الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة المرسلات
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة المرسلات
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ( 20 ) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ( 21 ) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 22 ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( 23 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 24 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا ( 25 ) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( 26 ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ( 27 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 28 )
ثم قال ممتنا على خلقه ومحتجا على الإعادة بالبَدَاءة: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ
؟ أي: ضعيف حقير بالنسبة إلى قُدرَة البارئ عز وجل، كما تقدم في سورة "يس"
في حديث بُسْر بن جِحَاش: "ابنَ آدم، أنَّى تُعجزُني وقد خلقتك من مثل
هذه؟" .
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ يعني: جمعناه في الرّحِم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرحم معد لذلك، حافظ لما أودع فيه من الماء.
وقوله: إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يعنى: إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر؛ ولهذا قال: فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .
ثم قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا
* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال ابن عباس: ( كِفَاتًا ) كنَّا. وقال
مجاهد: يُكَفتُ الميت فلا يُرَى منه شيء. وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم،
وظهرها لأحيائكم. وكذا قال مجاهد وقتادة.
( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) يعني: الجبال، أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب.
( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) عذبا زُلالا من السحاب، أو مما أنبعه الله من عيون الأرض.
( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) أي: ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 29 ) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ( 30 ) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ( 31 ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( 32 ) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ( 33 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 34 ) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ( 35 ) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( 36 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 37 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ( 38 ) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 40 )
يقول تعالى مخاطبا للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار، أنهم
يقال لهم يوم القيامة: ( انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) يعني: لَهَبَ
النار إذا ارتفع وصَعِدَ معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب، ( لا
ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ) أي: ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل
هو في نفسه، ولا يغني من اللهب، يعني: ولا يقيهم حر اللهب.
وقوله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) أي: يتطاير الشرر من لهبها كالقصر. قال ابن مسعود: كالحصون. وقال ابن عباس وقتادة، ومجاهد، ومالك عن زيد بن أسلم، وغيرهم: يعني أصول الشجر.
( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) أي: كالإبل السود. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك. واختاره ابن جرير.
وعن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) يعني: حبال السفن. وعنه - أعني ابن عباس-: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قطع نحاس .
وقال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، أخبرنا سفيان، عن عبد
الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) قال: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك، فنرفعه
للشتاء، فنسميه القَصَرَ، ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) حبال السفن، تجمع
حتى تكون كأوساط الرجال ، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
ثم قال تعالى: ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) أي: لا يتكلمون.
( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) أي: لا يقدرون على الكلام،
ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا، بل قد قامت عليهم الحجة، ووقع القولُ عليهم بما
ظلموا فهم لا ينطقون. وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه
الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ.
ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
وقوله: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ * فَإِنْ
كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) وهذه مخاطبة من الخالق لعباده يقول لهم: (
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ) يعني: أنه جمعهم
بقدرته في صعيد واحد، يُسمعُهم الداعي ويَنفُذهُم البصر.
وقوله: ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) تهديد شديد ووعيد
أكيد، أي: إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتَنجُوا من حكمي فافعلوا،
فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا
بِسُلْطَانٍ [الرحمن : 33] ، وقال تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا [هود : 57] وفي الحديث: "يا عبادي، إنكم لن تَبلُغوا نَفْعِي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني".
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا حُصيَن بن عبد الرحمن، عن
حسان بن أبي المخارق، عن أبي عبد الله الجَدَلي قال: أتيت بيت المقدس،
فإذا عُبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب الأحبار يتحدثون في بيت
المقدس، فقال عبادة: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين بصعيد
واحد، ينفذهم البصر ويُسمعهم الداعي، ويقول الله: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ
جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ )
اليوم لