{يضاعف} بدل من {يلق} ، بدل كل من كل. قال الخليل: لأن مضاعفة العذاب هى لقي الأثام.
وعندي أنه بدل بعض من كل، لأن لقي العذاب على تلك الآثام يكون في الدنيا والآخرة، ومضاعفة العذاب والخلود فيه تكون في الآخرة، وبهذا تكون الآية قد أفادت أن المرتكب لما تقدم من المعاصي- الشرك وقتل النفس والزنا- ينال جزاءه دنيا، وأخرى، وعذاب الآخرة المضاعف المستمر أشد وأبقى.
وهذا هو الجاري على سنة القرآن في التخويف بسوء عاقبة المعصية عاجلا وآجلا، والتنبيه على أن الآجل أشد وأفدح من العاجل.
المعنى:
ومن يأت هذه الأفعال؛ فدعا مع الله إلها آخر، أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أو زنا، فإنه يلقى وينال جزاء معصيته في دنياه، وجزاءها في أخراه، ويكون عذابه عليها في الآخرة مضاعفاً مزيداً عليه أنواع أخرى، ويستمر فيه باقياً ذليلاً محقراً.
توجيه:
إنما ضوعف لأهل هذه الكبائر العذاب. لأن كل كبيرة منها مضاعفة المفاسد والشرور.
ففي دعاء غير الله الجهل بالله، والكفر بنعمة الله، والإبطال لحق الله.
وفي قتل النفس تأييم وتيتيم وتأليم لغير من قتل وفتح لباب شر بين أولياء القاتل والمقتول، وتَعَدٍّ على جميع النوع، وتهوين لهذا الجرم الكبير.
وفي الزنا جناية على النسل المقطوع، وعلى من أدخل عليهم من الزنا من ليس منهم، وعلى أصحاب الإرث في خروج حقهم لغيرهم، وغير ما ذكرنا في جميعها كثير، فكانت المضاعفة من باب جعل الجزاء من جنس العمل، وهو من مقتضى الحكمة والعدل.
تذكير:
يذكرنا القرآن بمضاعفة العذاب على كبائر الآثام، لنذكر عندما تحدثنا أنفسنا بالمعصية سوء عاقبتها، وتعدد شرورها، وتشعب مفاسدها، ومضاعفة العذاب بحسب ذلك عليها، لنزدجر وننكف، فنسلم من الشر المتراكم، والعذاب المضاعف، ونفوز بأجر التذكر وثمرة التذكير.
جعلنا الله والمسلمين ممن انتفع بالذكرى، وسلم من فتن الدنيا والأخرى، بمنه وكرمه آمين.[/rtl]
[rtl]إستثناء التائبين من المذنبين
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) } [الفرقان: 70] .
أخرج الشيخان عن ابن عباس- رضي الله عنهما- واللفظ لمسلم (1) ، قال ابن عباس:
«نزلت هذه الآية بمكة {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69] . فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله، وقد قتلنا النفس التى حرم الله، وأتينا الفواحش؟
فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} الآية.
[قال: فأما من دخل في الإسلام وعَقَله ثم قَتَلَ فلا توبة له] . (2) » (3) .
لما ذكر تعالى عظائم الذنوب وأكبر كبائرها، وتوعد بالوعيد الشديد عليها، عقبها بذكر التوبة منها، ورغب فيها؛ لينبه عباده على طريق الرجوع إليه، وأن من تاب منهم إلى الله تاب الله عليه.
(التوبة) الرجوع إلى الله، أي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، وذلك بالندم على ما فات، والعزم على عدم العود إليه، وهذان من عمل القلب. وبالإقلاع عما هو ملتبس به، وهذا من عمل الجوارح.
(الإيمان) عندما يذكر مع الأعمال يراد به تصديق القلب ويقينه واطمئنانه بعقائد الحق.
والعمل الصالح هو العمل الطيب المشروع من طاعة الله على العباد، سواء كان من عمل الباطن وهو عمل القلب أو من عمل الظاهر وهو عمل الجوارح.
والعمل الصالح من ثمرات الإيمان الدال وجودها على وجوده، وكمالها على كماله، ونقصها على نقصه، وعدمها على اضطرابه ووشك انحلاله واضمحلاله.
(التبديل) التحويل فتجعل الحسنة مكان السيئة.
(الغفور) الستار للذنوب، المتجاوز عنها.
(الرحيم) المنعم الدائم الإنعام.
__________
(1) كتاب التفسير، حديث رقم 19.
(2) ما بين حاصرتين زيادة من صحيح مسلم، وهو تتمة الحديث.
(3) الحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة الفرقان باب 3 و4. ومسلم في التفسير حديث رقم 19. وأبو داود في الفتن باب 6. والنسائي في التحريم باب 2.[/rtl]
[rtl]{إِلَّا مَنْ تَابَ} استثناء من يفعل، استثناء متصلاً لأن الذي يتوب من جملة من فعل، والفاء في {فأولئك} تفريعية، لتفرع التبديل على التوبة، وعاطفة الجملة أولئك على جملة استثنى، التي قامت مقامها إلا. كما عطفت عليها الجملة الأخيرة جملة وكان، ونظير هذا من يقم منكم فله درهم إلاّ زيداً فله درهمان.
المعنى:
يستثنى من ذلك الوعيد الشديد بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهاناً، من رجع إلى الله عن الشرك وقتل النفس والزنا بالتوبة الصادقة، وشفع توبته بالعمل الصالح الدال على صدق تلك التوبة، فهؤلاء بتوبتهم وعملهم الصالح يقلبهم الله ويجعل مكان سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً يتجاوز عن ذنوب عباده؛ فقد تجاوز عما كان منهم من شرك أو قتل أو زنا. رحيماً منعماً على عباده، فقد أنعم عليهم بالحسنات مكان ما تقدم من سيئاتهم.
ترتيب وتوجيه:
يكون العاصي في غمرات معصيته، فإذا ذكر الله، ووفقه الله أسف على حاله ورجع إلى ربه، وهذه أول الدرجات في توبته، فإذا استشعر قلبه اليقين، واطمأن قلبه بذكر الله صمم على الإعراض عن المعصية، والإقبال على الطاعة؛ فإذا كان صادقاً في هذا العزم، فلا بد أن يظهر أثر ذلك على عمله، فلهذا روعيت الحالة الأولى فذكرت التوبة، والثانية فذكر الإيمان، والثالثة فذكر عمل صالح.
تأييد وإقتداء:
روى الأئمة عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أحد الثلاثة الذين خلفوا (1) .
وأنه لما جلس بين يدي النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعدما تاب الله عليه.
قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي إلى الله، وإلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أمسك بعض مالك فهو خير لك» .
قال: فقلت: فإنني أمسك سهمي الذي بخيبر (2) .
فهذا الصحابي الجليل رأى أن من توبته أن يعمل هذا العمل الصالح ليكون دليلاً على صدق توبته، كما اقتضته الآية فتأيد بفهمه ما قدمنا، وكان خير قدوة للتائبين.
وجوه التبديل:
لما كانت السيئة لا تنقلب حسنة كان معنى التبديل هو جعل الحسنة مكان السيئة.
__________
(1) الذين خلفوا عن غزوة تبوك. وقد ورد ذكرهم في الآية 118 من سورة التوبة: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ... } الآية.
(2) رواه البخاري في الوصايا باب 16، وأبو داود في الأيمان باب 23.[/rtl]
[rtl]وهذا على وجوه:
أولها: محو السيئات الماضية بالتوبة، وكتابة حسنة التوبة وما فيها من عمل باطن وظاهر كما تقدم.
وثانيها: تركه المعصية وإتيانه بالعمل الصالح، حتى صار يعمل الصالحات بعدما كان يعمل السيئات.
وثالثها: أن نفسه كانت بالمعصية مظلمة شريرة فتصير بالتوبة والعمل الصالح منيرة خيرة. فالتبديل في الكتب والعمل وحالة النفس.
مسألتان أصوليتان
الأولى: هل يخرج غير التائب من النار؟
استثنى الله التائب من مضاعفة العذاب والخلود فيه مهانًا، فبقي غير التائب للخلود.
والخلود كما قدمناه في الآية السابقة طول البقاء، ولا يقتضي التأبيد وقد لا يكون؛ فمع التأبيد لا خروج ومع عدمه الخروج.
وغير التائب الذي بقي للخلود المطلق في الآية هو: المشرك والقاتل والزاني.
فأما المشرك فلا خروج له من النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (1) -[النساء: 48 و116] .
وأما القاتل والزاني إذا كانا من أهل الإيمان فإنمها يخرجان بعد شديد العذاب بما معهما من الإيمان؛ لأحاديث صحيحة، منها ما رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه:
«يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة.
ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برَّة.
ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» (2) .
زاد البخاري في رواية قتادة عن أنس: «من إيمان» مكان «خير» وهذا من عدل الله ورحمته، فإنه أذاقهم من العذاب الشديد والهوان المخزي جزاءهم، ثم أخرجهم من النار، وما أضاع عليهم إيمانهم، إن الله بالناس لرؤوف رحيم.
__________
(1) { ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
(2) رواه البخاري في التوحيد باب 19. ومسلم في الإيمان حديث 325. والترمذي في صفة جهنم باب 9. وأحمد في المسند (3/ 116، 173، 276) . والبُرّة، بضم الباء: واحدة البُر وهو حبّ القمح. والذرّة: المراد الواحدة من الذرِّ، وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل. ومعنى يزن: أي يعدل.[/rtl]
[rtl]الثانية: هل لقاتل النفس ظلمًا وعدوانًا من توبة؟
ذهب ابن عباس في المشهور عنه، الذي رواه الشيخان (1) أوغيرهما: أنه لا توبة له. وقال في هذه الآية: إنها نزلت في المشركين، وذكر سبب نزولها كما تقدم. وقال- إثره- أما من دخل في الإسلام وعقله، ثم قُتل فلا توبة له (2) .
وقال في هذه الآية: إنها آية مكية نسختها آية مدنية وهي آية الفرقان (3) : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . ومراده بالنسخ التخصيص: يعني أن لفظة "من" في {إِلَّا مَنْ تَابَ} عامة، تشمل القاتل فتقضي بعمومها أن له توبة. وأن آية الفرقان التى جاءت في القاتل خصصتها وأخرجته من عمومها.
قال ابن رشد- بنقل الأبيّ-: وإلى هذا ذهب مالك لأنه قال: "لا يؤمن القاتل وإن تاب".
قال ابن رشد: وهذا لأن القتل فيه حق لله، وحق للمقتول، وشرط التوبة من مظالم العباد رد التبعات أو التحلل، وهذا لا سبيل للقاتل إليه إلاّ بأن يعفو عنه المقتول قبل القتل.
وذهب جمهور السلف، وأهل السنة: إلى أن للقاتل توبة، ونظروا في هذه الآية إلى عموم لفظها لا إلى خصوص سبب نزولها، وجعلوا عموم {وَمَنْ يَقْتُلْ} في آية الفرقان مخصصاً بمن تاب، المستثنى في هذه الآية. فابن عباس خصص من تاب بمن يقتل. وهم عكسوا فخصصوا من يقتل بمن تاب.
ويرجح تخصيصهم العمومات الدالة على قبول التوبة من كل مذنب مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 11] .
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] .
وقوله: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3] .
وحديث: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (4) في عمومات كثيرة. والظاهر إذا كثرت تفيد القطع.
قدوة في الفتوى:
قال ابن رشد: كان ابن شهاب (5) إذا سئل يستفهم السائل ويطاوله، فإن ظهر له أنه لم يقتل يفتيه بأنه لا توبة له، وإن تعرف بأنه قتل أفتاه بأن التوبة تصح.
__________
(1) صحيح البخاري (كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الفرقان، باب 2) وصحيح مسلم (كتاب التفسير، حديث رقم 19) .
(2) لفظ مسلم في التفسير حديث 19.
(3) يعنى - كما في صحيح مسلم- أن الآية 70 من سورة الفرقان، وهي قوله تعالى {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا..} نسخت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {مُهَانًا} .
(4) رواه من حديث ابن مسعود ابن ماجة في الزهد باب 30 حديث رقم 4250.
(5) هو ابن شهاب الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة=[/rtl]
[rtl]قال ابن رشد: وإنه لحسن من الفتوى، فهكذا ينبغي مراعاة الأحوال في تنزيل الأقوال، فإن من لم يقتل يجب التشديد عليه وسد الباب في وجهه، ومن قتل ينبغي ترغيبه في الرجوع إلى الله.
وفي مراعاة هذا الأصل والإقتداء بهذا الإمام فوائد كثيرة في الحث عل الخير، والكف عن الشر، والحكيم من ينزل الأشياء في منازلها، كانت أعمالاً أو كانت أقوالاً.
ترهيب:
ما أعظم هذا الذنب وما أكبره!! ونعوذ بالله من ذنب اختلف أئمة السلف في قبول توبة مرتكبه، وقد أجمعوا على قبول توبة الكافر.
ولعظم شأن الدماء؛ كانت أول ما يقص فيه يوم القيامة بين الخلق (1) .
فإياك أيها الأخ أن تلقى الله تعالى بمشاركة في سفك قطرة من دم ظلماً ولو بكلمة، فإن الأمر صعب، والموقف خطير!!
***
بشارة التائبين إلى رب العالمين
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) } [الفرقان: 71] .
لما أفادت الآية السابقة أن التوبة تمحو السيئات، جاءت هذه الآية إثرها تبين ما لأهلها من جزيل الإنعامات، وعظيم الدرجات.
(المتاب) : مصدر كالمرجع.
خالف جواب الشرط وهو (يتوب) فعل الشرط وهو {تاب} بمتعلقه وهو {إلى الله} ، ومعموله وهو {متابًا} .
وعبر بالمضارع في الجواب ليفيد التجدد باعتبار تجدد المثوبات للراجعين إلى الله.
ونون {متابًا} تنوين تفخيم وتعظيم.
__________
= القرشي الفقيه الحافظ. فقيه حافظ متفق على جلالته وإتقانه، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. توفي سنة 123 أو 124 أو 125 هـ. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (9/ 445) وتاريخ البخاري الكبير (1/ 220) والجرح والتعديل (8/ 318) وسير أعلام النبلاء (5/ 326) وحلية الأولياء (3/ 360) .
(1) كما ورد في الحديث عن ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» . أخرجه البخاري في الديات باب 1، والرقاق باب 48. ومسلم في القسامة حديث 28. والترمذي في الديات باب 8. والنسائي في التحريم باب 2. وابن ماجة في الديات باب 1. وأحمد في المسند (1/ 388، 441، 442) .[/rtl]
[rtl]المعنى:
ومن تاب التوبة الصادقة، وعمل عملاً صالحاً دليلاً على صدق توبته، فإنه يرجع إلى الله الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحسن لقاءهم ويجزل ثوابهم- رجوعاً وأي رجوع: رجوع العز والتكريم إلى الحليم الكريم!.
ترغيب:
دعا الله بهذا عباده المذنبين حتى لا يتسرب القنوط إلى قلويهم، وهو محرم عليهم، ولا يحول بينهم وبين خالقهم ذنب وإن عظم.
ورغبهم في التوبة بأنها رجوع إليه وكفى، وأن الرجوع إليه فيه من الخير والشرف فوق ما تصوره الألفاظ. فما أحلمه من رب كريم، وما أرحمه بعباده المذنبين!
فهذا داعي الله فأجيبوه، وهذا باب الله فلجوه؛ فإنكم مهما رجعتم إليه لا تطردوا، ومهما قصدتم إليه تقبلوا وتكرموا.
اللهم فكما فتحت لنا بابك فوفقنا إليه، وتب علينا لنتوب، إنك أنت التواب الرحيم.
***
الصفة التاسعة:
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] .
لما وصفهم بالصفات المتقدمة الدالة كلها على كمال أخلاقهم، واستقامة أعمالهم في ظواهرهم وبواطنهم، بانبنائها على قوة إِيمانهم وصحة علمهم، فكانوا أهل الحق المتصفين به في علمهم وعملهم، القائمين عليه في جميع أحوالهم- وصفهم هنا ببعدهم عن الباطل ومشاهده ومجانبتهم لأهله.
(الشهود) : هو الحضور الذي يكون فيه إدراك بالحواس أو بالبصيرة.
و (الشهادة) : هي الإخبار عن علم حصل عن شهود. و {لَا يَشْهَدُونَ} يحتمل أن يكون من الشهود، وأن يكون من الشهادة. و {الزُّورَ} أصله الميل ويطلق على الكذب، لأنه ميل عن الحقيقة، وعلى كل باطل من الأقوال والأعمال، لأنه ميل عن الحق.
إذا كان {لَا يَشْهَدُونَ} بمعنى لا يحضرون، فالزور مفعول به. وإذا كان بمعنى لا يخبرون فالزور مفعول مطلق بعد حذف المضاف. والأصل: ولا يشهدون شهادة الزور.
المعنى:
على الاحتمال الأول: والذين لا يحضرون مشاهدة الباطل والإثم في كل مجلس تتعدى فيه الحدود، أو تنتهك فيه الحرمات، أو يحكم فيه بالجور أو تعظم فيه الطواغيت، أو يدعى فيه بدعوى[/rtl]
[rtl]الجاهلية، أو تُحْيَى فيه معالم الوثنية، أو تطمس فيه السنة النبوية، أو يدعى فيه أحد مع الله، أو يضرع إلى سواه.
وعلى الاحتمال الثاني: والذين لا يشهدون شهادة الزور ولا يخبرون إلاّ بالحق الواقع.
ترجيع وترجيح:
يلزم من أنهم لا يشهدون مشاهدة الباطل أنهم لا يشهدون بالزور لوجهين:
الأول: لأنهم إذا كانوا لا يحضرون مجالس الباطل فبالأحرى أنهم لا يقولونه.
والثاني: أن مشهد شهادة الزور من مشاهد الباطل التي لا يحضرونها؛ فيكون الوجه الأول أولى لأنه أشمل.
توسع في البيان:
على أنه من بلاغة القرآن أن تأتي مثل هذه الآيات بوجوه من الاحتمالات متناسبات غير متناقضات؛ فتكون الآية الواحدة بتلك الاحتمالات كأنها آيات: نظير مجيء الآية بقراءتين، فتكون كآيتين مثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
وقوله تعالى في آية الوضوء: {وَأَرْجُلَكُمْ} (1) [المائدة: 5] . بالنصب عطفاً على الوجه فيفيد غسل الأرجل، وتلك هي الحالة الأصيلة العامة. وبالخفض عطفاً على الرؤوس فيفيد مسح الأرجل وتلك هي حالة الرخصة عند لبس الخفاف.
فتكون هذه الآية باحتمالها مفيدة تنزههم عن شهود الباطل، وعن شهادته.
موعظة:
قال جار الله (2) في الكشاف، عن هؤلاء الموصوفين من عباد الرحمن:
«إنهم ينفرون عن محاضر الكذابين، ومجالس الخطائين فلا يحضرونها، ولا يقربونها؛ تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله؛ وصيانة لدينهم عما يمثله لأن مشاهدة الباطل شركة فيه.
ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم دليل الرضا به وسبب وجوده والزيادة فيه؛ لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه» اهـ.
وهذا كما قال؛ فإن حضور مشاهد الباطل إقرار لأهلها عليها، وترك للنهي عن المنكر. وقد قال الله تعالى:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 78] .
__________
(1) {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(2) هو جار الله الزمخشري صاحب تفسير الكشاف.[/rtl]
[rtl]وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] .
فتعم الآية كل ظالم، فلا تجوز لأحد مجالستهم مع ترك النكير عليهم، ولا يكفي أن ينكر ويجلس؛ لأنه يكون ببقائه معهم قد أظهر ما يدل على الرضا بفعلهم، ونقض بالفعل إنكاره عليهم بالقول.
وروى الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لا يقفن أحدكم موقفاً يقتل فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه» (1) .
فأخبر أن اللعنة تنزل على الحاضرين لعدم دفعهم، واقتضى أنهم غير راضين بقلوبهم، وأحرى إذا رضوا.
فلا يجوز من هذا الحديث وغيره حضور الظلم والقبائح مع عدم دفعها، ولو مع عدم الرظا بها.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لأصحابه لما وصلوا الحجر- ديار ثمود:
«لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلاّ أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم» (2) .
فإذا كان هذا فيمن ماتوا من أهل العذاب، فمثلهم مجالس أهل السوء والفساد، فإذا نزلت اللعنة والعذاب عمتهم ومن كان معهم.
وشهادة الزور المرادة بالنص على الوجه الثاني (3) ، أو اللزوم على الوجه الأولى (4) من أكبر الذنوب إثماً، وشر الكبائر مفسدة تنقلب بها الحقائق، وتضيع بها الحقوق، وتبطل المعاملات، وتزول الثقة بين الناس، وتتعرض النفوس والأموال والأعراض للأذى والشر، وتنعدم طمأنينة الناس على ما يعلمون من أنفسهم.
وصح عنه- عليه وآله الصلاة والسلام- أنه قال:
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 260) والهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 284) والمتقي الهندي في كنز العلمال (13411) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 304) .
(2) أخرجه البخاري في الصلاة باب 53، وأحاديث الأنبياء باب 17، وتفسير سورة 15 باب 2، والمغازي باب.8. ومسلم في الزهد حديث 38 و 39. وأحمد في المسند (2/ 9، 58، 66، 72، 74، 91، 96، 113، 137) .
(3) أي شهادة الزور.
(4) أي عدم مشاهدة الباطل.[/rtl]
«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؛ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور. وكان متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا- شفقة عليه- ليته سكت» (1) .
فجلس لها، وبقي يكررها، لعظم شرها، وكبر مفسدتها، وعظم الإثم فيها على حسب ذلك منها.
أعاذنا الله والمسلمين منها ومن كل زور.
***
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) } [الفرقان: 68، 69] .
إذا أمر القرآن بشيء ذكر فائدته وثمرته للعباد في الدارين، وكذلك إذا نهى عن شيء ذكر مضرته وسوء عاقبته عليهم فيهما. فلما ذكر في صدر الآية نفي تلك المعاصي عن عباد الرحمن الذي يفيد النهي عنها ذكر هذا الوعيد لبيان سوء عاقبتها وقبح أثرها.
نكتة استطرادية:
هذه هي سنة القرآن في التربية، وهي أنجح الطرق في جعل المأمور والمنهي، يتمثل للأمر والنهي من كل نفسه، ويعمل لتنفيذهما بعقله وإرادته. فالتربية التي تنبني على امتثال الأمر والنهي من غير المعصوم، والانقياد لهما انقياداً أعمى- مخالفة لتربية القرآن. والخير كله في اتباع القرآن، في جميع ما يفيده القرآن.
اسم الإشارة راجع للثلاثة المذكورة من قبل.
{يلق} يقابل ويصادف. {أثامًا} عقاباً جزاء على إثمه فالأثام جزاء الإثم.
{يضاعف} يزاد له على الأصل فيعذب عذابين أو أنواعاً من العذاب.
{يخلد} يبقى. وطول البقاء يسمى خلوداً. كما قالت العرب في أثافي الصخور: خوالد، لطول بقائها بعد دروس الأطلال لا لدوام بقائها؛ إذ لا دوام لها.[/rtl]
[rtl](1/222)[/rtl]
إِلَّا رَمَاداً هَامِداً دَفَعَتْ ... عَنْهُ الرِّيَاحَ خَوَالِدٌ سُحْمُ
(المهان) الذليل المحتقر الذي يفعل به ما يذله ويحقره.
{يضاعف} بدل من {يلق} ، بدل كل من كل. قال الخليل: لأن مضاعفة العذاب هى لقي الأثام.
وعندي أنه بدل بعض من كل، لأن لقي العذاب على تلك الآثام يكون في الدنيا والآخرة، ومضاعفة العذاب والخلود فيه تكون في الآخرة، وبهذا تكون الآية قد أفادت أن المرتكب لما تقدم من المعاصي- الشرك وقتل النفس والزنا- ينال جزاءه دنيا، وأخرى، وعذاب الآخرة المضاعف المستمر أشد وأبقى.
وهذا هو الجاري على سنة القرآن في التخويف بسوء عاقبة المعصية عاجلا وآجلا، والتنبيه على أن الآجل أشد وأفدح من العاجل.
المعنى:
ومن يأت هذه الأفعال؛ فدعا مع الله إلها آخر، أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أو زنا، فإنه يلقى وينال جزاء معصيته في دنياه، وجزاءها في أخراه، ويكون عذابه عليها في الآخرة مضاعفاً مزيداً عليه أنواع أخرى، ويستمر فيه باقياً ذليلاً محقراً.
توجيه:
إنما ضوعف لأهل هذه الكبائر العذاب. لأن كل كبيرة منها مضاعفة المفاسد والشرور.
ففي دعاء غير الله الجهل بالله، والكفر بنعمة الله، والإبطال لحق الله.
وفي قتل النفس تأييم وتيتيم وتأليم لغير من قتل وفتح لباب شر بين أولياء القاتل والمقتول، وتَعَدٍّ على جميع النوع، وتهوين لهذا الجرم الكبير.
وفي الزنا جناية على النسل المقطوع، وعلى من أدخل عليهم من الزنا من ليس منهم، وعلى أصحاب الإرث في خروج حقهم لغيرهم، وغير ما ذكرنا في جميعها كثير، فكانت المضاعفة من باب جعل الجزاء من جنس العمل، وهو من مقتضى الحكمة والعدل.
تذكير:
يذكرنا القرآن بمضاعفة العذاب على كبائر الآثام، لنذكر عندما تحدثنا أنفسنا بالمعصية سوء عاقبتها، وتعدد شرورها، وتشعب مفاسدها، ومضاعفة العذاب بحسب ذلك عليها، لنزدجر وننكف، فنسلم من الشر المتراكم، والعذاب المضاعف، ونفوز بأجر التذكر وثمرة التذكير.
جعلنا الله والمسلمين ممن انتفع بالذكرى، وسلم من فتن الدنيا والأخرى، بمنه وكرمه آمين.[/rtl]
[rtl](1/223)[/rtl]
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) } [الفرقان: 70] .
أخرج الشيخان عن ابن عباس- رضي الله عنهما- واللفظ لمسلم (1) ، قال ابن عباس:
«نزلت هذه الآية بمكة {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69] . فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله، وقد قتلنا النفس التى حرم الله، وأتينا الفواحش؟
فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} الآية.
[قال: فأما من دخل في الإسلام وعَقَله ثم قَتَلَ فلا توبة له] . (2) » (3) .
لما ذكر تعالى عظائم الذنوب وأكبر كبائرها، وتوعد بالوعيد الشديد عليها، عقبها بذكر التوبة منها، ورغب فيها؛ لينبه عباده على طريق الرجوع إليه، وأن من تاب منهم إلى الله تاب الله عليه.
(التوبة) الرجوع إلى الله، أي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، وذلك بالندم على ما فات، والعزم على عدم العود إليه، وهذان من عمل القلب. وبالإقلاع عما هو ملتبس به، وهذا من عمل الجوارح.
(الإيمان) عندما يذكر مع الأعمال يراد به تصديق القلب ويقينه واطمئنانه بعقائد الحق.
والعمل الصالح هو العمل الطيب المشروع من طاعة الله على العباد، سواء كان من عمل الباطن وهو عمل القلب أو من عمل الظاهر وهو عمل الجوارح.
والعمل الصالح من ثمرات الإيمان الدال وجودها على وجوده، وكمالها على كماله، ونقصها على نقصه، وعدمها على اضطرابه ووشك انحلاله واضمحلاله.
(التبديل) التحويل فتجعل الحسنة مكان السيئة.
(الغفور) الستار للذنوب، المتجاوز عنها.
(الرحيم) المنعم الدائم الإنعام.
__________
(1) كتاب التفسير، حديث رقم 19.
(2) ما بين حاصرتين زيادة من صحيح مسلم، وهو تتمة الحديث.
(3) الحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة الفرقان باب 3 و4. ومسلم في التفسير حديث رقم 19. وأبو داود في الفتن باب 6. والنسائي في التحريم باب 2.[/rtl]
[rtl](1/224)[/rtl]
المعنى:
يستثنى من ذلك الوعيد الشديد بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهاناً، من رجع إلى الله عن الشرك وقتل النفس والزنا بالتوبة الصادقة، وشفع توبته بالعمل الصالح الدال على صدق تلك التوبة، فهؤلاء بتوبتهم وعملهم الصالح يقلبهم الله ويجعل مكان سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً يتجاوز عن ذنوب عباده؛ فقد تجاوز عما كان منهم من شرك أو قتل أو زنا. رحيماً منعماً على عباده، فقد أنعم عليهم بالحسنات مكان ما تقدم من سيئاتهم.
ترتيب وتوجيه:
يكون العاصي في غمرات معصيته، فإذا ذكر الله، ووفقه الله أسف على حاله ورجع إلى ربه، وهذه أول الدرجات في توبته، فإذا استشعر قلبه اليقين، واطمأن قلبه بذكر الله صمم على الإعراض عن المعصية، والإقبال على الطاعة؛ فإذا كان صادقاً في هذا العزم، فلا بد أن يظهر أثر ذلك على عمله، فلهذا روعيت الحالة الأولى فذكرت التوبة، والثانية فذكر الإيمان، والثالثة فذكر عمل صالح.
تأييد وإقتداء:
روى الأئمة عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أحد الثلاثة الذين خلفوا (1) .
وأنه لما جلس بين يدي النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعدما تاب الله عليه.
قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي إلى الله، وإلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أمسك بعض مالك فهو خير لك» .
قال: فقلت: فإنني أمسك سهمي الذي بخيبر (2) .
فهذا الصحابي الجليل رأى أن من توبته أن يعمل هذا العمل الصالح ليكون دليلاً على صدق توبته، كما اقتضته الآية فتأيد بفهمه ما قدمنا، وكان خير قدوة للتائبين.
وجوه التبديل:
لما كانت السيئة لا تنقلب حسنة كان معنى التبديل هو جعل الحسنة مكان السيئة.
__________
(1) الذين خلفوا عن غزوة تبوك. وقد ورد ذكرهم في الآية 118 من سورة التوبة: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ... } الآية.
(2) رواه البخاري في الوصايا باب 16، وأبو داود في الأيمان باب 23.[/rtl]
[rtl](1/225)[/rtl]
أولها: محو السيئات الماضية بالتوبة، وكتابة حسنة التوبة وما فيها من عمل باطن وظاهر كما تقدم.
وثانيها: تركه المعصية وإتيانه بالعمل الصالح، حتى صار يعمل الصالحات بعدما كان يعمل السيئات.
وثالثها: أن نفسه كانت بالمعصية مظلمة شريرة فتصير بالتوبة والعمل الصالح منيرة خيرة. فالتبديل في الكتب والعمل وحالة النفس.
مسألتان أصوليتان
الأولى: هل يخرج غير التائب من النار؟
استثنى الله التائب من مضاعفة العذاب والخلود فيه مهانًا، فبقي غير التائب للخلود.
والخلود كما قدمناه في الآية السابقة طول البقاء، ولا يقتضي التأبيد وقد لا يكون؛ فمع التأبيد لا خروج ومع عدمه الخروج.
وغير التائب الذي بقي للخلود المطلق في الآية هو: المشرك والقاتل والزاني.
فأما المشرك فلا خروج له من النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (1) -[النساء: 48 و116] .
وأما القاتل والزاني إذا كانا من أهل الإيمان فإنمها يخرجان بعد شديد العذاب بما معهما من الإيمان؛ لأحاديث صحيحة، منها ما رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه:
«يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة.
ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برَّة.
ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» (2) .
زاد البخاري في رواية قتادة عن أنس: «من إيمان» مكان «خير» وهذا من عدل الله ورحمته، فإنه أذاقهم من العذاب الشديد والهوان المخزي جزاءهم، ثم أخرجهم من النار، وما أضاع عليهم إيمانهم، إن الله بالناس لرؤوف رحيم.
__________
(1) { ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
(2) رواه البخاري في التوحيد باب 19. ومسلم في الإيمان حديث 325. والترمذي في صفة جهنم باب 9. وأحمد في المسند (3/ 116، 173، 276) . والبُرّة، بضم الباء: واحدة البُر وهو حبّ القمح. والذرّة: المراد الواحدة من الذرِّ، وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل. ومعنى يزن: أي يعدل.[/rtl]
[rtl](1/226)[/rtl]
ذهب ابن عباس في المشهور عنه، الذي رواه الشيخان (1) أوغيرهما: أنه لا توبة له. وقال في هذه الآية: إنها نزلت في المشركين، وذكر سبب نزولها كما تقدم. وقال- إثره- أما من دخل في الإسلام وعقله، ثم قُتل فلا توبة له (2) .
وقال في هذه الآية: إنها آية مكية نسختها آية مدنية وهي آية الفرقان (3) : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . ومراده بالنسخ التخصيص: يعني أن لفظة "من" في {إِلَّا مَنْ تَابَ} عامة، تشمل القاتل فتقضي بعمومها أن له توبة. وأن آية الفرقان التى جاءت في القاتل خصصتها وأخرجته من عمومها.
قال ابن رشد- بنقل الأبيّ-: وإلى هذا ذهب مالك لأنه قال: "لا يؤمن القاتل وإن تاب".
قال ابن رشد: وهذا لأن القتل فيه حق لله، وحق للمقتول، وشرط التوبة من مظالم العباد رد التبعات أو التحلل، وهذا لا سبيل للقاتل إليه إلاّ بأن يعفو عنه المقتول قبل القتل.
وذهب جمهور السلف، وأهل السنة: إلى أن للقاتل توبة، ونظروا في هذه الآية إلى عموم لفظها لا إلى خصوص سبب نزولها، وجعلوا عموم {وَمَنْ يَقْتُلْ} في آية الفرقان مخصصاً بمن تاب، المستثنى في هذه الآية. فابن عباس خصص من تاب بمن يقتل. وهم عكسوا فخصصوا من يقتل بمن تاب.
ويرجح تخصيصهم العمومات الدالة على قبول التوبة من كل مذنب مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 11] .
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] .
وقوله: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3] .
وحديث: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (4) في عمومات كثيرة. والظاهر إذا كثرت تفيد القطع.
قدوة في الفتوى:
قال ابن رشد: كان ابن شهاب (5) إذا سئل يستفهم السائل ويطاوله، فإن ظهر له أنه لم يقتل يفتيه بأنه لا توبة له، وإن تعرف بأنه قتل أفتاه بأن التوبة تصح.
__________
(1) صحيح البخاري (كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الفرقان، باب 2) وصحيح مسلم (كتاب التفسير، حديث رقم 19) .
(2) لفظ مسلم في التفسير حديث 19.
(3) يعنى - كما في صحيح مسلم- أن الآية 70 من سورة الفرقان، وهي قوله تعالى {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا..} نسخت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {مُهَانًا} .
(4) رواه من حديث ابن مسعود ابن ماجة في الزهد باب 30 حديث رقم 4250.
(5) هو ابن شهاب الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة=[/rtl]
[rtl](1/227)[/rtl]
وفي مراعاة هذا الأصل والإقتداء بهذا الإمام فوائد كثيرة في الحث عل الخير، والكف عن الشر، والحكيم من ينزل الأشياء في منازلها، كانت أعمالاً أو كانت أقوالاً.
ترهيب:
ما أعظم هذا الذنب وما أكبره!! ونعوذ بالله من ذنب اختلف أئمة السلف في قبول توبة مرتكبه، وقد أجمعوا على قبول توبة الكافر.
ولعظم شأن الدماء؛ كانت أول ما يقص فيه يوم القيامة بين الخلق (1) .
فإياك أيها الأخ أن تلقى الله تعالى بمشاركة في سفك قطرة من دم ظلماً ولو بكلمة، فإن الأمر صعب، والموقف خطير!!
***
بشارة التائبين إلى رب العالمين
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) } [الفرقان: 71] .
لما أفادت الآية السابقة أن التوبة تمحو السيئات، جاءت هذه الآية إثرها تبين ما لأهلها من جزيل الإنعامات، وعظيم الدرجات.
(المتاب) : مصدر كالمرجع.
خالف جواب الشرط وهو (يتوب) فعل الشرط وهو {تاب} بمتعلقه وهو {إلى الله} ، ومعموله وهو {متابًا} .
وعبر بالمضارع في الجواب ليفيد التجدد باعتبار تجدد المثوبات للراجعين إلى الله.
ونون {متابًا} تنوين تفخيم وتعظيم.
__________
= القرشي الفقيه الحافظ. فقيه حافظ متفق على جلالته وإتقانه، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. توفي سنة 123 أو 124 أو 125 هـ. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (9/ 445) وتاريخ البخاري الكبير (1/ 220) والجرح والتعديل (8/ 318) وسير أعلام النبلاء (5/ 326) وحلية الأولياء (3/ 360) .
(1) كما ورد في الحديث عن ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» . أخرجه البخاري في الديات باب 1، والرقاق باب 48. ومسلم في القسامة حديث 28. والترمذي في الديات باب 8. والنسائي في التحريم باب 2. وابن ماجة في الديات باب 1. وأحمد في المسند (1/ 388، 441، 442) .[/rtl]
[rtl](1/228)[/rtl]
ومن تاب التوبة الصادقة، وعمل عملاً صالحاً دليلاً على صدق توبته، فإنه يرجع إلى الله الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحسن لقاءهم ويجزل ثوابهم- رجوعاً وأي رجوع: رجوع العز والتكريم إلى الحليم الكريم!.
ترغيب:
دعا الله بهذا عباده المذنبين حتى لا يتسرب القنوط إلى قلويهم، وهو محرم عليهم، ولا يحول بينهم وبين خالقهم ذنب وإن عظم.
ورغبهم في التوبة بأنها رجوع إليه وكفى، وأن الرجوع إليه فيه من الخير والشرف فوق ما تصوره الألفاظ. فما أحلمه من رب كريم، وما أرحمه بعباده المذنبين!
فهذا داعي الله فأجيبوه، وهذا باب الله فلجوه؛ فإنكم مهما رجعتم إليه لا تطردوا، ومهما قصدتم إليه تقبلوا وتكرموا.
اللهم فكما فتحت لنا بابك فوفقنا إليه، وتب علينا لنتوب، إنك أنت التواب الرحيم.
***
الصفة التاسعة:
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] .
لما وصفهم بالصفات المتقدمة الدالة كلها على كمال أخلاقهم، واستقامة أعمالهم في ظواهرهم وبواطنهم، بانبنائها على قوة إِيمانهم وصحة علمهم، فكانوا أهل الحق المتصفين به في علمهم وعملهم، القائمين عليه في جميع أحوالهم- وصفهم هنا ببعدهم عن الباطل ومشاهده ومجانبتهم لأهله.
(الشهود) : هو الحضور الذي يكون فيه إدراك بالحواس أو بالبصيرة.
و (الشهادة) : هي الإخبار عن علم حصل عن شهود. و {لَا يَشْهَدُونَ} يحتمل أن يكون من الشهود، وأن يكون من الشهادة. و {الزُّورَ} أصله الميل ويطلق على الكذب، لأنه ميل عن الحقيقة، وعلى كل باطل من الأقوال والأعمال، لأنه ميل عن الحق.
إذا كان {لَا يَشْهَدُونَ} بمعنى لا يحضرون، فالزور مفعول به. وإذا كان بمعنى لا يخبرون فالزور مفعول مطلق بعد حذف المضاف. والأصل: ولا يشهدون شهادة الزور.
المعنى:
على الاحتمال الأول: والذين لا يحضرون مشاهدة الباطل والإثم في كل مجلس تتعدى فيه الحدود، أو تنتهك فيه الحرمات، أو يحكم فيه بالجور أو تعظم فيه الطواغيت، أو يدعى فيه بدعوى[/rtl]
[rtl](1/229)[/rtl]
وعلى الاحتمال الثاني: والذين لا يشهدون شهادة الزور ولا يخبرون إلاّ بالحق الواقع.
ترجيع وترجيح:
يلزم من أنهم لا يشهدون مشاهدة الباطل أنهم لا يشهدون بالزور لوجهين:
الأول: لأنهم إذا كانوا لا يحضرون مجالس الباطل فبالأحرى أنهم لا يقولونه.
والثاني: أن مشهد شهادة الزور من مشاهد الباطل التي لا يحضرونها؛ فيكون الوجه الأول أولى لأنه أشمل.
توسع في البيان:
على أنه من بلاغة القرآن أن تأتي مثل هذه الآيات بوجوه من الاحتمالات متناسبات غير متناقضات؛ فتكون الآية الواحدة بتلك الاحتمالات كأنها آيات: نظير مجيء الآية بقراءتين، فتكون كآيتين مثل قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
وقوله تعالى في آية الوضوء: {وَأَرْجُلَكُمْ} (1) [المائدة: 5] . بالنصب عطفاً على الوجه فيفيد غسل الأرجل، وتلك هي الحالة الأصيلة العامة. وبالخفض عطفاً على الرؤوس فيفيد مسح الأرجل وتلك هي حالة الرخصة عند لبس الخفاف.
فتكون هذه الآية باحتمالها مفيدة تنزههم عن شهود الباطل، وعن شهادته.
موعظة:
قال جار الله (2) في الكشاف، عن هؤلاء الموصوفين من عباد الرحمن:
«إنهم ينفرون عن محاضر الكذابين، ومجالس الخطائين فلا يحضرونها، ولا يقربونها؛ تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله؛ وصيانة لدينهم عما يمثله لأن مشاهدة الباطل شركة فيه.
ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم دليل الرضا به وسبب وجوده والزيادة فيه؛ لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه» اهـ.
وهذا كما قال؛ فإن حضور مشاهد الباطل إقرار لأهلها عليها، وترك للنهي عن المنكر. وقد قال الله تعالى:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 78] .
__________
(1) {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(2) هو جار الله الزمخشري صاحب تفسير الكشاف.[/rtl]
[rtl](1/230)[/rtl]
فتعم الآية كل ظالم، فلا تجوز لأحد مجالستهم مع ترك النكير عليهم، ولا يكفي أن ينكر ويجلس؛ لأنه يكون ببقائه معهم قد أظهر ما يدل على الرضا بفعلهم، ونقض بالفعل إنكاره عليهم بالقول.
وروى الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لا يقفن أحدكم موقفاً يقتل فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه» (1) .
فأخبر أن اللعنة تنزل على الحاضرين لعدم دفعهم، واقتضى أنهم غير راضين بقلوبهم، وأحرى إذا رضوا.
فلا يجوز من هذا الحديث وغيره حضور الظلم والقبائح مع عدم دفعها، ولو مع عدم الرظا بها.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لأصحابه لما وصلوا الحجر- ديار ثمود:
«لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلاّ أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم» (2) .
فإذا كان هذا فيمن ماتوا من أهل العذاب، فمثلهم مجالس أهل السوء والفساد، فإذا نزلت اللعنة والعذاب عمتهم ومن كان معهم.
وشهادة الزور المرادة بالنص على الوجه الثاني (3) ، أو اللزوم على الوجه الأولى (4) من أكبر الذنوب إثماً، وشر الكبائر مفسدة تنقلب بها الحقائق، وتضيع بها الحقوق، وتبطل المعاملات، وتزول الثقة بين الناس، وتتعرض النفوس والأموال والأعراض للأذى والشر، وتنعدم طمأنينة الناس على ما يعلمون من أنفسهم.
وصح عنه- عليه وآله الصلاة والسلام- أنه قال:
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 260) والهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 284) والمتقي الهندي في كنز العلمال (13411) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 304) .
(2) أخرجه البخاري في الصلاة باب 53، وأحاديث الأنبياء باب 17، وتفسير سورة 15 باب 2، والمغازي باب.8. ومسلم في الزهد حديث 38 و 39. وأحمد في المسند (2/ 9، 58، 66، 72، 74، 91، 96، 113، 137) .
(3) أي شهادة الزور.
(4) أي عدم مشاهدة الباطل.[/rtl]
[rtl](1/231)[/rtl]
فجلس لها، وبقي يكررها، لعظم شرها، وكبر مفسدتها، وعظم الإثم فيها على حسب ذلك منها.
أعاذنا الله والمسلمين منها ومن كل زور.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]الصفة العاشرة:
{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) } [الفرقان: 72] .
نفى عنهم فيما تقدم حضور مشاهد الزور، وأخبر هنا أنهم لا يقفون عند اللغو عندما يمرون عليه، تَرَقيا في وصفهم بالبعد عن الباطل والإثم والعبث، ومجانبة أهله.
(اللغو) مصدر لغا يلغو أي قال باطلًا فهو القول الباطل، ومثله الفعل الباطل من كل ما لا فائدة فيه، ولا نتيجة له، مما شأنه أن يلغى ويطرح.
و (الكريم) : الخالص العنصر فهو الزكي غير المتدنس، ومن مقتضى ذلك حسن أخلاقه، واستقامة أعماله، وسلامته من الرذائل.
(كرامًا) حال من فاعل {مروا} الثاني، ليبين وصفهم عند المرور.
المعنى:
وإذا مروا في طريقهم بقول يقال، أو فعل يفعل مما لا فائدة فيه جاوزوه معرضين عنه، أزكياء غير متدنسين بشيء منه، ولا ملتفتين لأهله.
موعظة:
في الإقبال على اللغو شغل للبال به، وتكدير للخاطر بظلمته، وتضييع للوقت فيه، ولكل كلمة تسمعها أو فعلة تشهدها أثر في حياتك وإن قل. وقد يعقبها ضدها فتزول بعدما شغلت وعطلت. وقد يردفها مثلها فتثبت وتنمو وتسوء عاقبتها ولو بعد حين.
وبقدر ما تلتفت إلى اللغو تلتفت عن كرمك، وبقدر ما يعلق بك منه ينقص من ذكائك.
__________
(1) رواه البخاري في الشهادات باب 10، والأدب باب 6، والاستئذان باب 35. ومسلم في الإيمان حديث 143 و 144. والترمذي في الشهادات باب 3، والبر باب 4، وتفسير سورة 4 باب 5. وأحمد في المسند (3/ 131، 5/ 36، 38) .[/rtl]
[rtl]وبقدر ما تتساهل بالوقوف عليه تقرب من الدخول فيه، وإذا دخلت فيه واستأنست بأهله جرك إلى الزور وعظائم الأمور.
وللشر أسباب متواصلة، وأنساب متصلة يؤدي بعضها إلى بعض، فينتقل المغرور الغافل من خفيها إلى جليها، ومن صغيرها إلى كبيرها.
فالحازم من لم يسامح نفسه في قليلها، ويباعد كل البعد عنها وعن أهلها، وقد هدتنا هذه الآيات لنهتدي، وذكرت عباد الرحمن لنقتدي.
***
الصفة الحادية عشرة:
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) } [الفرقان: 73] .
لما وصفهم فيما تقدم بإعراضهم عن الباطل، ومجانبتهم لأهله، وبعدهم عنه، وصفهم هنا بإقبالهم على الحق، وإكبابهم عليه، متفهمين مستبصرين.
{ذكروا} وعظوا ونبهوا. {بآيات ربهم} هي آيات القرآن، وفيها التذكير بآيات الأكوان التى ترى بالعيان.
(الخرور) هو السقوط كسقوط الساجد. (الأصم) فاقد حاسة السمع، أو الذي لا يتدبر ما يسمع فلا ينتفع به، وهو المراد هنا.
و (الأعمى) فاقد حاسة البصر، أو الذي لا يعتبر فيما يبصر فلا ينتفع به، ويكون الأعمى بمعنى فاقد الإدراك القلبي وهو عمى البصيرة، وما هنا يحتمل الوجهين الأخيرين.
عبربـ (إذا) لأن التذكير مما هو واقع محقق كالذي يسمع من القرآن في الصلاة ومن الخطب في الجمع.
وبنى الفعل للنائب لأن التذكير بالآيات يجب قبوله من أي مذكر كان.
و {صماً وعمياناً} حال من الواو ضمير الجماعة في {لم يخروا} ، والنفي منصب على الحال التي هي قيد في الكلام.
وإذا كان الكلام مقيداً بقيد كما هنا، فإن النفي ينصب على ذلك القيد في غالب الاستعمال العربي. ونظيره: ما رأيت زيداً راكباً نفياً للركوب لا للرؤية. ولا يلقاني مسلماً نفياً للسلام لا للقاء.
فلم ينف عنهم الخرور، وإنما نفى عنهم الصمم والعمى عند الخرور.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن: أنهم إذا ذكرهم مذكر بآية ربهم التي أنزلها على نبيهم- صلى الله[/rtl]
[rtl]عليه وآله وسلم- بما فيها من ذكر مخلوقاته وإنعاماته، وأيامه في أوليائه وأعدائه، ووعده ووعيده، وترغيبه وترهيبه- أقبلوا عليها، وأكبوا على سماعها، بآذان واعية، وأبصار راعية، وقلوب حاضرة، وعقول متدبرة. لا كمن يقبلون عليها ويكبون على سماعها، ولكنهم لا يسمعون ولا يبصرون، لأنهم لا يعقلون ولا يتدبرون.
عموم الحاجة للتذكير:
بعدما ذكر تعالى من صفات عباد الرحمن ما ذكر.. ذكر استماعهم للتذكير، تنبيهاً على أن التذكير محتاج إليه في كل حال، فإذا كان الموصوفون بتلك الصفات يحتاجون إليه فغيرهم أولى، وذلك لأن الغفلة من طبع الإنسان، ودوام الغفلة صدأ القلوب، وصقالها هو التذكير.
قبول التذكير من كل مذكر:
كما تقبل كلمة الحق من كل قائل، كذلك يقبل التذكير من كل مذكر، ولو كان المذكِّر من أكمل العباد، والمذكِّر من أوساطهم، أو أدناهم. وفي عباد الرحمن المذكورين في استماعهم إذا ذكروا من أي مذكر- القدوة الحسنة.
ما يكون به التذكير:
قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
فالتذكير بآيات القرآن والأحاديث النبوية، هذا هو التذكير المشروع المتبوع، والدواء الناجع المجرب. ولذلك تجد مواعظ السلف كلها مبنية عليه راجعة إليه والنصح لله ولرسوله وللمسلمين في لزوم ذلك والسير عليه.
أقسام الناس عند التذكير:
الناس عند تلاوة آيات القرآن على قسمين:
(أ) معرضين. (ب) ومقبلين.
فالمعرضون غير المؤمنين.
والمقبلون على قسمين:
(أ) مقبلين بظاهرهم دون باطنهم.
(ب) ومقبلين بظاهرهم وباطنهم.
فالمقبلون بظاهرهم دون باطنهم هم المنافقون.
والمقبلون بظاهرهم وباطنهم على قسمين:
(أ) مستمعين، مستبصرين، حاضرين، متدبرين.
(ب) وغافلين غير متدبرين غير سامعين ولا مبصرين.[/rtl]
[rtl]والأقسام كلها مذمومة إلاّ قسم المقبلين بظواهرهم وبواطنهم، المستمعين المستبصرين. وهذا القسم هو الذي وصف به عباد الرحمن، فكانوا مباينين لأهل الإعراض من الكافرين والمنافقين، ولأهل الغفلة، وعدم التدبر من المؤمنين.
تحذير وتنبيه:
قد صورت الآية حالة المؤمن بالقرآن الذي ينكب عليه، ويتلقاه بالقبول، ثم لا يتفهمه ولا يتدبره، بحالة الأصم الأعمى في عدم انتفاعه بما انكب عليه، تقبيحاً لعدم التفهم والتدبر من المؤمن للآيات، وتحذيراً منه وتنبيهاً على أن الانتفاع بالقرآن الذي تتفتح به البصائر، وتتسع به المدارك، وتتهذب به الأخلاق، وتتزكى به النفوس، وتتقوم به الأعمال، وتستقيم به الأحوال؛ إنما يكون بتفهمه، وتدبره، دون مجرد الانكباب عليه بلا تفهم ولا تدبر.
أمر وإرشاد:
الآيات الدالة على طلب التدبر والتفهم لآيات القرآن العظيم كثيرة، منها الآية المتقدمة، ومنها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] . فعلينا أن نحضر قلوبنا عند سماعها، ونستعمل عقولنا في فهمها، ونحمل أنفسنا على الاتعاظ بها، فإذا صدقت النية وأخلص التوجه فتح على العبد من وجوه العلم والعمل- بإذن الله- بما لم يكن له في بال.
وإن الله وصف هذا الكتاب بأنه مبارك؛ لزيادة خيراته وتيسيره للذاكرين- ترغيبا لنا في فهمه وتدبره، واستنزال الخيرات واستزادة البركات منه.
فأقبل- يا أخي- على القرآن: على استماعه وعلى تفهمه، والزم ذلك حتى يصير عادة لك وملكة فيك.. تر من فضل الله وإقباله عليه ما يدنيك- إن شاء الله- ويعليك، ويعود بالخير الجزيل عليك.
والله نسأل لنا ولكم الإقبال على الله بتلاوة وتدبر كتابه، والتأدب بجميع آدابه، حتى نحشر في زمرة أحبابه، بمنه وكرمه آمين.
الصفة الثانية عشرة:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) } [الفرقان: 74] .
لما وصفهم في الآيات المتقدمة، بما دل على أنهم أهل خير وكمال في أنفسهم.. وصفهم في هذه بما دل على محبتهم الخير والكمال لغيرهم من قرابتهم: أزواجهم، وذريتهم، ومن سواهم. وقدم الأزواج على الذرية لأنهم ألصق ولأنهم الأصل.[/rtl]
[rtl]فقه هذه المناسبة:
فطر الإنسان على محبته لنفسه، لتحمله هذه الفطرة على المحافظة عليها، والدفاع عنها، وتكميلها بكل وجوه الكمال. وكان من مقتضى هذه المحبة رغبته في الوجود والبقاء، ومما هو قوة في وجوده ومظهر لبقائه أن يرى الناس على فكره وصفاته وأحواله، فيرى نفسه ممثلة في غيره، وأفكاره وصفاته وأحواله باقية ببقاء الناس.
فالخير الكامل من طبعه، ومن مقتضى فطرته.. أنه يحب انتشار الخير والكمال في الناس.
والشرير الناقص من طبعه ومن مقتضى فطرته أنه يحب انتشار الشر والنقص فيهم. فلذا كان لازماً لتتميم وصف عباد الرحمن ذكر محبتهم الخير والكمال لغيرهم.
ميزان من هذه المناسبة:
قد تخفى عليك دخيلة نفس الإنسان فيمكنك أن تعرفها بما يجري به لسانه، فإذا جرت كلماته بمحبة انتشار الخير والكمال فهو من أهلهما، وإذا جرت بالضد فهو على الضد؛ فما يحب الإنسان انتشاره هو الدليل على صفات نفسه، وهو ميزان تزنه به في الشر والخير، والنقص والكمال.
(الهبة) العطاء من غير عوض، ولا تكون على الحقيقة التامة إلاّ من الله، فهو الغني الوهاب.
(من) ابتدائية فمن ناحية الأزواج والذرية تكون قرة الأعين.
(الأزواج) جمع زوج، وهو يصدق على الرجل والمرأة، والنساء شقائق الرجال وهذا الدعاء كما يكون من المؤمنين يكون من المؤمنات.
كما تصدق الآيات المتقدمة على الموصوفين من الصنفين بتلك الصفات.
(الذرية) من تناسل منهم من أبنائهم وبناتهم. وقرئت بالإفراد لاتحادها في أصل النسل، وبالجمع لاختلافها في الفروع والأنساب.
{قرة أعين} : بردها إن كانت من القر وهو البرد، وسكونها إن كانت من القرور بمعنى الاستقرار.
(الإمام) هو المتبع المقتدى به، وأفرد، لأن المراد به الجنس، وحسن الإفراد من جهة اللفظ لوقوعه فاصلة على وزان ما قبلها وما بعدها. ومن جهة المعنى أن أئمة الهدى كنفس واحدة، لاتحاد طريقهم بالسير على الصراط المستقيم، واتحاد وجهتهم بالقصد إلى الله تعالى وحده.
{قرة أعين} تركيب كنائي فإذا كانت القرة من القر فهو كناية عن السرور، لأن العين في حالة السرور باردة، وإذا سالت منها دموع في حالة الفرح كانت باردة. وإذا كان الإنسان في حالة حزن فالعين تكون سخنة؛ بسبب ثورة النفس وآلامها التي تثير الحرارة، فإذا سالت منها دموع الحزن كانت سخنة.[/rtl]
[rtl]ومما يقال على هذا: أقر الله عين المحق، وأسخن عين المبطل.
وجاء عليه قول أبي تمام:
فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتْ
فقرة أعينهم على هذا، كناية عن سرورهم بأزواجهم وذريتهم، بما هم عليه من الخير والكمال وإعانتهم لهم عليهما.
وإذا كانت القرة من القرور، فهي كناية عن سكون النفس بحصولها على ما يرضيها من الأزواج والذرية.
ومعنى هذا أن النفس إذا لم تحصل على ما يرضيها، تعلقت بما عند غيرها وتشوقت إليه، فتمتد إليه العين، ويطمح إليه البصر. وإذا حصلت على ما يرضيها زالت عن ذلك التعلق وانكفت عن التشوف؛ فسكنت العين فلم تمتد إلى غير ما عندها، ولم يطمح البصر إليه؛ ولهذا كما كان قرور العين كناية عن رضى النفس وسكونها كان امتداد العين كناية عن اضطراب النفس وتشوفها وتعلقها. وعليه قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 31] .
فقرة أعينهم على هذا كناية عن رضى أنفسهم بما يكون لهم من أزواج وذرية، موصوفين بالصفات المرضية، من طاعة الله في القيام بوظائف الدين والدنيا، وإعانتهم لهم على القيام بها.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يدعون ربهم، يسألونه أن يهب لهم أزواجاً وذريةً، تقر بهم أعينهم، بأن يكونوا موصوفين بمثل صفاتهم سائرين على منهاجهم، معينين لهم على ما هم عليه، ويسألونه أن يكونوا على أكمل حال في العلم والعمل والاستقامة، يقتدي بهم فيها المتقون.
الأحكام:
الأول:
التزوج وطلب النسل هو السنة: سنة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنة أصحابه عليهم الرضوان، وسنة عباد الرحمن، وليس من شريعته الحنيفية السمحة؛ الرهبانية، والتبتل.
وقد رأى قوم من الزهاد رجحان الانقطاع إلى العبادة على التزوج والاشتغال بالسعي على الزوج والذرية، فرد عليهم أئمة الدين والفتوى بأن في التزوج اتباعاً للسنة، وفي السعي على الأهل ما هو من أعظم العبادة.
وفي التزوج تكثير سواد الأمة والمدافعين عن الملة والقائمين بمصالح الدين والدنيا، وفي هذا ما فيه من الأجر والمثوبة.[/rtl]
[rtl]وفي التبتل مخالفة السنة، وانقطاع النسل، وضعف الأمة وتعطيل المصالح، وخراب العمران، وكفى بهذا كله شراً وفساداً!!
الثاني:
سؤال العبد من ربه أن يهب له من الزوج والذرية ما تقر به عينه، يقتضي سعيه بقدر استطاعته لتحصيل ذلك فيهما، ليقوم بالسببين المشروعين من السعي والدعاء.
فعليه أن يختار ويجتهد عندما يريد التزوج.
وأن يقصد إلى ذات الدين (1) .
وفي اختياره واجتهاده في جانب الزوجة سعي في اختيار الولد؛ فإن الزوجة الصالحة شأنها أن تربي أولادها على الخير والصلاح.
ثم عليه أن يقوم بتعليم زوجه وأولاده وتهذيبهم وإرشادهم، فيكون قد قام بما عليه في الابتداء والاستمرار، مع دوام التضرع إلى الله تعالى والابتهال.
الثالث:
ما تقر به الأعين يحصل به الفرح والسرور؛ فالفرح والسرور بما هو خير وطاعة من حيث أنه نعمة من الله وفضل- محمود ومشروع.
الرابع:
طلب الرتب العليا في الخير والكمال والسبق إليها والتقدم فيها، مما يدعونا إليه الله، ويرغبنا بمثل هذه الآية فيه، كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148، والمائدة: 48] .؛ لأن طلب الكمال كمال؛ ولأن من كانت غايته الرتب العليا، إن لم يصل إلى أعلاها لم ينحط عن أدناها، وإن لم يساو أهلها لم يبعد عنها.
ومن لم يطلب الكمال بقي في النقص، ومن لم تكن له غاية سامية قصر في السعي، وتوانى في العمل.
فالمؤمن يطلب أسمى الغايات حتى إذا لم يصل لم يبعد، وحتى يكون في مظنة الوصول بصحة القصد وصدق النية.
الخامس:
من الدين الإقتداء بأهل العلم والعمل والاستقامة في الهَدْي والسمت.
__________
(1) روى البخاري في كتاب النكاح، باب 15، حديث 509، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قال تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك» .[/rtl]
[rtl]السادس:
لا يكون الإمام إلاّ تقياً فاق غيره في التقوى.
السابع:
إن إقتداء المتقين بأئمتهم إنما هو في التقوى؛ لأنهم ما كانوا أئمة إلاّ بها، فالآية أفادت: أن المتقين يقتدون بأئمتهم، وأن أئمتهم متقون مثلهم، وأكمل منهم التقوى، وأن إقتداءهم بهم في التقوى لا في غيرها؛ فمن حاد عنها فلا إمامة له.
تمييز:
الخَيِّرُ الكامل، المقدم في الخير والكمال، المقتدى به فيهما إذا طلب الإمامة من حيث الخير والكمال نفسهما، ومن حيث حمل الناس عليهما بالقدوة الصالحة له فيهما؛ لأن فعل الخير والاتصاف بالكمال دعوة إليهما بالعمل، وهي أبلغ من الدعوة بالقول؛ ومن حيث انتشارهما في الناس وسعادة الناس بها. إذا طلب الإمامة من هذه الحيثيات فطلبه مشروع محمود، وهو طلب عباد الرحمن المذكور في الآية. وإذا طلب الإمامة والتقدم لأجل الترأس والتقدم، فهذا طلب مذموم من عمل المتكبرين لا من عمل المتقين.
فعلى الداعي أن يميز هذا التمييز ليخلص القصد في دعائه ويكون على صواب فيه.
كلمة عظيمة من إمام عظيم:
قال مجاهد (1) التابعي الجليل الثقة الثبت المفسر الكبير:
«أئمة، نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا» . ذكره البخاري (2) ، ورواه ابن جرير بسند صحيح (3) . يعني أن الذين يقتدي بهم الناس من بعدهم هم الذين كانوا يقتدون بسلفهم الصالح من قبلهم.
فالذين أحدثوا في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح لم يقتدوا بمن قبلهم، فليسوا أهلاً لأن يقتدي بهم من بعدهم.
فكل من اخترع وابتدع في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح فهو ساقط عن رتبة الإمامة فيه
__________
(1) هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي المخزومي مولاهم المقري، المفسر، مولى قيس بن السائب. ثقة، إمام في التفسير وفي العلم. أخرج له الستة. توفي سنة 101 أو 102 أو 103 أو 104 هـ انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/ 42) وميزان الاعتدال (3/ 439) وسير أعلام النبلاء (4/ 449) وديوان الإسلام (ت:1801) والثقات (5/ 419) والكاشف (3/ 120) وتاريخ البخاري الكبير (7/ 411) والجرح والتعديل (8/ 1469) .
(2) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب 2.
(3) تفسير الطبري (9/ 425) بسنده عن ابن بشار، عن مؤمل عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.[/rtl]
سلوك وإقتداء:
كان الأعرابي الجاهل المشرك يأتي للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيؤمن به، ويصحبه يتعلم منه الدين، ويأخذ عنه الهدى، فيستنير عقله بعقائد الحق، وتتزكى نفسه بصفات الفضل، وتستقيم أعماله على طريق الهدى؛ فيرجع إلى قومه هادياً مهدياً، إماماً يقتدى به ويؤخذ عنه كما اقتدى هو بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأخذ عنه.
فعلى كل مؤمن أن يسلك هذا السلوك، فيحضر مجالس العلم التي تذكره بآيات الله، وأحاديث رسوله ما يصحح عقيدته، ويزكي نفسه، ويقوِّم عمله.
وليطبق ما يسمعه على نفسه، وليجاهد في تنفيذه على ظاهره وباطنه، وليداوم على هذا، حتى يبلغ إلى ما قدر له من كمال فيه، فيرجع وهو قد صار قدوة لغيره في حاله وسلوكه.
وطلبة علم الدين، الذين وهبوا نفوسهم لله، وقصروا أعمارهم على طلب العلم لدعوة الخلق إلى الله، هم المطالبون- على الأخص- بهذا السلوك ليصلوا إلى إمامة الحق، وهداية الخلق على أكمل حالة، ومن أقرب طريق.
فاللهم وفقنا، واهدنا إلى سنة نبينا، إذا اقتدينا وإذا اقتدي بنا. آمين يا رب العالمين.
***
{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) } [الفرقان: 72] .
نفى عنهم فيما تقدم حضور مشاهد الزور، وأخبر هنا أنهم لا يقفون عند اللغو عندما يمرون عليه، تَرَقيا في وصفهم بالبعد عن الباطل والإثم والعبث، ومجانبة أهله.
(اللغو) مصدر لغا يلغو أي قال باطلًا فهو القول الباطل، ومثله الفعل الباطل من كل ما لا فائدة فيه، ولا نتيجة له، مما شأنه أن يلغى ويطرح.
و (الكريم) : الخالص العنصر فهو الزكي غير المتدنس، ومن مقتضى ذلك حسن أخلاقه، واستقامة أعماله، وسلامته من الرذائل.
(كرامًا) حال من فاعل {مروا} الثاني، ليبين وصفهم عند المرور.
المعنى:
وإذا مروا في طريقهم بقول يقال، أو فعل يفعل مما لا فائدة فيه جاوزوه معرضين عنه، أزكياء غير متدنسين بشيء منه، ولا ملتفتين لأهله.
موعظة:
في الإقبال على اللغو شغل للبال به، وتكدير للخاطر بظلمته، وتضييع للوقت فيه، ولكل كلمة تسمعها أو فعلة تشهدها أثر في حياتك وإن قل. وقد يعقبها ضدها فتزول بعدما شغلت وعطلت. وقد يردفها مثلها فتثبت وتنمو وتسوء عاقبتها ولو بعد حين.
وبقدر ما تلتفت إلى اللغو تلتفت عن كرمك، وبقدر ما يعلق بك منه ينقص من ذكائك.
__________
(1) رواه البخاري في الشهادات باب 10، والأدب باب 6، والاستئذان باب 35. ومسلم في الإيمان حديث 143 و 144. والترمذي في الشهادات باب 3، والبر باب 4، وتفسير سورة 4 باب 5. وأحمد في المسند (3/ 131، 5/ 36، 38) .[/rtl]
[rtl](1/232)[/rtl]
وللشر أسباب متواصلة، وأنساب متصلة يؤدي بعضها إلى بعض، فينتقل المغرور الغافل من خفيها إلى جليها، ومن صغيرها إلى كبيرها.
فالحازم من لم يسامح نفسه في قليلها، ويباعد كل البعد عنها وعن أهلها، وقد هدتنا هذه الآيات لنهتدي، وذكرت عباد الرحمن لنقتدي.
***
الصفة الحادية عشرة:
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) } [الفرقان: 73] .
لما وصفهم فيما تقدم بإعراضهم عن الباطل، ومجانبتهم لأهله، وبعدهم عنه، وصفهم هنا بإقبالهم على الحق، وإكبابهم عليه، متفهمين مستبصرين.
{ذكروا} وعظوا ونبهوا. {بآيات ربهم} هي آيات القرآن، وفيها التذكير بآيات الأكوان التى ترى بالعيان.
(الخرور) هو السقوط كسقوط الساجد. (الأصم) فاقد حاسة السمع، أو الذي لا يتدبر ما يسمع فلا ينتفع به، وهو المراد هنا.
و (الأعمى) فاقد حاسة البصر، أو الذي لا يعتبر فيما يبصر فلا ينتفع به، ويكون الأعمى بمعنى فاقد الإدراك القلبي وهو عمى البصيرة، وما هنا يحتمل الوجهين الأخيرين.
عبربـ (إذا) لأن التذكير مما هو واقع محقق كالذي يسمع من القرآن في الصلاة ومن الخطب في الجمع.
وبنى الفعل للنائب لأن التذكير بالآيات يجب قبوله من أي مذكر كان.
و {صماً وعمياناً} حال من الواو ضمير الجماعة في {لم يخروا} ، والنفي منصب على الحال التي هي قيد في الكلام.
وإذا كان الكلام مقيداً بقيد كما هنا، فإن النفي ينصب على ذلك القيد في غالب الاستعمال العربي. ونظيره: ما رأيت زيداً راكباً نفياً للركوب لا للرؤية. ولا يلقاني مسلماً نفياً للسلام لا للقاء.
فلم ينف عنهم الخرور، وإنما نفى عنهم الصمم والعمى عند الخرور.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن: أنهم إذا ذكرهم مذكر بآية ربهم التي أنزلها على نبيهم- صلى الله[/rtl]
[rtl](1/233)[/rtl]
عموم الحاجة للتذكير:
بعدما ذكر تعالى من صفات عباد الرحمن ما ذكر.. ذكر استماعهم للتذكير، تنبيهاً على أن التذكير محتاج إليه في كل حال، فإذا كان الموصوفون بتلك الصفات يحتاجون إليه فغيرهم أولى، وذلك لأن الغفلة من طبع الإنسان، ودوام الغفلة صدأ القلوب، وصقالها هو التذكير.
قبول التذكير من كل مذكر:
كما تقبل كلمة الحق من كل قائل، كذلك يقبل التذكير من كل مذكر، ولو كان المذكِّر من أكمل العباد، والمذكِّر من أوساطهم، أو أدناهم. وفي عباد الرحمن المذكورين في استماعهم إذا ذكروا من أي مذكر- القدوة الحسنة.
ما يكون به التذكير:
قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
فالتذكير بآيات القرآن والأحاديث النبوية، هذا هو التذكير المشروع المتبوع، والدواء الناجع المجرب. ولذلك تجد مواعظ السلف كلها مبنية عليه راجعة إليه والنصح لله ولرسوله وللمسلمين في لزوم ذلك والسير عليه.
أقسام الناس عند التذكير:
الناس عند تلاوة آيات القرآن على قسمين:
(أ) معرضين. (ب) ومقبلين.
فالمعرضون غير المؤمنين.
والمقبلون على قسمين:
(أ) مقبلين بظاهرهم دون باطنهم.
(ب) ومقبلين بظاهرهم وباطنهم.
فالمقبلون بظاهرهم دون باطنهم هم المنافقون.
والمقبلون بظاهرهم وباطنهم على قسمين:
(أ) مستمعين، مستبصرين، حاضرين، متدبرين.
(ب) وغافلين غير متدبرين غير سامعين ولا مبصرين.[/rtl]
[rtl](1/234)[/rtl]
تحذير وتنبيه:
قد صورت الآية حالة المؤمن بالقرآن الذي ينكب عليه، ويتلقاه بالقبول، ثم لا يتفهمه ولا يتدبره، بحالة الأصم الأعمى في عدم انتفاعه بما انكب عليه، تقبيحاً لعدم التفهم والتدبر من المؤمن للآيات، وتحذيراً منه وتنبيهاً على أن الانتفاع بالقرآن الذي تتفتح به البصائر، وتتسع به المدارك، وتتهذب به الأخلاق، وتتزكى به النفوس، وتتقوم به الأعمال، وتستقيم به الأحوال؛ إنما يكون بتفهمه، وتدبره، دون مجرد الانكباب عليه بلا تفهم ولا تدبر.
أمر وإرشاد:
الآيات الدالة على طلب التدبر والتفهم لآيات القرآن العظيم كثيرة، منها الآية المتقدمة، ومنها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] . فعلينا أن نحضر قلوبنا عند سماعها، ونستعمل عقولنا في فهمها، ونحمل أنفسنا على الاتعاظ بها، فإذا صدقت النية وأخلص التوجه فتح على العبد من وجوه العلم والعمل- بإذن الله- بما لم يكن له في بال.
وإن الله وصف هذا الكتاب بأنه مبارك؛ لزيادة خيراته وتيسيره للذاكرين- ترغيبا لنا في فهمه وتدبره، واستنزال الخيرات واستزادة البركات منه.
فأقبل- يا أخي- على القرآن: على استماعه وعلى تفهمه، والزم ذلك حتى يصير عادة لك وملكة فيك.. تر من فضل الله وإقباله عليه ما يدنيك- إن شاء الله- ويعليك، ويعود بالخير الجزيل عليك.
والله نسأل لنا ولكم الإقبال على الله بتلاوة وتدبر كتابه، والتأدب بجميع آدابه، حتى نحشر في زمرة أحبابه، بمنه وكرمه آمين.
الصفة الثانية عشرة:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) } [الفرقان: 74] .
لما وصفهم في الآيات المتقدمة، بما دل على أنهم أهل خير وكمال في أنفسهم.. وصفهم في هذه بما دل على محبتهم الخير والكمال لغيرهم من قرابتهم: أزواجهم، وذريتهم، ومن سواهم. وقدم الأزواج على الذرية لأنهم ألصق ولأنهم الأصل.[/rtl]
[rtl](1/235)[/rtl]
فطر الإنسان على محبته لنفسه، لتحمله هذه الفطرة على المحافظة عليها، والدفاع عنها، وتكميلها بكل وجوه الكمال. وكان من مقتضى هذه المحبة رغبته في الوجود والبقاء، ومما هو قوة في وجوده ومظهر لبقائه أن يرى الناس على فكره وصفاته وأحواله، فيرى نفسه ممثلة في غيره، وأفكاره وصفاته وأحواله باقية ببقاء الناس.
فالخير الكامل من طبعه، ومن مقتضى فطرته.. أنه يحب انتشار الخير والكمال في الناس.
والشرير الناقص من طبعه ومن مقتضى فطرته أنه يحب انتشار الشر والنقص فيهم. فلذا كان لازماً لتتميم وصف عباد الرحمن ذكر محبتهم الخير والكمال لغيرهم.
ميزان من هذه المناسبة:
قد تخفى عليك دخيلة نفس الإنسان فيمكنك أن تعرفها بما يجري به لسانه، فإذا جرت كلماته بمحبة انتشار الخير والكمال فهو من أهلهما، وإذا جرت بالضد فهو على الضد؛ فما يحب الإنسان انتشاره هو الدليل على صفات نفسه، وهو ميزان تزنه به في الشر والخير، والنقص والكمال.
(الهبة) العطاء من غير عوض، ولا تكون على الحقيقة التامة إلاّ من الله، فهو الغني الوهاب.
(من) ابتدائية فمن ناحية الأزواج والذرية تكون قرة الأعين.
(الأزواج) جمع زوج، وهو يصدق على الرجل والمرأة، والنساء شقائق الرجال وهذا الدعاء كما يكون من المؤمنين يكون من المؤمنات.
كما تصدق الآيات المتقدمة على الموصوفين من الصنفين بتلك الصفات.
(الذرية) من تناسل منهم من أبنائهم وبناتهم. وقرئت بالإفراد لاتحادها في أصل النسل، وبالجمع لاختلافها في الفروع والأنساب.
{قرة أعين} : بردها إن كانت من القر وهو البرد، وسكونها إن كانت من القرور بمعنى الاستقرار.
(الإمام) هو المتبع المقتدى به، وأفرد، لأن المراد به الجنس، وحسن الإفراد من جهة اللفظ لوقوعه فاصلة على وزان ما قبلها وما بعدها. ومن جهة المعنى أن أئمة الهدى كنفس واحدة، لاتحاد طريقهم بالسير على الصراط المستقيم، واتحاد وجهتهم بالقصد إلى الله تعالى وحده.
{قرة أعين} تركيب كنائي فإذا كانت القرة من القر فهو كناية عن السرور، لأن العين في حالة السرور باردة، وإذا سالت منها دموع في حالة الفرح كانت باردة. وإذا كان الإنسان في حالة حزن فالعين تكون سخنة؛ بسبب ثورة النفس وآلامها التي تثير الحرارة، فإذا سالت منها دموع الحزن كانت سخنة.[/rtl]
[rtl](1/236)[/rtl]
وجاء عليه قول أبي تمام:
فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتْ
فقرة أعينهم على هذا، كناية عن سرورهم بأزواجهم وذريتهم، بما هم عليه من الخير والكمال وإعانتهم لهم عليهما.
وإذا كانت القرة من القرور، فهي كناية عن سكون النفس بحصولها على ما يرضيها من الأزواج والذرية.
ومعنى هذا أن النفس إذا لم تحصل على ما يرضيها، تعلقت بما عند غيرها وتشوقت إليه، فتمتد إليه العين، ويطمح إليه البصر. وإذا حصلت على ما يرضيها زالت عن ذلك التعلق وانكفت عن التشوف؛ فسكنت العين فلم تمتد إلى غير ما عندها، ولم يطمح البصر إليه؛ ولهذا كما كان قرور العين كناية عن رضى النفس وسكونها كان امتداد العين كناية عن اضطراب النفس وتشوفها وتعلقها. وعليه قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 31] .
فقرة أعينهم على هذا كناية عن رضى أنفسهم بما يكون لهم من أزواج وذرية، موصوفين بالصفات المرضية، من طاعة الله في القيام بوظائف الدين والدنيا، وإعانتهم لهم على القيام بها.
المعنى:
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يدعون ربهم، يسألونه أن يهب لهم أزواجاً وذريةً، تقر بهم أعينهم، بأن يكونوا موصوفين بمثل صفاتهم سائرين على منهاجهم، معينين لهم على ما هم عليه، ويسألونه أن يكونوا على أكمل حال في العلم والعمل والاستقامة، يقتدي بهم فيها المتقون.
الأحكام:
الأول:
التزوج وطلب النسل هو السنة: سنة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنة أصحابه عليهم الرضوان، وسنة عباد الرحمن، وليس من شريعته الحنيفية السمحة؛ الرهبانية، والتبتل.
وقد رأى قوم من الزهاد رجحان الانقطاع إلى العبادة على التزوج والاشتغال بالسعي على الزوج والذرية، فرد عليهم أئمة الدين والفتوى بأن في التزوج اتباعاً للسنة، وفي السعي على الأهل ما هو من أعظم العبادة.
وفي التزوج تكثير سواد الأمة والمدافعين عن الملة والقائمين بمصالح الدين والدنيا، وفي هذا ما فيه من الأجر والمثوبة.[/rtl]
[rtl](1/237)[/rtl]
الثاني:
سؤال العبد من ربه أن يهب له من الزوج والذرية ما تقر به عينه، يقتضي سعيه بقدر استطاعته لتحصيل ذلك فيهما، ليقوم بالسببين المشروعين من السعي والدعاء.
فعليه أن يختار ويجتهد عندما يريد التزوج.
وأن يقصد إلى ذات الدين (1) .
وفي اختياره واجتهاده في جانب الزوجة سعي في اختيار الولد؛ فإن الزوجة الصالحة شأنها أن تربي أولادها على الخير والصلاح.
ثم عليه أن يقوم بتعليم زوجه وأولاده وتهذيبهم وإرشادهم، فيكون قد قام بما عليه في الابتداء والاستمرار، مع دوام التضرع إلى الله تعالى والابتهال.
الثالث:
ما تقر به الأعين يحصل به الفرح والسرور؛ فالفرح والسرور بما هو خير وطاعة من حيث أنه نعمة من الله وفضل- محمود ومشروع.
الرابع:
طلب الرتب العليا في الخير والكمال والسبق إليها والتقدم فيها، مما يدعونا إليه الله، ويرغبنا بمثل هذه الآية فيه، كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148، والمائدة: 48] .؛ لأن طلب الكمال كمال؛ ولأن من كانت غايته الرتب العليا، إن لم يصل إلى أعلاها لم ينحط عن أدناها، وإن لم يساو أهلها لم يبعد عنها.
ومن لم يطلب الكمال بقي في النقص، ومن لم تكن له غاية سامية قصر في السعي، وتوانى في العمل.
فالمؤمن يطلب أسمى الغايات حتى إذا لم يصل لم يبعد، وحتى يكون في مظنة الوصول بصحة القصد وصدق النية.
الخامس:
من الدين الإقتداء بأهل العلم والعمل والاستقامة في الهَدْي والسمت.
__________
(1) روى البخاري في كتاب النكاح، باب 15، حديث 509، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قال تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك» .[/rtl]
[rtl](1/238)[/rtl]
لا يكون الإمام إلاّ تقياً فاق غيره في التقوى.
السابع:
إن إقتداء المتقين بأئمتهم إنما هو في التقوى؛ لأنهم ما كانوا أئمة إلاّ بها، فالآية أفادت: أن المتقين يقتدون بأئمتهم، وأن أئمتهم متقون مثلهم، وأكمل منهم التقوى، وأن إقتداءهم بهم في التقوى لا في غيرها؛ فمن حاد عنها فلا إمامة له.
تمييز:
الخَيِّرُ الكامل، المقدم في الخير والكمال، المقتدى به فيهما إذا طلب الإمامة من حيث الخير والكمال نفسهما، ومن حيث حمل الناس عليهما بالقدوة الصالحة له فيهما؛ لأن فعل الخير والاتصاف بالكمال دعوة إليهما بالعمل، وهي أبلغ من الدعوة بالقول؛ ومن حيث انتشارهما في الناس وسعادة الناس بها. إذا طلب الإمامة من هذه الحيثيات فطلبه مشروع محمود، وهو طلب عباد الرحمن المذكور في الآية. وإذا طلب الإمامة والتقدم لأجل الترأس والتقدم، فهذا طلب مذموم من عمل المتكبرين لا من عمل المتقين.
فعلى الداعي أن يميز هذا التمييز ليخلص القصد في دعائه ويكون على صواب فيه.
كلمة عظيمة من إمام عظيم:
قال مجاهد (1) التابعي الجليل الثقة الثبت المفسر الكبير:
«أئمة، نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا» . ذكره البخاري (2) ، ورواه ابن جرير بسند صحيح (3) . يعني أن الذين يقتدي بهم الناس من بعدهم هم الذين كانوا يقتدون بسلفهم الصالح من قبلهم.
فالذين أحدثوا في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح لم يقتدوا بمن قبلهم، فليسوا أهلاً لأن يقتدي بهم من بعدهم.
فكل من اخترع وابتدع في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح فهو ساقط عن رتبة الإمامة فيه
__________
(1) هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي المخزومي مولاهم المقري، المفسر، مولى قيس بن السائب. ثقة، إمام في التفسير وفي العلم. أخرج له الستة. توفي سنة 101 أو 102 أو 103 أو 104 هـ انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/ 42) وميزان الاعتدال (3/ 439) وسير أعلام النبلاء (4/ 449) وديوان الإسلام (ت:1801) والثقات (5/ 419) والكاشف (3/ 120) وتاريخ البخاري الكبير (7/ 411) والجرح والتعديل (8/ 1469) .
(2) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب 2.
(3) تفسير الطبري (9/ 425) بسنده عن ابن بشار، عن مؤمل عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.[/rtl]
[rtl](1/239)[/rtl]
كان الأعرابي الجاهل المشرك يأتي للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيؤمن به، ويصحبه يتعلم منه الدين، ويأخذ عنه الهدى، فيستنير عقله بعقائد الحق، وتتزكى نفسه بصفات الفضل، وتستقيم أعماله على طريق الهدى؛ فيرجع إلى قومه هادياً مهدياً، إماماً يقتدى به ويؤخذ عنه كما اقتدى هو بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأخذ عنه.
فعلى كل مؤمن أن يسلك هذا السلوك، فيحضر مجالس العلم التي تذكره بآيات الله، وأحاديث رسوله ما يصحح عقيدته، ويزكي نفسه، ويقوِّم عمله.
وليطبق ما يسمعه على نفسه، وليجاهد في تنفيذه على ظاهره وباطنه، وليداوم على هذا، حتى يبلغ إلى ما قدر له من كمال فيه، فيرجع وهو قد صار قدوة لغيره في حاله وسلوكه.
وطلبة علم الدين، الذين وهبوا نفوسهم لله، وقصروا أعمارهم على طلب العلم لدعوة الخلق إلى الله، هم المطالبون- على الأخص- بهذا السلوك ليصلوا إلى إمامة الحق، وهداية الخلق على أكمل حالة، ومن أقرب طريق.
فاللهم وفقنا، واهدنا إلى سنة نبينا، إذا اقتدينا وإذا اقتدي بنا. آمين يا رب العالمين.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]جزاء عباد الرحمن
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) } [الفرقان: 75 و 76] .
لما ذكر في الآيات المتقدمة صفاتهم وأعمالهم، ذكر ما أعد لهم من عظيم الجزاء على تلك الأعمال، تنبيهاً على ما وضعه تعالى، بمشيئته وحكمته ورحمته، من الارتباط بين هذه الأعمال، وهذا الجزاء، وإفضائها إليه، إفضاء السبب لمسببه؛ ليسعى الراجون لهذا الجزاء من طريق هذه الصفات وهذه الأعمال، كما يسعى لسائر المسببات من طريق أسبابها، وتؤتي جميع الأمور من أبوابها.
وفي هذا حث لأهل هذه الأعمال على التمسك بما هم به عاملون.
وتنبيه لأهل الغرور على بطلان ما هم به مغترون، والكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني (1) .
__________
(1) الحديث عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكيسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» . رواه أحمد في المسند (4/ 124) والترمذي في القيامة باب 25. وابن ماجة في الزهد باب 31.[/rtl]
[rtl]{يجزون} يعطون في مقابلة أعمالهم.
{الغرفة} البيت الأعلى فوق بيت، وأل فيه للجنس، فيصدق بالمتعدد.
{صبروا} حبسوا نفوسهم. والباء فيه سببية.
{يلقون} من لقوا بمعنى يجدون، ويلقون من لقى بمعنى تلقيهم الملائكة أي تقابلهم وتتلقاهم.
{تحية} دعاء بالحياة.
{سلاماً} دعاء بالسلامة.
{خالدين} باقين. {مستقراً} هو المكان الذي ينتهي إليه من غيره ويثبت فيه.
{مقاماً} ، هو المكان يقام ويمكث فيه.
جملة {أولئك} مستأنفة، فإن تلك الصفات والأعمال تشوق السامع إلى معرفة مآلهم، وثمرة أعمالهم، فيسأل عنهما؛ فكانت الجملة جواباً لذلك السؤال المقدر.
وعرف المسند إليه (1) بالإشارة تنبيهاً على استحقاقه للمسند (2) كان بما تقدم من صفات.
وجملة {حسنت} مستأنفة بيانية؛ لأن من عرف حالتهم من الحياة والسلامة والبقاء، يتشوق لمعرفة حال مكان هذه الحياة السالمة الباقية، فيسأل عنه؛ فوقعت جملة {حسنت} موقع الجواب عن هذا السؤال المقدر. وهي إنشائية أفادت إنشاء مدح الغرف بالحسن، وتعظيم ذلك الحسن.
وقدم المستقر؛ لأن أول الحلول استقرار، والمقام ببقاء الاستقرار واستمرار المكث.
المعنى:
أولئك الذين ذكرت صفاتهم وأفعالهم، يعطون جزاء أعمالهم البيوت العلالي في الجنة، بسبب صبرهم، وحبسهم لأنفسهم على الطاعات والمجاهدات وكفهم لها عن المعاصي والشهوات. وتتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام، باقين في هذا النعيم المقيم، وسكنى علالي الجنة التي هي أحسن مستقر ينتهي إليها الإنسان ومقام يمكث فيه.
تطبيق حديث وفقهه:
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:
__________
(1) المسند إليه هو «أولئك» .
(2) المسند هو {يجزون ... } إلخ.[/rtl]
[rtl]«إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري (1) الغابر (2) في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضل ما بينهم.
قالوا يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟
قال: بلى،- والذي نفسي بيده- رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» (3) .
فهذا الحديث بين أن أهل الغرف هم أكمل المؤمنين، وأعلاهم درجة في الجنة بهذا المقدار من البعد، فهم الموصوفون بالصفات المذكورة في الآية المتقدمة على أتمها.
ومن لم يكن مثلهم فيها لم يكن في منازلهم التي جوزوا بها عليها، وكان على حسب حظه من الإيمان، في منزلة من منازل أهل الجنة الذين يتراءون أهل الغرف.
فدرجات أهل الجنة في منازلهم على حسب سلوكهم في أعمالهم:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 21، 22] .
دلالة:
دلت الآية على السبب الذي أفضى بهم إلى هذا الجزاء العظيم، وهو أعمالهم.
ودلت على السبب الذي تمكنوا به من القيام بهذه الأعمال، وهو الصبر لقوله تعالى: {بما صبروا} .
ومن أعظم الحكمة معرفة الأسباب والمسببات، وارتباط بعضها ببعض، فلا ينهض بامتثال المأمورات وترك المنهيات إلاّ من صبر، والصبر خلق من الأخلاق التي تتربى وتنمو بالمران والدوام، فواجب على المكلف أن يجعل تربية نفسه عليه، وتعويدها به من أكبر همه، إذ لا يقوم بالتكاليف الشرعية إلاّ به؛ بل ولا يستطيع الحياة في هذه الدار الدنيا الموضوعة على المحنة والابتلاء إلا إذا تمسك بسببه.
بيان القرآن للقرآن:
في هذه الآية: أنهم يلقون تحية وسلاماً؛ وقد بين من يتلقاهم بذلك في قوله تعالى:
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [النحل: 97] . فالملائكة هم
__________
(1) الكوكب الدري: فيه ثلاث لغات، الأكثرون "دري" بضم الدال وتشديد الياء بلا همز. والثانية بضم الدال مهموز ممدود. والثالثة بكسر الدال مهموز ممدود. وهو الكوكب العظيم. قيل: سمي دريا لبياضه كالدر، وقيل: لإضاءته، وقيل: لشبهه بالدر في كونه أرفع من باقي النجوم كالدر أرفع الجواهر.
(2) الغابر: الذاهب الماضي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون.
(3) رواه البخاري في بدء الخلق باب 8، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها حديث رقم 11.[/rtl]
[rtl]الذين يتلقونهم في السلام، والدعاء لهم بالطيب، وهو مما يدخل في التحية؛ لأن من طيبهم طيب حياتهم.
وما أكثر ما تجد في القرآن!!، فاجعله من بالك تهتد- إن شاء الله- إليه.
إقتداء ورجاء:
هؤلاء السالكون، وما ذكر من أعمالهم وأحوالهم هو سلوكهم؛ ولما سلكوا الصراط المستقيم، بالعمل المستقيم، انتهى بهم السير إلى أحسن قرار ومقام، إلى دار النعيم المقيم، في جوار الرحمن الرحيم.
فإذا اشتقت إلى نهايتهم فتمسك ببدايتهم، وزن أعمالك بأعمالهم، وأحوالك بأحوالهم، فإذا جعلت ذلك من همك، وحملت عليه نفسك بصادق عزمك، وصبرت كما صبروا رجوت أن تظفر بما ظفروا.
فالله نسأل لنا ولك وللمسلمين صحة الإقتداء، وصدق الرجاء، وحسن الجزاء.
[[ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ]]
***
قيمة العباد عند ربهم بقدر عبادتهم
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } [الفرقان: 77] .
قد أفادت الآية السابقة كمال حال عباد الرحمن في نفوسهم وعقولهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، وأفادت عظيم منزلتهم عند ربهم، ورفيع ما أعد لهم من درجاتهم، جزاء على صالحاتهم وحسناتهم.
وجات هذه الآية تفيد أن ذلك المقام العظيم الذي كان عند ربهم، إنما هو بسبب عبادتهم. وتعلن للناس أن عبادتهم هي الشيء الوحيد، الذي يكون لهم به قدر وقيمة عند ربهم، وبدونها لا يكون لهم وزن عند خالقهم، ولا يكونون شيئاً يبالى به.
وأن من كذب وخلع بتكذيبه ربقة العبادة، فقد حقت عليه كلمة العذاب، وهو واقع به لا محالة.
{ما يعبأ بكم} ما يبالى بكم. (العبء) هو الثقل فما عبأت به: بمعنى ما كان له عندي وزن ولا مقدار. وعبأت به: كان له عندي وزن ومقدار. وعدي بالباء لأنه بمعنى ما باليت.
{دعاؤكم} عبادتكم من إطلاق الجزء على الكل.
{كذبتم} كفرتم فلم تعبدوا.[/rtl]
[rtl]{لزاماً} ملازماً، وأصل اللزام مصدر لازم واختير هنا للتنبيه على أن بين المكذبين والعذاب ملازمة من الطرفين: فهم بتكذيبهم قد ألزموا أنفسهم العذاب فلازمهم العذاب.
جواب {لولا} محذوف لدلالة ما تقدم، وتقدير الكلام: لولا دعاؤكم ما عبأ بكم. وجملة {فقد كذبتم} واقعة موقع التعليل لكلام مقدر تقديره- والله أعلم-: لا يعبأ بكم فقد كذبتم، أي لأنكم قد كذبتم، فالفاء تعليلية. وأما جملة {فسوف يكون} فمتسببة عما قبلها، فالفاء فيها سببية. وضمير {يكون} عائد على العذاب المفهوم من المقام.
المعنى:
قل للذين أرسلت إليهم: ما يبالي بكم ربي، ولا يعبأ بكم، ولا يكون لكم عنده وزر، لولا إيمانكم وعبادتكم.
فإذا كذبتم وكفرتم، فهو لا يعبأ بكم، وسوف يكون العذاب ملازماً لكم بسبب تكذيبكم.
تحرير في المخاطب:
المخاطبون هم الذين كذبوا، ثم إن ما لحقهم بسبب التكذيب من العذاب الملازم فهو خاص بهم، وبالمكذبين أمثالهم. وما كان موجهاً لهم من جهة أنهم عباد- وهو أن الله لا يعبأ بهم لولا دعاؤهم- فهو عالم لجميع العباد لمماثلتهم لهم في العبودية لله، واستغناء الله عنهم، وفرض العبادة عليهم، وعدم التقدير لهم إلاّ بها.
تفسير أثري:
أخرج البخاري في كتاب التفسير، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"خمس قد مضين: الدخان، والقمر، والروم، والبطشة، واللزام". ورواه في مواضيع أخرى من صحيحه (1) .
وعني بالدخان المذكور، في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . وبالقمر المذكور في قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] .
وبالبطشة المذكورة، في: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] . وباللزام المذكور في هذه الآية.
وفسر ابن مسعود البطشة الكبرى بيوم بدر، وفسر اللزام به أيضاً (2) . فهي في الحقيقة أربع وعدها خمسا باعتبار الوصفين البطش والملازمة.
__________
(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في كتاب التفسير (تفسير سورة الفرقان، باب 4، حديث 4767) و (تفسير سورة الدخان، باب 1 و6، حديث 4820 و4825) . وأخرجه أيضاً بأطول من هذا في تفسير سورة الدخان، باب 5، حديث 4824، وتفسير سورة يوسف، باب 4، حديث 4693.
(2) انظر تفسير الطبري (9/ 428- الأثر رقم:26573) .[/rtl]
[rtl]وفسر الحسن (1) اللزام بعذاب يوم القيامة.
ومن عادة السلف أنهم يفسرون اللفظ بما يدخل في عمومه دون قصد للقصر عليه. ولا منافاة حينئذ بين التفسيرين، فيكونون قد توعدوا على تكذيبهم بلزوم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
ترهيب:
رتب لزوم العذاب على التكذيب، فأعظم العذاب الأكمل التكذيب، وهو تكذيب الكفر.
ثم أصناف العذاب لازمة لتكذيب العصيان بالعدل والحكمة في التقسيم والترتيب.
استنباط:
لما كانت مقادير العباد عند ربهم بحسب عبادتهم، فالأنبياء- عليهم السلام- أعلى الناس منزلة عند الله فهم أعظمهم عبادة لله، وهم أتقاهم له وأشدهم خشية منه. وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مالك وغيره:
«والله إني أرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي» (2) .
وقال أيضا: «والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده» (3) .
سؤال استطرادي وجوابه:
كيف يخشى وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
__________
(1) هو الحسن بن أبي الحسن البصري المتوفى سنة 110 هـ. وهو رأس الطبقة الثالثة من التابعين. ثقة، فقيه، فاضل، مشهور، روى له الستة في الصحاح. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (2/ 263) وتقريب التهذيب (1/ 165) وخلاصة تهذيب الكمال (1/ 210) والكاشف (1/ 220) وتاريخ البخاري الكبير (2/ 289) والجرح والتعديل (3/ 177) وميزان الاعتدال (1/ 483) ولسان الميزان (2/ 199) وطبقات خليفة بن خياط (1726) وأخبار القضاة (2/ 3) وحلية الأولياء (2/ 131) وطبقات ابن سعد (9/ 49) وسير أعلام النبلاء (4/ 563) والثقات لابن حبان (4/ 122) .
(2) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها مالك في الموطأ (كتاب الصيام، حديث 9) ومسلم في الصيام حديث 79، وأحمد في المسند (6/ 67، 122، 156، 226، 245) .
(3) روى الحديث مرسلاً مالك في الموطأ (كتاب الصيام، حديث رقم 13) والشافعي في الرسالة (رقم 1109 بتحقيق أحمد محمد شاكر) : عن عطاء بن يسار؛ أن رجلاً قبل امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبِّل وهو صائم. فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شراً. وقال: لسنا مثل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الله يحل لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شاء. ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لهذه المرأة؟» فأخبرته أم سلمة فقال رسول الله": «ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؛» فقالت: قد أخبرتها. فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده شراًّ وقال: لسنا مثل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الله يحل لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شاء. فغضب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده» .[/rtl]
[rtl]أجاب العلماء عن هذا بأجوبة:
1- منها أنه لا يخشى العقاب، ولكنه يخشى العتاب.
2- ومنها قول الأكثر؛ أنه غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، بشرط امتثاله لما أمر به.
ذكر هذين ابن العربي في "القبس".
3- ومنها أنها خشية الإجلال، ومشاهدة عظمة الربوبية، وأنه لا يجب عليه تعالى شيء.
وهذان الحديثان الصحيحان من الأدلة الصريحة عند أهل العلم، على أن العبادة الشرعية الإسلامية لا تتجرد من الخوف، حتى عبادة أفضل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
تعليل:
الإنسان مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي، وهو روحه.
ومعرض للسقوط والنقصان بما فيه من أخلاط عناصر جزئه الأرضي الظلماني، وهو جسده.
ولا يخلص من كدرات جثمانه ولا ينجو من أسباب نقصانه إلاّ بعبادة ربه، التي بها صفاء عقله، وزكاء نفسه، وطهارة بدنه في ظاهره وباطنه.
فبعبادة ربه يكمل فيرقى في مراتب الكمال، ويدنو من الملأ الأعلى، عند الرب الأعلى ذي الجلال والإكرام.
فالله طيب لا يقبل إلاّ الطيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، ولا طيب ولا كمال إلاّ للعابدين، فلا قيمة ولا قبول لغيرهم عند رب العالمين.
إرشاد وتحذير:
قد بين لك الطريق الذي يوصلك إلى مولاك ويرقيك في مراتب كمالك وعلاك، وما هو إلاّ عبادة ربك: فكن عبدا له في اختيارك واضطرارك وفي جميع أحوالك.
واحذر أن تعتمد على شيء غير عبادته.
واحذر أن تتوجه بشيء من عبادتك لغيره.
ومن عبادتك- بل هو مخ عبادتك- دعاؤك وسؤالك واستغاثتك.. فإياك إياك أن تتوجه منه بشيء لغيره. فكن دائما عبداً لله، وكن دائماً عبداً له وحده، فذلك حقه عليك، وذلك السبب الوحيد الذي ينجيك ويعليك.
والله نسأل أن يقصرنا على عبادته، ويديمنا على الإخلاص في التوجه إليه، حتى نلقاه على ملة الإسلام، وهدى عباده الصالحين، آمين يا رب العالمين.[/rtl]
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) } [الفرقان: 75 و 76] .
لما ذكر في الآيات المتقدمة صفاتهم وأعمالهم، ذكر ما أعد لهم من عظيم الجزاء على تلك الأعمال، تنبيهاً على ما وضعه تعالى، بمشيئته وحكمته ورحمته، من الارتباط بين هذه الأعمال، وهذا الجزاء، وإفضائها إليه، إفضاء السبب لمسببه؛ ليسعى الراجون لهذا الجزاء من طريق هذه الصفات وهذه الأعمال، كما يسعى لسائر المسببات من طريق أسبابها، وتؤتي جميع الأمور من أبوابها.
وفي هذا حث لأهل هذه الأعمال على التمسك بما هم به عاملون.
وتنبيه لأهل الغرور على بطلان ما هم به مغترون، والكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني (1) .
__________
(1) الحديث عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكيسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» . رواه أحمد في المسند (4/ 124) والترمذي في القيامة باب 25. وابن ماجة في الزهد باب 31.[/rtl]
[rtl](1/240)[/rtl]
{الغرفة} البيت الأعلى فوق بيت، وأل فيه للجنس، فيصدق بالمتعدد.
{صبروا} حبسوا نفوسهم. والباء فيه سببية.
{يلقون} من لقوا بمعنى يجدون، ويلقون من لقى بمعنى تلقيهم الملائكة أي تقابلهم وتتلقاهم.
{تحية} دعاء بالحياة.
{سلاماً} دعاء بالسلامة.
{خالدين} باقين. {مستقراً} هو المكان الذي ينتهي إليه من غيره ويثبت فيه.
{مقاماً} ، هو المكان يقام ويمكث فيه.
جملة {أولئك} مستأنفة، فإن تلك الصفات والأعمال تشوق السامع إلى معرفة مآلهم، وثمرة أعمالهم، فيسأل عنهما؛ فكانت الجملة جواباً لذلك السؤال المقدر.
وعرف المسند إليه (1) بالإشارة تنبيهاً على استحقاقه للمسند (2) كان بما تقدم من صفات.
وجملة {حسنت} مستأنفة بيانية؛ لأن من عرف حالتهم من الحياة والسلامة والبقاء، يتشوق لمعرفة حال مكان هذه الحياة السالمة الباقية، فيسأل عنه؛ فوقعت جملة {حسنت} موقع الجواب عن هذا السؤال المقدر. وهي إنشائية أفادت إنشاء مدح الغرف بالحسن، وتعظيم ذلك الحسن.
وقدم المستقر؛ لأن أول الحلول استقرار، والمقام ببقاء الاستقرار واستمرار المكث.
المعنى:
أولئك الذين ذكرت صفاتهم وأفعالهم، يعطون جزاء أعمالهم البيوت العلالي في الجنة، بسبب صبرهم، وحبسهم لأنفسهم على الطاعات والمجاهدات وكفهم لها عن المعاصي والشهوات. وتتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام، باقين في هذا النعيم المقيم، وسكنى علالي الجنة التي هي أحسن مستقر ينتهي إليها الإنسان ومقام يمكث فيه.
تطبيق حديث وفقهه:
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:
__________
(1) المسند إليه هو «أولئك» .
(2) المسند هو {يجزون ... } إلخ.[/rtl]
[rtl](1/241)[/rtl]
قالوا يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟
قال: بلى،- والذي نفسي بيده- رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» (3) .
فهذا الحديث بين أن أهل الغرف هم أكمل المؤمنين، وأعلاهم درجة في الجنة بهذا المقدار من البعد، فهم الموصوفون بالصفات المذكورة في الآية المتقدمة على أتمها.
ومن لم يكن مثلهم فيها لم يكن في منازلهم التي جوزوا بها عليها، وكان على حسب حظه من الإيمان، في منزلة من منازل أهل الجنة الذين يتراءون أهل الغرف.
فدرجات أهل الجنة في منازلهم على حسب سلوكهم في أعمالهم:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 21، 22] .
دلالة:
دلت الآية على السبب الذي أفضى بهم إلى هذا الجزاء العظيم، وهو أعمالهم.
ودلت على السبب الذي تمكنوا به من القيام بهذه الأعمال، وهو الصبر لقوله تعالى: {بما صبروا} .
ومن أعظم الحكمة معرفة الأسباب والمسببات، وارتباط بعضها ببعض، فلا ينهض بامتثال المأمورات وترك المنهيات إلاّ من صبر، والصبر خلق من الأخلاق التي تتربى وتنمو بالمران والدوام، فواجب على المكلف أن يجعل تربية نفسه عليه، وتعويدها به من أكبر همه، إذ لا يقوم بالتكاليف الشرعية إلاّ به؛ بل ولا يستطيع الحياة في هذه الدار الدنيا الموضوعة على المحنة والابتلاء إلا إذا تمسك بسببه.
بيان القرآن للقرآن:
في هذه الآية: أنهم يلقون تحية وسلاماً؛ وقد بين من يتلقاهم بذلك في قوله تعالى:
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [النحل: 97] . فالملائكة هم
__________
(1) الكوكب الدري: فيه ثلاث لغات، الأكثرون "دري" بضم الدال وتشديد الياء بلا همز. والثانية بضم الدال مهموز ممدود. والثالثة بكسر الدال مهموز ممدود. وهو الكوكب العظيم. قيل: سمي دريا لبياضه كالدر، وقيل: لإضاءته، وقيل: لشبهه بالدر في كونه أرفع من باقي النجوم كالدر أرفع الجواهر.
(2) الغابر: الذاهب الماضي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون.
(3) رواه البخاري في بدء الخلق باب 8، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها حديث رقم 11.[/rtl]
[rtl](1/242)[/rtl]
وما أكثر ما تجد في القرآن!!، فاجعله من بالك تهتد- إن شاء الله- إليه.
إقتداء ورجاء:
هؤلاء السالكون، وما ذكر من أعمالهم وأحوالهم هو سلوكهم؛ ولما سلكوا الصراط المستقيم، بالعمل المستقيم، انتهى بهم السير إلى أحسن قرار ومقام، إلى دار النعيم المقيم، في جوار الرحمن الرحيم.
فإذا اشتقت إلى نهايتهم فتمسك ببدايتهم، وزن أعمالك بأعمالهم، وأحوالك بأحوالهم، فإذا جعلت ذلك من همك، وحملت عليه نفسك بصادق عزمك، وصبرت كما صبروا رجوت أن تظفر بما ظفروا.
فالله نسأل لنا ولك وللمسلمين صحة الإقتداء، وصدق الرجاء، وحسن الجزاء.
[[ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ]]
***
قيمة العباد عند ربهم بقدر عبادتهم
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } [الفرقان: 77] .
قد أفادت الآية السابقة كمال حال عباد الرحمن في نفوسهم وعقولهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، وأفادت عظيم منزلتهم عند ربهم، ورفيع ما أعد لهم من درجاتهم، جزاء على صالحاتهم وحسناتهم.
وجات هذه الآية تفيد أن ذلك المقام العظيم الذي كان عند ربهم، إنما هو بسبب عبادتهم. وتعلن للناس أن عبادتهم هي الشيء الوحيد، الذي يكون لهم به قدر وقيمة عند ربهم، وبدونها لا يكون لهم وزن عند خالقهم، ولا يكونون شيئاً يبالى به.
وأن من كذب وخلع بتكذيبه ربقة العبادة، فقد حقت عليه كلمة العذاب، وهو واقع به لا محالة.
{ما يعبأ بكم} ما يبالى بكم. (العبء) هو الثقل فما عبأت به: بمعنى ما كان له عندي وزن ولا مقدار. وعبأت به: كان له عندي وزن ومقدار. وعدي بالباء لأنه بمعنى ما باليت.
{دعاؤكم} عبادتكم من إطلاق الجزء على الكل.
{كذبتم} كفرتم فلم تعبدوا.[/rtl]
[rtl](1/243)[/rtl]
جواب {لولا} محذوف لدلالة ما تقدم، وتقدير الكلام: لولا دعاؤكم ما عبأ بكم. وجملة {فقد كذبتم} واقعة موقع التعليل لكلام مقدر تقديره- والله أعلم-: لا يعبأ بكم فقد كذبتم، أي لأنكم قد كذبتم، فالفاء تعليلية. وأما جملة {فسوف يكون} فمتسببة عما قبلها، فالفاء فيها سببية. وضمير {يكون} عائد على العذاب المفهوم من المقام.
المعنى:
قل للذين أرسلت إليهم: ما يبالي بكم ربي، ولا يعبأ بكم، ولا يكون لكم عنده وزر، لولا إيمانكم وعبادتكم.
فإذا كذبتم وكفرتم، فهو لا يعبأ بكم، وسوف يكون العذاب ملازماً لكم بسبب تكذيبكم.
تحرير في المخاطب:
المخاطبون هم الذين كذبوا، ثم إن ما لحقهم بسبب التكذيب من العذاب الملازم فهو خاص بهم، وبالمكذبين أمثالهم. وما كان موجهاً لهم من جهة أنهم عباد- وهو أن الله لا يعبأ بهم لولا دعاؤهم- فهو عالم لجميع العباد لمماثلتهم لهم في العبودية لله، واستغناء الله عنهم، وفرض العبادة عليهم، وعدم التقدير لهم إلاّ بها.
تفسير أثري:
أخرج البخاري في كتاب التفسير، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"خمس قد مضين: الدخان، والقمر، والروم، والبطشة، واللزام". ورواه في مواضيع أخرى من صحيحه (1) .
وعني بالدخان المذكور، في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . وبالقمر المذكور في قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] .
وبالبطشة المذكورة، في: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] . وباللزام المذكور في هذه الآية.
وفسر ابن مسعود البطشة الكبرى بيوم بدر، وفسر اللزام به أيضاً (2) . فهي في الحقيقة أربع وعدها خمسا باعتبار الوصفين البطش والملازمة.
__________
(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في كتاب التفسير (تفسير سورة الفرقان، باب 4، حديث 4767) و (تفسير سورة الدخان، باب 1 و6، حديث 4820 و4825) . وأخرجه أيضاً بأطول من هذا في تفسير سورة الدخان، باب 5، حديث 4824، وتفسير سورة يوسف، باب 4، حديث 4693.
(2) انظر تفسير الطبري (9/ 428- الأثر رقم:26573) .[/rtl]
[rtl](1/244)[/rtl]
ومن عادة السلف أنهم يفسرون اللفظ بما يدخل في عمومه دون قصد للقصر عليه. ولا منافاة حينئذ بين التفسيرين، فيكونون قد توعدوا على تكذيبهم بلزوم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
ترهيب:
رتب لزوم العذاب على التكذيب، فأعظم العذاب الأكمل التكذيب، وهو تكذيب الكفر.
ثم أصناف العذاب لازمة لتكذيب العصيان بالعدل والحكمة في التقسيم والترتيب.
استنباط:
لما كانت مقادير العباد عند ربهم بحسب عبادتهم، فالأنبياء- عليهم السلام- أعلى الناس منزلة عند الله فهم أعظمهم عبادة لله، وهم أتقاهم له وأشدهم خشية منه. وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مالك وغيره:
«والله إني أرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي» (2) .
وقال أيضا: «والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده» (3) .
سؤال استطرادي وجوابه:
كيف يخشى وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
__________
(1) هو الحسن بن أبي الحسن البصري المتوفى سنة 110 هـ. وهو رأس الطبقة الثالثة من التابعين. ثقة، فقيه، فاضل، مشهور، روى له الستة في الصحاح. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (2/ 263) وتقريب التهذيب (1/ 165) وخلاصة تهذيب الكمال (1/ 210) والكاشف (1/ 220) وتاريخ البخاري الكبير (2/ 289) والجرح والتعديل (3/ 177) وميزان الاعتدال (1/ 483) ولسان الميزان (2/ 199) وطبقات خليفة بن خياط (1726) وأخبار القضاة (2/ 3) وحلية الأولياء (2/ 131) وطبقات ابن سعد (9/ 49) وسير أعلام النبلاء (4/ 563) والثقات لابن حبان (4/ 122) .
(2) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها مالك في الموطأ (كتاب الصيام، حديث 9) ومسلم في الصيام حديث 79، وأحمد في المسند (6/ 67، 122، 156، 226، 245) .
(3) روى الحديث مرسلاً مالك في الموطأ (كتاب الصيام، حديث رقم 13) والشافعي في الرسالة (رقم 1109 بتحقيق أحمد محمد شاكر) : عن عطاء بن يسار؛ أن رجلاً قبل امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبِّل وهو صائم. فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شراً. وقال: لسنا مثل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الله يحل لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شاء. ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لهذه المرأة؟» فأخبرته أم سلمة فقال رسول الله": «ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؛» فقالت: قد أخبرتها. فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده شراًّ وقال: لسنا مثل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الله يحل لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شاء. فغضب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده» .[/rtl]
[rtl](1/245)[/rtl]
1- منها أنه لا يخشى العقاب، ولكنه يخشى العتاب.
2- ومنها قول الأكثر؛ أنه غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، بشرط امتثاله لما أمر به.
ذكر هذين ابن العربي في "القبس".
3- ومنها أنها خشية الإجلال، ومشاهدة عظمة الربوبية، وأنه لا يجب عليه تعالى شيء.
وهذان الحديثان الصحيحان من الأدلة الصريحة عند أهل العلم، على أن العبادة الشرعية الإسلامية لا تتجرد من الخوف، حتى عبادة أفضل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
تعليل:
الإنسان مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي، وهو روحه.
ومعرض للسقوط والنقصان بما فيه من أخلاط عناصر جزئه الأرضي الظلماني، وهو جسده.
ولا يخلص من كدرات جثمانه ولا ينجو من أسباب نقصانه إلاّ بعبادة ربه، التي بها صفاء عقله، وزكاء نفسه، وطهارة بدنه في ظاهره وباطنه.
فبعبادة ربه يكمل فيرقى في مراتب الكمال، ويدنو من الملأ الأعلى، عند الرب الأعلى ذي الجلال والإكرام.
فالله طيب لا يقبل إلاّ الطيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، ولا طيب ولا كمال إلاّ للعابدين، فلا قيمة ولا قبول لغيرهم عند رب العالمين.
إرشاد وتحذير:
قد بين لك الطريق الذي يوصلك إلى مولاك ويرقيك في مراتب كمالك وعلاك، وما هو إلاّ عبادة ربك: فكن عبدا له في اختيارك واضطرارك وفي جميع أحوالك.
واحذر أن تعتمد على شيء غير عبادته.
واحذر أن تتوجه بشيء من عبادتك لغيره.
ومن عبادتك- بل هو مخ عبادتك- دعاؤك وسؤالك واستغاثتك.. فإياك إياك أن تتوجه منه بشيء لغيره. فكن دائما عبداً لله، وكن دائماً عبداً له وحده، فذلك حقه عليك، وذلك السبب الوحيد الذي ينجيك ويعليك.
والله نسأل أن يقصرنا على عبادته، ويديمنا على الإخلاص في التوجه إليه، حتى نلقاه على ملة الإسلام، وهدى عباده الصالحين، آمين يا رب العالمين.[/rtl]
[rtl](1/246)[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القسم الثالث في سورة النمل
في هذا القسم ستة فصول، تحتوي على هذه المواضيع:
1- ملك النبوة مجمع الحق والخير، ومظهر الجمال والقوة.
2- طبيعة ملك النبوة، وطبيعة ملك البشر.
3- العلم.
4- إرث النبوة.
5- جند سليمان.
6- وادي النمل.
7- شكر النعم.
8- قصة الهدهد.
9- الملكة بلقيس.
10- السجود لله وحده.[/rtl]
[rtl](1/247)[/rtl]
[rtl]ملك النبوة مجمع الحق والخير ومظهر الجمال والقوة
الفصل الأول
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) } [النمل: 1] .
تمهيد:
(النبوة) : منزلة من الكمال التام البشري، يهىء الله لها من يشاء من عباده، فيكون بذلك مستعداً لتلقي الوحي والاتصال بعالم الملائكة، ولتحمل أعباء ما يلقي إليه وتكاليف تبليغه بالقول والعمل، وتحمل كل بلاء يلقاه في سبيل ذلك التبليغ.
و (الملك) : ولاية على المجتمع لحفظ نظامه، تقتضي عموم النظر، وشمول التصرف في روابط الناس، ومعاملاتهم وتصرفاتهم، وتسييرهم في ذلك كله على أصول عادلة توصل كل أحد إلى حقه، وتكفه عن حق غيره، ليعيشوا في رخاء وسلام، ويبلغوا غاية ما يستطيعون من متع الحياة.
وقد يتصف الشخص بالنبوة دون الملك؛ فيكون مبلغاً عن الله، ولا يكون له التنفيذ والإدارة والتنظيم.
وقد يتصف الشخص بالملك دون النبوة.[/rtl]
[rtl](1/249)[/rtl]
[rtl]وقد وجد الشخصان في (شمويل) و (طالوت) ، فكان الأول نبياً، وكان الثاني ملكاً كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] .
وقد يجمع بينهما مثل داود وسليمان عليهما السلام.
ثم إن (الملك) قد تكون الأصول التي يستند إِليها مستمدة من أوضاع البشر، لحفظ مصالحهم في الحياة الدنيا؛ فيكون ملكاً بشرياً، وقد تكون تلك الأصول مستمدة من وحي الله؛ بما فيه حفظ مصالح العباد في الدنيا، وتحصيل سعادتهم فيها وفي الأخرى، فيكون ملك نبوة.
من طبيعة ملك النبوة:
1- إلتزام الحق ونصرته حيثما كان بإقامة ميزان العدل في القول والحكم والشهادة بين الناس أجمعين، المعادين والموالين، كما قال تعالى:
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] .
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائد 5: 8] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
2- وبالوفاء بالعقود والعهود بين الأفراد والجماعات، كما قال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152] ، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا..} [النحل: 91] . {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] .
وبغير هذا من وجوه التزام الحق ونصرته.
3- وبث الخير بين الناس بنشر الهداية والإحسان دون تمييز بين الأجناس والألوان، كما قال تعالى:
{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] ، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
4- ومن طبيعته الدعوة إلى القوة والتنويه بها وبناء الحياة عليها، لكن في نطاق العدل والرحمة ولدفاع المعتدين، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ، وقبلها: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25، 57] . فقوة الحديد لحفظ الكتاب والميزان وحمل الناس عليهما. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا[/rtl]
[rtl](1/250)[/rtl]
[rtl]اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 94] . {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 39، 40] .
5- ومن طبيعته الدعوة إلى الجمال والتحبيب به في جميع مظاهر الحياة، لكن في نطاق الفضيلة والعفاف، كما قال تعالى:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3] . {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] ، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] . {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 45] ، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 7] ، {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] ، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] ، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] .
من طبيعة الملك البشري:
الملك البشري، وإن روعيت في أوضاعه هذه الأصول الأربعة، إلاّ أنه:
1- لا يقيم ميزان العدل بين أبناء المملكة وغيرهم: فنراه يكيل لهؤلاء بمكيال ولهؤلاء بمكيال.
ولا يرعى من العهود- في الغالب- إلاّ ما يعارض مصلحته أو تلزمه بمراعاته قوة خصمه.
2- كما أنه يكاد يقصر بره وإحسانه على أبناء جلدته، ومن كانوا من جنسه ولونه.
3- كما أنه يبني أمره على القوة المطلقة فتندفع من رغباته إلى أقصى ما يمكنها أن تصل إليه. فيكون البغي والتساقط (1) [[التسلط]] (*) والعدوان.
4- كما أنه تستهويه زينة الحياة الدنيا وزخارفها، فتمتد يده إليها حيثما وجدها، فتتنازعها الأيدي بالقوة والحيلة، وتذهب في أقانيها (2) الشهوات بالناس إلى النقص والرذيلة.
***
ثم إن من طبيعة الملك من حيث أنه ملك- سواء أكان بشرياً أم نبوياً- مظاهر الأبهة والجمال والقوة والفخامة؛ لما جبل عليه الخلق من اعتبار المظاهر والتأثر بها. وهذا إذا كان في الحق فهو عمود مطلوب، وإذا كان للباطل والبغي والتعظيم النفسي فمذموم متروك.
__________
(1) كذا في الأصل المطبوع بالسين بعد التاء؛ ولعل الصواب "التقاسط" بالقاف بعد التاء، من قَسَطَ قَسْطاً وقُسوطاً: جار وعدل عن الحق. انظر (المعجم الوسيط: [ص: 734] ) .
(2) أقانيها: لم أجد هذه الصيغة في كتب اللغة. ويريد: اقتنائها؛ القِنوة والقنوة والقنية والقنْيَة: الكسبة. وقنوت الشيء قُئوا وقُنوانًا وأقتنيته: كسبته. انظر لسان العرب (15 / 201- مادة قنا) .
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لعل الصواب ما أُثبت بين معكوفات والله أعلم[/rtl]
[rtl](1/251)[/rtl]
[rtl]ومن الأول أمر النى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وعمه العباس- رضي الله عنه- أن يحبس أبا سفيان عند خطم (1) الجبل، حتى تمر عليه كتائب المسلمين؛ وذلك لإدخال الرعب على قلبه بما يرى من النظام والقوة.
فحبسه العباس، فجعلت الكتائب تمر به، فيسأل العباس عن كل كتيبة، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان؟
حتى مرّ رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلاّ الحدق (2) من الحديد؛ فقال: من هؤلاء؛ فقال العباس: هذا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً.
قال العباس: فقلت له: إنها النبوة، فقال: فنعم إذن.
قصد أبو سفيان عظمة الملك القاهر التي كان يعرفها من الأكاسرة وأمثالهم، فنفى ذلك العباس ورده إلى النبوة، التي هي أصل تلك القوة، وذلك الملك النبوي المستند إلى الوحي الإلهي، ولم يرد نفي الملك جملة.
ومنه (3) ما كان من معاوية بالشام:
لما قدم عليه عمر وجده في أبهة من الجند والعدة، فاستنكر ذلك، وقال له: أكسروية يا معاوية؟! فاعتذر معاوية بأنهم في ثغر تجاه العدو، وأنهم في حاجة إلى مباهاة العدو بزينة الحرب والجهاد، فسكت عمر وأقره.
فذلك المظهر من مظاهر طبيعة الملك من حيث هو ملك، وإنما أنكره عمر لما خاف فيه من تعظم واستعلاء وإعجاب؛ فلما كان للحق والمصلحة أقره.
ومن أقوى الأدلة على أن تلك المظاهر إذا كانت للحق والمصلحة فهي محمودة مطلوبة، ما قصه الله علينا في هذه الآيات عن ملك سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام.
***
نعم في مسند أحمد أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو
__________
(1) في اللسان (12/ 186- مادة خطم) : "الخُطْمَة: رَعْنُ الجبل". والرَّعْن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدماً، وقيل: الرعن أنف يتقدم الجبل. انظر اللسان (13/ 192- مادة رعن) .
(2) الحَدَق: جمع الحَدَقَة، وهو السواد المستدير وسط العين (اللسان: 10/ 39- مادة حدق) . وقوله هنا: «لا يرى منهم إلاّ الحدق من الحديد» أي أنهم كانوا متدرعين بالحديد من أعلاهم إلى أسفلهم بحيث لا يرى منهم إلاّ سواد أحداقهم.
(3) أي من مظاهر الأبهة والجمال والقوة والفخامة.[/rtl]
[rtl](1/252)[/rtl]
[rtl]يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً (1) . وكان ذلك تواضعاً منه.
ولا ينفي هذا أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما كان مبلغاً عن الله تبارك وتعالى، كان قائماً على الحكم والتنفيذ وإدارة الشؤون العامة، وتنظيم المجتمع، مما يسمى ملكاً نبوياً مستنداً إلى الوحي الإلهى؛ لأن التحيز راجع إلى حالته الشخصية الكريمة، فخير بين أن يكون لشخصه من مظاهر الملك مثل ما كان سليمان، أو لا تكون له تلك المظاهر، فاختار ألاّ تكون، وأن يكون مظهره مظهراً عادياً مثل مظهر العبد العادي.
كما أن سليمان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي كان ملكاً نبياً لم ينف عنه العبودية، وإنما ينفي عنه مظهرها العادي.
فهما حالتان للقائمين على الملك جائزتان، كان على إحداهما سليمان، وعلى الأخرى محمد عليهما الصلاة والسلام.
وحالة أفضل النبيين أفضل الحالتين. وقد اختار عمر رضي الله عنه الفضلى، وأقر معاوية على الفاضلة الأخرى.
***
ولما كان محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء بملك النبوة، كان القرآن العظيم جامعاً للأصول التي ينبنى عليها ذلك الملك، وجاء فيه مثل هذه الآيات التي نكتب عليها، ليبين صورة ملك النبوة، ومظهراً صادقاً من مظاهره فيما قصت علينا من ملك سليمان عليه السلام. وهي ثلاثون آية، من الآية الخامسة عشرة من سورة النمل، إلى الآية الرابعة والأربعين منها:
الفصل الأول الآية الأولى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) } [النمل: 15] .
{علمًا} نوعاً عظيماً ممتازاً من العلم جمعا به بين الملك والنبوة، وقاما بأمر الحكم والهداية.
{وقالا} قولهما متسبب وناشىء عن العلم، لكنه لو قيل: "فقالا" بالفاء، لما أفاد أن غير
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/ 231) ولفظه عن أبي هريرة؛ قال: "جلس جبريل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا المَلَك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة. فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك فقال: أفملكاً نبيًا يجعلك أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد! قال: «بل عبداً رسولاً» ".[/rtl]
[rtl](1/253)[/rtl]
[rtl]القول تسبب منهما عن العلم. ولما عطف بالواو دل على أن هنالك أعمالًا كثيرة عظيمة كانت منهما في طاعة الله وشكره، نشأت عن العلم وعليها عطف قولهما هذا.
{فضلنا} أعطانا ما فقنا به غيرنا.
{على كثير} فهنالك كثير لم يفضلا عليه ممن ساواهما أو فاقهما.
{من عباده المؤمنين} ففضلا بين أهل الفضل، فكانا من أفضل الفاضلين، وذلك بما أعطيا من النبوة وملكها.
المعنى:
يخبرنا الله- تعالى- عما أعطى لهذين النبيين الكريمين من هذا الخير العظيم، وعما كان منهما من الشكر له، والمعرفة بعظيم قدر عطائه، وإظهار السرور به، مع الاعتراف لغيرهما بما كان من مثله أو نحوه، ومن إعلانها ما كان لله عليهما من نعمة التفضيل العظيمة بحمده والثناء عليه.
تنويه وتأصيل:
قد ابتدأ الحديث عن الملك العظيم بذكر (العلم) ، وقدمت النعمة به على سائر النعم، تنويهًا بشأن العلم، وتنبيهاً على أنه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا، وأن الممالك إنما تنبني عليه وتشاد، وأن الملك إنما ينظم به ويساس، وأن كل ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار، وأنه هو سياج المملكة ودرعها، وهو سلاحها الحقيقي، وبه دفاعها، وأن كل مملكة لم تحم به فهي عرضة للانقراض والانقضاض.
إحماض (1) :
قال أبو الطيب المتنبي:
أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الأَسَلِ ... وَالطَّعْنُ عِنْدَ مُحِبِّيهِنَّ كَالْقُبَلِ
نعم إن محبي الممالك الصادقين في محبتها، والذين تصلح لهم ويصلحون لها، هم الذين يستعذبون في سبيلها الموت، ويكون الطعن عندهم مثل القبل على ثغور الحسان.
فأما الممالك التي تبنى على السيف فبالسيف تهدم، وما يشاد على القوة فبالقوة يؤخذ.
وإنما أعلى الممالك وأثبتها ما بني على العلم، وحمي بالسيف. وإنما يبلغ السيف وطره ويؤثر أثره، إذا كان العلم من ورائه.
ولكن أبا الطيب- شاعر الرجولة والبطولة، شاعر المعارك والمطامع- لا يرى أمامه إلاّ الحرب، وآلات الطعن والضرب فلا يمكن أن يقول- وقد غمرته لذة الانتصار، واستولت نشوة الغلب والظفر على لبه وخياله- إلاّ ما قال.
__________
(1) الإحماض: الإفاضة فيما يؤنس من الحديث والكلام (المعجم الوسيط: [ص:198] ) .[/rtl]
[rtl](1/254)[/rtl]
[rtl]فقه وأدب:
يجوز لمن أنعم الله عليه بنعمه وفضله بفضيلة أن يفرح بتلك النعمة ويظهر فرحه بها، في معرض حمد الله عليها، من حيث أنها كرامة من الله، لا من حيث أنها مزية من مزاياه فاق بها سواه، مثل فعل هذين النبيين الكريمين، وكما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] .
وكثيراً ما يكون التفات المرء إلى نفسه حاجباً له عن غيره، فيذكر من شأنه ما أفرحه، ويسكت عن غيره، وفيهم من هو مثله ومن يفوقه، فقد يجر هذا إلى عجب بنفسه، وغمط لحق من عداه.
فلهذا كان من أدب مقام الفرح بنعمة الله وحمده عليها، ذكر نعمته العامة عليه وعلى غيره، والإشارة إلى من فضلوا عليه؛ فيكبح من نفسه بتذكيرها بقصورها، ويرضي الله باعترافه لذي الفضل بفضله، وحكمة الله وعدله، وبوقوفه كواحد ممن أنعم عليهم من عباده.
إرشاد وإشادة:
أذكار الأنبياء- صلوات الله عليهم- من حمد وتسبيح وتهليل وغيرها أفضل الأذكار، وأجمعها وأسلمها. وقد اشتمل الكتاب العزيز على كثير منها.
فعلى المسلم الحريص على الخير بها علماً وعملاً؛ فقد رأيت ما يحف بإظهار الفرح بنعمة الله من مخاطر إذا لم يتنبه لها، وقد جاء هذا الحمد النبوي محصلاً للقصد، سالماً من كل خطرة بعباراته الموزونة الشاملة، التي لا يصدر مثلها إلاّ منهم لكمال علمهم وأدبهم، عليهم الصلاة والسلام.
الفصل الثاني الآية الثانية
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) } [النمل: 16] .
(الإرث) انتقال ما كان للميت إلى الحي، فيقوم فيه الوارث مقام الموروث، سواء أكان مالاً أو ملكاً أو علماً أو مجداً. والمراد هنا الملك والنبوة.
{علمنا} أعطينا العلم، ولم يذكر المعلم- وهو الله- للعلم به فإن هذا التعليم ليس من معتاد البشر، ولا من طرقهم.[/rtl]
[rtl](1/255)[/rtl]
[rtl]{منطق الطير} نطقها وهو تصويتها، وقد يطلق النطق على كل ما يصوت به الحيوان، فالحيوان ناطق، والجماد صامت.
{وأوتينا} أعطينا، والنون في الفعلين للعظمة إذ هي حالته التي هو عليها.
{من كل شيء} هو على معنى التكثير، أو على معنى العموم الحقيقي، فيما تقتضيه تلك العظمة، مما يؤتاه الأنبياء والملوك.
{الفضل} الزيادة. {المبين} الظاهر الذي لا خفاء به.
المعنى:
قام سليمان مقام أبيه داود عليهما الصلاة والسلام، فكان في بني إسرائيل من بعد نبياً ملكاً.
وأراد سليمان أن يشهر نعمة الله عليه وينوه بها ويدعو قومه إلى الإيمان به وطاعته؛ فدعا الناس وذكر لهم ما خصه الله به من علم منطق الطير، وعظائم الأمور، مما هو خارق للعادة معجز للبشر، آية على نبوته. وتحداهم بذلك الفضل الذي امتاز به عن جميع الناس، وهو مشاهد لهم لا يمكنهم إنكاره كما لا تمكنهم معارضته.
فقه وتحقيق:
من ميزة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أنهم يخرجون من الدنيا دون أن يعلقوا بشيء منها، فلا يورثون ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم.
وفي الصحيح «إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» (1) .
فلم يرث سليمان من داود مالاً، وإنما ورث ما نوه به من العلم والملك، وما دل عليه ذلك من النبوة، وقد خصصه الله بذلك دون بقية إخوته.
تفرقة:
الشيء الموروث إن كان من أمور الدنيا وأعراضها ومتناولات الأبدان ومتصرفاتها، فإنه ينتقل بذاته من الميت إلى الحي، وينقطع عنه ملك الميت.
وما كان من صفات الروح فإنه لا يفارق الميت- لبقاء الروح- وإنما يقوم الحي مقام الميت في أداء ما كان يؤديه الميت من أعمال متصفاً بمثل ما كان متصفاً به الميت، متحلياً بمثل حليته.
__________
(1) روي هذا الحديث عن أي هريرة وعمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وعائشة، كما ذكر الترمذي في جامعه (كتاب السير، باب 44، حديث 1068) . والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ (كتاب الكلام، حديث 27) . وأحمد في المسند (1/ 4، 6، 9، 10، 25، 47، 48، 49، 60، 162، 164، 179، 191، 258، 2/ 463، 6/ 145، 262) . والبخاري في الخمس باب 1، وفضائل أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باب 12، والمغازي باب 14 و38، والنفقات باب 3، والفرائض باب 3، والاعتصام باب 5. ومسلم في الجهاد حديث 49، 50، 51، 52، 54، 56. وأبو داود في الإمارة باب 19. والترمذي في السير باب 44. والنسائي في الفيء باب 9 و16.[/rtl]
[rtl](1/256)[/rtl]
[rtl]فإرث سليمان للملك هو من المعنى الأول فداود بعد موته لم يبق ملكاً، وإرثه للعلم والنبوة هو من المعنى الثاني فداود بعد موته على علمه ونبوته.
تفرقة أخرى:
إذا كان الموروث مالاً فإنه يستحق بالقرابة شرعاً.
وإذا كان علماً أو نبوة أو ملكاً فإنها لا تستحق بها.
فلم يرث سليمان من داود ما ورثه منه لأنه ابنه، وإنما كان ذلك تفضلاً من الله ونعمة، ولهذا لما دعا سليمان الناس لم يذكر لهم أبوة داود، وإنما ذكر لهم ما كان به أهلاً لمقامه، مما خصه الله به من علم وقوة، ومظاهر الملك ومعجزة النبوة.
عجائب الخلقة وحكمة العربية:
للحيوانات كلها (1) فهم وإدراك وأصوات تدل بها على ما في نفسها، وتتفاهم بها أجناسها بعضها عن بعض. ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا؛ ومنها ما نسمعه، ومما نسمعه ما نفهم مرادها به ومنه ما لا نفهمه، فلا نسمع صوت النملة ولكننا نسمع صوت الهرة- مثلاً- ونميز بين صوتها الذي تدل به على غضبها، وصوتها الذي تدل به على طلبها. وفي مملكة النمل ومملكة النحل- مثلاً- من النظام والترتيب والتقدير والتدبير، ما لا يبقى معه شك فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز، وما بينها من تفاهم، بل كثير من الحيوانات تصير بالترويض تفهم عنا كثيراً من العبارات والإشارات، وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يراد منها وتدل عليه فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونطقها اللذين أخبر بها القرآن.
وتلك الغاية من الإدراك والنطق، لا سبيل لنا إليها لاختلاف الخلقة وجهل مدلولات الأصوات.
وقد أدركها سليمان- عليه السلام- بتعليم من الله كرامة له، وآية على نبوته، ومعجزة للناس.
فمن حكمة اللغة العربية الشريفة، أن سمت أصوات الحيوانات نطقاً، كما سمت- في المتعارف- اللفظ الذي يعبر به عما في الضمير نطقاً، لأن الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان، فهي طريق تفاهمها وطريق فهم ما يمكن للإنسان فهمه عنها.
فلله هذه اللغة ما أعمق غورها! وما أدق تعبيرها.
نظر وإيمان:
قد شوهد بالعيان في أنواع من الحيوانات: حسن تدبيرها لأمر معاشها، ودقة سعيها في
__________
(1) كانت بالأصل "كلهم". ولعل الصواب ما اثبتناه.[/rtl]
[rtl](1/257)[/rtl]
[rtl]جلب منافعها، ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها.
وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد الآتيين من بعد.
فنحن مؤمنون لجوازه عقلاً، وثبوته سمعاً، مثل سائر السمعيات.
تمييز:
قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز، وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتدّ إليه قدرته ويكون في متناول يده، فمن ذلك التركيب والتحليل والتطبيق تغلب على عناصر الطبيعة، وتمكن من ناصيتها، واستعمال حيوانها وجمادها في مصلحته، ورقي أطوار التقدم في حياته، ولفقدان الحيوان- غير الإنسان (1) - هذه القوة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته. فإدراك الحيوان فطري إلهامي يعطاه من أول الخلقة، والإنسان يعطى أصل الإدراك الإجمالي، ثم بتلك القوة يتسع أفق إدراكه، ويستمر في درجات التقدم.
وهذه القوة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل، وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني.
توجيه:
ذكر سليمان عليه السلام منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا فقد فهم نطق النملة، ذلك لأن الحيوانات- غير الإنسان- مراتب: الزاحفة، والماشية، والطائرة، وأشرفها الطائرة (2) ، فاقتصر على الطير تنبيهاً بالأعلى على الأدنى.
تنزيه وتبيين:
عبر سليمان عليه السلام عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه السلام ليتعظم بسلطان، ولا ليتطاول بفضل؛ فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أشد الخلق تواضعا لله وأرحمهم بعباده.
وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس، وتفخيم ملك النبوة في قلوب الرعية؛ ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك، ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة، وهذا هو الذي توخاه سليمان عليه السلام من المصلحة بإظهار العظمة.
ولذا لم يقل: "عَلمت". ولا:"لي" و"عندي كل شيء". ولم يقل"فضلي" فهو فضل من علمه وآتاه فضله به عمن سواه.
__________
(1) قوله: "الحيوان غير الإنسان" باعتبار أن الإنسان حيوان ناطق، فهو من جنس الحيوان. فالحيوان جنس والإنسان نوع كما في التقسيم المنطقي.
(2) الحيوانات الطائرة أفضل من الحيوانات الماشية؛ هذا موضع نظر.[/rtl]
[rtl](1/258)[/rtl]
ترغيب وإقتداء:
يذكر الله- تعالى- لنا في شأن هذا النبي الكريم ما أعطاه من علم، وما مكنه منه من عظيم الأشياء.
ترغيباً لنا في طلب العلم، والسعي في تحصيل كل ما بنا حاجة إليه من أمور الدنيا.
وتشويقاً لنا إلى ما في هذا الكون من عوالم الجماد، وعوالم الأحياء.
وبعثا لهممنا على التحلي بأسباب العظمة من العلم والقوة.
وحثاً لنا على تشييد الملك العظيم الفخم على سنن ملك النبوة.
فقد كان سليمان عليه السلام نبياً، وما كان ملكه ذلك إلاّ بإذن الله ورضاه، فهو فيما ذكره الله من أمره قدوة وأي قدوة مثل سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]الفصل الثالث الآية الثالثة
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) } [النمل: 17] .
(الحشر) الجمع من أماكن متفرقة.
(جنوده) هم المنتظمون في سلك عسكريته، فجمعوا له عند الحاجة إليهم في سفر أراده.
(يوزعون) يكفون عن الخروج عن النظام في السير، فيمنع أولهم من سبق آخرهم، وآخرهم من التأخر عن سابقهم، ويمنعون من الخروج عن الصفوف إلى اليمين أو الشمال، لأن وزعه عن الشيء معناه كفه عنه.
وفي ترتيب الجنود في الذكر مراعاة الأقوى، وأعلاهم في ذلك الجن، ثم الإنس، ثم الطير.
وفاعل (حشرهم) الأعوان الحاشرون. وفاعل (وزع) هم الضباط المنظمون.
المعنى:
كان لسليمان- عليه الصلاة والسلام- من الجن والإنس والطير جنود معينون معروفون يتركب منهم عسكره. يكونون متفرقين، فإذا عرض أمر جمعهم.
وكان له أعوان يعرفون أولئك الجنود ويعرفون أماكنهم، فهم الذين يجمعونهم عند الحاجة إليهم.[/rtl]
[rtl]فأراد سليمان أن يسافر، فأمر أعوانه بجمع الجنود فجمعوهم له. فلما اجتمعوا تولى رؤساؤهم تنظيمهم فساروا مع سليمان في كثرة ونظام، يتولى أولئك الرؤساء تنظيمهم في سيرهم ويمنعونهم من الخروج عن النظام.
تفصيل:
كما أن للإنس من يعرفهم من أعوان سليمان ومن ينظمهم من رؤسائهم، كذلك يكون للجن، وكذلك يكون للطير.
وسلطة سليمان على الجن وتسخيره لهم وسلطته على الطير وفهمه لها وفهمها عنه معجزة له، وخصوصية ملك لم يَنْبَغِ لأحد من بعده!!
تاريخ وقدرة:
تفيدنا الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان.
فقد كان الجنود يسرحون من الخدمة ويجمعون عند الحاجة.
وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة.
وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة.
وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم.
وكان النظام محكماً لضبط تلك الكثرة ومنعها من الاضطراب والاختلال والفوضى.
تعرض علينا الآية هذه الصورة التاريخية والواقعية تعليما لنا، وتربية على الجندية المضبوطة المنظمة.
ولا شك أن الخلفاء الأولين قد عملوا على ذلك في تنظيم جيوشهم، إنَّ مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا. فسرعان ما تحولوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفا عندهم في الجاهلية.
وبقيت الآية على الدهر مذكرة لنا بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوة والكثرة وحدهما لا تغنيان بدون نظام، وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.
طبيعة وشريعة:
في عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان نجد الطبيعة- بصنع الله- تستخلص الأعلى من الأدنى، والأقوى من الأضعف، فتجد الممتاز من أصل الخلق وبانتخاب الطبيعة في هذه العوالم الثلاث، كما تجد الذهب في المعدن وتجد الزهر والثمر في النجم (1) والشجر، وتجد الملكة من النمل والنحل مثلاً.
__________
(1) النجم من النبات: ما لا ساق له (المعجم الوسيط: [ص:905] ) .[/rtl]
[rtl]فالإنسان لم يخرج عن هذا القانون الطبيعي.
ففيه الممتازون الذين يحتاج إليهم النوع الإنساني في صلاح حاله ومآله.
ومنهم الذين يتولون حكمه وتنظيمه في أممه ومجتمعاته وجماعاته؛ فالهيئة الحاكمة والأفراد المنظمون والقادة المسيرون من ضروريات المجتمع الإنساني ومقررات الشرع الإسلامي، مثل ما في هذه الآية من أمر الوازعين.
ولما ولي الحسن البصري القضاء قال:
«لا بد للسلطان من وزعة» أي أعوان يكفون الناس عن الشر والفساد، ويتولون تربيتهم وتنظيمهم.
وفي رواية: «لا بد للناس من وازع» - أي كاف- يكف بعضهم عن بعض، وهو الحاكم وأعوانه.
وفي حديث ذكره أهل الغريب: من يزع السلطان وعقابه الدنيوي أكثر ممن يكفهم عن الشر الوعد والوعيد في القرآن (1) .
وقد قال الله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] .
الآية الرابعة
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) } [النمل: 18] .
{أتوا على وادي النمل} هبطوا إليه من مكان أعلى منه، وهو بالشام أو بالحجاز، لم تتوقف العبرة على تعيينه فلم يعين، وأضيف للنمل لكثرته فيه.
{نملة} لفظها مؤنث، ومعناها محتمل مثل شاة وحمامة.
__________
(1) ذكر هذا الحديث ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 180) بلفظ: "من يزع السلطان أكثر ممن يزع القرآن" قال ابن الأثير: أي من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن يكفّه القرآن والله تعالى؛ يقال: وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزْعًا فهو وازِعٌ، إذا كفَّهُ ومنعه".[/rtl]
[rtl]{مساكنكم} هي قرى النمل التي يسكنها تحت وجه الأرض، المحكمة الوضع والتركيب والتقسيم. ولذلك قيل فيها: مساكن، ولم يقل غيران (1) .
{لا يحطمنكم} لا يكسرنكم بالحوافر والأقدام.
{لا يشعرون} لا يحسون بوجودكم.
الإتيان بـ"إذا" وجوابها، لإفادة أن قولها كان بسبب إتيانهم عند أول ما أتوا.
{لا يحطمنكم} نهتهم عن أن يحطمهم، والحطم ليس من فعلهم حتى ينهوا عنه، وإنما المعنى: لا تكونوا خارج مساكنكم فيحطمكم، فنهتهم عن السبب، والمراد النهي عن السبب، لما في ذلك من الإيجاز المناسب لسرعة الإنذار لسرعة النجاة، ولما في ذكر المسبب- وهو الحطم- من التخويف الحامل على الإسراع إلى الدخول.
والجملة مؤكدة للأولى فكأنها قالت: ادخلوا مساكنكم لا تبقوا خارجها. ونظير التركيب في التعبير بالمسبب عن المسبب: لا أرينك ههنا؛ أي لا تكن هنا فأراك.
المعنى:
سار سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تلك الجنود العظيمة يحيط به الإنس والجن وتظلّلهم الطير، حتى هبطوا على وادي النمل، فرأتهم كبيرة النمل وقائدته، فصاحت في بني جنسها، فنادتهم للتنبيه، وأرشدتهم إلى طريق النجاة: بأمرهم الدخول في مساكنهم، وحذرتهم من الهلاك بحطم سليمان وجنوده لهم عن [عدم] . (2) شعور منهم، فلا يكون اللوم عليهم، وإنما اللوم على النمل إذْ (3) لم يسرع بالدخول.
عبرة وتعليم:
عاطفة الجنسية غريزة طبيعية:
فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها.
ولم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند إنذار بني جنسها؛ إذ كانت تدرك بفطرتها أن لا حياة لها بدونهم، ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم، فانذرتهم في أشد ساعات الخطر أبلغ الإنذار. ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جنسها من الخطر الداهم، أن تذكر عذر سليمان وجنده.
فهذا يعلمنا أن لا حياة للشخص إلاّ بحياة قومه، ولا نجاة لهم إلاّ بنجاتهم، وأن لا خير لهم فيه إلاّ إذا شعر بأنه جزء منهم.
__________
(1) جمع غار، وهو كل منخفض من الأرض (المعجم الوسيط: [ص:665] ) .
(2) ما بين حاصرتين ساقط من الأصل؛ وهي زيادة ضرورية لاستقامة المعنى.
(3) كانت بالأصل: "إذا" والصواب ما أثبتناه.[/rtl]
[rtl]ومظهر هذا الشعور أن يحرص على خيرهم كما يحرص على نفسه، وألا يكون اهتمامه بها دون اهتمامه بهم.
واجب القائد والزعيم:
هذه النملة هي كبيرة النمل، فقد كان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها، فبادرت بالإنذار.
فلا يصلح لقيادة الأمة وزعامتها إلاّ من كان عنده من بعد النظر، وصدق الحدس، وصائب الفراسة، وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها، ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع.
عظة بالغة:
هذه نملة وفت لقومها، وأدت نحوهم واجبها!!
فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه؟!
هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه، ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهماً لقومه، فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم.
آه ما أحوجنا- معشر المسلمين- إلى أمثال هذه النملة!
الآية الخامسة
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } [النمل: 19] .
(التبسم) انفراج الشفتين على الأسنان، وقد يكون للغضب، وقد يكون للسخرية، وقد يكون للضحك، وهو الأكثر، وهو بدايته؛ ولهذا قيد بـ"ضاحكًا".
{أوزعني أن أشكر} ألهمني شكر نعمتك. وتحقيقه في اللغة والتصريف، أنك تقول: وزعت الشيء أي كففته وأوزعني الله الشيء أي جعلني أزع ذلك الشيء أي أكفه. كما تقول: ركبت الفرس وأركبني زيد الفرس، أي جعلني أركبه، فأوزعني شكر نعمتك: أي اجعلني أزع أي أكف شكر نعمتك، أي أمنعه من أن يذهب عني وينفلت مني، فالمقصود: اجعلني ملازما لشكرك فلا أنفك لك شاكراً.
{نعمتك} عام يشمل كل نعمة لله عليه وعلى والديه.[/rtl]
[rtl]{وأن أعمل} معطوف على {أن أشكر} فيقدر مثل تقديره.
{ترضاه} وصف مؤكد وقد يكون للتقييد على ما سيأتي، لأن العمل الصالح يرضى عنه الله، وإنما ذكر الوصف؛ ليفيد أن رضى الله مقصود بالعمل الصالح.
{أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} اجعلني معهم. وأكمل الصالحين الأنبياء والمرسلون صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وتحقيقه: أن الصالحين بما امتازوا به من كمال صاروا كأنهم في حمى خاص بهم، لا يدخل عليهم فيه إلاّ من كان مثلهم، فلهم مقامهم في الرفيق الأعلى، ولهم منازلهم في الجنة، ولهم ذكرهم الطيب عند الله وعند العباد. وهذه المنازل والمقامات لا يدخلها العبد إلاّ برحمة من الله بتيسير لأسبابها، وتفضل عظيم.
المعنى:
لما سمع سليمان- عليه الصلاة والسلام- كلام النملة تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ السرور والتعجب من قولها، وطلب من ربه- تعالى- أن يلهمه شكر ما أنعم به عليه وعلى والديه، وأن يلهمه عملاً صالحاً ينال به رضاه، وطلب منه تعالى أن يجعله في الصالحين، بأن يثبت اسمه بينهم، ويقرن ذكره بذكرهم، ويلحقه بهم، ويسكنه الجنة معهم، بما يغمره به من رحمته وفضله وإحسانه.
توجيه:
وصدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف، ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره منه، فهذا مبعث تعجب سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه عن غير شعور، فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء. هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده، وظهوره منهم واشتهارهم به. كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم الذي لم يؤته غيره، حتى فهم ما همست به النملة، وهي من الحكل (1) الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال.
أدب من سرّته النعمة:
نعم الله على العبد تدخل عليه السرور بجبلة الفطرة، والفرح بنعمة الله من الاعتراف بفضله والإكبار لنواله.
ومن أدب العبد- حينئذ- أن يسأل الله التوفيق لشكر تلك النعمة بصرفها في الطاعة،
__________
(1) الحُكْلُ: جمع أحْكَل، وهو الأعجم من الطيور والبهائم، وما لا يسمع له صوت كالذر والنمل (المعجم الوسيط: [ص:190] ) .[/rtl]
والتوفيق بشكرها، بما يقوم به من أعمال صالحة في رضى الله، كما فعل سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إذا أنعم الله على الأبوين بنعمة الإيمان والصلاح، فهي نعمة على ولدهما إذا اتبعهما، وتكون تلك النعمة من الله عليهما سيما في حسن تربيتهما له وتوجيهه في الوجهة الصالحة.
كما أن نعمة الله على الولد هي نعمة على والديه فهو من أثرهما، ومثل حسناته في ميزانهما، لأنهما أصل ذلك وسببه، ويدعو له الناس، فيدعون لهما ويدعو هو لهما، وقد يؤذن له فيشفع لهما. فالنعمة على الوالد هي نعمة مزدوجة بينهما، ولهذا ذكر سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعمة الله على والديه مع نعمته عليه.
الغاية المطلوبة:
إن شعور العبد برضى الله عنه، هو أعظم لذة روحية تعجز عن تصويرها الألسن. وإحلال الرضوان على أهل الجنة أكبر من كل ما في الجنة من نعيم؛ فالغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هي رضى الله.
فالعمل الصالح ترتضيه العقول، وتستعذبه الفطر، ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله؛ ولهذا قال سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {ترضاه} .
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) } [النمل: 17] .
(الحشر) الجمع من أماكن متفرقة.
(جنوده) هم المنتظمون في سلك عسكريته، فجمعوا له عند الحاجة إليهم في سفر أراده.
(يوزعون) يكفون عن الخروج عن النظام في السير، فيمنع أولهم من سبق آخرهم، وآخرهم من التأخر عن سابقهم، ويمنعون من الخروج عن الصفوف إلى اليمين أو الشمال، لأن وزعه عن الشيء معناه كفه عنه.
وفي ترتيب الجنود في الذكر مراعاة الأقوى، وأعلاهم في ذلك الجن، ثم الإنس، ثم الطير.
وفاعل (حشرهم) الأعوان الحاشرون. وفاعل (وزع) هم الضباط المنظمون.
المعنى:
كان لسليمان- عليه الصلاة والسلام- من الجن والإنس والطير جنود معينون معروفون يتركب منهم عسكره. يكونون متفرقين، فإذا عرض أمر جمعهم.
وكان له أعوان يعرفون أولئك الجنود ويعرفون أماكنهم، فهم الذين يجمعونهم عند الحاجة إليهم.[/rtl]
[rtl](1/259)[/rtl]
تفصيل:
كما أن للإنس من يعرفهم من أعوان سليمان ومن ينظمهم من رؤسائهم، كذلك يكون للجن، وكذلك يكون للطير.
وسلطة سليمان على الجن وتسخيره لهم وسلطته على الطير وفهمه لها وفهمها عنه معجزة له، وخصوصية ملك لم يَنْبَغِ لأحد من بعده!!
تاريخ وقدرة:
تفيدنا الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان.
فقد كان الجنود يسرحون من الخدمة ويجمعون عند الحاجة.
وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة.
وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة.
وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم.
وكان النظام محكماً لضبط تلك الكثرة ومنعها من الاضطراب والاختلال والفوضى.
تعرض علينا الآية هذه الصورة التاريخية والواقعية تعليما لنا، وتربية على الجندية المضبوطة المنظمة.
ولا شك أن الخلفاء الأولين قد عملوا على ذلك في تنظيم جيوشهم، إنَّ مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا. فسرعان ما تحولوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفا عندهم في الجاهلية.
وبقيت الآية على الدهر مذكرة لنا بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوة والكثرة وحدهما لا تغنيان بدون نظام، وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.
طبيعة وشريعة:
في عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان نجد الطبيعة- بصنع الله- تستخلص الأعلى من الأدنى، والأقوى من الأضعف، فتجد الممتاز من أصل الخلق وبانتخاب الطبيعة في هذه العوالم الثلاث، كما تجد الذهب في المعدن وتجد الزهر والثمر في النجم (1) والشجر، وتجد الملكة من النمل والنحل مثلاً.
__________
(1) النجم من النبات: ما لا ساق له (المعجم الوسيط: [ص:905] ) .[/rtl]
[rtl](1/260)[/rtl]
ففيه الممتازون الذين يحتاج إليهم النوع الإنساني في صلاح حاله ومآله.
ومنهم الذين يتولون حكمه وتنظيمه في أممه ومجتمعاته وجماعاته؛ فالهيئة الحاكمة والأفراد المنظمون والقادة المسيرون من ضروريات المجتمع الإنساني ومقررات الشرع الإسلامي، مثل ما في هذه الآية من أمر الوازعين.
ولما ولي الحسن البصري القضاء قال:
«لا بد للسلطان من وزعة» أي أعوان يكفون الناس عن الشر والفساد، ويتولون تربيتهم وتنظيمهم.
وفي رواية: «لا بد للناس من وازع» - أي كاف- يكف بعضهم عن بعض، وهو الحاكم وأعوانه.
وفي حديث ذكره أهل الغريب: من يزع السلطان وعقابه الدنيوي أكثر ممن يكفهم عن الشر الوعد والوعيد في القرآن (1) .
وقد قال الله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] .
الآية الرابعة
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) } [النمل: 18] .
{أتوا على وادي النمل} هبطوا إليه من مكان أعلى منه، وهو بالشام أو بالحجاز، لم تتوقف العبرة على تعيينه فلم يعين، وأضيف للنمل لكثرته فيه.
{نملة} لفظها مؤنث، ومعناها محتمل مثل شاة وحمامة.
__________
(1) ذكر هذا الحديث ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 180) بلفظ: "من يزع السلطان أكثر ممن يزع القرآن" قال ابن الأثير: أي من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن يكفّه القرآن والله تعالى؛ يقال: وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزْعًا فهو وازِعٌ، إذا كفَّهُ ومنعه".[/rtl]
[rtl](1/261)[/rtl]
{لا يحطمنكم} لا يكسرنكم بالحوافر والأقدام.
{لا يشعرون} لا يحسون بوجودكم.
الإتيان بـ"إذا" وجوابها، لإفادة أن قولها كان بسبب إتيانهم عند أول ما أتوا.
{لا يحطمنكم} نهتهم عن أن يحطمهم، والحطم ليس من فعلهم حتى ينهوا عنه، وإنما المعنى: لا تكونوا خارج مساكنكم فيحطمكم، فنهتهم عن السبب، والمراد النهي عن السبب، لما في ذلك من الإيجاز المناسب لسرعة الإنذار لسرعة النجاة، ولما في ذكر المسبب- وهو الحطم- من التخويف الحامل على الإسراع إلى الدخول.
والجملة مؤكدة للأولى فكأنها قالت: ادخلوا مساكنكم لا تبقوا خارجها. ونظير التركيب في التعبير بالمسبب عن المسبب: لا أرينك ههنا؛ أي لا تكن هنا فأراك.
المعنى:
سار سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تلك الجنود العظيمة يحيط به الإنس والجن وتظلّلهم الطير، حتى هبطوا على وادي النمل، فرأتهم كبيرة النمل وقائدته، فصاحت في بني جنسها، فنادتهم للتنبيه، وأرشدتهم إلى طريق النجاة: بأمرهم الدخول في مساكنهم، وحذرتهم من الهلاك بحطم سليمان وجنوده لهم عن [عدم] . (2) شعور منهم، فلا يكون اللوم عليهم، وإنما اللوم على النمل إذْ (3) لم يسرع بالدخول.
عبرة وتعليم:
عاطفة الجنسية غريزة طبيعية:
فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها.
ولم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند إنذار بني جنسها؛ إذ كانت تدرك بفطرتها أن لا حياة لها بدونهم، ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم، فانذرتهم في أشد ساعات الخطر أبلغ الإنذار. ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جنسها من الخطر الداهم، أن تذكر عذر سليمان وجنده.
فهذا يعلمنا أن لا حياة للشخص إلاّ بحياة قومه، ولا نجاة لهم إلاّ بنجاتهم، وأن لا خير لهم فيه إلاّ إذا شعر بأنه جزء منهم.
__________
(1) جمع غار، وهو كل منخفض من الأرض (المعجم الوسيط: [ص:665] ) .
(2) ما بين حاصرتين ساقط من الأصل؛ وهي زيادة ضرورية لاستقامة المعنى.
(3) كانت بالأصل: "إذا" والصواب ما أثبتناه.[/rtl]
[rtl](1/262)[/rtl]
واجب القائد والزعيم:
هذه النملة هي كبيرة النمل، فقد كان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها، فبادرت بالإنذار.
فلا يصلح لقيادة الأمة وزعامتها إلاّ من كان عنده من بعد النظر، وصدق الحدس، وصائب الفراسة، وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها، ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع.
عظة بالغة:
هذه نملة وفت لقومها، وأدت نحوهم واجبها!!
فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه؟!
هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه، ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهماً لقومه، فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم.
آه ما أحوجنا- معشر المسلمين- إلى أمثال هذه النملة!
الآية الخامسة
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } [النمل: 19] .
(التبسم) انفراج الشفتين على الأسنان، وقد يكون للغضب، وقد يكون للسخرية، وقد يكون للضحك، وهو الأكثر، وهو بدايته؛ ولهذا قيد بـ"ضاحكًا".
{أوزعني أن أشكر} ألهمني شكر نعمتك. وتحقيقه في اللغة والتصريف، أنك تقول: وزعت الشيء أي كففته وأوزعني الله الشيء أي جعلني أزع ذلك الشيء أي أكفه. كما تقول: ركبت الفرس وأركبني زيد الفرس، أي جعلني أركبه، فأوزعني شكر نعمتك: أي اجعلني أزع أي أكف شكر نعمتك، أي أمنعه من أن يذهب عني وينفلت مني، فالمقصود: اجعلني ملازما لشكرك فلا أنفك لك شاكراً.
{نعمتك} عام يشمل كل نعمة لله عليه وعلى والديه.[/rtl]
[rtl](1/263)[/rtl]
{ترضاه} وصف مؤكد وقد يكون للتقييد على ما سيأتي، لأن العمل الصالح يرضى عنه الله، وإنما ذكر الوصف؛ ليفيد أن رضى الله مقصود بالعمل الصالح.
{أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} اجعلني معهم. وأكمل الصالحين الأنبياء والمرسلون صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وتحقيقه: أن الصالحين بما امتازوا به من كمال صاروا كأنهم في حمى خاص بهم، لا يدخل عليهم فيه إلاّ من كان مثلهم، فلهم مقامهم في الرفيق الأعلى، ولهم منازلهم في الجنة، ولهم ذكرهم الطيب عند الله وعند العباد. وهذه المنازل والمقامات لا يدخلها العبد إلاّ برحمة من الله بتيسير لأسبابها، وتفضل عظيم.
المعنى:
لما سمع سليمان- عليه الصلاة والسلام- كلام النملة تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ السرور والتعجب من قولها، وطلب من ربه- تعالى- أن يلهمه شكر ما أنعم به عليه وعلى والديه، وأن يلهمه عملاً صالحاً ينال به رضاه، وطلب منه تعالى أن يجعله في الصالحين، بأن يثبت اسمه بينهم، ويقرن ذكره بذكرهم، ويلحقه بهم، ويسكنه الجنة معهم، بما يغمره به من رحمته وفضله وإحسانه.
توجيه:
وصدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف، ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره منه، فهذا مبعث تعجب سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه عن غير شعور، فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء. هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده، وظهوره منهم واشتهارهم به. كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم الذي لم يؤته غيره، حتى فهم ما همست به النملة، وهي من الحكل (1) الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال.
أدب من سرّته النعمة:
نعم الله على العبد تدخل عليه السرور بجبلة الفطرة، والفرح بنعمة الله من الاعتراف بفضله والإكبار لنواله.
ومن أدب العبد- حينئذ- أن يسأل الله التوفيق لشكر تلك النعمة بصرفها في الطاعة،
__________
(1) الحُكْلُ: جمع أحْكَل، وهو الأعجم من الطيور والبهائم، وما لا يسمع له صوت كالذر والنمل (المعجم الوسيط: [ص:190] ) .[/rtl]
[rtl](1/264)[/rtl]
إذا أنعم الله على الأبوين بنعمة الإيمان والصلاح، فهي نعمة على ولدهما إذا اتبعهما، وتكون تلك النعمة من الله عليهما سيما في حسن تربيتهما له وتوجيهه في الوجهة الصالحة.
كما أن نعمة الله على الولد هي نعمة على والديه فهو من أثرهما، ومثل حسناته في ميزانهما، لأنهما أصل ذلك وسببه، ويدعو له الناس، فيدعون لهما ويدعو هو لهما، وقد يؤذن له فيشفع لهما. فالنعمة على الوالد هي نعمة مزدوجة بينهما، ولهذا ذكر سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعمة الله على والديه مع نعمته عليه.
الغاية المطلوبة:
إن شعور العبد برضى الله عنه، هو أعظم لذة روحية تعجز عن تصويرها الألسن. وإحلال الرضوان على أهل الجنة أكبر من كل ما في الجنة من نعيم؛ فالغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هي رضى الله.
فالعمل الصالح ترتضيه العقول، وتستعذبه الفطر، ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله؛ ولهذا قال سليمان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {ترضاه} .
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]جمع وتحقيق:
قال الله تعالى:
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] . فأفاد أن الأعمال سبب في دخول الجنة.
وفي هذه الآية: {وأدخلني برحمتك} فأفاد أن الدخول بالرحمة ولا منافاة ما بينهما.
فالأعمال سبب شرعي لدخول الجنة، والهداية إليه والتوفيق فيه وقبوله هو رحمة من الله جزاء؛ لأنه لا ينتفع به؛ إذ هو الغني عن خلقه، وإنما تفضل فجعله سبباً في نيل ثوابه، ثم تفضل فجعل الجزاء مضاعفاً إلى عشرة أضعاف كثيرة، إلى الموفي للصابرين أجرهم بغير حساب.
دقيقة روحية:
إن الأرواح النورانية الطاهرة السامية لا لذة لها حقيقية في هذا العالم الفاني المادي المنحط، وإنما لذتها الحقيقية في عالمها العالي الأقدس، وفي الرفيق الأعلى الأطهر، وفي معاشرة أمثالها من النفوس الطيبة الزكية، في ذلك القدس الأسنى، فهي دائمة الشوق إليه، والانجذاب نحوه.
ولذا كان من دعوات الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الدخول في الصالحين واللحوق بهم؛ مثل قول سليمان هنا، وقول إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] . وقول يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 151] .
وفقنا الله لشكر ما مَنَّ به من سابق النعمة، وللقيام فيما بقي من العمر بواجب الخدمة، وختم لنا باللحوق بعباده الصالحين آمين.[/rtl]
[rtl]الفصل الرابع الآية السادسة
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) } [النمل: 20] .
{تفقد} التفقد تطلبك ما فقدته وغاب عنك، وتعرفك أحواله. {لا أرى} لا أبصر.
{الهدهد} ، هو (تبيب) وهو طائر صغير الجرم منتن الريح ليس من كرام الطير، ولا من سباعها.
{ما لي لا أرى} ؟ استفهم عما حصل له فمنعه من الرؤية، حيث ظن أولًا أن الهدهد كان حاضراً، وإنما هو لم يره.
{أم كان من الغائبين} ؛ استفهم عن غيبته حيث ظن ثانياً أنه غائب فاستفهم عن صحة ما ظن، فكلمة أم فيها إضراب، وفيها استفهام، فأضرب إضراب انتقال من ظن إلى ظن.
{كان من الغائبين} ؛ تعريض بقبح فعله، لما انحط عن شرف الحضور، وكان من الغائبين.
المعنى:
تطلب سليمان- عليه السلام- معرفة ما غاب عنه من أحوال الطير فلم ير الهدهد، وأخذ يتساءل فظن أن شيئاً ستره عنه فلم يره، ولما لم يكن شيء من ذلك، ظن أنه كان غائباً غير حاضر، وذلك هو الظن الأخير الذي حصل به اليقين.
تعليم وقدوة:
من حق الرعية على راعيها أن يتفقدها، ويتعرف أحوالها؛ إذ هو مسؤول عن الجليل والدقيق منها.
يباشر بنفسه ما استطاع مباشرته منها، ويضع الوسائل التي تطلعه على ما غاب عليه منها.
وينيط بأهل الخبرة والمقدرة والأمانة تفقد أحوالها حتى تكون أحوال كل ناحية معروفة مباشرة لمن كلف بها.
فهذا سليمان على عظمة ملكه واتساع جيشه وكثرة أتباعه، قد تولى التفقد بنفسه، ولم يهمل أمر الهدهد على صغره وصغر مكانه.[/rtl]
[rtl]وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لو أن سخلة (1) بشاطىء الفرات يأخذها الذئب ليسأل عنها عمر» .
وهذا التفقد والتعرف هو على كل راع في الأمم والجماعات والأسر والرفاق وكل من كانت له رعية.
تعليل وتحرير:
تفقد سليمان جنس ما معه من الطير للتعرف كما ذكرنا، وذِكْرُ الطير هو الذي تعلقت به القصة، وليس في السكوت عن غير الطير ما يدل على أنه لم يتفقده. فالتفقد لم يكن للهدهد بخصوصه، وإنما لما تفقد جنس الطير فقده ولم يجده، فقال ما قال.
فلا وجه لسؤال من سأل: كيف تفقد الهدهد من بين سائر الطير.
تدقيق لغوي وغوص علمي:
سأل سليمان عن حال نفسه، فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ ولم يسأل عن حال الهدهد فيقل: ما للهدهد لا أراه؛ فأنكر حال نفسه قبل أن ينكر حال غيره.
فنقل الحافظ الإمام ابن العربي عن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري شيخ الصوفية في زمانه قال:
«إنما قال ما لي لا أرى لأنه اعتبر حال نفسه إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر فلأجله سلبها؛ فجعل يتفقد نفسه، فقال: ما لي» .
وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم. هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض؟!
توجيه:
مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة من مثل هذا الإمام الجليل من أجل علوم القرآن وذخائره.
إذ هي معاني صحيحة في نفسها.
ومأخوذه من التركيب القرآني أخذاً عربياً صحيحاً.
ولها ما يشهد لها من أدلة الشرع.
وكل ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو صحيح مقبول.
__________
(1) السخلة: الذكر والأنثى من ولد الضأن والمعز ساعة يولد. جمعها سَخْل وسِخالٌ وسُخْلان (المعجم الوسيط: [ص:422] ) .[/rtl]
[rtl]ومنه فهم عمر وابن عباس- رضي الله عنهما- أجل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من سورة النصر (1) .
أما ما لم تتوفر فيه الشروط المذكورة، وخصوصاً الأول والثاني؛ فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله، وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية: كتفسير ابن عبد الرحمن السلمي من المتقدمين، والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين.
الآية السابعة
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) } [النمل: 21] .
{عذاباً شديداً} بنتف ريشه، هكذا فسره ابن عباس وجماعة من التابعين (2) .
{بسلطان مبين} بحجة قاطعة توضح عذره في غيبته. سميت الحجة سلطاناً لما لها من السلطة على العقل في إخضاعه.
أفادت "أو" أن المحلوف على حصوله هو أحد الثلاثة، فإذا حصلت الحجة فلا تعذيب ولا ذبح، ولو لم تحصل لفعل أحدهما.
وقدم التعذيب لأنه أشد من القتل، وحالة الغضب تقتضي تقديم الأشد.
المعنى:
يقسم سليمان على معاقبة الهدهد- وقد تحقق غيبته- بالتعذيب أو بالذبح، إذا (3) لم يأته بالحجة التي تبين عذره في تلك الغيبة، ولا يستثني للعفو ولا يجعل سبباً لسلامته من العقوبة إلاّ الحجة.
__________
(1) روى البخاري في صحيحه (كتاب تفسير القرآن، باب 4، حديث 4970) عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكان بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم. فدعا ذات يوم فأدخله معهم، فما رُؤيت أنه دعاني يومئذ إلاّ ليريهم؛ قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذاك تقول با ابن عباس؛ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . فقال عمر: ما أعلم منها إلاّ ما تقول.
(2) منهم مجاهد وقتادة والضحاك ويزيد بن رومان وابن زيد وحسين بن أبي شداد. انظر تفسير الطبري (9/ 506، 507) .
(3) كانت بالأصل "إذْ" والصواب ما أثبتناه.[/rtl]
[rtl]توجيه واستنباط:
ليس في الآية ما يفهم خصوص نتف الريش من لفظ العذاب الشديد، وإنما فهم ابن عباس- رضي الله عنه- وأئمة من التابعين ذلك بالنظر العقلي والاعتبار؛ فإن نتف ريشه يعطل خاصية الطيران فيه، فيتحول من حياة الطير إلى حياة دواب الأرض، وذلك نوع من المسخ، وقد علم أن المسخ في القرآن أشنع عقوبة في الدنيا، فلهذا فسروا العذاب الشديد بنتف الريش.
والإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم إنساناً- فرداً أو جماعة- من العلم فقد حرمه من خصوصية الإنسانية، وحوله إلى عيشة العجماوات، وذلك نوع من المسخ، فهو عذاب شديد، وأي عذاب شديد؟!
كان هذا الهدهد من جنود سليمان التي حشرت له، وقد كان في مكانه الذي عين له وأقيم فيه، فلما فارق وترك الفرجة في صفه وأوقع الخلل في جنسه استحق العقاب الصارم الذي لا هوادة فيه.
وهذا أصل في صرامة أحكام الجندية وشدتها؛ لعظم المسؤولية التي تحملتها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها، وعظم الخطر الذي يعم الجميع إذا أخلت بها.
تقدير العقوبة:
جرم الهدهد صغير، وما كلف إلاّ بما يستطيعه من الوقوف في مكانه والبقاء في مركزه، ولكن جرمه بإخلاله بهذا الواجب كان جرماً كبيراً؛ فإن الخلل الصغير مجلبة للخلل الكبير، فقدرت عقوبته على حسب كبر ذنبه لا على حسب صغر ذاته.
تنبيه وإرشاد:
كل واحد في قومه أو في جماعته هو المسؤول عنهم من ناحيته، مما يقوم به من عمل حسب كفاءته واستطاعته، فعليه أن يحفظ مركزه ولا يدع الخطر يدخل، ولا الخلل يقع من جهته؛ فإنه إذا قصر في ذلك وترك مكانه فتح ثغرة الفساد على قومه وجماعته، وأوجد السبيل لتسرب الهلاك إليهم. وزوال حجر صغير من السد المقام لصد السيل يفضي إلى خراب السد بتمامه.
فإخلال أي أحد بمركزه- ولو كان أصغر المراكز- مؤد إلى الضرر العام.
وثبات كل واحد في مركزه وقيامه بحراسته هو مظهر النظام والتضامن وهما أساس القوة.
الحق فوق كل أحد:
لقد أغضب سليمان غياب الهدهد، فلذا توعده هذا الوعيد، وأكده هذا التأكيد، ولكن سلطان سليمان في قوته وملكه ومكانته يجب أن يخضع لسلطان آخر هو أعظم من سلطانه: هو سلطان الحق، والحق فوق كل أحد، وملك سليمان ملك حق، فلا بد له من الخضوع لسلطان الحجة، ليقيم ميزان العدل، والعدل أساس الملك، وسياج العمران. اهـ.[/rtl]
[rtl]الفصل الخامس الآية الثامنة
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) } [النمل: 22] .
{مكث} أقام. وقرأ عاصم بفتح الكاف.
{غير} صفة زمان محذوف فالتقدير زماناً غير بعيد.
فاعل (مكث) هو الهدهد مثل فاعل قال الآتي.
{أحطت} ، الإحاطة بالشيء، عقلياً هي العلم به من جميع نواحيه.
{سبأ} اسم مدينة باليمن، سميت باسم سبأ جد العرب اليمانية حمير وغيرها، وصرفه الجمهور على اعتبار المكان، ومنه من الصرف المكي والبصري على اعتبار البلدة (1) .
{بنبأ} النبأ الخبر الذي له شأن وخطورة. و (اليقين) المحقق؛ جعله نفس اليقين مبالغة في تحققه.
وفي الكلام إيجاز بالحذف إذ المعنى: فجاء الهدهد فسأله سليمان عليه السلام عن سبب مغيبه فقال: ...
المعنى:
لم تطل غيبة الهدهد عن مركزه في جنود سليمان، فلم يلبث في غيبته إلاّ زماناً قصيراً، وكان سؤال سليمان عن غيبته فور رجوعه، فأسرع بالجواب والاعتذار عن الغيبة، والدفاع عن نفسه، فقال: اطلعت على شيء لم تطلع أنت عليه، وعرفته من جميع نواحيه، وقد أتيتك من بلدة سبأ بخبر خطير، ذي شأن عظيم تيقنته غاية اليقين.
توجيه واستنباط:
كان في جواب الهدهد حجة بينة لسبب غيابه، وذلك لأنه لم يذهب عابثاً، ولا لغرض خاص به، وإنما ذهب مستطلعاً مكتشفاً، فحصَّل علماً، وجاء بخبر عظيم في زمن قصير، فرجحت هذه الفوائد العظيمة بتركه لمركزه في الجند فسقطت عنه المؤاخذة.
فإن قيل: إن أصل مفارقته لمركزه دون استئذان كان مخالفة يستوجب عليها العقوبة؟
__________
(1) قال ياقوت في معجم البدان (3/ 181) : "سبأ: أرض باليمن مدينتها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فمن لم يصرف فلأنه اسم مدينة، ومن صرفه فلأنه اسم البلد فيكون مذكراً سمي به مذكراً. وسميت هذه الأرض بهذا الإسم لأنها كانت منازل ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان".[/rtl]
[rtl]فالجواب أن هذه المخالفة كانت لقصد حسن وهو الاستطلاع، وأثمرت خيراً، فاستحق العفو عن تلك المخالفة التي كانت عن نظر، ولم تكن عن تهاون وانتهاك للحرمة.
فإن قيل: ما الذي أوقع في نفس الهدهد رغبته في طلب ما طلب؟
فالجواب: أنه يجوز أن يكون قد مر باليمن من مكان بعيد ببصره الحاد، فرغب في المعرفة، أو أن يكون قد مر باليمن من قبل، ولم يتحقق من حالها فأراد أن يتحقق.
وهذه الآية مأخذ من مآخذ الأصل القائل: إن المخالف للأمر عن غير انتهاك للحرمة لا يؤاخذ بتلك المخالفة.
ومن فروع هذا الأصل سقوط الكفارة عمن أفطر رمضان متعمِّدًا (1) متأولاً تأويلاً قريباً.
عزة العلم وسلطانه:
ابتدأ الهدهد جوابه معتزاً بما أحاط به من العلم، متجملاً بما حصل منه، مظهراً لارتفاع منزلته به، متحصناً به من العقاب.
ولم تمنعه عظمة سليمان- عليه السلام- من إظهار علمه وإعلان اختصاصه به دون سليمان.
أدب وإقتداء:
قد سمع سليمان هذا الهدهد وأقره عليه، فللصغير أن يقول للكبير وللحقير أن يقول للجليل: علمت ما لم تعلم، وعندي ما ليس عندك؛ إِذا كان من ذلك على يقين، وكان لقصد صحيح.
ومن أدب من قيل له ذلك ولو كان كبيراً جليلاً أن يتقبل ذلك، ولا يبادر برده، وعليه أن ينظر فيه ليعرف مقدار صدق قائده فيقبله أو يرده بعد النظر والتأمل؛ إذ قد يكون في أصغر مخلوقات الله وأحقرها من يحيط علماً بما لم يحط مثل سليمان- عليه السلام- في علمه وحكمته، واتساع مدركاته.
وكفى بمثل هذا زاجراً لكل ذي علم عن الإعجاب بعلمه، والاعزاز بسعة اطلاعه، والترفع عن الاستفادة ممن دونه.
مدرك عقيدة:
لا يعلم أحد من الأنبياء- عليهم السلام- شيئاً مما غاب عنه إلاّ بإعلام الله، فليس لهم كشف عام عن جميع ما في الكون، وإنما يعلمون منه ما أطلعهم الله عليه.
ومن مدارك ذلك هذه القصة: فإن سليمان عليه السلام، لم يكن يعلم من مملكة سبأ شيئاً حتى أطلعه الله عليه بواسطة الهدهد.
__________
(1) تحرفت في الأصل المطبوع إلى "معتمداً". تقديم العين على التاء. فاقتضى التصحيح.[/rtl]
قال الله تعالى:
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] . فأفاد أن الأعمال سبب في دخول الجنة.
وفي هذه الآية: {وأدخلني برحمتك} فأفاد أن الدخول بالرحمة ولا منافاة ما بينهما.
فالأعمال سبب شرعي لدخول الجنة، والهداية إليه والتوفيق فيه وقبوله هو رحمة من الله جزاء؛ لأنه لا ينتفع به؛ إذ هو الغني عن خلقه، وإنما تفضل فجعله سبباً في نيل ثوابه، ثم تفضل فجعل الجزاء مضاعفاً إلى عشرة أضعاف كثيرة، إلى الموفي للصابرين أجرهم بغير حساب.
دقيقة روحية:
إن الأرواح النورانية الطاهرة السامية لا لذة لها حقيقية في هذا العالم الفاني المادي المنحط، وإنما لذتها الحقيقية في عالمها العالي الأقدس، وفي الرفيق الأعلى الأطهر، وفي معاشرة أمثالها من النفوس الطيبة الزكية، في ذلك القدس الأسنى، فهي دائمة الشوق إليه، والانجذاب نحوه.
ولذا كان من دعوات الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الدخول في الصالحين واللحوق بهم؛ مثل قول سليمان هنا، وقول إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] . وقول يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 151] .
وفقنا الله لشكر ما مَنَّ به من سابق النعمة، وللقيام فيما بقي من العمر بواجب الخدمة، وختم لنا باللحوق بعباده الصالحين آمين.[/rtl]
[rtl](1/265)[/rtl]
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) } [النمل: 20] .
{تفقد} التفقد تطلبك ما فقدته وغاب عنك، وتعرفك أحواله. {لا أرى} لا أبصر.
{الهدهد} ، هو (تبيب) وهو طائر صغير الجرم منتن الريح ليس من كرام الطير، ولا من سباعها.
{ما لي لا أرى} ؟ استفهم عما حصل له فمنعه من الرؤية، حيث ظن أولًا أن الهدهد كان حاضراً، وإنما هو لم يره.
{أم كان من الغائبين} ؛ استفهم عن غيبته حيث ظن ثانياً أنه غائب فاستفهم عن صحة ما ظن، فكلمة أم فيها إضراب، وفيها استفهام، فأضرب إضراب انتقال من ظن إلى ظن.
{كان من الغائبين} ؛ تعريض بقبح فعله، لما انحط عن شرف الحضور، وكان من الغائبين.
المعنى:
تطلب سليمان- عليه السلام- معرفة ما غاب عنه من أحوال الطير فلم ير الهدهد، وأخذ يتساءل فظن أن شيئاً ستره عنه فلم يره، ولما لم يكن شيء من ذلك، ظن أنه كان غائباً غير حاضر، وذلك هو الظن الأخير الذي حصل به اليقين.
تعليم وقدوة:
من حق الرعية على راعيها أن يتفقدها، ويتعرف أحوالها؛ إذ هو مسؤول عن الجليل والدقيق منها.
يباشر بنفسه ما استطاع مباشرته منها، ويضع الوسائل التي تطلعه على ما غاب عليه منها.
وينيط بأهل الخبرة والمقدرة والأمانة تفقد أحوالها حتى تكون أحوال كل ناحية معروفة مباشرة لمن كلف بها.
فهذا سليمان على عظمة ملكه واتساع جيشه وكثرة أتباعه، قد تولى التفقد بنفسه، ولم يهمل أمر الهدهد على صغره وصغر مكانه.[/rtl]
[rtl](1/266)[/rtl]
وهذا التفقد والتعرف هو على كل راع في الأمم والجماعات والأسر والرفاق وكل من كانت له رعية.
تعليل وتحرير:
تفقد سليمان جنس ما معه من الطير للتعرف كما ذكرنا، وذِكْرُ الطير هو الذي تعلقت به القصة، وليس في السكوت عن غير الطير ما يدل على أنه لم يتفقده. فالتفقد لم يكن للهدهد بخصوصه، وإنما لما تفقد جنس الطير فقده ولم يجده، فقال ما قال.
فلا وجه لسؤال من سأل: كيف تفقد الهدهد من بين سائر الطير.
تدقيق لغوي وغوص علمي:
سأل سليمان عن حال نفسه، فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ ولم يسأل عن حال الهدهد فيقل: ما للهدهد لا أراه؛ فأنكر حال نفسه قبل أن ينكر حال غيره.
فنقل الحافظ الإمام ابن العربي عن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري شيخ الصوفية في زمانه قال:
«إنما قال ما لي لا أرى لأنه اعتبر حال نفسه إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر فلأجله سلبها؛ فجعل يتفقد نفسه، فقال: ما لي» .
وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم. هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض؟!
توجيه:
مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة من مثل هذا الإمام الجليل من أجل علوم القرآن وذخائره.
إذ هي معاني صحيحة في نفسها.
ومأخوذه من التركيب القرآني أخذاً عربياً صحيحاً.
ولها ما يشهد لها من أدلة الشرع.
وكل ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو صحيح مقبول.
__________
(1) السخلة: الذكر والأنثى من ولد الضأن والمعز ساعة يولد. جمعها سَخْل وسِخالٌ وسُخْلان (المعجم الوسيط: [ص:422] ) .[/rtl]
[rtl](1/267)[/rtl]
أما ما لم تتوفر فيه الشروط المذكورة، وخصوصاً الأول والثاني؛ فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله، وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية: كتفسير ابن عبد الرحمن السلمي من المتقدمين، والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين.
الآية السابعة
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) } [النمل: 21] .
{عذاباً شديداً} بنتف ريشه، هكذا فسره ابن عباس وجماعة من التابعين (2) .
{بسلطان مبين} بحجة قاطعة توضح عذره في غيبته. سميت الحجة سلطاناً لما لها من السلطة على العقل في إخضاعه.
أفادت "أو" أن المحلوف على حصوله هو أحد الثلاثة، فإذا حصلت الحجة فلا تعذيب ولا ذبح، ولو لم تحصل لفعل أحدهما.
وقدم التعذيب لأنه أشد من القتل، وحالة الغضب تقتضي تقديم الأشد.
المعنى:
يقسم سليمان على معاقبة الهدهد- وقد تحقق غيبته- بالتعذيب أو بالذبح، إذا (3) لم يأته بالحجة التي تبين عذره في تلك الغيبة، ولا يستثني للعفو ولا يجعل سبباً لسلامته من العقوبة إلاّ الحجة.
__________
(1) روى البخاري في صحيحه (كتاب تفسير القرآن، باب 4، حديث 4970) عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكان بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم. فدعا ذات يوم فأدخله معهم، فما رُؤيت أنه دعاني يومئذ إلاّ ليريهم؛ قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذاك تقول با ابن عباس؛ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . فقال عمر: ما أعلم منها إلاّ ما تقول.
(2) منهم مجاهد وقتادة والضحاك ويزيد بن رومان وابن زيد وحسين بن أبي شداد. انظر تفسير الطبري (9/ 506، 507) .
(3) كانت بالأصل "إذْ" والصواب ما أثبتناه.[/rtl]
[rtl](1/268)[/rtl]
ليس في الآية ما يفهم خصوص نتف الريش من لفظ العذاب الشديد، وإنما فهم ابن عباس- رضي الله عنه- وأئمة من التابعين ذلك بالنظر العقلي والاعتبار؛ فإن نتف ريشه يعطل خاصية الطيران فيه، فيتحول من حياة الطير إلى حياة دواب الأرض، وذلك نوع من المسخ، وقد علم أن المسخ في القرآن أشنع عقوبة في الدنيا، فلهذا فسروا العذاب الشديد بنتف الريش.
والإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم إنساناً- فرداً أو جماعة- من العلم فقد حرمه من خصوصية الإنسانية، وحوله إلى عيشة العجماوات، وذلك نوع من المسخ، فهو عذاب شديد، وأي عذاب شديد؟!
كان هذا الهدهد من جنود سليمان التي حشرت له، وقد كان في مكانه الذي عين له وأقيم فيه، فلما فارق وترك الفرجة في صفه وأوقع الخلل في جنسه استحق العقاب الصارم الذي لا هوادة فيه.
وهذا أصل في صرامة أحكام الجندية وشدتها؛ لعظم المسؤولية التي تحملتها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها، وعظم الخطر الذي يعم الجميع إذا أخلت بها.
تقدير العقوبة:
جرم الهدهد صغير، وما كلف إلاّ بما يستطيعه من الوقوف في مكانه والبقاء في مركزه، ولكن جرمه بإخلاله بهذا الواجب كان جرماً كبيراً؛ فإن الخلل الصغير مجلبة للخلل الكبير، فقدرت عقوبته على حسب كبر ذنبه لا على حسب صغر ذاته.
تنبيه وإرشاد:
كل واحد في قومه أو في جماعته هو المسؤول عنهم من ناحيته، مما يقوم به من عمل حسب كفاءته واستطاعته، فعليه أن يحفظ مركزه ولا يدع الخطر يدخل، ولا الخلل يقع من جهته؛ فإنه إذا قصر في ذلك وترك مكانه فتح ثغرة الفساد على قومه وجماعته، وأوجد السبيل لتسرب الهلاك إليهم. وزوال حجر صغير من السد المقام لصد السيل يفضي إلى خراب السد بتمامه.
فإخلال أي أحد بمركزه- ولو كان أصغر المراكز- مؤد إلى الضرر العام.
وثبات كل واحد في مركزه وقيامه بحراسته هو مظهر النظام والتضامن وهما أساس القوة.
الحق فوق كل أحد:
لقد أغضب سليمان غياب الهدهد، فلذا توعده هذا الوعيد، وأكده هذا التأكيد، ولكن سلطان سليمان في قوته وملكه ومكانته يجب أن يخضع لسلطان آخر هو أعظم من سلطانه: هو سلطان الحق، والحق فوق كل أحد، وملك سليمان ملك حق، فلا بد له من الخضوع لسلطان الحجة، ليقيم ميزان العدل، والعدل أساس الملك، وسياج العمران. اهـ.[/rtl]
[rtl](1/269)[/rtl]
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) } [النمل: 22] .
{مكث} أقام. وقرأ عاصم بفتح الكاف.
{غير} صفة زمان محذوف فالتقدير زماناً غير بعيد.
فاعل (مكث) هو الهدهد مثل فاعل قال الآتي.
{أحطت} ، الإحاطة بالشيء، عقلياً هي العلم به من جميع نواحيه.
{سبأ} اسم مدينة باليمن، سميت باسم سبأ جد العرب اليمانية حمير وغيرها، وصرفه الجمهور على اعتبار المكان، ومنه من الصرف المكي والبصري على اعتبار البلدة (1) .
{بنبأ} النبأ الخبر الذي له شأن وخطورة. و (اليقين) المحقق؛ جعله نفس اليقين مبالغة في تحققه.
وفي الكلام إيجاز بالحذف إذ المعنى: فجاء الهدهد فسأله سليمان عليه السلام عن سبب مغيبه فقال: ...
المعنى:
لم تطل غيبة الهدهد عن مركزه في جنود سليمان، فلم يلبث في غيبته إلاّ زماناً قصيراً، وكان سؤال سليمان عن غيبته فور رجوعه، فأسرع بالجواب والاعتذار عن الغيبة، والدفاع عن نفسه، فقال: اطلعت على شيء لم تطلع أنت عليه، وعرفته من جميع نواحيه، وقد أتيتك من بلدة سبأ بخبر خطير، ذي شأن عظيم تيقنته غاية اليقين.
توجيه واستنباط:
كان في جواب الهدهد حجة بينة لسبب غيابه، وذلك لأنه لم يذهب عابثاً، ولا لغرض خاص به، وإنما ذهب مستطلعاً مكتشفاً، فحصَّل علماً، وجاء بخبر عظيم في زمن قصير، فرجحت هذه الفوائد العظيمة بتركه لمركزه في الجند فسقطت عنه المؤاخذة.
فإن قيل: إن أصل مفارقته لمركزه دون استئذان كان مخالفة يستوجب عليها العقوبة؟
__________
(1) قال ياقوت في معجم البدان (3/ 181) : "سبأ: أرض باليمن مدينتها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فمن لم يصرف فلأنه اسم مدينة، ومن صرفه فلأنه اسم البلد فيكون مذكراً سمي به مذكراً. وسميت هذه الأرض بهذا الإسم لأنها كانت منازل ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان".[/rtl]
[rtl](1/270)[/rtl]
فإن قيل: ما الذي أوقع في نفس الهدهد رغبته في طلب ما طلب؟
فالجواب: أنه يجوز أن يكون قد مر باليمن من مكان بعيد ببصره الحاد، فرغب في المعرفة، أو أن يكون قد مر باليمن من قبل، ولم يتحقق من حالها فأراد أن يتحقق.
وهذه الآية مأخذ من مآخذ الأصل القائل: إن المخالف للأمر عن غير انتهاك للحرمة لا يؤاخذ بتلك المخالفة.
ومن فروع هذا الأصل سقوط الكفارة عمن أفطر رمضان متعمِّدًا (1) متأولاً تأويلاً قريباً.
عزة العلم وسلطانه:
ابتدأ الهدهد جوابه معتزاً بما أحاط به من العلم، متجملاً بما حصل منه، مظهراً لارتفاع منزلته به، متحصناً به من العقاب.
ولم تمنعه عظمة سليمان- عليه السلام- من إظهار علمه وإعلان اختصاصه به دون سليمان.
أدب وإقتداء:
قد سمع سليمان هذا الهدهد وأقره عليه، فللصغير أن يقول للكبير وللحقير أن يقول للجليل: علمت ما لم تعلم، وعندي ما ليس عندك؛ إِذا كان من ذلك على يقين، وكان لقصد صحيح.
ومن أدب من قيل له ذلك ولو كان كبيراً جليلاً أن يتقبل ذلك، ولا يبادر برده، وعليه أن ينظر فيه ليعرف مقدار صدق قائده فيقبله أو يرده بعد النظر والتأمل؛ إذ قد يكون في أصغر مخلوقات الله وأحقرها من يحيط علماً بما لم يحط مثل سليمان- عليه السلام- في علمه وحكمته، واتساع مدركاته.
وكفى بمثل هذا زاجراً لكل ذي علم عن الإعجاب بعلمه، والاعزاز بسعة اطلاعه، والترفع عن الاستفادة ممن دونه.
مدرك عقيدة:
لا يعلم أحد من الأنبياء- عليهم السلام- شيئاً مما غاب عنه إلاّ بإعلام الله، فليس لهم كشف عام عن جميع ما في الكون، وإنما يعلمون منه ما أطلعهم الله عليه.
ومن مدارك ذلك هذه القصة: فإن سليمان عليه السلام، لم يكن يعلم من مملكة سبأ شيئاً حتى أطلعه الله عليه بواسطة الهدهد.
__________
(1) تحرفت في الأصل المطبوع إلى "معتمداً". تقديم العين على التاء. فاقتضى التصحيح.[/rtl]
[rtl](1/271)[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]وإذا كان هذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فغيرهم من عباد الله الصالحين من باب أحرى وأولى.
تحقيق تاريخي:
رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة، ومعظمها من الإسرائيليات الباطلة التي امتلأت بها كتب التفسير، مما تلقى من غير تثبت ولا تمحيص، من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه، وروى شيئاً من ذلك الحاكم في مستدركه، وصرح الذهبي ببطلانه.
ومن هذه المبالغات الباطلة أنه ملك الأرض كلها مشارقها ومغاربها، فهذه مملكة عظيمة بسبأ كانت مستقلة عنه، ومجهولة لديه، على قرب ما بين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام.
الفصل السادس الآية التاسعة
{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) } [النمل: 23] .
{وجدت} أصبت {امرأة} هي بلقيس بإجماع المفسرين والمؤرخين.
{تملكهم} تتولى أمرهم ملكة عليهم. وعبر بالمضارع تصويراً للحال العجيب وهو أن تتولى ملكهم امرأة.
وعاد الضمير على سبأ ضمير جمع مذكر (1) على معنى القوم، إذ كانوا يسمون باسم أبيهم، فذكر لفظ سبأ أولًا بمعنى المدينة (2) وأعيد عليه الضمير بمعنى القوم على أسلوب الاستخدام.
{من كل شيء} لفظ عام أريد به كل ما تحتاج إليه، من أشياء الملك والسلطان والقوة والعمران.
{عرش} هو سرير الملك الذي تجلس عليه {عظيم} في كبره وقوته وحسنه.
المعنى:
يقول الهدهد لسليمان- عليه الصلاة والسلام- مبيناً الخبر العظيم الذي جاء به:
إني وجدت أولئك القوم الذين يسكنون تلك المدينة، قد جعلوا امرأة ملكة عليهم، وقد
__________
(1) في {تَمْلِكُهُمْ} .
(2) في {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} .[/rtl]
[rtl](1/272)[/rtl]
[rtl]أعطيت تلك الملكة كل ما تحتاج إليه (1) في نظام ملكها وعظمته، ومن مظاهر تلك العظمة السرير العظيم الذي تجلس عليه بين أهل مملكتها.
عظمة المملكة العربية اليمنية:
كانت بلقيس ملكة على اليمن، في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد. وقد كانت ملكة عظيمة على مملكة عظيمة راقية.
والهدهد الذي شاهد ملك سليمان وعظمته، قد استعظم ملكها وعرشها، وعظمة العرش عنوان عظمة الملك، فلذا خصصه الهدهد بالذكر، ورغب سليمان في الإتيان به.
تفوق العرب على الإسرائيليين:
كل ذلك الرقي وتلك العظمة بلغتها المملكة العربية اليمنية بنفسها، من تفكيرها وعملها من قرون بعيدة.
فأما الإسرائيليون- وهم إذ ذاك في القرن الخامس من تاريخهم- فإنهم لم يبلغوا في ذلك العهد إلى شيء من ذلك.
وما كان لسليمان من بناءات ومنشآت فهو مما صنعته له الجن والشياطين، كما جاء في آيات من القرآن عديدة.
ولم يترك بنو إسرائيل من الآثار ما يدل على شيء ذي بال من الفن والقوة.
فأما ما تركته اليمن فهو شيء كثير قائم مشاهد والاكتشافات ما زالت تظهر منه شيئاً فشيئاً.
ولاية المرأة الملك:
ثبت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:
«لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (2) .
قاله لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم امرأة، فاقتضى هذا ألا تلي المرأة ولاية ولا إمارة ولا قضاء.
وأيدت هذا النص الصحيح السنة العملية، فأخذ به جمهور أئمة الإسلام، وجاءت روايات عليلة عن بعضهم، لم يلتفت إليها، ولم يعمل بها.
تعليل:
لا تصلح المرأة للولاية.
__________
(1) تحرفت في الأصل المطبوع إلى "إليها" فاقتضى التصحيح.
(2) أخرجه من حديث أبي بكرة البخاري في المغازي باب 82، والفتن باب 18. والترمذي في الفتن باب 75. والنسائي في القضاء باب 8. وأحمد في المسند (5/ 38، 43، 47، 51) .[/rtl]
[rtl](1/273)[/rtl]
[rtl]من ناحية خلقتها النفسية، فقد أعطيت من الرقة والعطف والرأفة ما أضعف فيها الحزم والصرامة اللازمين للولاية.
وفي اشتغالها بالولاية إخلال بوظيفتها الطبيعية الاجتماعية التي لا يقوم مقامها فيها سواها وهي القيام على مملكة البيت، وتدبير شؤونه، وحفظ النسل، بالاعتناء بالحمل والولادة وتربية الأولاد.
دفع اعتراض:
في تواريخ الأمم نساء تولين الملك، ومن المشهورات في الأمم الإسلامية: شجرة الدر في العصر الأيوبي، ومنهن من قضت آخر حياتها في الملك، وازدهر ملك قومها في عهدها.
فما معنى نفي الفلاح عمن ولوا أمرهم امرأة؟
هذا اعتراض بأمر واقع، ولكنه لا يرد علينا.
لأن الفلاح المنفي هو الفلاح في لسان الشرع، وهو تحصيل خير الدنيا والآخرة، ولا يلزم من ازدهار الملك أن يكون القوم في مرضاة الله، ومن لم يكن في طاعة الله فليس من المفلحين، ولو كان في أحسن حال فيما يبدو من أمر دنياه.
على أن أكثر من ولوا أمرهم امرأة من الأمم إذا قابلهم مثلهم، كانت عاقبتهم أن يغلبوا.
الآية العاشرة
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) } [النمل: 24] .
{من دون الله} تجاوزوا عبادة الله إلى عبادة الشمس.
{زين} حسن، {أعمالهم} سجودهم للشمس وغيره من أعمال كفرهم.
{فصدهم} صرفهم صرفاً شديداً.
{السبيل} هو الطريق الوحيد المعهود للنجاة وهو توحيد الله.
{لا يهتدون} لا يكون منهم سلوك في طريق الحق والسداد.
جملة {وجدتها} مستأنفة للبيان جواباً على تقدير سؤال فالكلام السابق بين حالتها من ناحية الدنيا، فتشوقت نفس السامع إلى معرفة حالتها من ناحية الدين.
وعدم اهتدائهم مسبب عن صد الشيطان لهم، وصده مسبب عن تزييفه لأعمالهم، هذا ما تفيده (الفاء) (1) .
__________
(1) في قوله تعالى: {فصدهم} .[/rtl]
[rtl](1/274)[/rtl]
[rtl]المعنى:
وجدتها وقومها مجوساً يعبدون الشمس فيسجدون لها، ولا يسجدون لله.
وقد تمكن الشيطان منهم فحسن في أعينهم أعمالهم، فصرفهم عن عبادة الله وتوحيده، مع ظهور الدلائل ووضوح الآيات؛ فثبتوا على ضلالهم: لا يكون منهم اهتداء لطريق النجاة الظاهر، في حال من الأحوال.
سلاح الشيطان وأصل الضلال:
محبة الإنسان نفسه غريزة من غرائزه، وهو محتاج إليها ليجلب لنفسه حاجتها ويدفع عنها ما يضر بها، ويسعى في تكميلها.
هذه هي الناحية النافعة والمفيدة من هذه الغريزة.
ولكنها من جهة أخرى هي مدخل من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان، فيحسن له أعماله، وهو لمحبة نفسه يحب أعماله ويغتر بها؛ فيذهب مع هواه في تلك الأعمال على غير هدى ولا بيان، فيهلك هلاكاً بعيداً.
فاستحسان المرء لأعماله هو أصل ضلاله، وتزيين الشيطان لتلك الأعمال هو أحد أسلحة الشيطان.
الوقاية:
فعلى المرأ أن يتهم نفسه في كل ما تدعوه إليه، وأن يزن جميع أعماله بميزان الشرع الدقيق، خصوصاً ماتشتد رغبته فيه، ويعظم حسنه في عينيه.
الآية الحادية عشرة
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) } [النمل: 25] .
{ألا يسجدوا} عدم سجودهم، فـ"أنْ" مصدرية، و"لا" نافية، وهو بدل بعض من أعمالهم خصص بالذكر لأنه أصل كفرهم ومبعث فساد أعمالهم.
{الخبء} الشيء المخبوء، فَعْل بمعنى مفعول، يقال: خبأت الشيء أخبؤه خبأً، بمعنى: سترته عن العيون.
فالخبء يشمل كل ما احتوته السموات والأرض مما يبرزه الله للخلق لمنفعتهم فتشاهده العيون مثل المطر والنبات، أو تدركه العقول، مثل بدائع الخلق، ودقائق الصنع.[/rtl]
[rtl](1/275)[/rtl]
[rtl]ومنه ما يكشفه الله لعلماء الأكوان من أسرار الخلقة عندما يستعملون عقولهم ووسائلهم العلمية، فيأتون بما فيه نفع للعباد ورقي للعمران.
(ما يخفون) ما يكتمون في أنفسهم أو عن غيرهم. (ويعلنون) يظهرون للناس.
المعنى:
زين لهم الشيطان من أعمالهم على الخصوص عدم سجودهم لله، الذي أقام عليهم الحجة، بما يخرجه لهم من الخيرات المختبئات في السموات والأرض: من أمطار السماء، ونبات الأرض، مما يدل على عظيم قدرته، ولطف علمه الذي أحاط بما ببواطن الأشياء وظواهرها، وبما تنطوي عليه السرائر، أو تواريه الستائر، وبما هو ظاهر للعموم.
إستدلال وتوجيه:
السجود مظهر لغاية الذل والخضوع والانقياد والاستسلام، وتلك أصل العبادة. ولا يستحقها من العبد إلاّ من هو- حقيقة- المنعم الغني الكامل القوي، وما هو إلاّ خالقه؛ فاستدل على استحقاق الله السجود دون غيره، بما ذكر من إخراجه الخبء، ويشمل علمه لما خفي وما علن.
وذلك متضمن لكماله وإنعامه وشمول علمه وعموم سلطانه.
***
انبنى على أن السجود عبادة، ولا يستحقها إلاّ الخالق تحريم السجود للمخلوق، فلا يجوز أن يعظم به أحد أحداً، ولو لم يقصد به العبادة.
أما إذا قصد به العبادة فهو الكفر البواح.
تحذير:
كثيراً ما رأينا في الرسوم التي تنشرها الصحف أناساً من المسلمين راكعين، أو مقاربين للسجود لذي سلطان.
فعلى المسلم أن يحذر من ذلك فلا يفعله، ولا ينحني لأحد من الخلق، وأن ينكره إذا رآه.
تشويق القرآن إلى علوم الأكوان:
من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية، أن يعرض علينا القرآن صوراً من العالم العلوي والسفلي، في بيان بديع جذاب، يشوقنا إلى التأمل فيها، والعمق في أسرارها.
وهنا يذكر لنا ما خبأه في السموات والأرض لنشتاق إليه، وننبعث في البحث عنه، واستجلاء حقائقه، ومنافعه؛ بدافع غريزة حب الاستطلاع، ومعرفة المجهول.
وبمثل هذا انبعث أسلافنا في خدمة العلم، واستثمار ما في الكون، إلى أقصى ما استطاعوا، ومهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم.[/rtl]
[rtl](1/276)[/rtl]
[rtl]ولن نعز عزهم إلاّ إذا فهمنا الدين فهمهم وخدمنا العلم خدمتهم.
ترتيب في الاستدلال:
إخراج الخبء لا يكون إلاّ من العالم بذلك الخبء، الذي أحاط علمه به في حال ستره، وفي حال ظهوره، فيدل ذلك على شمول علمه لما ظهر وما بطن، ومنه ما يخفون وما يعلنون، ولذلك عطفه عليه؛ لترتبه عليه، ترتب المدلول على دليله.
الآية الثانية عشرة
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) } [النمل: 26] .
{العرش} مخلوق عظيم من عالم الغيب، أعظم من السموات والأرض.
الموصوف بتلك الصفات، والمنعم بتلك الإنعامات، المستحق للسجود منهم- وقد زين لهم الشيطان عدم السجود له- هو الله الذي لا معبود غيره، ولا يستحق العبادة سواه؛ خالق المخلوقات كلها، والمالك لها، والمدبر لأمرها، والمتصرف فيها، من أصغر مخلوق إلى أعظم مخلوق، وهو عرشه العظيم، الذي فاق كل ما نرى من عالم الشهادة.
توجيه الترتيب:
لما ذكر استحقاقه للعبادة بكمالاته وإنعاماته، ذكر أن لا مستحق للعبادة غيره، إذ لا يشاركه في تلك الكمالات والإنعامات سواه؛ فكأن الجملة كالنتيجة لما قبلها.
ولما ذكر وحدانيته في الألوهية فلا يعبد سواه، ذكر وحدانيته في الربوبية، بانفراده بالخلق والملك والتصرف والتدبر لهذا المخلوق العظيم، ونبه به على ما دونه من المخلوقات.
ولما كان الحديث على عظمة ملك العباد: ملك النبوة وغيره، ذكر عظمة ملك الله، التي تصغر إزاءها كل عظمة.
قد يتماتل اللفظان، ولكن يجب أن يعبر كل واحد بمعنى لائق بالمقام الذي قيل فيه.
فلقد جاء في حق سليمان عليه السلام: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] ، ووصف الهدهد بلقيس بأنها {أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:] .23، ولما كان المتحدث عنه أولًا هو سليمان، فكل شيء يعم ما يحتاج إليه من أمر النبوة وملك النبوة.
كما أنه قد قال عنها: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] .
وقال عن الله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86، النمل: 86] .
فعرش عظيم بين عروش الملوك.[/rtl]
[rtl](1/277)[/rtl]
[rtl]وعرش الله عظمته أعظم من السموات والأرض.
وهكذا لا بد من اعتبار المقام في فهم الكلام.
للعبرة والقدرة:
قد ألهم الله الحيوانات إلى ما قد يخفى عن بعض العقلاء، مضى منا كلام عن هذا فيما تقدم من هذه الآيات الكريمة.
وهذا الهدهد بين الهداهد (1) ، فله إلهام خاص، يقتضيه تخصيصه بهذا الموقف، واتصاله بسليمان عليه السلام، وزمن الأنبياء زمن خرق العوائد، وظهور الآيات.
وقد كان في حسن بيانه، وترتيب أخباره، وبديع تهديه، عبارة بالغة لأولي الألباب.
فقد تحصن بالعلم، ونوه بالنبأ المتيقن، وفصل النبأ فشرح حاليها الدنيوية والدينية، وتنقل من تشويق إلى تشويق أبلغ منه. فكان متثبتاً فيما أخبر، بارعاً فيما صور، مستدلاً فيما قرر، وفيما أنكر، بصيراً بكيد الشيطان للإنسان، متفطناً للأنبياء الضلالات بعضها على بعض، خبيراً بترتيب الأدلة وحسن الاستنتاج.
وفيما ذكر الله لنا من هذه العبر البالغة من هذا الحيوان الأعجم حث لنا على- أن نسلك- عندما نخبر ونبين، أو نبحث وننظر، أو نستدل ونرتب ونعلل- أن نسلك هذا المسلك.
وإذا كان الله- تعالى- قد بعث غرابًا، ليتعلم منه ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه (2) ، فكذلك ذكر لنا أمر هذه الهدهد الممتاز بين الهداهد لنقتدي به، تنبيهاً لنا على أخذ العلم من كل أحد، والاستفادة من كل مخلوق، والشعور دائماً بالنقص للسلامة من شر أدواء الإنسان: العجب، والكبر، والغرور {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .
لمحة نفيسة:
الظواهر دلائل البواطن: فالمرء يعرف من سبحات (3) وجهه، وفلتات لسانه.
وكثيراً ما تدل كلماته على مهنته أو فكرته وعقيدته، كما تدل هيئته أو لبسته وشمائله.
وما يباشره المرء تنطبع به نفسه، ويصطبغ خياله، فيجري على لسانه في تشبيهاته وتمثيلاته وفنون قوله، فقد تختلف العبارات عن شيء واحد في وقت واحد باختلاف نفسيات المتكلمين عليه.
__________
(1) ويجمع أيضاً على "هداهيد" (المعجم الوسيط: [ص:978] ) .
(2) كما ورد في الآية 31 من سورة المائدة: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} .
(3) السُّبحات: مواضع السجود (المعجم الوسيط: [ص:412] ) .[/rtl]
[rtl](1/278)[/rtl]
[rtl]وقد عرف الهدهد بين الطيور بثقوب البصر، والاهتداء إلى الماء في جوف الأرض، خصوصاً هدهد سليمان الممتاز بين الهداهد، فلما استدل ذكر من صنع الله ما هو أقرب إليه، وأغلب عليه، وهو إخراج الخبء الذي منه الماء المخبوء في جوف الأرض.
إشارة علمية:
دلالة الصنعة على الصانع نظرية عقلية قطعية.
فكل ذي صنعة، في مكنته أن يستدل بصنعته عن وجود خالق هذا العالم وكماله؛ يشاهد أن صنعته ما كانت إلاّ به، وبما له من قدرة فيها، وعلم بها؛ فهداه ذلك إلى أن هذا العالم ما كان إلاّ من خالق قادر عالم.
فالهدهد ذكر ما هو من عمله في الاستدلال على وجود الخالق تعالى ووحدانيته، ومثله كل ذي صنعة.
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ[/rtl]
[rtl](1/279)[/rtl]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]القسم الرابع في سورة يس
في هذا القسم:
1- يس والقول في فواتح السور، والفائدة العلمية.
لطف الله في جعل حد للعقل.
خفاء بعض الأحكام ووجهه.
قيام الحجة على الإنسان بما عرف.
2- الحكمة في هذه الآيات.
3- العقائد وأدلتها من هذه الآيات.
4- الوحي مصدر الإسلام.
5- الإسلام دين العز والرحمة.
6- النذارة ثمرة الرسالة.
7- لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه.
8- لا حجة لمن مات على كفره، بما سبق من علم الله فيه.
9- تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه.
10- من استوى عنده الإنذار وعدمه، لا يرجى منه إيمان.
11- الحياة بعد الموت.
12- إحصاء الأعمال.
13- الإحصاء العام في الكتاب الإمام.[/rtl]
[rtl](1/281)[/rtl]
[rtl]المرسل والرسالة والرسول والمرسل إليهم
{يس (1) } (فاتحة سورة يس)
تمهيد:
مثل هذا اللفظ مما افتتحت به بعض سور القرآن للعلماء فيه طريقتان:
الطريقة الأولى:
أنه لفظ له معنى يعلمه الله، فهو من المتشابه الذي لا يعلمه الراسخون، وإنما يؤمنون به، ويردون علمه إلى عالمه.
سؤال وجوابه:
القرآن أنزل للبيان، ولا بيان إلاّ بالإفهام، فكيف يكون في القرآن لفظ لا يُفهم له معنى؛ والجواب: أن عدم فهم معنى من بضع عشرة كلمة افتتحت بها بعض السور، لا يخل ببيان القرآن، لما أنزل لبيانه من عقائد وآداب وأحكام وغيرها من مقاصد القرآن.
توجيه وتنظير:
إن الله تعالى أعطانا العقل، الذي به ندرك الآيات التي نصبها لنا؛ لنستدل بها على وجوده ووحدانيته وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته.
وبالنظر في هذه الآيات نصل- بتيسير الله- بعقولنا إلى إدراك بدائع عجيبة، وأسرار غريبة، ما تزال تتجلى لنا ما دمنا نتأمل فيها، ونعتبر بها.
وما يزال الإنسان يكتشف منها حقائق مضت عليها أزمان، وهو يعدّها من المحال، ويجتني منها فوائد ما كانت تخطر له- في أحقابه الماضية- على بال.
غير أن استجلاء هذه الحقائق، واستحصال هذه الفوائد من الآيات الكونية- على نفاستها وعظيم نفعها- محفوف بخطر الإعجاب بذلك العقل؛ حتى يحسب أنه محيط بالحقائق كلها، وأن مدركاتها يقينيات بأسرها.
فيؤديه حسبانه الأول (1) إلى الفتنة بالمدركات، فيحسب أن لا شيء بعدها فقد يخرج إلى إنكار خالقها.
ويؤديه حسبانه الثاني (2) إلى الذهاب في ظنونه وأوهامه وفرضياته، إلى غايات لا نسب بين اليقين وبينها.
__________
(1) أي أنه محيط بالحقائق كلها.
(2) أي أن مدركاتها يقينيات بأسرها.[/rtl]
[rtl](1/283)[/rtl]
[rtl]فكان من لطف الله بالإنسان أن جعل لعقله حداً يقف عنده، وينتهي إليه، ليسلم من هذا الخطر: خطر الإعجاب بالعقل.
ففي آيات الله الكونية حقائق كثيرة تقف العقول حيارى أمامها، وقد تشهد آثارها، ولا تستطيع أن تعرف كنهها، كحقيقة الكهرباء في الكون، وحقيقة الروح والعقل في الإنسان.
فمثل هذه الحقائق المنغلقة التي يرتد عقل الإنسان إليه عنها خاسئاً وهو حسير، هي التي تعرفه بقدره، وبعظمة هذا الكون، وفخامة أمره، فيقف بعقله عند حد النظر والاعتبار، والاستدلال ببديع الصنعة وعظيم النعمة على حكمة الله البالغة، ومنته السابغة، دون خلط للأوهام بالحقائق، ولا فتنة بالمخلوق عن الخالق.
هذه الحقائق التي خفيت عن العقل البشري، فلم يدرك كنهها، لم تقدح في دلالة آيات الأكوان، على ما دلت عليه من وجود الخالق ووحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وفضله، وإحسانه، ورحمته.
فكذلك لم يقدح في بيان القرآن ودلالة آياته، خفاء معاني بضع عشرة كلمة من كلماته.
وكما كان خفاء تلك الحقائق في الآيات الكونية، إيقافاً للعقل عند حده، وتعريفاً له بقدره، وتنبيهاً له على عظم آيات ربه؛ كذلك كان خفاء هذه المعاني في الآيات القرآنية لمثل ذلك. ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية في هذا الجلاء العام، والخفاء الخاص.. جملة من الأحكام:
كعدد الصلوات، والركعات، والسجدات، التي خفيت على العقول حكمتها، وقد ظهرت الحكم الكثيرة الجلية في سائر أحكام الشريعة غيرها.
ولم يقدح في حكمة الشريعة في أحكامها، خفاء ما خفي في بعضها.
كما لم يقدح خفاء ما خفي من حقائق الآيات الكونية، ومعاني الآيات الكلامية في دلالتها وبيانها.
والحكمة هنا في هذه الأحكام هي الحكمة المتقدمة فيهما.
ونظير الآيات الكونية، والآيات الكلامية، والأحكام الشرعية، في هذا الخفاء الجزئي تصرفات الله في خلقه بمجاري أقداره.
فقد تظهر حكمة الله فيها، وقد تخفى.
وقد تخفى دهراً وتظهر بعد مدة.
وقد نبهنا الله على هذه الحقيقة، بما قص علينا في قصة يوسف عليه السلام، وما كان مجهولًا من حكم قدر الله في مبدإ أمره، وما ظهر من تلك الحكم الباهرة للقدر في آخر أمره.
وبما قصه علينا في قصة أم موسى- عليه السلام- لما أوحى إليها بقذفه في اليم، وعدم الخوف عليه، وما كان من عواقب أمره.[/rtl]
[rtl](1/284)[/rtl]
[rtl]وكما لا ينفي الحكمة عن تدبير الله عدم ظهورها.. كذلك لا ينفي الحكمة عن شرعه عدم فهمها، ولا يقدح في دلالة الآيات وبيانها، عدم إدراك كنهها، أو عدم فهم معناها.
ففي خلق الله، وفي شرع الله، وفي قدر الله، وفي كلام الله، ما يخفى على العقول إدراك حقيقته، أو حكمته، أو معناه، لطفاً من الله بالإنسان وتنبيهاً له.
وقد قامت الحجة عليه فيما جهل بما عرف، وتجلت له بدائع الخلقة وجلائل النعمة فيما ظهر، فآمن بوجود مثلها فيما خفي.
إذ الرب الحكيم الرحيم، لا يكون منه إلاّ ما هو حكمة، وفيه نعمة.
فكان الإنسان (1) في القسم الأول (2) مدركاً مستدلاً معتبراً، قد استعمل عقله فأداه إلى الإيمان واليقين فيما ظهر. وكان في القسم الثاني (3) مصدقاً مذعناً لربه صاغراً، قد أدرك الحجة فآمن بالغيب فيما استتر، فجمع بين النظر والاستدلال، والتسليم والإذعان.
فهذا توجيه وجود لفظ من كتاب الله لا نفهم معناه- عند من يقول به- ببيان حكمته، مع تنظيره بمثله في خلق الله وشرعه وقدره.
بناء العمل على هذا العلم:
قد رأيت كيف يقف العقل عاجزاً أمام بعض أسرار الخلق والقدر والشرع.
والقرآن مع يقينه بما علم منها أن ما عجز عن إدراكه، ما هو إلاّ مثل ما عرف في كماله في الحق والحكمة والنعمة؛ إذ الجميع- ما عرف وما عجز عنه- من إله واحد حكيم خبير، رحمن رحيم.
فليذكر الناظر في خلق الله، وقدره، وشرعه، وكلامه، دائماً هذه الحقيقة:
وهي ثبوت الحق والحكمة والنعمة في جميعها، وإمكان عجز عقله في بعض المواضع والأحوال عن إدراكها؛ فيكون عمله في خلق الله هو النظر والبحث والتحليل والاكتشاف، واستجلاء الحقائق الكونية، واستخراج الفوائد العلمية والعملية، إلى أقصى حد توصله إليه معلوماته وآلاته.
حتى إذا انتهى إلى مشكل استغلق عليه اعترف بعجزه، ولم يرتكب من الأوهام والفروض البعيدة ما يكسو الحقيقة ظلمة، ويوقع الباحث من بعده في ضلالة أو حيرة.
فكثيراً ما كانت الفروض الوهمية الموضوعة موضع اليقينيات، سبباً في صد العقول عن النظر، وطول أمد الخطأ والجهل (4) .
__________
(1) أي المؤمن كما يؤخذ من كلامه بعد.
(2) أي فيما عرف حكمته.
(3) أي فيما خفي عليه حكمته.
(4) كفرضية تسطيح الأرض وثباتها بقيم مسلمة قرونًا عديدة فكانت سببًا في صدّ العقول عن اكتشافات أخرى مهمة.[/rtl]
[rtl](1/285)[/rtl]
[rtl]ويكون عمله في قدر الله هو الاعتبار في تصاريف القدر، واتعاظ بأحوال البشر، واستحصال قواعد الحياة من سير الحياة.
فإذا رأى من تصاريف القدر ما لم يعرف وجهه ولم يتبين له ما فيه من عدل وحكمة وإحسان ورحمة ... فليذكر عجزه، وليذكر ظهور ما خفي عنه من مثل ذلك في وقت، ثم ظهر له؛ فيوقن أن هذا مثله، وأنه إذا طالت به الأيام قد يظهر له من وجهه ما خفي منه، فيتلقاه الآن بالتسليم والتنزيه، راداً علمه إلى الله تعالى، مفوضاً أمره إليه.
ويكون عمله في شرع الله هو الفهم لنصوص الآيات والأحاديث، ومقاصد الشرع وكلام أئمة السلف، وتحصيل الأحكام وحكمها، والعقائد وأدلتها، والآداب وفوائدها، والمفاسد وأضرارها.
حتى إذا بلغ إلى حكم لم يعرف حكمته وقضاء لم يدر علته، ذكر عجزه فوقف عنده، فلم يكن من المرتابين ولا من المتكلفين.
ولم يمنعه عجزه عن تعليل وتبين وجه ذلك القليل عن المضي في التفهم والتدبر لما بقي له من الكثير.
ويكون عمله في كتاب الله هو التفهم والتدبر لآياته، والتفطن لتنبيهاته، ووجوه دلالاته، واستثارة علومه من منطوقه ومفهومه، على ما دلت عليه لغة العرب في منظومها ومنثورها، وما جاء من التفاسير المأثورة، وما نقل من مفهوم الأئمة الموثوق بعلمهم وأمانتهم، المشهود لهم بذلك من أمثالهم.
فإذا وقف أمام المتشابه رده إلى المحكم، وإذا انتهى إلى فواتح السور ذكر عجزه فآمن بما لها من معنى، وقال: الله به أعلم.
فبهذا السير النظري، والعمل العلمي المبني على اليقين بعدل الخالق جل جلاله، وحكمته ورحمته في خلقه، وقدره وشرعه وكلامه، ومعرفة العبد بقدره ومقامه، يزداد السائر على مقتضاه إيماناً وعلماً، وفوائد جمة، ويسلم من الغرور والأوهام والفتنة.
وهو سبيل الراسخين الذين يقولون فيما لا يفهمونه:
{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .
***
الطريقة الثانية:
وذهبت جماعة من أهل العلم، من السلف والخلف، إلى أن هذه الفواتح قد فهمت العرب المراد منها، ولذلك لم تعترض على البيان بها، ولا طعنت في عربيته بعدم فهمها، وإن كنا لا نجد في كلامها ما نعرف به المعنى الذي فهمته منها.
وممن ذهب إلى ذلك الإمام أبو بكر بن العربي، فقال في كتاب (القبس على موطأ مالك بن أنس) :[/rtl]
[rtl](1/286)[/rtl]
[rtl]«وليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلاّ الله، فإن محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لو خاطب الكفار منها بما لا يفهم لكان ذلك أقوى أسبابها في الطعن عليه، وكانوا يقولون: هذا يتكلم بما لا نفهم، وهو يدعي أنه بلسان عربي مبين، وما حمعسق في اللسان؟! وما كهيعص في الكلام؟.
فدل أنهم فهموا الغرض وعرفوا المقصود» .
إختلاف المتأولين:
أ- منهم طائفة تكلمت على كل لفظ من ألفاظ الفواتح، وذكرت له معنى، واختلفوا في تلك المعاني التي ذكروها، وهي كما ذكر الإمام ابن العربي:
«لا سبيل إلى تمييز واحد منها بدليل لأنه معدوم، ولا بأثر لأنه غير منقول.
ولا تطمئن إلى شيء منها القلوب التي عاشت على اليقين.
ولا تسلم واحداً منها العقول التي اعتادت قفو (1) العلم على نور الدليل» .
ب- ومنهم طائفة أخذتها كلها بوجه واحد، فقال بعض:
إنها حروف تنبيه تقرع الأسماع، فتلفت السامعين إلى الاستماع والتدبر؛ لما اشتملت عليه السورة من الأحكام والعقائد والآداب وغيرها، من مقاصد القرآن. فهي نظير (ألا والهاء) في مألوف الاستعمال.
ج- وقال بعضهم: إنها حروف تعجيز وإفحام وتقريع؛ لأن القرآن الذي عجزوا عن معارضته، من هذه الحروف وأخواتها تركبت كلماته فكأنما يقال لهم:
ما هذا الذي عجزتم عنه إلاّ كلام من جنس كلامكم، وما ركبت كلماته إلاّ مما ركبت منه كلماتكم، وهذا لعجزهم أفضح، ولتقريعهم أوجع.
ومما يؤيد هذا أن أكثر هذه الفواتح ذكر بعده الكتاب المعجز وصفاته مثل قوله تعالى:
{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1 و 2] ،
{الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1- 3] ،
{المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1 و 2] ،
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] ،
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 11] ،
{اتر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1] ،
{طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص: 1 و 2] ،
{الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1 و 2] ،
{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1و 2] . وغيرها،
__________
(11 القفْوُ: الاتباع. وفي التنزيل العزيز: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .[/rtl]
[rtl](1/287)[/rtl]
[rtl]الفائدة العملية:
قد افتتحت هذه السور من القرآن العظيم بكلمات التنبيه، وجاءت أول سورة منه بعد الفاتحة مفتتحة به.
فلتكن عند قراءته في انتباه، وإقبال على استيعاب لفظه، وتفهم معناه، فإن التالي للقرآن والسامع له في حضرة الرب على بساط القرب، والغفلة في هذا المقام من قلة الأدب.
ومن قل أدبه في مقام الإحسان والكرامة، استوجب أضعاف ما يستوجبه غيره من العتب والملامة، وتعرض لموجبات الحسرة والندامة.
فالله نسأل أن يجعلنا من قرآنه على انتباه واستحضار، آناء الليل وأطراف النهار، العاملين به بالعشي والإنبكار، إنه الجواد الكريم الستار.
تابع المرسل والرسول والرسالة والمرسل إليهم:
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) } [يس: 2-6] .
{الحكيم} : هو الموصوف بالحكمة، وأصل اللفظ من حكم بمعنى أمسك، فالحكمة هي العلم الصحيح الذي يمسك صاحبه عن الجهالات والضلالات والسفالات، فيكون ذا إدراك للحقائق قويم وخلق كريم، وعمل مستقيم لا يحكم إلاّ عن تفكير، ولا يقول إلاّ عن علم، ولا يفعل إلاّ على بصيرة؛ فإذا نظر أصاب، وإذا فعل أصاب، وإذا نطق أتى بفصل الخطاب.
ووصف القرآن بالحكيم، لأنه هو العلم الصحيح المثمر لهذا كله، و (الصراط المستقيم) هو دين الإسلام الذي جاء به جميع المرسلين قبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
{تنزيل} بمعنى منزل، وهو الصراط المستقيم.
{العزيز} الغالب الممنع الذي لا نظير له.
{الرحيم} المنعم الدائم الإنعام والإحسان.
{الإنذار} الإعلام بوقوع ما يُخاف منه، وهو الهلاك والعذاب العاجل والآجل.
و {الغافل} عن الشيء: التارك له المعرض عنه مع حضوره لديه لاشتغال باله بسواه.
المعنى:
أقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المرسلين رداً على من قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} في حال أنه على دين الإسلام الذي بعثه الله، ثابتاً عليه في عقده وقوله وفعله وجميع أمره.[/rtl]
[rtl](1/288)[/rtl]
[rtl]وأخبر تعالى أن هذا الإسلام الذي جاء به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزله عليه القوي الغالب الذي لا يغالب، العديم الشبه والنظير، والمنعم الدائم الإنعام المستمر الإحسان.
وبين تعالى أنه كان من المرسلين لينذر الأمة العربية، ويُعلمها سوء عاقبة ما هي عليه من الشرك والضلال.
تلك الأمة التي ما أُنذر آباؤها، فهي مشتغلة بما توارثته من آبائها من عبادة الأوثان وارتكاب الإثم والعدوان، وأنكل الضلال والخسران، معرضة عن توحيد خالق الأرض والسموات، وعن النظر فيما نصب للدلالة عليه من الآيات، طال عليها أمد الجهالة، واستولت عليها أسباب الضلالة، فتمكنت منها الغفلة التمكن التام؛ فذهبت في أوديتها البعيدة المدى، كالأنعام أو أضل من الأنعام.
***
أصل المعرفة والسلوك من هذه الآية الكريمة:
خلق الله الخلق حنفاء موحدين، فأتتهم الشياطن فأضلتهم عن سواء السبيل، فمن رحمته- تعالى- بهم أن أرسل إليهم رجالاً منهم لهدايتهم، وأنزل عليهم كتبا منه لدلالتهم.
فالله هو المرسل، تلك الكتب هي رسائله، وأولئك الرجال هم رسله، والخلق هم المرسل إليهم.
المعرفة:
فللمرسِل العلو والكمال، وله الخلق والأمر، ومنه الرحمة والعدل والإحسان والفضل، وله الربوبية والألوهية دون شريك ولا مثال.
وفي تلك الرسائل الحق والحكمة، والنور المُخرج من كل ظلمة، والفرقان في كل شبهة، والفصل في كل خصومة، بها تفتح البصائر، وتطهر الضمائر، وتعرف طريق الحق والهدى من طرائق الباطل والضلال.
ولأولئك الرسل- عليهم الصلاة والسلام- أكمل ما يمكن للإنسان من كمال، وأكمل المعرفة بالمرسِل- تعالى- وأعظم الخشية له، وأكمل الرحمة بالخلق، وأشد الشفقة عليهم، وأكمل العلم بما جاءوا به، وأعظم التمسك به، وأكثر الاتباع له.
فلا كمال إلاّ بالإقتداء بهم، ولا نجاة إلاّ باتباعهم، ولا وصول إلى الله تعالى إلاّ باقتفاء آثارهم.
وللمرسَل إليهم عجز المخلوق وضعفه أمام خالقه، وحاجته وافتقاره إليه، وعليه حق عبادته وطاعته والرجاء لفضله، والخوف من عقابه والفكر في آياته ومخلوقاته، والنهوض للعمل في مرضاته، واستثمار أنكل نعمائه، والشكر له على جميع آلائه.
فبمعرفة هذه الأربعة حق معرفتها، ومعرفة مقام كل واحد منها وما له فيه؛ كمال الإنسان العلمي، الذي هو أصل كماله العملي، والشرط اللازم فيه.[/rtl]
[rtl](1/289)[/rtl]
[rtl]وقد اشتملت هذه الآيات على هذه الأربعة في حق الأمة المحمدية:
فالمرسِل هو {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
والرسالة هي: {الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
والرسول هو محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المخاطب بـ {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
والمرسل إليهم هم العرب الذين: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} .
***
تمهيد:
لما ضل الخلق عن طريق الحق والكمال، الذي يوصلهم إليه: إلى مرضاته والفوز بما لديه، أرسل إليهم الرسل ليعرفوهم بأن ذلك الطريق هو الإسلام، ويكونوا أدلتهم في السير، وقادتهم إلى الغاية، وأنزل عليهم الكتب لينيروا لهم بها الطريق، ويقودوهم على بصيرة، ويزكوهم على البيضاء ليلها كنهارها (1) ، لا يهلك عليها إلاّ من ظلم نفسه فحاد عن السواء، أو تخلف عن القافلة فكان من الهالكين.
فالقافلة هم الخلق، والطريق هو الإسلام، والأدلة هم الرسل، والمصابيح هي الكتب، والغاية هو الله جل جلاله.
السلوك:
فعلى من يريد النجاة من المهالك والفوز بأسنى المطالب وأعلى المراتب، أن ينضم إلى القافلة الربانية، يتعاون مع أفرادها، ويقوم بحق الرفقة فيها، ويعدّ نفسه جزءاً منها: لا سلامة له (2) إلاّ بسلامتها؛ فهو يحب لكل واحد منها ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، ويهديه إلى ما يهديها إليه من خير؛ ويقيه مما يقيها منه من سوء.
وأن يطيع أولئك الأدلة، ويقتفي آثارهم، وينزل بنزولهم، ويرتحل بارتحالهم، وأن يرجع في معرفة وجوه السير وأصنافه وأوقاته ومنازله إليهم، دون أدنى اعتراض ولا مخالفة.
ويقابل ما يتحملونه من مشاق الدلالة ومتاعب القيادة بغاية ما يستطيع من الأدب معهم، والتعظيم والانقياد لهم، والمحبة فيهم، وحسن الثناء عليهم، وطلب عظيم الجزاء من الله تعالى لهم على عظيم إحسانهم.
وأن يلزم ذلك الطريق، ويسير في سوائه غير مائل إلى جنباته، ولا ذاهب في بنيَّاته (3) .
__________
(1) روى ابن ماجة في مقدمة سننه (باب 1 حديث رقم 5) عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نذكر الفقر ونتخوّفه، فقال: «آلفقر تخافون؛ والذي نفي بيده لتُصبَّنَّ عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يُزيغ قلبَ أحدكم إزاغة إلاّ هي؛ وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواع» . ومعنى قوله: «على مثل البيضاء» أي على قلوب بيضاء نقية عن الميل إلى الباطل، لا يميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرَّاء.
(2) كانت في الأصل المطبوع: "لها" والصواب ما أثبتناه.
(3) بُنَيَّة الطريق: طريق صغير تشعب من الجادة (المعجم الوسيط: [ص:72] ) .[/rtl]
[rtl](1/290)[/rtl]
[rtl]لا مُفْرِطًا في السير يسبق الرفقة فينفرد بلا دليل ولا مُفَرِّطًا (1) فيه فيتخلف عنها بلا معين، نمطاً وسطاً مع الجماعة، لا من الغلاة ولا مع المقصرين.
وأن يستنير بما رفعه أولئك الأدلة من مصابيح الهداية، وأن يسير تحت أنوارها الساطعة، مفتح البصر للاستضاءة بها، غير مغلق الأجفان عنها، متعرفاً بها أديم الأرض، وموقع قدمه منها.
وأن يعرف عظيم الغاية التي هو سائر إليها، فيقصر همه كله في الوصول إليها، ويحضرها قلبه في كل لحظات سيره ليسرع مع الرفعة إليها، وتخف عليه (2) مشاق الطريق واتعابها، ويعذب لديه كل ألم في الانتهاء إليها.
فبسلوك هذا الطريق القويم، بدلالة الرسول الكريم، وأنوار الكتاب المبين، إلى رب العالمين الرحمن الرحيم- كمال الإنسان العملي المبني على الكمال العلمي.
وقد اشتملت هذه الآيات على ذكر السالكين، وهم المنذرون، وعلى الدليل وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وعلى الطريق وهو "الصراط المستقيم" المنزل من الله، وعلى ما يبين الطريق، وهو القرآن الحكيم.
***
الحكمة في هذه الآيات:
قال ابن وهب: سمعت مالك- رضي الله عنه- يقول:
«الحكمة الفقه في دين الله والعمل به» . ففي الفقه في دين الله الكمال العلمي، وفي العمل به الكمال العملي.
وهذه الآيات- على إيجازها- قد اشتملت على أصول ما به كمال الإنسان العلمي، وكماله العملي، اللذان بهما كماله الروحي والبدني، ونعيمه الدنيوي والآخروي.
وما كماله العلمي وكماله العملي إلاّ بالمعرفة الصحيحة، والسلوك المستقيم، وهما اللذان تقدم [في] . (3) الفصل السابق بيانهما.
وفسر مالك الحكمة بهما؛ إذ الفقه في دين الله هو المعرفة الصحيحة، والعمل به هو السلوك المستقيم، وهما الحكمة التي وصف به في الآية الأولى القرآن العظيم؛ لأنه كتاب العلم والعمل اللذين لا يكون بدونهما حكيم.
__________
(1) المُفْرط: من فعل أفرط، أي جاوز الحذ والقدر في قول أو فعل. والمفَرِّطُ: من فعل فَرَّط، أي قصر في الأمر وضيعه حتى فات (المعجم الوسيط: [ص:683] ) .
(2) تحرفت في الأصل المطبوع الى: "عليها".
(3) سقطت من الأصل المطبوع.[/rtl]
[rtl](1/291)[/rtl]
فكما اشتملت هذه الآيات على أصول الحكمة، دلت على أصلها ومأخذها، وما يكون الإنسان بعلمه والعمل بما فيه من أهلها، وهو القرآن الحكيم.
توجيه القسم في الآيات:
أقسم الله بالقرآن الحكيم على أن محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من المرسلين، لينذر الغافلين حال أنه على صراط عظيم مستقيم، منزل من العزيز الرحيم؛ لأن القرآن هو كتاب محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي كان يتخلق به، ويهتدي بما فيه، وينذر به، ويدعو إليه ويبينه للناس بقوله وفعله، وهو برهانه وحجته، وآيته ومعجزته.
كما أنه كتاب الإسلام الذي هو الصراط المستقيم.
فيه حجته ودلائله، فيه أحكامه وحكمه، فيه آدابه وشمائله.
فيه بيان حقيقته وما هو منه، ونفي ما ليس منه عنه.
فيه بيان تاريخه وتاريخ الإنسانية معه.
فيه ذكر أوليائه وحسن بلائهم في سبيله، وحسن أثره فيهم، والعود بالعاقبة المحمودة عليهم، وذكر أعدائه وجهدهم في مقاومته، وسقوط شبههم أمام حجته، وذهاب باطلهم أمام حقه، وشدة أخذه لهم على ظلمهم، ونزول نقمته بهم، وحلول دائرة السوء عليهم.
فيه الإسلام كله، فمن طلبه فيه وجده ونجا به؛ ومن طلبه في غيره ضل وكان من الهالكين.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]عقائد وأدلتها من هذه الآيات:
العقيدة الأولى: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رسول الله.
دليلها الأول:
القرآن الحكيم الذي جاء به رجل أمي، ما قرأ ولا كتب، ولا دارس العلماء، ولا عرف الكتب.
ودليلها الثاني:
موافقة دعوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لدعوة المرسلين- صلوات الله عليهم- إلى عبادة الله وحده، وتصديق ما جاءهم به من عنده، دون أن يسألهم على ذلك أجراً، وهذا من قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
فهو من المرسلين من جهة إرساله؛ لأنه منهم في أقواله وأفعاله نظير قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ، وقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] ، وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] .
ودليلها الثالث:
هذا الدين الكامل الجامع، الذي هدي به النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى ما فيه[/rtl]
[rtl]سعادته، فأطلق فكره، وسدد نظره، وقوم عقائده، وهذب أخلاقه، ونظم اجتماعه، ووضع له قواعد الحياة والعمران على العدل والإحسان، ووجههم إلى خالقهم، وما أعد لهم عنده من النعيم المقيم والرضوان التام.
ودليلها الرابع:
سلوكه هو في حياته على الصراط المستقيم، من يوم عرف الدنيا حتى فارقها؛ فكان يمثله على أكمل وجه، ولا يُخل بشيء منه، ثابتاً عليه، لا يحيد قيد شعرة عنه، دون أن تحفظ عنه زلة، ولا تعرف منه في القيام به والدعوة إليه فترة (1) ، ولا تقف أمامه قوة، ولا ترد له حادثة عزمه، ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ولا رهبة، ولا تبدل حاله رخاء ولا شدة.
فكان في كرم خلقه، وتمام زهده، وعظيم تألهه (2) وتوجهه لربه، بعدما فتح الله له الفتح المبين، ودخل الناس أفواجاً في الدين.
كما كان أيام كان وحيداً بين أعظم أعدائه من المشركين، وما هذا من شأن البشر وطبعهم لولا عصمة وتأييد رب العالمين.
العقيدة الثانية: القرآن كلام الله ووحيه:
ودليلها:
أنه حكيم، فما فيه من العلم وأصول العمل، لا يمكن أن يكون إلاّ عند الله، في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها.
الى ما فيه من حقائق كونية، كانت مجهولة عند جميع البشر، وما عرفت لهم إلاّ في هذا العصر الأخير.
ومن أشهرها: مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه، وهو الجوهر الفرد المركب من قوتين: موجبة وسالبة.
جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] .
ومنها مسألة حياة النبات، التي جاءت في مثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .
ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر إلى الأنثى، جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . فهذه حقائق
__________
(1) الفَتْرَة: الضعف والانكسار (المعجم الوسيط: [ص:672] ) .
(2) التأله: التنسّك والتعبّد (المرجع السابق: [ص:25] ) .[/rtl]
[rtl]علمية كونية، أجمع عليها علماء العصر أنها من المكتشفات الحديثة، ولم تكن معلومة عند أحد من الخلق قبل اكتشافها، ولا كانت عندهم الآلات الموصلة إلى معرفتها.
وكفى بهذا القلّ من الكثر دليلاً على أن هذا القرآن ما كان إلاّ من عند الله الذي خلق الأشياء، ويعلم حقائقها.
العقيدة الثالثة: الإسلام دين الله الذي شرعه وارتضاه:
ودليلها مستفاد من وصفه بأنه صراط مستقيم، فهو تشريع تام عام لجميع أعمال الإنسان:
أعمال قلبه، وأعمال لسانه، وأعمال جوارحه، وجميع معاملاته الخاصة والعامة بين أفراده وأممه، ولا تخرج كلية من كلياته ولا جزئية من جزئياته عن هذا الأصل العام، المتجلي في جميع الأحكام، وهو "الحق والخير والعدل والإحسان".
***
وقد وضع عقلاء الأمم شرائع في بعض نواحي أعمال الإنسان، ولكنها بإجماع المتشرعين لا تخلو من نقص واعوجاج واضطراب، فهم ما يفتئون يتعبونها بالتكميل والتقويم والتعديل على مر الأيام.
ولو عرضت كل حكم من أحكامه على الأصل العام الذي ذكرناه، لوجدته منطبقاً عليه ظاهراً فيه، حتى ما خفي وجهه على الأمم الأجنبية من الإسلام أيام تأخرها قد ظهر لها فضله ونفعه أيام تقدمها فجاء كبراء عقلائها يعترفون فيها بصواب ما شرعه فيها الإسلام.
ثم هم يعجزون عن تطبيقها على أممهم، للعادة الغالبة والوراثة القديمة، منها مسألة الطلاق، وتعدد الزوجات، وتحريم الربا تحريماً باتاً.
فكم من عالم غير مسلم، صرح بأن الحق والعدل والخير للإنسانية في هذه المسائل، هو ما شرعه الإسلام، على الوجه الذي شرعه الإسلام.
بهذه الاستقامة التامة العامة المضطردة، في شرع ما جاء به رجل أمي، من أمة أمية جاهلية، يجزم كل عاقل بأنه ليس من وضع العباد، وإنما هو من وضع خالق العباد.
***
الوحي مصدر الإسلام
جملة {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} بينت وجه استقامة ذلك الصراط الذي هو الإسلام، بأنه تنزيل العزيز الرحيم.
وأفادت أن جميع هذا الدين وحي من الله منزل على نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ وهذا لأن مرجع الإسلام في أصوله وفروعه إلى القرآن، وهو وحي من الله، وإلى السنة النبوية، وهي وحي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2، 3] .[/rtl]
[rtl]وكل دليل من أدلة الشريعة فإنه يرجع إلى هذين الأصلين، ولا يقبل إلاّ إذا قبلاه ودلا عليه.
وكل شيء ينسب للإسلام، ولا أصل له فيهما، فهو مردود على قائله. وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) .
الإسلام دين العز والرحمة:
ذكر من أسمائه تعالى في هذا الموطن {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، للتنبيه على أن هذا الدين الذي نزله الرب الموصوف بالعزة والرحمة، هو دين عزة ورحمة.
ومن مقتضى العزة القوة والمنعة والرفعة، ومن مقتضى الرحمة الفضل والخير والمصلحة، وهذه كلها متجلية في أحكام الإسلام.
والعدل والإحسان اللذان أمر الله بهما وانبنت أحكام الإسلام عليهما لا يكونان إلاّ عن العزة والرحمة فالذليل لا ينهض بالحكم، ولا يقيم ميزان العدل، والقاسي لا يكون منه إحسان.
إهتداء واقتداء:
فالمسلم المتحقق بالإسم المهتدي بهدايته، لا يكون إلاّ عزيزا رحيماً.
فالذلة من المسلم نقص في إسلامه، والقساوة مثلها نقص فيه.
وقد ذكر الله تعالى سادات المسلمين في عزتهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] . وذكرهم في رحمتهم فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . ونعم القدوة هم لجميع المسلمين.
النذارة ثمرة الرسالة:
كان من المرسلين (2) لينذر الغافلين. فالأول كمال، والثاني تكميل.
وقد فطر الله رسله- عليهم الصلاة والسلام- على الرحمة وحب الخير؛ فكانوا أحرص الناس على نجاة الناس وكمالهم وسعادتهم، فصبروا على تكذيبهم وإذايتهم، حتى أدوا أمانة الله إليهم، وأقاموا حجته عليهم، وكان الله ينجيهم ومن آمن بهم، وينزل عقوبته بالمكذبين لهم، وينصرهم عليهم؛ فأعلم محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بأنه من المرسلين لينذر- ليتأسى بهم، ويصبر صبرهم، ويرجو من نصر الله له وإهلاك أعدائه ما كان منه تعالى لهم.
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة البخاري في الصلح باب 5، ومسلم في الأقضية حديث 17 و18، وأبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 2، وأحمد في المسند (6/ 146) وأخرجه البخاري أيضاً تعليقا في الاعتصام في ترجمة الباب 20؛ والبيوع في ترجمة الباب 60.
(2) في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية 3 من سورة يس.[/rtl]
[rtl]إقتداء:
العلماء ورثة الأنبياء. وما ورث الأنبياء ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، والعلم مستمد من الرسالة، فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلايا، والعطف على الخلق والرحمة، وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
التدريج في الإنذار:
أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للعالمين بشيراً ونذيراً.
ودرجه في النذارة على مقتضى الحكمة، من القريب إلى البعيد.
فأمره بإنذار عشيرته بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، فصعد الصفا فنادى بطون قريش حتى نادى العباس عمه، وصفية عمته، وفاطمة ابنته، وقال لهم: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» (1) .
وأمره بإنذار من حول مكة من العرب بقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] . على الوجه الأقرب في معنى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} المؤيد بصدر الكلام وهو قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] .
ومثلها في إنذار العرب ما في هذه الآية، وهو قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] .
فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم (2) .
وأمره بتعميم الإنذار بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
فأرسل رسله إلى الأمم تحمل كتبه إلى ملوكها بالدعوة إلى الإسلام، وكان ذلك هو الإنذار العام.
الدفاع أشكال:
قد كان النبي يُرسَل إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الناس عامة، بمثل قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، أي بالقرآن كل من بلغه القرآن. ولا
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الوصايا باب 11، وتفسير سورة 26 باب 2. والنسائي في الوصايا باب 6. والدارمي في الرقاق باب 23.
(2) روى ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 13، حديث 201) عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض نفسه على الناس في المَوْسِمِ فيقول: "أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِى إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِى أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّى".[/rtl]
[rtl]يشكل على ذلك مثل ما تقدم من الآيات في إنذار عشيرته الأقربين، وقومه العرب، لأنه ابتدأ بهما، لحكمة التدريج، وحق القريب، لا للتخصيص بدليل ما جاء من آيات التعميم.
إقتداء:
هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب الناس إليه، ثم من بعدهم على التدريج.
وعندما يقوم كل واحد منا بإرشاد أهله وأقرب الناس إليه، لا نلبث أن نرى الخير قد انتشر في الجميع: فمن الأُسَرِ تتركب الأمة؛ فعندما يعنى كل واحد بأسرته ترتقي الأمة كلها بارتقاء أسرها، كارتقاء أي كل بارتقاء أجزائه؛ فيكون المعتني بأسرته في الوقت نفسه معتنياً بأمته. وعندما يقصد بخدمة أسرته خدمة أمته يثاب ثواب خادم الجميع: أسرته بالفعل، وأمته بالقصد، أو أسرته مباشرة وأمته بواسطة، وكل هذا مما يثاب المرء شرعاً عليه.
إستطراد واستنباط:
لما كان العرب لم يأتهم نذير قبل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بنص هذه الآية وغيرها، فهم في فترتهم (1) ناجون لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
ولقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] . وغيرهما، وكلها آيات وقواطع في نجاة أهل الفترة.
ولا يستثنى من ذلك إلاّ من جاء فيهم نص ثابت خاص: كعمرو بن لحي أول من سَيَّبَ السوائب، وبدل في شريعة إبراهيم وغير، وحلل للعرب وحرم.
فأبوا النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ناجيان بعموم هذه الأدلة.
ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس رضي الله عنه:
أن رجلًا قال للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله، أين أبي؛ قال: «في النار» . فلما قَفَّى (2) الرجل دعاه، فقال: «إن أبي وأباك في النار» (3) ، لأنه خبر آحاد (4) ، فلا يعارض القواطع. وهو قابل للتأويل بحمل الأب على العم مجازاً، يحسنه المشاكلة اللفظية، ومناسبته لجبر خاطر الرجل، وذلك من رحمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكريم أخلاقه.
__________
(1) الفَتْرة: المدة تقع بين زمنين أو نبيين. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} سورة المائدة الآية 19.
(2) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 94- مادة قفا) : "أي ذهب مدلياً، وكأنه من القفا: أي أعطاه قفاه وظهره".
(3) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 347، وأبو داود في السنة باب 17.
(4) خبر الآحاد لا يفيد القطع بل الظن فقط، بعكس الحديث المتواتر الذي يفيد القطع.[/rtl]
[rtl]سبب الغفلة ودواؤها:
أفادت الفاء في قوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أن غفلتهم تسببت عن عدم إنذارهم؛ فكل أمة انقطع عنها الإنذار وترك فيها التذكير واقعة في الغفلة لا محالة. ولما كان ترك الإنذار والتذكير موقعاً في الغفلة، فالإنذار والتذكير يزيلانها؛ فقد عرفتنا الآية الكريمة بسبب الغفلة وبعلاجها لنحذر سببها ونعالج أنفسنا وغيرنا بعلاجها.
تطبيق:
كان الناس منذ زمن قريب لا يسمعون ولا يسمع منهم لفظ الاهتداء بهداية القرآن العظيم، والإقتداء بهدي الرسول الكريم، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، والسير بسيرة السلف الصالح، في النهوض بأعباء الدنيا والدين، وهم- إلاّ قليلاً- عن هذا غافلون.
أما اليوم بعد أن نهض العلماء المصلحون بواجبهم (1) ، ونشروا دعوة الحق في قومهم، فقد أصبح ذلك معروفاً عند أكثر الناس، وفي متناول الناس بجميع طبقاتهم.
وإنا لنرجو من فضل الله المزيد، ونشاهد ذلك والحمد لله كل يوم يزيد، فالحمد لله على ما علّم وألهم وبصر ويسّر، ونسأله دوام التوفيق والتسديد يا رب العالمين.
***
لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس:7-11] .
علم الله أن نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وإنقاذهم من الهلكة.
وعلم أنهم لا يؤمن به إلاّ أقلهم، وعلم أن ذلك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لشدة حرصه على إيمانهم، وعظيم شفقته عليهم، ولعدم ظهور ثمرة ما بذله من جهد في هدايتهم.
فأراد- تعالى- أن يقوي قلب نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على تحمل ذلك بإعلامه به
__________
(1) يشير إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أنشأها ابن باديس (حاشية المطبوع: [ص:494] ) .[/rtl]
[rtl]من أول الأمر، إذ ليس المؤلم المتوقع كالمؤلم الذي يصدم عن مفاجأة، وأعظم منه الذي يصدم مع توقع ضده، كما هنا: فإن المتوقع منهم بعد الإنذار البالغ بالبرهان الساطع، هو إيمان أكثرهم لا كفره.
{حَقَّ} وجب وثبت. {الْقَوْلُ} قول الله فيهم بما سبق في علمه أنهم لا يؤمنون. {فَهُمْ} أي أكثرهم.
نفى الإيمان عنهم نفياً مؤكداً بالإخبار عن ضميرهم بجملة لا يؤمنون. وقرنت الجملة بالفاء السببية؛ لتفيد أن من سبق في علم الله عدم إيمانه لا يرجى إيمانه بحال؛ فارتباط الثاني بالأول ارتباط لا انفكاك له.
المعنى:
لقد وجد وثبت ما سبق في علم الله، في أكثرهم، وما كان في قوله بعدم إيمانهم؛ فلا يرجى من ذلك الأكثر- الذي سبق في علم الله عدم إيمانه- إيمان.
سؤال:
ما مات النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى عَرَجَ (1) الإسلام جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولا شك أن الذين ماتوا على الكفر هم الأقل بالنسبة لمن آمنوا، فما معنى قوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} ؟.
جوابه:
الذين قام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإنذارهم وأقام بين ظهرانيهم مكرراً للنذارة عليهم صباح مساء، مدة ثلاث عشرة سنة، هم أهل مكة؛ فهم الذين تتعين إرادتهم من الضمير في قوله تعالى: {أَكْثَرِهِمْ} ولا شك أن أكثر من أنذرهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أهل مكة ماتوا على الكفر.
سؤال على هذا الجواب:
هذا يقتضي أن المراد بلفظة "قوماً" المتقدمة: أهل مكة مع أن المفسرين فسروها بالعرب.
جوابه:
نسلم بهذا، ويكون تفسير "قوماً" بالعرب نظراً لمماثلتهم لأهل مكة في وجوب إنذارهم، باعتبار مشاركتهم لهم في الوصف، وهو غفلتهم لعدم إنذار آبائهم.
لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله فيه:
قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار، وما نصب لهم (2) من آيات مشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات.
__________
(1) عرج: ارتفع وعلا (المعجم الوسيط: [ص:591] ) .
(2) كانت في الأصل المطبوع: "لها".[/rtl]
[rtl]وهذه كلها أمور معلومة لديهم، ضرورية عندهم، لا يستطيعون أن ينكروا شيئاً منهاة فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار، ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل إليهم وما تلوا عليهم من آيات.
وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، وكان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.
فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم؛ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
توجيه للترتيب:
تقوم حجة الله على العبد أولاً.
ويعمل هو- كاسبا ومكتسبا- باختياره ثانياً.
ويظهر لنا ما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثاً.
ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية التي فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم.
تقريب:
قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتهما، وأخلاقهما، وسيرتهما.
ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما، وهو يعلم- بما علم من أحدهما- أنه يمتثل، ويعلم- بما علم من الآخر- أنه يخالف.
ويقول لأهل بيته: إن فلاناً سيمتثل، وإن فلانا سيخالف.
فيظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما؛ فجازى الممتثل على طاعته، وجازى المخالف على عصيانه.
فلا شك أن هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير، وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والإرشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما.
كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما سبق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه.
لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علماً، فعلم من سيطيعه ومن سيعصي.
ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.
بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاؤهم على ما عملوا وما قدمت ايديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.[/rtl]
تعليم:
أرأيت كيف أن الله- تعالى- لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم على أعمالهم.
فهذا تعليم لنا كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض؛ فلا نجازي على مجرد الظن، بل ولا على مجرد اليقين؛ وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال.
فرُبّ شخص قدرت فيه الخير أو الشر، ففعل ضد ما قدرت؛ فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه، ولنال كل ما لا يستحقه.
فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه، وهذا ما ينبغي أن نربط به المجازاة بيننا.
***
العقيدة الأولى: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رسول الله.
دليلها الأول:
القرآن الحكيم الذي جاء به رجل أمي، ما قرأ ولا كتب، ولا دارس العلماء، ولا عرف الكتب.
ودليلها الثاني:
موافقة دعوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لدعوة المرسلين- صلوات الله عليهم- إلى عبادة الله وحده، وتصديق ما جاءهم به من عنده، دون أن يسألهم على ذلك أجراً، وهذا من قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
فهو من المرسلين من جهة إرساله؛ لأنه منهم في أقواله وأفعاله نظير قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ، وقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] ، وقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] .
ودليلها الثالث:
هذا الدين الكامل الجامع، الذي هدي به النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى ما فيه[/rtl]
[rtl](1/292)[/rtl]
ودليلها الرابع:
سلوكه هو في حياته على الصراط المستقيم، من يوم عرف الدنيا حتى فارقها؛ فكان يمثله على أكمل وجه، ولا يُخل بشيء منه، ثابتاً عليه، لا يحيد قيد شعرة عنه، دون أن تحفظ عنه زلة، ولا تعرف منه في القيام به والدعوة إليه فترة (1) ، ولا تقف أمامه قوة، ولا ترد له حادثة عزمه، ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ولا رهبة، ولا تبدل حاله رخاء ولا شدة.
فكان في كرم خلقه، وتمام زهده، وعظيم تألهه (2) وتوجهه لربه، بعدما فتح الله له الفتح المبين، ودخل الناس أفواجاً في الدين.
كما كان أيام كان وحيداً بين أعظم أعدائه من المشركين، وما هذا من شأن البشر وطبعهم لولا عصمة وتأييد رب العالمين.
العقيدة الثانية: القرآن كلام الله ووحيه:
ودليلها:
أنه حكيم، فما فيه من العلم وأصول العمل، لا يمكن أن يكون إلاّ عند الله، في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها.
الى ما فيه من حقائق كونية، كانت مجهولة عند جميع البشر، وما عرفت لهم إلاّ في هذا العصر الأخير.
ومن أشهرها: مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه، وهو الجوهر الفرد المركب من قوتين: موجبة وسالبة.
جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] .
ومنها مسألة حياة النبات، التي جاءت في مثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .
ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر إلى الأنثى، جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . فهذه حقائق
__________
(1) الفَتْرَة: الضعف والانكسار (المعجم الوسيط: [ص:672] ) .
(2) التأله: التنسّك والتعبّد (المرجع السابق: [ص:25] ) .[/rtl]
[rtl](1/293)[/rtl]
وكفى بهذا القلّ من الكثر دليلاً على أن هذا القرآن ما كان إلاّ من عند الله الذي خلق الأشياء، ويعلم حقائقها.
العقيدة الثالثة: الإسلام دين الله الذي شرعه وارتضاه:
ودليلها مستفاد من وصفه بأنه صراط مستقيم، فهو تشريع تام عام لجميع أعمال الإنسان:
أعمال قلبه، وأعمال لسانه، وأعمال جوارحه، وجميع معاملاته الخاصة والعامة بين أفراده وأممه، ولا تخرج كلية من كلياته ولا جزئية من جزئياته عن هذا الأصل العام، المتجلي في جميع الأحكام، وهو "الحق والخير والعدل والإحسان".
***
وقد وضع عقلاء الأمم شرائع في بعض نواحي أعمال الإنسان، ولكنها بإجماع المتشرعين لا تخلو من نقص واعوجاج واضطراب، فهم ما يفتئون يتعبونها بالتكميل والتقويم والتعديل على مر الأيام.
ولو عرضت كل حكم من أحكامه على الأصل العام الذي ذكرناه، لوجدته منطبقاً عليه ظاهراً فيه، حتى ما خفي وجهه على الأمم الأجنبية من الإسلام أيام تأخرها قد ظهر لها فضله ونفعه أيام تقدمها فجاء كبراء عقلائها يعترفون فيها بصواب ما شرعه فيها الإسلام.
ثم هم يعجزون عن تطبيقها على أممهم، للعادة الغالبة والوراثة القديمة، منها مسألة الطلاق، وتعدد الزوجات، وتحريم الربا تحريماً باتاً.
فكم من عالم غير مسلم، صرح بأن الحق والعدل والخير للإنسانية في هذه المسائل، هو ما شرعه الإسلام، على الوجه الذي شرعه الإسلام.
بهذه الاستقامة التامة العامة المضطردة، في شرع ما جاء به رجل أمي، من أمة أمية جاهلية، يجزم كل عاقل بأنه ليس من وضع العباد، وإنما هو من وضع خالق العباد.
***
الوحي مصدر الإسلام
جملة {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} بينت وجه استقامة ذلك الصراط الذي هو الإسلام، بأنه تنزيل العزيز الرحيم.
وأفادت أن جميع هذا الدين وحي من الله منزل على نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ وهذا لأن مرجع الإسلام في أصوله وفروعه إلى القرآن، وهو وحي من الله، وإلى السنة النبوية، وهي وحي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2، 3] .[/rtl]
[rtl](1/294)[/rtl]
وكل شيء ينسب للإسلام، ولا أصل له فيهما، فهو مردود على قائله. وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) .
الإسلام دين العز والرحمة:
ذكر من أسمائه تعالى في هذا الموطن {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، للتنبيه على أن هذا الدين الذي نزله الرب الموصوف بالعزة والرحمة، هو دين عزة ورحمة.
ومن مقتضى العزة القوة والمنعة والرفعة، ومن مقتضى الرحمة الفضل والخير والمصلحة، وهذه كلها متجلية في أحكام الإسلام.
والعدل والإحسان اللذان أمر الله بهما وانبنت أحكام الإسلام عليهما لا يكونان إلاّ عن العزة والرحمة فالذليل لا ينهض بالحكم، ولا يقيم ميزان العدل، والقاسي لا يكون منه إحسان.
إهتداء واقتداء:
فالمسلم المتحقق بالإسم المهتدي بهدايته، لا يكون إلاّ عزيزا رحيماً.
فالذلة من المسلم نقص في إسلامه، والقساوة مثلها نقص فيه.
وقد ذكر الله تعالى سادات المسلمين في عزتهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] . وذكرهم في رحمتهم فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . ونعم القدوة هم لجميع المسلمين.
النذارة ثمرة الرسالة:
كان من المرسلين (2) لينذر الغافلين. فالأول كمال، والثاني تكميل.
وقد فطر الله رسله- عليهم الصلاة والسلام- على الرحمة وحب الخير؛ فكانوا أحرص الناس على نجاة الناس وكمالهم وسعادتهم، فصبروا على تكذيبهم وإذايتهم، حتى أدوا أمانة الله إليهم، وأقاموا حجته عليهم، وكان الله ينجيهم ومن آمن بهم، وينزل عقوبته بالمكذبين لهم، وينصرهم عليهم؛ فأعلم محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بأنه من المرسلين لينذر- ليتأسى بهم، ويصبر صبرهم، ويرجو من نصر الله له وإهلاك أعدائه ما كان منه تعالى لهم.
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة البخاري في الصلح باب 5، ومسلم في الأقضية حديث 17 و18، وأبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 2، وأحمد في المسند (6/ 146) وأخرجه البخاري أيضاً تعليقا في الاعتصام في ترجمة الباب 20؛ والبيوع في ترجمة الباب 60.
(2) في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية 3 من سورة يس.[/rtl]
[rtl](1/295)[/rtl]
العلماء ورثة الأنبياء. وما ورث الأنبياء ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، والعلم مستمد من الرسالة، فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلايا، والعطف على الخلق والرحمة، وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
التدريج في الإنذار:
أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للعالمين بشيراً ونذيراً.
ودرجه في النذارة على مقتضى الحكمة، من القريب إلى البعيد.
فأمره بإنذار عشيرته بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، فصعد الصفا فنادى بطون قريش حتى نادى العباس عمه، وصفية عمته، وفاطمة ابنته، وقال لهم: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» (1) .
وأمره بإنذار من حول مكة من العرب بقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] . على الوجه الأقرب في معنى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} المؤيد بصدر الكلام وهو قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] .
ومثلها في إنذار العرب ما في هذه الآية، وهو قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] .
فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم (2) .
وأمره بتعميم الإنذار بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
فأرسل رسله إلى الأمم تحمل كتبه إلى ملوكها بالدعوة إلى الإسلام، وكان ذلك هو الإنذار العام.
الدفاع أشكال:
قد كان النبي يُرسَل إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الناس عامة، بمثل قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، أي بالقرآن كل من بلغه القرآن. ولا
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الوصايا باب 11، وتفسير سورة 26 باب 2. والنسائي في الوصايا باب 6. والدارمي في الرقاق باب 23.
(2) روى ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 13، حديث 201) عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض نفسه على الناس في المَوْسِمِ فيقول: "أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِى إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِى أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّى".[/rtl]
[rtl](1/296)[/rtl]
إقتداء:
هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب الناس إليه، ثم من بعدهم على التدريج.
وعندما يقوم كل واحد منا بإرشاد أهله وأقرب الناس إليه، لا نلبث أن نرى الخير قد انتشر في الجميع: فمن الأُسَرِ تتركب الأمة؛ فعندما يعنى كل واحد بأسرته ترتقي الأمة كلها بارتقاء أسرها، كارتقاء أي كل بارتقاء أجزائه؛ فيكون المعتني بأسرته في الوقت نفسه معتنياً بأمته. وعندما يقصد بخدمة أسرته خدمة أمته يثاب ثواب خادم الجميع: أسرته بالفعل، وأمته بالقصد، أو أسرته مباشرة وأمته بواسطة، وكل هذا مما يثاب المرء شرعاً عليه.
إستطراد واستنباط:
لما كان العرب لم يأتهم نذير قبل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بنص هذه الآية وغيرها، فهم في فترتهم (1) ناجون لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
ولقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] . وغيرهما، وكلها آيات وقواطع في نجاة أهل الفترة.
ولا يستثنى من ذلك إلاّ من جاء فيهم نص ثابت خاص: كعمرو بن لحي أول من سَيَّبَ السوائب، وبدل في شريعة إبراهيم وغير، وحلل للعرب وحرم.
فأبوا النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ناجيان بعموم هذه الأدلة.
ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس رضي الله عنه:
أن رجلًا قال للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله، أين أبي؛ قال: «في النار» . فلما قَفَّى (2) الرجل دعاه، فقال: «إن أبي وأباك في النار» (3) ، لأنه خبر آحاد (4) ، فلا يعارض القواطع. وهو قابل للتأويل بحمل الأب على العم مجازاً، يحسنه المشاكلة اللفظية، ومناسبته لجبر خاطر الرجل، وذلك من رحمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكريم أخلاقه.
__________
(1) الفَتْرة: المدة تقع بين زمنين أو نبيين. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} سورة المائدة الآية 19.
(2) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 94- مادة قفا) : "أي ذهب مدلياً، وكأنه من القفا: أي أعطاه قفاه وظهره".
(3) أخرجه مسلم في الإيمان حديث 347، وأبو داود في السنة باب 17.
(4) خبر الآحاد لا يفيد القطع بل الظن فقط، بعكس الحديث المتواتر الذي يفيد القطع.[/rtl]
[rtl](1/297)[/rtl]
أفادت الفاء في قوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أن غفلتهم تسببت عن عدم إنذارهم؛ فكل أمة انقطع عنها الإنذار وترك فيها التذكير واقعة في الغفلة لا محالة. ولما كان ترك الإنذار والتذكير موقعاً في الغفلة، فالإنذار والتذكير يزيلانها؛ فقد عرفتنا الآية الكريمة بسبب الغفلة وبعلاجها لنحذر سببها ونعالج أنفسنا وغيرنا بعلاجها.
تطبيق:
كان الناس منذ زمن قريب لا يسمعون ولا يسمع منهم لفظ الاهتداء بهداية القرآن العظيم، والإقتداء بهدي الرسول الكريم، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، والسير بسيرة السلف الصالح، في النهوض بأعباء الدنيا والدين، وهم- إلاّ قليلاً- عن هذا غافلون.
أما اليوم بعد أن نهض العلماء المصلحون بواجبهم (1) ، ونشروا دعوة الحق في قومهم، فقد أصبح ذلك معروفاً عند أكثر الناس، وفي متناول الناس بجميع طبقاتهم.
وإنا لنرجو من فضل الله المزيد، ونشاهد ذلك والحمد لله كل يوم يزيد، فالحمد لله على ما علّم وألهم وبصر ويسّر، ونسأله دوام التوفيق والتسديد يا رب العالمين.
***
لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس:7-11] .
علم الله أن نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وإنقاذهم من الهلكة.
وعلم أنهم لا يؤمن به إلاّ أقلهم، وعلم أن ذلك يكون من أعظم ما يؤلم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لشدة حرصه على إيمانهم، وعظيم شفقته عليهم، ولعدم ظهور ثمرة ما بذله من جهد في هدايتهم.
فأراد- تعالى- أن يقوي قلب نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على تحمل ذلك بإعلامه به
__________
(1) يشير إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أنشأها ابن باديس (حاشية المطبوع: [ص:494] ) .[/rtl]
[rtl](1/298)[/rtl]
{حَقَّ} وجب وثبت. {الْقَوْلُ} قول الله فيهم بما سبق في علمه أنهم لا يؤمنون. {فَهُمْ} أي أكثرهم.
نفى الإيمان عنهم نفياً مؤكداً بالإخبار عن ضميرهم بجملة لا يؤمنون. وقرنت الجملة بالفاء السببية؛ لتفيد أن من سبق في علم الله عدم إيمانه لا يرجى إيمانه بحال؛ فارتباط الثاني بالأول ارتباط لا انفكاك له.
المعنى:
لقد وجد وثبت ما سبق في علم الله، في أكثرهم، وما كان في قوله بعدم إيمانهم؛ فلا يرجى من ذلك الأكثر- الذي سبق في علم الله عدم إيمانه- إيمان.
سؤال:
ما مات النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى عَرَجَ (1) الإسلام جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولا شك أن الذين ماتوا على الكفر هم الأقل بالنسبة لمن آمنوا، فما معنى قوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} ؟.
جوابه:
الذين قام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإنذارهم وأقام بين ظهرانيهم مكرراً للنذارة عليهم صباح مساء، مدة ثلاث عشرة سنة، هم أهل مكة؛ فهم الذين تتعين إرادتهم من الضمير في قوله تعالى: {أَكْثَرِهِمْ} ولا شك أن أكثر من أنذرهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أهل مكة ماتوا على الكفر.
سؤال على هذا الجواب:
هذا يقتضي أن المراد بلفظة "قوماً" المتقدمة: أهل مكة مع أن المفسرين فسروها بالعرب.
جوابه:
نسلم بهذا، ويكون تفسير "قوماً" بالعرب نظراً لمماثلتهم لأهل مكة في وجوب إنذارهم، باعتبار مشاركتهم لهم في الوصف، وهو غفلتهم لعدم إنذار آبائهم.
لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله فيه:
قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار، وما نصب لهم (2) من آيات مشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات.
__________
(1) عرج: ارتفع وعلا (المعجم الوسيط: [ص:591] ) .
(2) كانت في الأصل المطبوع: "لها".[/rtl]
[rtl](1/299)[/rtl]
وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، وكان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.
فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم؛ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
توجيه للترتيب:
تقوم حجة الله على العبد أولاً.
ويعمل هو- كاسبا ومكتسبا- باختياره ثانياً.
ويظهر لنا ما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثاً.
ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية التي فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم.
تقريب:
قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتهما، وأخلاقهما، وسيرتهما.
ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما، وهو يعلم- بما علم من أحدهما- أنه يمتثل، ويعلم- بما علم من الآخر- أنه يخالف.
ويقول لأهل بيته: إن فلاناً سيمتثل، وإن فلانا سيخالف.
فيظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما؛ فجازى الممتثل على طاعته، وجازى المخالف على عصيانه.
فلا شك أن هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير، وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والإرشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما.
كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما سبق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه.
لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علماً، فعلم من سيطيعه ومن سيعصي.
ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.
بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاؤهم على ما عملوا وما قدمت ايديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.[/rtl]
[rtl](1/300)[/rtl]
أرأيت كيف أن الله- تعالى- لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم على أعمالهم.
فهذا تعليم لنا كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض؛ فلا نجازي على مجرد الظن، بل ولا على مجرد اليقين؛ وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال.
فرُبّ شخص قدرت فيه الخير أو الشر، ففعل ضد ما قدرت؛ فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه، ولنال كل ما لا يستحقه.
فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه، وهذا ما ينبغي أن نربط به المجازاة بيننا.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه:
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) } [يس:8 و 9] .
لما ذكر عدم إيمانهم، وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الإعراض عنه.
(الغل) ما يجعل في العنق محيطًا به.
(الذقن) مجمع اللحيين، ملتقى عظميهما تحت الفم.
{مُقْمَحُونَ} رافعون رؤوسهم. يقال: قمح البعير قموحاً إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع عن الشرب. ويقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه.
(السد) الحاجز بين الشيئين.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} جعلنا عليهم غشاء أي غطاء، أحاط بجميع الذات فمنع العيون من الإبصار.
{فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} أي الأغلال منتهية من أسفل الأعناق إلى الأذقان. وهذا كناية عن عرضها، ولذا فرع عليه {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} .
وفرع عدم إبصارهم على جعل سد أمامهم وسد خلفهم؛ لالتزاق السدين بهم، وضغطهما عليهم، فكما لا يستطيعون معهما تحركًا لا يستطيعون إبصاراً. وكيف يبصر من وجهه ملتزق بالحائط مثلاً؟[/rtl]
[rtl]المعنى:
إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالًا ضيقة عريضة، تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الإيمان، لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا.
وجعلنا أمامهم حجاباً وخلفهم حجاباً محيطين وملتزقين بهم ومغطين لجميع ذواتهم، فلا يستطيعون معهما تحركاً ولا إبصاراً.
توجيه التمثيل:
دعوا إلى الإيمان والتوحيد ومكارم الأخلاق، وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها شبهوا بالإبل المقمحة عن الماء.
ثم إن هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة، تدرك باستعمال النظر فيما بين يدي الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها، وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها.
فلما أعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملزقين ومحيطين به، فجمد في مكانه؛ فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئاً.
ترهيب:
كل ما دعا إليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال، فهو مما تقبله الفطر السليمة، وتدركه العقول بالنظر الصحيح.
فمن قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد، وخالف فطرته، وعاكس عقله، كان حقيقاً بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة، والطبع على القلب؛ فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ، الذي صورها في أبشع وأفظع صورة؛ ليحذرنا من الإعراض عن الحق والعناد له، ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.
تعليم:
لكل إنسان فطرته وعقله، فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما راجعين إلى الفطرة الإنسانية وإلى العقل البشري منزهين عن الأغراض والأهواء والأوهام والشبهات.
فإذا كان هلاك هؤلاء بعدم الاستفادة منهما، فإن النجاة عندما تعرض الأمور بالرجوع إليهما.
ونجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة؛ ليعلمنا الرجوع إليهما والاستفادة منهما.
***[/rtl]
[rtl]من استوى عنده الانذار وعدم الانذار لا يرجى منه إيمان:
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) } [بس:10] .
لما ذكر- تعالى- عدم إيمانهم لما سبق من علم الله فيهم ذكر هنا سبباً آخر لذلك، وهو استواء الإنذار وعدمه لديهم.
ذكر هذا السبب إثر ما تقدم من وصف حالهم في شدة الإعراض، للتنبيه على أن من فسدت فطرته، وانطمس عقله، يستوي عنده الإنذار وعدمه، فلا يكون منه إيمان على كل حال.
{سواء} بمعنى مستو. والهمزة الأولى (1) أصلها للاستفهام، وليس مراداً هنا، وتسمى في مثل هذا التركيب همزة التسوية، لوقوعها بعد لفظها، ودخولها على الأول من أمرين يراد التسوية ما بينهما. وهي حينئذ من أدوات السبك ولذا يكون تأويل الكلام هكذا: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك.
المعنى:
إن أكثر أهل مكة الذين حكم الله بعدم إيمانهم، بلغوا من شدة الإعراض والعناد إلى حيث استوى عندهم الضدان: الإنذار وعدم الإنذار، فمحقق منهم عدم الإيمان ومأيوس من صدوره من ناحيتهم.
تحذير:
يذكر الله- تعالى- حالة هؤلاء الذين استوى عندهم الشيء وضده، يحذرنا منها، ومما يؤدي إليها، من إهمال الفطرة وترك النظر.
فإن الإنسان إنما يمتاز على بقية الحيوان بتمييزه بين الحقائق بالفطرة والفكرة، وإدراكه الفوارق ما بينها. فإذا سلب هذه المزية التحق بالعجماوات؛ بل كانت العجماوات خيراً منه لبقاء فطرتها سليمة لإدراك ما فيها استعداداً لإدراكه.
***
تجديد الإنذار للمنتفعين به وتبشيرهم:
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس: 11] .
لما ذكر تعالى المأيوس من انتفاعهم بإنذار النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذكر الذين ينتفعون به تأنيساً له بهم، وتقوية له بظهور ثمرة إنذاره فيهم.
__________
(1) في قوله: "أَنْذَرْتَهُمْ".[/rtl]
[rtl]{الذكر} القرآن. وهو من أسمائه التي تكررت في التنزيل، و"ال" فيه العهد.
{الغيب} الخلوة عندما يغيب الإنسان عن عيون البشر.
(التبشير) الإخبار بما يسر.
(المغفرة) سترة الذنب بالتجاوز عنه وعدم المؤاخذة به.
(الأجر) الجزاء على العمل.
(الكريم) الطيب الشريف في نفسه الدافع في إثره الذي لا يشوب ذاته نقص ولا منفعته ضرر.
وأفاد المضارع في {تنذر} تجديد الإنذار للمتبعين، وذكر اسم {الرحمن} ليفيد التركيب أنهم يخشونه مع العلم برحمته، وذلك يقتضي جمعهم بين الخوف والرجاء.
ذكر المنتفعين بعد المأيوس من انتفاعهم، ترقية من الأدنى إلى الأعلى، ولأنهم كالزبدة التي يحصل عليها بعد طرح غيرها، ولإراحة القلب من أولئك، لتتوجه العناية التامة إلى هؤلاء. وذكرت الخشية بعد الاتباع لأنها لا تحصل إلاّ به.
وجيء بعد بالتبشير مقروناً بالفاء، لأنه إنما يكون لأهل الاتباع والخشية، بسبب اتباعهم وخشيتهم.
وذكر الأجر بعد المغفرة لأن التحلية بعد التخلية، والتزين بعد إزالة الأدران.
المعنى:
إنما يتجدد إنذارك وينتفع به الذين آمنوا، وهم الذين اتبعوا القرآن وخافوا الله في خلواتهم، لصدق إيمانهم خاشين نقمته، راجين رحمته.
وهؤلاء كما تنذرهم وينتفعون بإنذارك، بشرهم- على اتباعهم للقرآن، وخشيتهم بالغيب للرحمن- بمغفرة ذنوبهم، وجزاء- شريفًا رفيعًا طيبًا نافعًا (1) لا نقص فيه ولا تنغيص- على أعمالهم.
دفع إشكال:
أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالإنذار العام، ثم كان ممن أنذرهم قوم مأيوس منهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ... الآيات، وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] . إذ لا فائدة من إنذارهم.
وكان قوم آخرون آمنوا وهؤلاء هم المرادون بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الآية.
فلا منافاة بين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الذي يقتضي التعميم، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الذي
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "شريف رفيع طيب نافع" والصواب ما أثبتناه؛ لأن كل هذه الألفاظ نعوت لـ"جزاء" المنصوب بـ"بشرهم".[/rtl]
[rtl]يقتضي التخصيص؛ لأن الأول في مقام الإنذار العام، والثاني في مقام تجديد الإنذار والانتفاع به، وأما الإعراض فلا يكون إلاّ عن المأيوس منه من الكافرين.
إرشاد:
طريق السلوك الشرعي إنما هي اتباع القرآن، وأكمل أحوال العبد أن يخشى الله ويرجو رحمته.
وأهل الاتباع والخشية لا يستغنون عن تجديد الإنذار، وذلك بدوام التذكير المشروع في الإسلام، وتذكير المؤمنين بإنذارهم وتبشيرهم؛ فلا يَأْمَنُون (1) من عذاب الله ولا يقنطون من رحمته.
صفة المؤمن من هذه الآيات:
المؤمن الكامل هو من سلمت فطرته، وصح إدراكه، واتبع القرآن في عقده، وخلقه، وعمله، واستوت خلوته وجلوته، وسره وعلنه؛ وعبد الله راجياً رحمته، خائفاً عذابه، يخيفه الإنذار، وترجيه البشرى بالمغفرة والأجر الكريم.
ثبتنا الله والمسلمين على الايمان مع هذه الصفات إلى الممات، آمين يا رب العالمين.
***
الحياة بعد الموت
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } [يس:12] .
اشتملت الآيات المتقدمة على ذكر الرسول وصفته، ورسالته التي جاء بها- وهي القرآن- ووصفها، والمرسل وهو العزيز الرحيم، والمرسل إليهم، وتعميم بالنذارة، وانقسامهم إلى معرضين معاندين، ومقبلين متبعين؛ فجاءت هذه الآية مشتملة على ما تكون فيه نتيجة ذلك وثمرته، وهو يوم القيامة.
ووجه آخر (2) وهو أن أمهات أصول العقائد ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله، والإيمان باليوم الآخر.
وقد انتظمت الآيات المتقدمة تقرير الأصل الثاني (3) بالقسم عليه (4) على ما تقدم من البيان، وانتظمت الأصل الأول (5) ضمنًا بذكر العزيز الرحيم (6) .
فجاءت هذه الآية لتقرير الأصل الثالث (7) .
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "يؤمنون" والصواب ما أثبتناه، فلا يأمنون؛ من الأمْن.
(2) أي في سبب الارتباط.
(3) الإيمان برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(4) بقوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
(5) الإيمان بالله تعالى.
(6) {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
(7) الإيمان باليوم الآخر.[/rtl]
[rtl]سؤال:
كيف يذكر الأصل الأول- وهو الأصل الأول- إلاّ بما ذكر به من الذكر الضمني؟
الجواب:
ذلك لأمرين:
الأول: أن هذه الأصول الثلاثة تذكر في أول السور، غير أن بعض السور تخصص بالحديث على بعض الأصول أكثر من غيره، ولا يذكر فيها غيره إلاّ ضمنًا كما هنا.
الثاني: أن تقرير الأصل الثاني هو تقرير للأصل الأول؛ إذ جميع دلائل النبوة، دلائل على وجود الخالق وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
(الإحياء) : إيجاد الحياة في الجسم؛ ولا يكون إلاّ من الله.
و (الميت) : الجسم الذي يقبل الحياة ولا حياة فيه، سواء أكانت فيه وزالت، أم لم تكن فيه بعد كالجنين قبل نفخ الروح فيه.
أكدت الجملة لأن الخطاب مع منكري البعث والنشور، وأكد إسم "إنّ" (1) بـ"نحن" ليفيد الاختصاص، فهو المحيي دون غيره.
وعبر بـ {نحيي} فعلاً مضارعاً ليفيد تجديد الإحياء واستمراره، فيشمل إحياءه للأجنة في الدنيا، وإحياءه الثاني في الأخرى. وكثيراً ما جاء في القرآن الاستدلال على الإحياء الثاني بالإحياء الأول؛ فتكون كلمة {نحيي} قد اشتملت على العقيدة وهى الإحياء الثاني، ودليلها وهو الإحياء الأول.
المعنى:
يعرف الله- تعالى- عباده بأنه هو الذي يحيي الموتى دون غيره، ويذكرهم بما يشاهدونه من ذلك فيهم، وهم أجنة في بطون أمهاتهم؛ فيؤمنون بأنه يحييهم كذلك بعد موتهم، فيستعدون من حياتهم الأولى لحياتهم الثانية.
***
إحصاء الأعمال المباشرة وغير المباشرة:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .
لما أعلم الخلق بأنهم يحيون بعد الموت، أعلمهم بأن أعمالهم المباشرة وغير المباشرة مكتوبة عليهم؛ لأن حياتهم بعد الموت، لنيل جزاء ما كتب عليهم من أعمالهم.
(قدم الشيء) : جعله قدامه. وأعمال المرء التي يباشرها قدمها قبله في طريقه إِلى الآخرة، فهي محفوظة حتى يلحقها.
__________
(1) في قوله تعالى: {إنَّا} .[/rtl]
[rtl]و (الأثر) ما يحصل من العمل، كالذي يحصل على وجه التراب من وضع الأقدام ويبقي بعد رفعها الإنسان ما يحصل من أعماله التي باشرها.
عبر بـ {نَكْتُبُ} مضارعاً ليفيد التجدد والاستمرار، فما من عمل أو أثر يتجدد إلاّ ويكتب.
وأسند الكتابة إليه، والكاتبون الملائكة، لأنهم بأمره يكتبون.
المعنى:
يعلم الله- تعالى- عباده بأنه يكتب كل أعمالهم التي يعملونها ويباشرونها بأنفسهم.
ويكتب كذلك ما يعمله غيرهم، إذا كان متسبباً عن أعمالهم وأثراً لها.
تنظير:
مثل هذه الآية- في الدلالة على أن العبد مؤاخذ بما عمل مباشرة، وما عمله غيره، وكان من آثار عمله- قوله تعالى:
{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] . فالذي أخره، هو أثره المذكور في (1) هذه الآية.
تأييد وبيان:
في صحيح مسلم من طريق جابر (2) بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حبة، فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه؛ حتى رؤي ذلك في وجهه..
قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«من سن في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (3) .
وفيه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه رآله وسلم- قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
__________
(1) لفظة "في" ساقطة من الأصل المطبوع.
(2) كذا في الأصل المطبوع، وهو خطأ. والصواب "جرير". انظر المراجع المذكورة في الحاشية التالية.
(3) رواه مسلم في العلم حديث 15، والزكاة حديث 69 و70. والنسائي في الزكاة باب 64. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في المقدمة باب 44. وأحمد في المسند (4/ 359، 360، 362) .[/rtl]
[rtl]ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» (1) .
فتأيد بهذين الحديثين فهم المعنى المتقدم من الآية، وهو أن العبد له وعليه من آثار أعماله مما لم يباشره بنفسه، مثل ما له وما عليه من أعماله التي يباشرها.
وبيَّن الحديث الأول: أن ما تسبب عن عمل المرء يعد أثراً لعمله عندما يعمل به في حياته مثلما يعمل به بعد مماته، إذ الذي جاء بالصرة أولاً قد تسبب في مجيئه مجيء من بعده على إثره، والحديث سيق في شأنهم؛ فتكون حالتهم أول ما يشمل.
كما بين الحديث الثاني: أن أثر القول كأثر الفعل، إذ الكل عمل.
وبين الحديثان: أن نيل المرء جزاء عمله الذي لم يباشره لا ينقص من جزاء العامل المباشر شيئا.
تنبيه:
من صورة الواقعة التي ورد فيها الحديث الأول علمنا: أن المراد بمن سن سنة حسنة أو سيئة، هو من ابتدأ طريقاً من الخير في أعمال البر والإحسان، وما ينتفع به الناس من شئون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات، إذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتيات (2) عليه واستنقاص له؛ وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) .
تحذير:
على العاقل- وقد علم أنه محاسب على أفعاله وعلى آثار أقواله- ألاّ يفعل فعلاً ولا يقول قولاً حتى ينظر في عواقبه، فقد تكون تلك العواقب أضر عليه من أصل القول وأصل الفعل؛ فقد يقول القول مرة، ويفعل الفعل مرة، ثم يقتدي به فيه آلاف عديدة في أزمنة متطاولة.
حقاً إن هذا لشيء تنخلع منه القلوب، وترتعد منه الفرائص، وصدق القائل من السلف رضي الله عنهم: "السعيد من ماتت معه سيئاته".
__________
(1) أخرجه مسلم في العلم حديث 16، والذكر حديث 1. وأبو داود في السنة باب 6. والترمذي في العلم باب 15، وثواب القرآن باب 14. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في فضائل القرآن باب 1.
(2) افْتَات في الأمر: استبدَّ به ولم يستثر من له الرأي فيه (المعجم الوسيط: [ص:705] ) .
(3) جزء من حديث طويل أخرجه من حديث جابر بن عبد الله (من دون عبارة: «وكل ضلالة في النار» ) مسلم في الجمعة حديث 43، وابن ماجة في المقدمة باب 6، وأحمد في المسند (3/ 310) ومن حديث العرباض بن سارية: أبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 7، وأحمد في المسند (4/ 126، 127) . ولفظة «وكل ضلالة في النار» لم ترد في الصحيح.[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"](1/308)[/b]
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) } [يس:8 و 9] .
لما ذكر عدم إيمانهم، وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الإعراض عنه.
(الغل) ما يجعل في العنق محيطًا به.
(الذقن) مجمع اللحيين، ملتقى عظميهما تحت الفم.
{مُقْمَحُونَ} رافعون رؤوسهم. يقال: قمح البعير قموحاً إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع عن الشرب. ويقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه.
(السد) الحاجز بين الشيئين.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} جعلنا عليهم غشاء أي غطاء، أحاط بجميع الذات فمنع العيون من الإبصار.
{فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} أي الأغلال منتهية من أسفل الأعناق إلى الأذقان. وهذا كناية عن عرضها، ولذا فرع عليه {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} .
وفرع عدم إبصارهم على جعل سد أمامهم وسد خلفهم؛ لالتزاق السدين بهم، وضغطهما عليهم، فكما لا يستطيعون معهما تحركًا لا يستطيعون إبصاراً. وكيف يبصر من وجهه ملتزق بالحائط مثلاً؟[/rtl]
[rtl](1/301)[/rtl]
إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالًا ضيقة عريضة، تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الإيمان، لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا.
وجعلنا أمامهم حجاباً وخلفهم حجاباً محيطين وملتزقين بهم ومغطين لجميع ذواتهم، فلا يستطيعون معهما تحركاً ولا إبصاراً.
توجيه التمثيل:
دعوا إلى الإيمان والتوحيد ومكارم الأخلاق، وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها شبهوا بالإبل المقمحة عن الماء.
ثم إن هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة، تدرك باستعمال النظر فيما بين يدي الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها، وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها.
فلما أعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملزقين ومحيطين به، فجمد في مكانه؛ فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئاً.
ترهيب:
كل ما دعا إليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال، فهو مما تقبله الفطر السليمة، وتدركه العقول بالنظر الصحيح.
فمن قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد، وخالف فطرته، وعاكس عقله، كان حقيقاً بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة، والطبع على القلب؛ فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ، الذي صورها في أبشع وأفظع صورة؛ ليحذرنا من الإعراض عن الحق والعناد له، ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.
تعليم:
لكل إنسان فطرته وعقله، فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما راجعين إلى الفطرة الإنسانية وإلى العقل البشري منزهين عن الأغراض والأهواء والأوهام والشبهات.
فإذا كان هلاك هؤلاء بعدم الاستفادة منهما، فإن النجاة عندما تعرض الأمور بالرجوع إليهما.
ونجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة؛ ليعلمنا الرجوع إليهما والاستفادة منهما.
***[/rtl]
[rtl](1/302)[/rtl]
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) } [بس:10] .
لما ذكر- تعالى- عدم إيمانهم لما سبق من علم الله فيهم ذكر هنا سبباً آخر لذلك، وهو استواء الإنذار وعدمه لديهم.
ذكر هذا السبب إثر ما تقدم من وصف حالهم في شدة الإعراض، للتنبيه على أن من فسدت فطرته، وانطمس عقله، يستوي عنده الإنذار وعدمه، فلا يكون منه إيمان على كل حال.
{سواء} بمعنى مستو. والهمزة الأولى (1) أصلها للاستفهام، وليس مراداً هنا، وتسمى في مثل هذا التركيب همزة التسوية، لوقوعها بعد لفظها، ودخولها على الأول من أمرين يراد التسوية ما بينهما. وهي حينئذ من أدوات السبك ولذا يكون تأويل الكلام هكذا: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك.
المعنى:
إن أكثر أهل مكة الذين حكم الله بعدم إيمانهم، بلغوا من شدة الإعراض والعناد إلى حيث استوى عندهم الضدان: الإنذار وعدم الإنذار، فمحقق منهم عدم الإيمان ومأيوس من صدوره من ناحيتهم.
تحذير:
يذكر الله- تعالى- حالة هؤلاء الذين استوى عندهم الشيء وضده، يحذرنا منها، ومما يؤدي إليها، من إهمال الفطرة وترك النظر.
فإن الإنسان إنما يمتاز على بقية الحيوان بتمييزه بين الحقائق بالفطرة والفكرة، وإدراكه الفوارق ما بينها. فإذا سلب هذه المزية التحق بالعجماوات؛ بل كانت العجماوات خيراً منه لبقاء فطرتها سليمة لإدراك ما فيها استعداداً لإدراكه.
***
تجديد الإنذار للمنتفعين به وتبشيرهم:
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس: 11] .
لما ذكر تعالى المأيوس من انتفاعهم بإنذار النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذكر الذين ينتفعون به تأنيساً له بهم، وتقوية له بظهور ثمرة إنذاره فيهم.
__________
(1) في قوله: "أَنْذَرْتَهُمْ".[/rtl]
[rtl](1/303)[/rtl]
{الغيب} الخلوة عندما يغيب الإنسان عن عيون البشر.
(التبشير) الإخبار بما يسر.
(المغفرة) سترة الذنب بالتجاوز عنه وعدم المؤاخذة به.
(الأجر) الجزاء على العمل.
(الكريم) الطيب الشريف في نفسه الدافع في إثره الذي لا يشوب ذاته نقص ولا منفعته ضرر.
وأفاد المضارع في {تنذر} تجديد الإنذار للمتبعين، وذكر اسم {الرحمن} ليفيد التركيب أنهم يخشونه مع العلم برحمته، وذلك يقتضي جمعهم بين الخوف والرجاء.
ذكر المنتفعين بعد المأيوس من انتفاعهم، ترقية من الأدنى إلى الأعلى، ولأنهم كالزبدة التي يحصل عليها بعد طرح غيرها، ولإراحة القلب من أولئك، لتتوجه العناية التامة إلى هؤلاء. وذكرت الخشية بعد الاتباع لأنها لا تحصل إلاّ به.
وجيء بعد بالتبشير مقروناً بالفاء، لأنه إنما يكون لأهل الاتباع والخشية، بسبب اتباعهم وخشيتهم.
وذكر الأجر بعد المغفرة لأن التحلية بعد التخلية، والتزين بعد إزالة الأدران.
المعنى:
إنما يتجدد إنذارك وينتفع به الذين آمنوا، وهم الذين اتبعوا القرآن وخافوا الله في خلواتهم، لصدق إيمانهم خاشين نقمته، راجين رحمته.
وهؤلاء كما تنذرهم وينتفعون بإنذارك، بشرهم- على اتباعهم للقرآن، وخشيتهم بالغيب للرحمن- بمغفرة ذنوبهم، وجزاء- شريفًا رفيعًا طيبًا نافعًا (1) لا نقص فيه ولا تنغيص- على أعمالهم.
دفع إشكال:
أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالإنذار العام، ثم كان ممن أنذرهم قوم مأيوس منهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ... الآيات، وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] . إذ لا فائدة من إنذارهم.
وكان قوم آخرون آمنوا وهؤلاء هم المرادون بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الآية.
فلا منافاة بين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الذي يقتضي التعميم، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الذي
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "شريف رفيع طيب نافع" والصواب ما أثبتناه؛ لأن كل هذه الألفاظ نعوت لـ"جزاء" المنصوب بـ"بشرهم".[/rtl]
[rtl](1/304)[/rtl]
إرشاد:
طريق السلوك الشرعي إنما هي اتباع القرآن، وأكمل أحوال العبد أن يخشى الله ويرجو رحمته.
وأهل الاتباع والخشية لا يستغنون عن تجديد الإنذار، وذلك بدوام التذكير المشروع في الإسلام، وتذكير المؤمنين بإنذارهم وتبشيرهم؛ فلا يَأْمَنُون (1) من عذاب الله ولا يقنطون من رحمته.
صفة المؤمن من هذه الآيات:
المؤمن الكامل هو من سلمت فطرته، وصح إدراكه، واتبع القرآن في عقده، وخلقه، وعمله، واستوت خلوته وجلوته، وسره وعلنه؛ وعبد الله راجياً رحمته، خائفاً عذابه، يخيفه الإنذار، وترجيه البشرى بالمغفرة والأجر الكريم.
ثبتنا الله والمسلمين على الايمان مع هذه الصفات إلى الممات، آمين يا رب العالمين.
***
الحياة بعد الموت
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } [يس:12] .
اشتملت الآيات المتقدمة على ذكر الرسول وصفته، ورسالته التي جاء بها- وهي القرآن- ووصفها، والمرسل وهو العزيز الرحيم، والمرسل إليهم، وتعميم بالنذارة، وانقسامهم إلى معرضين معاندين، ومقبلين متبعين؛ فجاءت هذه الآية مشتملة على ما تكون فيه نتيجة ذلك وثمرته، وهو يوم القيامة.
ووجه آخر (2) وهو أن أمهات أصول العقائد ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله، والإيمان باليوم الآخر.
وقد انتظمت الآيات المتقدمة تقرير الأصل الثاني (3) بالقسم عليه (4) على ما تقدم من البيان، وانتظمت الأصل الأول (5) ضمنًا بذكر العزيز الرحيم (6) .
فجاءت هذه الآية لتقرير الأصل الثالث (7) .
__________
(1) جاءت في الأصل المطبوع: "يؤمنون" والصواب ما أثبتناه، فلا يأمنون؛ من الأمْن.
(2) أي في سبب الارتباط.
(3) الإيمان برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(4) بقوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
(5) الإيمان بالله تعالى.
(6) {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
(7) الإيمان باليوم الآخر.[/rtl]
[rtl](1/305)[/rtl]
كيف يذكر الأصل الأول- وهو الأصل الأول- إلاّ بما ذكر به من الذكر الضمني؟
الجواب:
ذلك لأمرين:
الأول: أن هذه الأصول الثلاثة تذكر في أول السور، غير أن بعض السور تخصص بالحديث على بعض الأصول أكثر من غيره، ولا يذكر فيها غيره إلاّ ضمنًا كما هنا.
الثاني: أن تقرير الأصل الثاني هو تقرير للأصل الأول؛ إذ جميع دلائل النبوة، دلائل على وجود الخالق وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
(الإحياء) : إيجاد الحياة في الجسم؛ ولا يكون إلاّ من الله.
و (الميت) : الجسم الذي يقبل الحياة ولا حياة فيه، سواء أكانت فيه وزالت، أم لم تكن فيه بعد كالجنين قبل نفخ الروح فيه.
أكدت الجملة لأن الخطاب مع منكري البعث والنشور، وأكد إسم "إنّ" (1) بـ"نحن" ليفيد الاختصاص، فهو المحيي دون غيره.
وعبر بـ {نحيي} فعلاً مضارعاً ليفيد تجديد الإحياء واستمراره، فيشمل إحياءه للأجنة في الدنيا، وإحياءه الثاني في الأخرى. وكثيراً ما جاء في القرآن الاستدلال على الإحياء الثاني بالإحياء الأول؛ فتكون كلمة {نحيي} قد اشتملت على العقيدة وهى الإحياء الثاني، ودليلها وهو الإحياء الأول.
المعنى:
يعرف الله- تعالى- عباده بأنه هو الذي يحيي الموتى دون غيره، ويذكرهم بما يشاهدونه من ذلك فيهم، وهم أجنة في بطون أمهاتهم؛ فيؤمنون بأنه يحييهم كذلك بعد موتهم، فيستعدون من حياتهم الأولى لحياتهم الثانية.
***
إحصاء الأعمال المباشرة وغير المباشرة:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .
لما أعلم الخلق بأنهم يحيون بعد الموت، أعلمهم بأن أعمالهم المباشرة وغير المباشرة مكتوبة عليهم؛ لأن حياتهم بعد الموت، لنيل جزاء ما كتب عليهم من أعمالهم.
(قدم الشيء) : جعله قدامه. وأعمال المرء التي يباشرها قدمها قبله في طريقه إِلى الآخرة، فهي محفوظة حتى يلحقها.
__________
(1) في قوله تعالى: {إنَّا} .[/rtl]
[rtl](1/306)[/rtl]
عبر بـ {نَكْتُبُ} مضارعاً ليفيد التجدد والاستمرار، فما من عمل أو أثر يتجدد إلاّ ويكتب.
وأسند الكتابة إليه، والكاتبون الملائكة، لأنهم بأمره يكتبون.
المعنى:
يعلم الله- تعالى- عباده بأنه يكتب كل أعمالهم التي يعملونها ويباشرونها بأنفسهم.
ويكتب كذلك ما يعمله غيرهم، إذا كان متسبباً عن أعمالهم وأثراً لها.
تنظير:
مثل هذه الآية- في الدلالة على أن العبد مؤاخذ بما عمل مباشرة، وما عمله غيره، وكان من آثار عمله- قوله تعالى:
{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] . فالذي أخره، هو أثره المذكور في (1) هذه الآية.
تأييد وبيان:
في صحيح مسلم من طريق جابر (2) بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حبة، فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه؛ حتى رؤي ذلك في وجهه..
قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«من سن في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (3) .
وفيه من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه رآله وسلم- قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
__________
(1) لفظة "في" ساقطة من الأصل المطبوع.
(2) كذا في الأصل المطبوع، وهو خطأ. والصواب "جرير". انظر المراجع المذكورة في الحاشية التالية.
(3) رواه مسلم في العلم حديث 15، والزكاة حديث 69 و70. والنسائي في الزكاة باب 64. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في المقدمة باب 44. وأحمد في المسند (4/ 359، 360، 362) .[/rtl]
[rtl](1/307)[/rtl]
فتأيد بهذين الحديثين فهم المعنى المتقدم من الآية، وهو أن العبد له وعليه من آثار أعماله مما لم يباشره بنفسه، مثل ما له وما عليه من أعماله التي يباشرها.
وبيَّن الحديث الأول: أن ما تسبب عن عمل المرء يعد أثراً لعمله عندما يعمل به في حياته مثلما يعمل به بعد مماته، إذ الذي جاء بالصرة أولاً قد تسبب في مجيئه مجيء من بعده على إثره، والحديث سيق في شأنهم؛ فتكون حالتهم أول ما يشمل.
كما بين الحديث الثاني: أن أثر القول كأثر الفعل، إذ الكل عمل.
وبين الحديثان: أن نيل المرء جزاء عمله الذي لم يباشره لا ينقص من جزاء العامل المباشر شيئا.
تنبيه:
من صورة الواقعة التي ورد فيها الحديث الأول علمنا: أن المراد بمن سن سنة حسنة أو سيئة، هو من ابتدأ طريقاً من الخير في أعمال البر والإحسان، وما ينتفع به الناس من شئون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات، إذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتيات (2) عليه واستنقاص له؛ وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) .
تحذير:
على العاقل- وقد علم أنه محاسب على أفعاله وعلى آثار أقواله- ألاّ يفعل فعلاً ولا يقول قولاً حتى ينظر في عواقبه، فقد تكون تلك العواقب أضر عليه من أصل القول وأصل الفعل؛ فقد يقول القول مرة، ويفعل الفعل مرة، ثم يقتدي به فيه آلاف عديدة في أزمنة متطاولة.
حقاً إن هذا لشيء تنخلع منه القلوب، وترتعد منه الفرائص، وصدق القائل من السلف رضي الله عنهم: "السعيد من ماتت معه سيئاته".
__________
(1) أخرجه مسلم في العلم حديث 16، والذكر حديث 1. وأبو داود في السنة باب 6. والترمذي في العلم باب 15، وثواب القرآن باب 14. وابن ماجة في المقدمة باب 14. والدارمي في فضائل القرآن باب 1.
(2) افْتَات في الأمر: استبدَّ به ولم يستثر من له الرأي فيه (المعجم الوسيط: [ص:705] ) .
(3) جزء من حديث طويل أخرجه من حديث جابر بن عبد الله (من دون عبارة: «وكل ضلالة في النار» ) مسلم في الجمعة حديث 43، وابن ماجة في المقدمة باب 6، وأحمد في المسند (3/ 310) ومن حديث العرباض بن سارية: أبو داود في السنة باب 5، وابن ماجة في المقدمة باب 7، وأحمد في المسند (4/ 126، 127) . ولفظة «وكل ضلالة في النار» لم ترد في الصحيح.[/rtl]
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"](1/308)[/b]
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]الإحصاء العام في الكتاب الإمام:
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} .
لما أعلم العباد بأنه يكتب لهم وعليهم أعمالهم، أعلمهم بأنه تعالى قد كتب كل الأشياء لا خصوص أعمالهم تعميماً بعد تخصيص.
(الإحصاء) تحصيل الشيء بالعد وضبطه والإحاطة به.
(الإمام) ما يؤتم ويقتدى به، والكتاب إمام لأنه يتبع فيؤخذ بما فيه ويعتمد عليه.
و (المبين) المظهر لما فيه، فكل ما فيه ظاهر فيه.
أصل الكلام: أحصينا كل شيء أحصيناه. فحذف أحصينا الأول لدلالة الثاني، فكان هذا أقوى في ثبوت الإحصاء ووقوعه على كل شيء.
المعنى:
يعلم الله عباده بأنه حصل كل شيء من ذوات وأقوال وأفعال، وجميع ما كان في العالم وما يكون، وأثبته فرداً فرداً في كتاب إمام معتمد، مظهر للأشياء التي فيه، فهي ثابتة ظاهرة جلية.
اعتبار:
فقد أحاط الله بكل شيء علماً، فهو غني بعلمه عن هذه الكتابة، ولكنه جعل هذا الكتاب إظهاراً لعظمة ملكه وليعلم عباده الضبط والإحصاء في جميع أمورهم وليبالغوا في محاسبة أنفسهم وليعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم (1) ، فيزول من قلوبهم الخوف من الحوادث والمخلوقات وتعظم ثقتهم بالله.
وفي ذلك أعظم قوة في هذه الحياة، وأكبر راحة للقلب من صروفها.
نسأل الله سبحانه أن يقوي قلوبنا بالإيمان، وأن يريحنا باليقين، وأن يعيذنا من الخوف إلاّ منه، ومن الخضوع إلاّ له آمين يا رب العالمين.
__________
(1) كما ورد في الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت؛ وفي الحديث: « ... ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله تعالى ما قبله الله تعالى منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار» . أخرجه أبو داود في سننه (كتاب السنة، باب 16، حديث رقم 4699) .[/rtl]
[rtl]القسم الخامس آيات بيِّنات
في هذا القسم:
1- سبيل السعادة والنجاة.
2- كيف تكون الدعوة إلى الله، والدفاع عنها.
3- دعوة أهل الكتاب.
4- الإجتماع العام للأمر الهام، وارتباط الجماعة بأمر الإمام.
5- الود من إكرام الله لأولياء الله.
6- حسن التلقي، وطلب المزيد.
7- من وعد الله للصالحين.
8- دفاع الله عن المؤمنين.
9- أكل الحلال والعمل الصالح.
10- الفرار إلى الله، والفرار من الله.[/rtl]
[rtl]1- سبيل السعادة والنجاة
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } [يوسف:108] .
تمهيد:
خلق الله [تعالى] . محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل الناس، وجعله قدوتهم، وفرض عليهم اتباعه والائتساء به (1) ، فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم، ومغفرة خالقهم ورضوانه- إلاّ باقتفاء آثاره والسير في سبيله. فلهذا أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يبين سبيله بياناً عاماً للناس، لتتضح المحجة للمهتدين، وتقوم الحجة على الهالكين.
أمره أن يبينها البيان الذي يصيرها مشاهدة بالعيان، ويشير إليها كما يشار إلى سائر المشاهدات، فقال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} .
ثم بين سبيله بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الله على بصيرة، وتنزيه الله تعالى، والبراءة من المشركين، فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
الدعوة إلى الله:
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من يوم بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته، كان يدعو الناس كلهم إلى الله، بأقواله وأفعاله وتقريراته وجميع مواقفه في سائر مشاهده.
وكانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة جلية لا خفاء بها، كما قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» (2) ، فكانت مشاهدة معينة، كما أشير إليها في الآية إشارة المعين المشاهد.
__________
(1) حيث قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سورة الأحزاب: الآية 21.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 1 حدبث 5) عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: «آلفقر تخافون؛ والذي نفسي بيده لتصبنً عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة الا هِيَهْ. وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» . وقوله: «البيضاء» أي على قلوب بيضاء نقيّة عن الميل إلى الباطل، لا يميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرّاء.[/rtl]
[rtl]كان يدعو إلى دين الله، ويبين هو ذلك الدين ويمثله: يدعو إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته، ويشاهد الناس تلك العبادة والتوحيد والطاعة، فكان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كله دعوة إلى الله.
فما دعا إلى نفسه؛ فقد مات ودرعه مرهونة في دَيْن.
وما دعا إلى قومه، فقد كان يقول: «لا فضل لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلاّ بتقوى الله» (1) .
كان يدعو الناس كلهم، إذ هو رسول الله إلى الناس كلهم، فكتب الكتب وأرسل الرسل، فبلغت دعوته إلى الأمم وملوك الأمم.
كان يدعو الكافرين كما يدعو المؤمنين، يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع يوماً عن الإنذار والتبشير والوعظ والتذكير.
كان يدعو إلى الله على بينة وحجة يحصل بها الإدراك التام للعقل، حتى يصير الأمر المدرك واضحاً لديه كوضوح الأمر المشاهد بالبصر، فهو على بينة ويقين من كل ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها، وفي جميع أحواله.
وكانت دعوته المبنية على الحجة والبرهان، مشتملة على الحق والبرهان، فكان يستشهد بالعقل، ويعتضد بالعلم، ويستنصر بالوجدان، ويحتج بأيام الله في الأمم الخالية، وما استفاض من أخبارها، وبقي من آثارها من أنباء الأولين، وما يمر الناس عليه {مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 136] .
على كل مسلم أن يكون داعياً إلى الله:
لقد كان في بيان أن الدعوة إلى الله هي سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يفيد أن على أتباعه- وهو قدوتهم ولهم فيه الأسوة الحسنة- أن تكون الدعوة إلى الله سبيلهم.
ولكن لتأكيد هذا عليهم وبيان أنه من مقتضى كونهم أتباعه وأن أتباعهم له لا يتم إلاّ به- جاء التصريح بذلك هكذا:
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
فالمسلمون أفراداً وجماعات، عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله، وأن تكون دعوتهم على بينة وحجة وإيمان ويقين، وأن تكون دعوتهم وفقاً لدعوته، وتبعاً لها.
ماهية الدعوة:
1- فمن الدعوة إلى الله: دروس العلوم كلها، مما يفقه في دين الله، ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته، ويدل على رحمة الله وأنواع نعمته.
__________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد في المسند (5/ 411) من حديث أبي نضرة عن رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.[/rtl]
[rtl]فالفقيه الذي يبين حكم الله وحكمته، دل إلى الله.
والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته دل إلى الله.
ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل.
2- ومن الدعوة إلى الله: بيان حجج الإسلام، ودفع الشبه عنه، ونشر محاسنه بين الأجانب عنه ليدخلوا فيه، وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه.
3- ومن الدعوة إلى الله: مجالس الوعظ والتذكير، لتعريف المسلمين بدينهم، وتربيتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم فيه، ببيان ما فيه من خير وسعادة لهم.
وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه هي سبب كل شقاوة وشر لحقهم.
وبيان أنه ما من سبب مما تسعد به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ودعاهم إليه، وما من سبب مما تشقى به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ونهاهم عنه.
وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم، وبقاياه الباقية لديهم، ومظاهره القائمة بهم، لما بقيت لهم- وهم المجردون من كل قوة- بقية، ولتلاشت أشلاؤهم- وهم الأموات- في الأمم الحية.
4- ومن الدعوة إلى الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواجب بحسب رتبة الاستطاعة: فيجب باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب، وهو أضعف الإيمان (1) ، وأقل الأعمال في هذا المقام.
5- ومن الدعوة إلى الله: ظهور المسلمين- أفراداً وجماعات- بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة وعلم وعمل وصدق وأمانة؛ فذلك أعظم مرغب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفر لهم عنه، وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم، إلاّ لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال، كما يدعون بالقول، وما زالت الأعمال عياراً على الأقوال.
6- ومن الدعوة إلى الله: بعث البعثات إلى الأمم غير المسلمة، ونشر الكتب بألسنتها، وبعث المرشدين إلى عواصم الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم.
وكل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنة السلف الصالح من بعده.
فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه، وليعلم أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسبيل إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم من قبله.
__________
(1) وفيه الحديث عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» . رواه مسلم في الإيمان حديث 78. وأبو داود في الصلاة باب 242، والملاحم باب 17. والترمذي في الفتن باب 11. وابن ماجة في الإقامة باب 155، والفتن باب 20، والنسائي في الإيمان باب 17. وأحمد في المسند (3/ 10، 20، 49، 53، 54، 62) .[/rtl]
[rtl]فلم يكن المسلم ليدع من هذا المقام الشريف- مقام خلافة النبوة- شيئاً من حظه، وإذا كان هذا المقام ثابتاً لكل مسلم ومسلمة، وحقا القيام به- بقدر الاستطاعة- على كل مسلم ومسلمة- فأهل العلم به أولى وهو عليهم أحق، وهم المسؤولون عنه قبل جميع الناس.
وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلاّ يوم قعد أهل العلم عن هذا الواجب عليهم. وإذا عادوا إلى القيام به- وقد عادوا والحمد لله- أوشك- إن شاء الله- أن ينجلي عن المسلمين مصابهم.
تفرقة:
ليس كل من زعم أنه يدعو إلى الله يكون صادقاً في دعواه، فلا بد من التفرقة بين الصادقين والكاذبين. والفرق بينهما- مستفاد من الآية- بوجهين:
الأول:
أن الصادق لا يتحدث عن نفسه، فلا يستطيع أن ينسى نفسه في أقواله وأعماله.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {إِلَى اللهِ} .
الثاني:
أن الصادق يعتمد على الحجة والبرهان، فلا تجد في كلامه كذباً ولا تلبيساً ولا ادعاء مجرداً، ولا تقع من سلوكه في دعوته على التواء ولا تناقض ولا اضطراب.
وأما الكاذب فإنه بخلافه: فإنه يلقي دعاويه مجردة ويحاول تدعيمها بكل ما تصل إليه يده، ولا يزال لذلك في حنايا وتعاريج لا تزيده إلاّ بعداً عن الصراط المستقيم.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} .
مباحث لفظية:
{عَلَى بَصِيرَةٍ} يتعلق بـ {أدعو} ، واختيرت {على} لتدل على تمام التمكن و {أنا} تأكيد للضمير المستتر في {أدعو} ، ونكتته الإعلان بنفسه في مقام الدعوة، وشأن الداعي على بصيرة أن يجهر بدعوته ولا يستسر بها، واتصال اللفظ الدال عليه باللفظ الدال على اتباعه كما تتصل بدعوته.
وشأن الصورة اللفظية مطابقة الصورة الخارجية والكلام تصوير للواقع.
{من} تفيد العموم لكل تابع، وأكملهم في الاتباع أكملهم في الدعوة؛ لأن الموصول يفيد التعليل بصلته، فهم يدعون لأنهم متبعون.
تنزيه الله تعالى:
الإعتراف بوجود خالق للكون يكاد يكون غريزة مركوزة في الفطرة، ويكاد لا تكون لمنكريه- عناداً- نسبة عددية بين البشر.
ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه، ولا يليق بجلاله: من الصاحبة[/rtl]
[rtl]والولد، والمادة والصورة، والحلول، والشريك في التصرف في الكون، والشريك في التوجه والضراعة إليه، والسؤال منه والاتكال عليه.
فأرسل الله الرسل ليبينوا للخلق تنزهه عن ذلك كله.
وكان من سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه يدعو الخلق إلى الله، وينزهه عن كل ما نسبه إليه المبطلون وتخيله المتخيلون، وهو معنى قوله: {وَسُبْحَانَ اللهِ} .
فهو يدعوهم إلى الله الذي قد عرفوا وجوده بفطرتهم، وعرفوا أنه هو خالق الكون وخالقهم، لا يسميه إلاّ بما سمى به نفسه، ولا يصفه إلاّ بما وصف به نفسه، ويعرفهم بآثار قدرته، ومواقع رحمته، ومظاهر حكمته، وآيات ربوبيته وألوهيته، ووحدانيته في جلاله وسلطانه، وينزهه عن المشابهة والمماثلة لشيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهذا التنزيه- وإن كان داخلاً في الدعوة إلى الله فإنه- خصص بالذكر، لعظم شأنه؛ فإنه ما عرف الله من شبهه بخلقه، أو نسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو أشرك به سواه. وإن ضلال أكثر الخلق جاءهم من هذه الناحية.
فمن أعظم وجوه الدعوة وألزمها، تنزيه الله تعالى عن الشبيه والشريك، وكل ما لا يليق.
والمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الدعوة إلى الله على بصيرة، متبعون له في هذا التنزيه: عقداً، وقولًا، وعملاً، وإعلاناً، ودعوة.
مباحث لفظية:
{سبحان} منصوب بفعل محذوف تقديره أسبح أي أنزه، والجملة معطوفة على جملة {أدعو} ، فهي من بيان القبيل.
البراءة من المشركين:
الأمة التي بعث منها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهي أول أمة دعاها إلى الله، هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشركة تعرف أن الله خلقها ورزقها، وتعبد مع ذلك أوثانها: تزعم أنها تقربها إلى الله، وتتوسط لها لديه!!
فكان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعو إلى الله وينزهه، يعلن براءته من المشركين، وأنه ليس منهم: براءة من عقيدتهم، وأقوال وأعمال شركهم. فهو مباين لهم في العقد، والقول، والعمل مباينة الضد للضد. فكما باين التوحيد الشرك، باين هو المشركين، وذلك معنى قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وهذه البراءة والمباينة- وإن كانت مستفادة من أنه يدعو إلى الله وينزهه- فإنها نص عليها بالتصريح، لتأكيد أمر مباينة المشركين، والبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جلية وخفية.[/rtl]
في جميع مظاهر شركهم، حتى في صورة القول، كما "شاء الله وشاء فلان". فلا يقال: "وشاء فلان" كما جاء في حديث (1) بيناه في جزء من الأجزاء الماضية.
أو في صورة الفعل: كأن يسوق بقرة أو شاة مثلاً إلى ضريح من الأضرحة، ليذبحها عنده، فإنه ضلال كما قاله "الشيخ الدردير في باب النذر".
فضلاً عن عقائدهم: كاعتقاد أن هناك ديواناً من عباد الله يتصرف في ملك الله وأن المذنب لا يدعو الله وإنما يسأل من يعتقد فيه الخير من الأموات، وذلك الميت يدعو له الله!!
لتأكيد أمر المباينة للمشركين في هذا كله نص عليها بالتصريح كما قلنا، وللبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره وجليه وخفيه.
والمباينة والتبري لازمة من كل كفر وضلال، وذلك مستفاد من الدعوة إلى الله وتنزيهه. وإنما خصص المشركين لما تقدم ولأن الشرك هو شرك الكفر وأقبحه.
ولما كانت هذه المباينة والبراءة داخلة في الدعوة إلى الله وتنزيهه، فالمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعون إلى الله على بصيرة، وينزهونه؛ يباينون المشركين في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، ويطرحون الشرك بجميع وجوهه، ويعلنون براءتهم وانتفاءهم من المشركين. والحمد لله رب العالمين.
***
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} .
لما أعلم العباد بأنه يكتب لهم وعليهم أعمالهم، أعلمهم بأنه تعالى قد كتب كل الأشياء لا خصوص أعمالهم تعميماً بعد تخصيص.
(الإحصاء) تحصيل الشيء بالعد وضبطه والإحاطة به.
(الإمام) ما يؤتم ويقتدى به، والكتاب إمام لأنه يتبع فيؤخذ بما فيه ويعتمد عليه.
و (المبين) المظهر لما فيه، فكل ما فيه ظاهر فيه.
أصل الكلام: أحصينا كل شيء أحصيناه. فحذف أحصينا الأول لدلالة الثاني، فكان هذا أقوى في ثبوت الإحصاء ووقوعه على كل شيء.
المعنى:
يعلم الله عباده بأنه حصل كل شيء من ذوات وأقوال وأفعال، وجميع ما كان في العالم وما يكون، وأثبته فرداً فرداً في كتاب إمام معتمد، مظهر للأشياء التي فيه، فهي ثابتة ظاهرة جلية.
اعتبار:
فقد أحاط الله بكل شيء علماً، فهو غني بعلمه عن هذه الكتابة، ولكنه جعل هذا الكتاب إظهاراً لعظمة ملكه وليعلم عباده الضبط والإحصاء في جميع أمورهم وليبالغوا في محاسبة أنفسهم وليعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم (1) ، فيزول من قلوبهم الخوف من الحوادث والمخلوقات وتعظم ثقتهم بالله.
وفي ذلك أعظم قوة في هذه الحياة، وأكبر راحة للقلب من صروفها.
نسأل الله سبحانه أن يقوي قلوبنا بالإيمان، وأن يريحنا باليقين، وأن يعيذنا من الخوف إلاّ منه، ومن الخضوع إلاّ له آمين يا رب العالمين.
__________
(1) كما ورد في الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت؛ وفي الحديث: « ... ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله تعالى ما قبله الله تعالى منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار» . أخرجه أبو داود في سننه (كتاب السنة، باب 16، حديث رقم 4699) .[/rtl]
[rtl](1/309)[/rtl]
في هذا القسم:
1- سبيل السعادة والنجاة.
2- كيف تكون الدعوة إلى الله، والدفاع عنها.
3- دعوة أهل الكتاب.
4- الإجتماع العام للأمر الهام، وارتباط الجماعة بأمر الإمام.
5- الود من إكرام الله لأولياء الله.
6- حسن التلقي، وطلب المزيد.
7- من وعد الله للصالحين.
8- دفاع الله عن المؤمنين.
9- أكل الحلال والعمل الصالح.
10- الفرار إلى الله، والفرار من الله.[/rtl]
[rtl](1/311)[/rtl]
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } [يوسف:108] .
تمهيد:
خلق الله [تعالى] . محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أكمل الناس، وجعله قدوتهم، وفرض عليهم اتباعه والائتساء به (1) ، فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم، ومغفرة خالقهم ورضوانه- إلاّ باقتفاء آثاره والسير في سبيله. فلهذا أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يبين سبيله بياناً عاماً للناس، لتتضح المحجة للمهتدين، وتقوم الحجة على الهالكين.
أمره أن يبينها البيان الذي يصيرها مشاهدة بالعيان، ويشير إليها كما يشار إلى سائر المشاهدات، فقال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} .
ثم بين سبيله بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الله على بصيرة، وتنزيه الله تعالى، والبراءة من المشركين، فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
الدعوة إلى الله:
فالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من يوم بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته، كان يدعو الناس كلهم إلى الله، بأقواله وأفعاله وتقريراته وجميع مواقفه في سائر مشاهده.
وكانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة جلية لا خفاء بها، كما قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» (2) ، فكانت مشاهدة معينة، كما أشير إليها في الآية إشارة المعين المشاهد.
__________
(1) حيث قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سورة الأحزاب: الآية 21.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه (المقدمة، باب 1 حدبث 5) عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: «آلفقر تخافون؛ والذي نفسي بيده لتصبنً عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة الا هِيَهْ. وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» . وقوله: «البيضاء» أي على قلوب بيضاء نقيّة عن الميل إلى الباطل، لا يميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرّاء.[/rtl]
[rtl](1/313)[/rtl]
فما دعا إلى نفسه؛ فقد مات ودرعه مرهونة في دَيْن.
وما دعا إلى قومه، فقد كان يقول: «لا فضل لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلاّ بتقوى الله» (1) .
كان يدعو الناس كلهم، إذ هو رسول الله إلى الناس كلهم، فكتب الكتب وأرسل الرسل، فبلغت دعوته إلى الأمم وملوك الأمم.
كان يدعو الكافرين كما يدعو المؤمنين، يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع يوماً عن الإنذار والتبشير والوعظ والتذكير.
كان يدعو إلى الله على بينة وحجة يحصل بها الإدراك التام للعقل، حتى يصير الأمر المدرك واضحاً لديه كوضوح الأمر المشاهد بالبصر، فهو على بينة ويقين من كل ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها، وفي جميع أحواله.
وكانت دعوته المبنية على الحجة والبرهان، مشتملة على الحق والبرهان، فكان يستشهد بالعقل، ويعتضد بالعلم، ويستنصر بالوجدان، ويحتج بأيام الله في الأمم الخالية، وما استفاض من أخبارها، وبقي من آثارها من أنباء الأولين، وما يمر الناس عليه {مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 136] .
على كل مسلم أن يكون داعياً إلى الله:
لقد كان في بيان أن الدعوة إلى الله هي سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يفيد أن على أتباعه- وهو قدوتهم ولهم فيه الأسوة الحسنة- أن تكون الدعوة إلى الله سبيلهم.
ولكن لتأكيد هذا عليهم وبيان أنه من مقتضى كونهم أتباعه وأن أتباعهم له لا يتم إلاّ به- جاء التصريح بذلك هكذا:
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
فالمسلمون أفراداً وجماعات، عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله، وأن تكون دعوتهم على بينة وحجة وإيمان ويقين، وأن تكون دعوتهم وفقاً لدعوته، وتبعاً لها.
ماهية الدعوة:
1- فمن الدعوة إلى الله: دروس العلوم كلها، مما يفقه في دين الله، ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته، ويدل على رحمة الله وأنواع نعمته.
__________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد في المسند (5/ 411) من حديث أبي نضرة عن رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.[/rtl]
[rtl](1/314)[/rtl]
والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته دل إلى الله.
ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل.
2- ومن الدعوة إلى الله: بيان حجج الإسلام، ودفع الشبه عنه، ونشر محاسنه بين الأجانب عنه ليدخلوا فيه، وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه.
3- ومن الدعوة إلى الله: مجالس الوعظ والتذكير، لتعريف المسلمين بدينهم، وتربيتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم فيه، ببيان ما فيه من خير وسعادة لهم.
وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه هي سبب كل شقاوة وشر لحقهم.
وبيان أنه ما من سبب مما تسعد به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ودعاهم إليه، وما من سبب مما تشقى به البشرية أفرادها وأممها إلاّ بيّنه لهم ونهاهم عنه.
وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم، وبقاياه الباقية لديهم، ومظاهره القائمة بهم، لما بقيت لهم- وهم المجردون من كل قوة- بقية، ولتلاشت أشلاؤهم- وهم الأموات- في الأمم الحية.
4- ومن الدعوة إلى الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواجب بحسب رتبة الاستطاعة: فيجب باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب، وهو أضعف الإيمان (1) ، وأقل الأعمال في هذا المقام.
5- ومن الدعوة إلى الله: ظهور المسلمين- أفراداً وجماعات- بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة وعلم وعمل وصدق وأمانة؛ فذلك أعظم مرغب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفر لهم عنه، وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم، إلاّ لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال، كما يدعون بالقول، وما زالت الأعمال عياراً على الأقوال.
6- ومن الدعوة إلى الله: بعث البعثات إلى الأمم غير المسلمة، ونشر الكتب بألسنتها، وبعث المرشدين إلى عواصم الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم.
وكل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسنة السلف الصالح من بعده.
فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه، وليعلم أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسبيل إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم من قبله.
__________
(1) وفيه الحديث عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» . رواه مسلم في الإيمان حديث 78. وأبو داود في الصلاة باب 242، والملاحم باب 17. والترمذي في الفتن باب 11. وابن ماجة في الإقامة باب 155، والفتن باب 20، والنسائي في الإيمان باب 17. وأحمد في المسند (3/ 10، 20، 49، 53، 54، 62) .[/rtl]
[rtl](1/315)[/rtl]
وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلاّ يوم قعد أهل العلم عن هذا الواجب عليهم. وإذا عادوا إلى القيام به- وقد عادوا والحمد لله- أوشك- إن شاء الله- أن ينجلي عن المسلمين مصابهم.
تفرقة:
ليس كل من زعم أنه يدعو إلى الله يكون صادقاً في دعواه، فلا بد من التفرقة بين الصادقين والكاذبين. والفرق بينهما- مستفاد من الآية- بوجهين:
الأول:
أن الصادق لا يتحدث عن نفسه، فلا يستطيع أن ينسى نفسه في أقواله وأعماله.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {إِلَى اللهِ} .
الثاني:
أن الصادق يعتمد على الحجة والبرهان، فلا تجد في كلامه كذباً ولا تلبيساً ولا ادعاء مجرداً، ولا تقع من سلوكه في دعوته على التواء ولا تناقض ولا اضطراب.
وأما الكاذب فإنه بخلافه: فإنه يلقي دعاويه مجردة ويحاول تدعيمها بكل ما تصل إليه يده، ولا يزال لذلك في حنايا وتعاريج لا تزيده إلاّ بعداً عن الصراط المستقيم.
وهذا الفرق من قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} .
مباحث لفظية:
{عَلَى بَصِيرَةٍ} يتعلق بـ {أدعو} ، واختيرت {على} لتدل على تمام التمكن و {أنا} تأكيد للضمير المستتر في {أدعو} ، ونكتته الإعلان بنفسه في مقام الدعوة، وشأن الداعي على بصيرة أن يجهر بدعوته ولا يستسر بها، واتصال اللفظ الدال عليه باللفظ الدال على اتباعه كما تتصل بدعوته.
وشأن الصورة اللفظية مطابقة الصورة الخارجية والكلام تصوير للواقع.
{من} تفيد العموم لكل تابع، وأكملهم في الاتباع أكملهم في الدعوة؛ لأن الموصول يفيد التعليل بصلته، فهم يدعون لأنهم متبعون.
تنزيه الله تعالى:
الإعتراف بوجود خالق للكون يكاد يكون غريزة مركوزة في الفطرة، ويكاد لا تكون لمنكريه- عناداً- نسبة عددية بين البشر.
ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه، ولا يليق بجلاله: من الصاحبة[/rtl]
[rtl](1/316)[/rtl]
فأرسل الله الرسل ليبينوا للخلق تنزهه عن ذلك كله.
وكان من سبيل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه يدعو الخلق إلى الله، وينزهه عن كل ما نسبه إليه المبطلون وتخيله المتخيلون، وهو معنى قوله: {وَسُبْحَانَ اللهِ} .
فهو يدعوهم إلى الله الذي قد عرفوا وجوده بفطرتهم، وعرفوا أنه هو خالق الكون وخالقهم، لا يسميه إلاّ بما سمى به نفسه، ولا يصفه إلاّ بما وصف به نفسه، ويعرفهم بآثار قدرته، ومواقع رحمته، ومظاهر حكمته، وآيات ربوبيته وألوهيته، ووحدانيته في جلاله وسلطانه، وينزهه عن المشابهة والمماثلة لشيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهذا التنزيه- وإن كان داخلاً في الدعوة إلى الله فإنه- خصص بالذكر، لعظم شأنه؛ فإنه ما عرف الله من شبهه بخلقه، أو نسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو أشرك به سواه. وإن ضلال أكثر الخلق جاءهم من هذه الناحية.
فمن أعظم وجوه الدعوة وألزمها، تنزيه الله تعالى عن الشبيه والشريك، وكل ما لا يليق.
والمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الدعوة إلى الله على بصيرة، متبعون له في هذا التنزيه: عقداً، وقولًا، وعملاً، وإعلاناً، ودعوة.
مباحث لفظية:
{سبحان} منصوب بفعل محذوف تقديره أسبح أي أنزه، والجملة معطوفة على جملة {أدعو} ، فهي من بيان القبيل.
البراءة من المشركين:
الأمة التي بعث منها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهي أول أمة دعاها إلى الله، هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشركة تعرف أن الله خلقها ورزقها، وتعبد مع ذلك أوثانها: تزعم أنها تقربها إلى الله، وتتوسط لها لديه!!
فكان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعو إلى الله وينزهه، يعلن براءته من المشركين، وأنه ليس منهم: براءة من عقيدتهم، وأقوال وأعمال شركهم. فهو مباين لهم في العقد، والقول، والعمل مباينة الضد للضد. فكما باين التوحيد الشرك، باين هو المشركين، وذلك معنى قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وهذه البراءة والمباينة- وإن كانت مستفادة من أنه يدعو إلى الله وينزهه- فإنها نص عليها بالتصريح، لتأكيد أمر مباينة المشركين، والبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جلية وخفية.[/rtl]
[rtl](1/317)[/rtl]
أو في صورة الفعل: كأن يسوق بقرة أو شاة مثلاً إلى ضريح من الأضرحة، ليذبحها عنده، فإنه ضلال كما قاله "الشيخ الدردير في باب النذر".
فضلاً عن عقائدهم: كاعتقاد أن هناك ديواناً من عباد الله يتصرف في ملك الله وأن المذنب لا يدعو الله وإنما يسأل من يعتقد فيه الخير من الأموات، وذلك الميت يدعو له الله!!
لتأكيد أمر المباينة للمشركين في هذا كله نص عليها بالتصريح كما قلنا، وللبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره وجليه وخفيه.
والمباينة والتبري لازمة من كل كفر وضلال، وذلك مستفاد من الدعوة إلى الله وتنزيهه. وإنما خصص المشركين لما تقدم ولأن الشرك هو شرك الكفر وأقبحه.
ولما كانت هذه المباينة والبراءة داخلة في الدعوة إلى الله وتنزيهه، فالمسلمون المتبعون لنبيهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يدعون إلى الله على بصيرة، وينزهونه؛ يباينون المشركين في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، ويطرحون الشرك بجميع وجوهه، ويعلنون براءتهم وانتفاءهم من المشركين. والحمد لله رب العالمين.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
[rtl]- كيف تكون الدعوة إلى الله والدفاع عنها
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) } [النحل: 125] .
سبيل الرسل جل جلاله:
شرع الله لعباده- بما أنزل من كتابه، وما كان من بيان رسوله- ما فيه استنارة عقولهم، وزكاء نفوسهم، واستقامة أعمالهم.
وسماه سبيلاً ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة، ليفضي بهم إلى الغاية المقصودة، وهي السعادة الأبدية قي الحياة الأخرى.
وأضافه إلى نفسه، ليعلموا أنه هو وضعه، وأنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه.
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في الأدب باب 76، والدارمي في الاستئذان باب 63، وأحمد في المسند (5/ 384، 394، 398) من طريق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ماشاء الله ثم شاء فلان» .[/rtl]
[rtl](1/318)[/rtl]
[rtl]وذكر من أسمائه الرب؛ ليعلموا أن الرب الذي خلقهم وصورهم (1) ، ولطف بهم في جميع أطوار خلقهم ومراحل تكوينهم: هو الذي وضع لهم هذه السبيل لطفاً منه بهم، وإحساناً إليهم، لينهجوها في مراحل حياتهم، فكما كان رحيماً بهم في خلقه، كان رحيماً بهم في شرعه، فيسيروا فيها عن رغبة ومحبة فيها ومع شكر له وشوق إليه.
وأمر نبيه- عليه السلام- أن يدعو الناس أجمعين- وحذف معمول "ادع" لإفادة العموم- إلى هذه السبيل، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} .
إهتداء:
أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو إلى سبيل ربه، وهو الأمين المعصوم فما ترك شيئاً من سبيل ربه إلاّ دعا إليه، فعرفنا بهذا أن ما لم يدع إليه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فليس من سبيل الرب جل جلاله؛ فاهتدينا بهذا- وأمثاله كثير- إلى الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ودعاة الله ودعاة الشيطان.
فمن دعا إلى ما دعا إليه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحق والهدى. ومن دعا إلى ما لم يدع إليه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال.
إقتداء:
فالمسلم المتبع للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يألو جهداً في الدعوة إلى كل ما عرف من سبيل ربه، وبقيام كل واحد من المسلمين بهذه الدعوة بما استطاع، تتضح السبيل للسالكين، ويعم العلم بها عند المسلمين، وتخلو سبل الباطل على دعاتها من الشياطين.
أركان الدعوة:
1- الداعي، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
2- والمدعو، وهم جميع الناس.
3- والمدعو إليه، وهو سبيل الرب جل جلاله. والدعوة إلى سبيله الموصل إليه دعوة إليه، فالمدعو إليه في الحقيقة هو الله تعالى.
4- والبيان عن الدعوة.
وتجيء الآيات القرآنية منها ما هو حديث وبيان عن الداعي، ومنها ما هو حديث وبيان عن المدعو إليه، ومنها ما هو حديث وبيان عن بيان الدعوة.
وتتضمن كل آية جاءت في واحد الذكر أوجه الإشارة للثلاثة الأخرى، وهذه الآية الكريمة
__________
(1) تحرفت في الأصل المطبوع إلى "وطورهم".[/rtl]
[rtl](1/319)[/rtl]
[rtl]جاءت في بيان كيفية الدعوة، وبماذا تؤدى؟ وكيف يدافع عنها؟ مع ذكر الداعي والمدعو إليه؛ فقال تعالى: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
(الحكمة) هي العلم الصحيح الثابت، المثمر للعمل المتقن المبني على ذلك العلم.
فالعقائد الحقة والحقائق العلمية الراسخة في النفس رسوخاً تظهر آثاره على الأقوال والأعمال- حكمة.
والأعمال المستقيمة، والكلمات الطيبة التي أثمرتها تلك العقائد- حكمة.
والأخلاق الكريمة كالحلم والأناة- وهي علم وعمل نفسي- حكمة.
والبيان عن هذا كله بالكلام الواضح الجامع- حكمة؛ تسمية للدال باسم المدلول.
إستدلال واستنتاج:
في سورة الإسراء ثمان عشرة آية، جمعت أصول الهداية، من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] . الى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] .
وقد جمعت تلك الآيات كل ما ذكرنا من العقائد الحقة، والحقائق العلمية، والأعمال المستقيمة والكلمات الطيبة، والأخلاق الكريمة.
وسمى الله ذلك كله حكمة فقال تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39] .
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من الشعر حكمة» (1) وذلك لأن من الشعر ما فيه بيان عن عقيدة حق، أو خلق كريم، أو عمل صالح، أو علم وتجربة: كشعر أمية بن أبي الصلت، الذي قال فيه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كاد أن يسلم» (2) .
وككلمة لبيد رضي الله عنه:* ألا كل شيء ما خلا الله باطل (3) * التي قال فيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
__________
(1) أخرجه من حديث أبي بن كعب البخاري في الأدب باب 90، وأبو داود في الأدب باب 87، وابن ماجة في الأدب باب 41 حديث 3755، وأحمد في المسند (6/ 453 و5/ 125) . وأخرجه من حديث ابن عباس الترمذي في الأدب باب 69 حديث 2845، وابن ماجة في الأدب باب 41 حديث 3756. وأخرجه من حديث عبد الله بن مسعود الترمذي في الأدب باب 69 حديث 2844.
(2) رواه في حديث أبي هريرة البخاري في الأدب باب. 9. ومسلم في الشعر حديث 1 و3 و4. وابن ماجة في الأدب باب 41. وأحمد في المسند (2/ 248، 391، 393، 470) . ولفظ الحديث- كما عند البخاري- «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل؛ وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم» .
(3) هذا صدر بيت للبيد بن ربيعة، وعجزه:
وكل نعبم لا محالة زائِلُ
وهو في ديوانه [ص:256] . وجواهر الأدب [ص:382] . وخزانة الأدب (2/ 255- 257) والدرر اللوامع على=[/rtl]
[rtl](1/320)[/rtl]
[rtl]«أصدق كلمة قالها الشاعر» (1) .
فالحكمة التي أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الناس إلى سبيل ربه بها، هي البيان الجامع الواضح للعقائد بأدلتها، والحقائق ببراهينها، والأخلاق الكريمة بمحاسنها، ومقابح أضدادها، والأعمال الصالحة: من أعمال القلب واللسان والجوارح بمنافعها ومضارّ خلافها.
وهكذا كان بيانه لهذه الأشياء كلها؛ بما صح من أحاديثه وجوامع كلمه، وهكذا هو بيان القرآن لها كلها، حيثما كانت من آياته. فآيات القرآن وأحاديثه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في بيان هذه الأشياء البيان المذكور- هما الحكمة التي كان يدعو إلى سبيل ربه بها.
وتلك الأشياء كلها هي أيضا حكمة وهي التي كان يعلمها كما في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من دل إلى الحكمة بالحكمة، ومعلم للحكمة بالحكمة.
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة إلى أسلوب الدعوة: وهو الحكمة، وتجلت هذه الحكمة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
فعلينا أن نلزمها جهدنا حيثما دعونا، ونقتدي باساليب القرآن والسنة في دعوتنا، فيما يحصل الفهم واليقين، والفقه في الدين والرغبة في العمل والدوام عليه.
وها نحن قد بلغ الحال بنا إلى ما بلغ إليه من الجهل بحقائق الدين، والجمود في فهمه، والإعراض عن العمل به، والفتور في العمل.
فحق على أهل الدعوة إلى الله- وخصوصاً المعلمين- أن يقاوموا ما بيَّنَّا من جهل وجمود وإعراض وفتور، بالتزام البيان للحقائق العلمية بأدلتها، والعقائد ببراهينها، والأخلاق بمحاسنها، والأعمال بمصالحها.
وقد وجد الأخذ بهذه الأساليب القرآنية- والحمد لله- وأخذ أثرها- بفضل الله- يظهر في
__________
همع الهوامع شرح جمع الجوامع في العلوم العربية (1/ 71 أو ديوان المعاني (1/ 118) وسمط اللآليء [ص:253] . وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (1/ 11) وشرح التصريح على التوضيح (1/ 29) وشرح شذور الذهب [ص:339] . وشرح شواهد المغني (1/ 150، 153، 154، 392) وشرح المفصل (2/ 78) والعقد الفريد (5/ 273) ولسان العرب (5/ 351- مادة رجز) والمقاصد النحوية (1/ 5، 7، 291) ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب (1/ 133) وهمع الهوامع (1/ 3) وأسرار العربية [ص:211] . وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (2/ 289) ورصف المباني في شرح حروف المعاني [ص:269] . وشرح عمدة الحافظ [ص:263] . وشرح قطر الندى [ص:248] . واللمع في العربية [ص:154] .
(1) راجع تخريجه في الحاشية (2) في الصفحة السابقة.[/rtl]
[rtl](1/321)[/rtl]
[rtl]الناس بقدر الأخذ بها، ويوشك أن تتجدد بذلك في المسلمين حياة إن شاء الله (1) .
الموعظة الحسنة:
الوعظ والموعظة، الكلام الملين للقلب، بما فيه من ترغيب وترهيب فيحمل السامع- إذا اتعظ وقبل الوعظ، وأثر فيه- على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقد يطلق على نفس الأمر والنهي.
الإستدلال:
ففي حديث العرباض (2) الذي رواه الترمذي وغيره:
"وعظنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- موعظة وجلت (3) منها القلوب، وذرفت (4) منها العيون" (5) فقد خطب فيهم خطبة كان لها هذا الأثر في قلوبهم، فهذه حقيقة الموعظة.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء: 66] . أي يؤمرون به. وقال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] . أي ينهاكم.
فهذا من إطلاق الوعظ على الأمر والنهي؛ لأن شأن الأمر والنهي أن يقترن بما يحمل على امتثاله من الترغيب والترهيب.
بماذا تكون الموعظة:
يكون الوعظ بذكر أيام الله في الأمم الخالية، وباليوم الآخر، وما يتقدمه، وما يكون فيه من مواقف الخلق وعواقبهم، ومصيرهم إلى الجنة أو النار، وما في الجنة من نعيم، وما في النار عن عذاب أليم، وبوعد الله ووعيده، وهذه أكثر ما يكون بها الوعظ.
ويكون بغيرها كتذكير الإنسان بأحوال نفسه، ليعامل غيره بما يحب أن يعامل به، وهو من أدق فنون الوعظ وأبلغها، مثل قوله تعالى وقد نهى أن يقال لمن ألقى السلام لست مؤمنا- {كَذَلِكَ
__________
(1) يشير الإمام إلى دعوة جمعية العلماء المسلمين التي أنشأها وقامت بواجب الدعوة إلى الله، وكان ابن باديس رئيسها حتى لحق بربه سنة 1940 م. (حاشية المطبوع: [ص:536] ) .
(2) هو أبو نجيح وأبو الحارث العرباض بن سارية السلمي الفزاري القرشي المتوفى بعد السبعين للهجرة. صحابي جليل من أهل الصفة. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (7/ 174) وتقريب التهذيب (17/2) وتاريخ البخاري الكبر (7/ 85) والجرح والتعدبل (7/ 39) والثقات (3/ 321) وأسد الغابة (4/ 19) وتجريد أسماء الصحابة (1/ 378) والإصابة (4/ 482) والاستيعاب (1238) وسيرة أعلام النبلاء (3/ 419) وحلية الأولياء (3/ 12) وطبقات ابن سعد (2/ 165، 4/ 271) .
(3) وجلت: خافت وفزعت (المعجم الوسيط: [ص:1014] ) .
(4) ذرف الدمع ذَرَفاً: سال (المعجم الوسيط: [ص:311] ) .
(5) رواه الترمذي في العلم باب 16. وأبو داود في السنَة باب 5. وابن ماجة في المقدمة باب 6. والدارمي في المقدمة باب 16. وأحمد في المسند (4/ 126، 127) .[/rtl]
[rtl](1/322)[/rtl]
[rtl]كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] . وقوله تعالى- وقد أمر بالعفو والصفح- {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] .
تفريق بالتمثيل:
يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] . هذه حكمة. ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] . هذه موعظة.
ويقول تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] . هذه أيضاً موعظة. {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل: 94] . هذه حكمة، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94] ، هذه موعظة.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30] . هذه حكمة. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . هذه موعظة؟
وهكذا تمتزج المواعظ الحسنة بالحكم البالغة في آيات القرآن العظيم، فتتبعها في جميع سوره تجدها، وتدبرها تقع منها على علوم جمة، وأسرار غزيرة.
حسن الموعظة:
الموعظة التي تحصل المقصود منها: من ترقيق للقلوب، للحمل على الامتثال لما فيه خير الدنيا والآخرة هي الموعظة الحسنة.
وإنما يحصل المقصود منها إذا حسن لفظها؛ بوضوح دلالته على معناها، وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فعذبت في الأسماع، واستقرت في القلوب، وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية، فأثارت الرغبة والرهبة، وبعثت الرجاء والخوف، بلا تقنيط من رحمة الله، ولا تأمين من مكره، وانبعثت عن إيمان ويقين، ونادت بحماس وتأثر، فتلقتها النفس من النفس، وتلقفها القلب من القلب، إلاّ نفساً أحاطت بها الظلمة، وقلباً عَمَى عليه الران (1) .
عافى الله قلوب المؤمنين.
تطبيق واستدلال:
كل هذا تجده في مواعظ القرآن، وفيما صح من مواعظ النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وكان- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما جاء في الصحيح: «إذا خطب، وذكر الساعة اشتد غضبه
__________
(1) الران: الغطاء والحجاب الكثيف؛ والصدأ يعلو الشيء الجلي كالسيف والمرآة ونحوهما؛ والدنس؛ وما غطّى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب (المعجم الوسيط: [ص:386] ) .[/rtl]
[rtl](1/323)[/rtl]
[rtl]وعلا صوته، واحمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، كأنه منذر جيش يقول صبحكم، ومساكم، وكان يقصر خطبه في بلاغة وإيجاز» (1) .
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها إلى أن من الموعظة ما هو حسن، وهو الذي تكون به الدعوة، ومنها ما هو ليس بحسن فيتجنب.
وبينت مواعظ القرآن، ومواعظ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك الحسن.
فعلينا أن نلتزمه؛ لأنه هو الذي تبلغ به الموعظة غايتها، وتثمر بإذن الله ثمرتها.
وعلينا أن نجتنب كل ما خالفه مما يعدم ثمرة الموعظة كتعقيد ألفاظها؛ أو يقلبها إلى ضد المقصود منها، كذكر الأثار الواهية التي فيها أعظم الجزاء على أقل الأعمال.
تحذير:
أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة، مسجعة طويلة، من مخلفات الماضي، لا يراعى فيها شيء من أحوال الحاضر وأمراض السامعين، تلقى بترنم وتلحين، أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيراً ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات.
هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعاثر الإسلامية، سد بها أهلها باباً عظيماً من الخير فتحه الإسلام، وعطلوا بها الوعظ والإرشاد وهو ركن عظيم من أركان الإسلام.
فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيباً في الناس.
وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون.
ورحم الله أبا الحسن- كرم الله وجهه- فقد قال: "الفقيه كل الفقيه كل الفقيه، من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكره، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه".
الجدال بالتي هي أحسن:
لا بد أن يجد داعية الحق معارضة من دعاة الباطل، وأن يلقى منهم مشاغبة بالتشبهات، واستطالة بالأذى والسفاهة؛ فيضطر إلى رد باطلهم وإبطال شغبهم، ودحض شبههم، وهذا هو جدالهم ومدافعتهم الذي أمر به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وَجَادِلْهُمْ ... } (2) .
__________
(1) لفظ الحديث بتمامه كما رواه مسلم في الجمعة حديث رقم 43: عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمّرت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبّحكم ومسّاكم» ، ويقول: «بُعثت أنا والساعة كهاتين» ويقرن بين أصبعيه السبَّابة والوسطى؛ ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهُدى هُدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» . ثم يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ ومن ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ» . ورواه أيضاً النسائي في العيدين باب 22، وابن ماجة في المقدمة باب 7.
(2) الآية 125 من سورة النحل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .[/rtl]
[rtl](1/324)[/rtl]
[rtl]ولما كان أهل الباطل لا يجدون في تأييد باطلهم إلاّ الكلمات الباطلة يموهون بها، والكلمات البذيئة القبيحة يتخذون سلاحاً منها، ولا يسلكون في مجادلتهم إلاّ الطرق الملتوية المتناقضة، فيتعسفون فيها ويهربون إليها؛ لما كان هذا شأنهم، أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
أن يجتنب كلماتهم الباطلة والقبيحة، وطرائقهم المتناقضة والملتوية.
وأن يلتزم في جدالهم كلمة الحق والكلمات الطيبة البريئة.
وأن يسلك في مدافعتهم طريق الرفق والرجاحة والوقار، دون فحش ولا طيش ولا فظاظة.
وهذه الطريقة في الجدال هي التي هي أحسن من غيرها، في لفظها ومعناها، ومظهرها وتأثيرها، وإفضائها للمقصود من إفحام المبطل وجلبه، ورد شره عن الناس، وإطلاعهم على نقصه، وسوء قصده.
وهذه هي الطريقة التي أمر الله نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالجدال بها في قوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
إهتداء واقتداء:
هدتنا الآية الكريمة إلى الطريقة المحمودة المشروعة في الجدال.
وفي آيات القرآن بيان لهذه الطريقة البيان التام، فإنه كما لم يترك القرآن عقيدة من عقائد الإسلام إلاّ بينها وأوضح دليلها، ولا أصلاً من أصول أحكامه أو أصول آدابه إلاّ بينه واحتج له وذكر حكمته وثمرته، كذلك لم يترك شبهة من شبه الباطل إلاّ ردها بالطريقة الحسنة التي أمر بها. وجاءت السنة النبوية الكريمة، والسيرة المحمدية الشريفة، مطبقة لذلك ومنفذة له.
فالكتاب والسنة، فيهما البيان الكافي الشافي للجدال بالتي هى أحسن، كما فيهما البيان الشافي الكافي للحكمة والموعظة الحسنة.
فعلينا أن نطلب هذا كله من الكتاب والسنة، ونجهد في تتبعه وأخذه واستنباطه منهما، وندأب على العمل بما نجده، والتحلي به، والإلتزام له، من هذه الأصول الثلاثة في الدعوة والدفاع عنها.
أحكام وتنزيل:
أمر الله بالدعوة وبالجدال على الوجه المذكور، فكلاهما واجب على المسلمين أن يقوموا به.
فكما يجب لسبيل الرب جل جلاله، أن تعرف بالبيان بالحكمة، وأن تحب بالترغيب بالموعظة الحسنة؛ كذلك يجب أن يدافع من يصدون عنها بالتي هي أحسن، إذ لا قيام لشيء من الحق إلاّ بهذه الثلاث.
غير أن الدعوة بوجهيها والجدال ليستا في منزلة واحدة في القصد والدوام: فإن المقصود بالذات هو الدعوة، وأما الجدال فإنه غير مقصود بالذات، وإنما يجب عند وجود المعارض بالشبهة،[/rtl]
[rtl](1/325)[/rtl]
[rtl]والصادّ بالباطل عن سبيل الله؛ فالدعوة بوجهيها أصل قائم دائم، والجدال يكون عند وجود ما يقتضيه، ولهذا كانت الدعوة بوجهيها محمودة على كل حال، وكان الجدال مذموماً في بعض الأحوال؛ وذلك فيما إذا استعمل عند عدم الحاجة إليه، فيكون حينئذ شاغلًا عن الدعوة ومؤديًا (1) - في الأكثر- إلى الفساد والفتنة.
فإذا كان جدالًا لمجرد الغلبة والظهور، فهو شر كله. وأشد شراً منه إذا كان لمدافعة الحق بالباطل.
وفي هذه الأقسام الممنوعة جاء مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] ، {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] . وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلاّ أوتوا الجدل» (2) ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] .
تحذير:
المدافعة والمغالبة من فطرة الإنسان، ولهذا كان الإنسان أكثر شيء جدلاً. غير أن التربية الدينية هي التي تضبط خلقه، وتقوم فطرته، فتجعل جداله بالحق عن الحق.
فلنحذر من أن يطغى علينا خلق المدافعة والمغالبة، فنذهب في الجدل شر مذاهبه، وتصير الخصومة لنا خلقاً، ومن صارت الخصومة له خلقاً أصبح يندفع معها في كل شيء، ولأدنى شيء، ولا يبالي بحق ولا باطل، وإنما يريد الغلب بأي وجه كان، وهذا هو الذي قال فيه النبي صلى اله عليه وآله وسلم:
«إن أبغض الرجال إلى الله الألذ الخصم» (3) .
ومن ضبط نفسه وراقب ربه، لا يجادل إذا جادل إلاّ عن الحق وبالتي هي أحسن.
علينا الدعوة والجدال، وإلى الله الهدى والضلال، والمجازاة على الأعمال:
الدعوة بوجهيها يجب أن تكون عامة، والجدال على وجهه عام مثلها.
ثم يكون حظ كل أحد من الهدى والضلال على حسب استعداده وقابليته، وما سبق عليه
__________
(1) تحرّفت في الأصل المطبوع إلى "ومؤيداً" بتقديم الياء على الدال.
(2) رواه من حديث أبي أمامة الباهلي الترمذي في تفسير سورة 43، وابن ماجة في المقدمة باب 7، وأحمد في المسند (5/ 52، 256)
(3) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها البخاري في تفسير سورة البقرة باب 37، والمظالم باب 15، والأحكام باب 34، ومسلم في العلم حديث 5. والترمذي في تفسير سورة البقرة باب 23. والنسائي في القضاة باب 34. وأحمد في المسند (6/ 55، 63، 205) . والأّلَدُّ: شديد الخصومة؛ مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتجّ عليه بحجة أخذ في جانب آخر. والخَصِم: الحاذق بالخصومة؛ والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حقّ أو إثبات باطل.[/rtl]
[rtl](1/326)[/rtl]
من أمر ربه، وتكون مجازاته على ذلك للخالق، الذي هو العالم بمن خرج عن طريقه وأعرض عن هداه، وبالذين قبلوا هداه فاهتدوا وساروا في سبيله.
والعدل الحقيقي التام في الجزاء، إنما يكون ممن يعلم السر والعلن، وليس ذلك إلاّ لله، فلا يكون الجزاء على الهدى والضلال من سواه؛ ولهذا ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
ثمرة:
ثمرة العلم بهذا:
أن الداعي يدعو ولا ينقطع عن الدعوة ولو لم يتبعه أحد، لأنه يعلم أن أمر الهدى والضلال إلى الله، وإنما عليه البلاغ. وأنه يصبر على ما يلقى من إعراض وعناد وكيد وأذى، دون أن يجازي بالمثل، أو يفتر في دعوته من أذاه؛ لعلمه بأن الذي يجازي إنما هو الله.
جعلنا الله والمسلمين من الدعاة إلى سبيله كما أمر، الصابرين المحتسبين أمام من آمن وشكر، ومن جحد وكفر؛ غير منتظرين إلاّ جزاءه، ولا متكلين إِلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
***
الموضوع الأصلي : تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» الخبير الاقتصادي " مبتول" يِؤكد ضرورة بناء جزائر ما بعد المحروقات
» تنظيف موكيت سجاد فرشات مجالس | خصم 50% | اتصل الان
» شركة تنظيف مجالس بالخرج بخصم 30%|دليل شركات التنظيف
» شركة تنظيف مجالس-كنب-موكيت-سجاد-فرشات خصم50% | اتصل الان
» افضل شركة تنظيف مجالس بالمدينة المنورة بخصم 20% | الفتح كلين سيرفيس
» تنظيف موكيت سجاد فرشات مجالس | خصم 50% | اتصل الان
» شركة تنظيف مجالس بالخرج بخصم 30%|دليل شركات التنظيف
» شركة تنظيف مجالس-كنب-موكيت-سجاد-فرشات خصم50% | اتصل الان
» افضل شركة تنظيف مجالس بالمدينة المنورة بخصم 20% | الفتح كلين سيرفيس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: تفسير ابن باديس..مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى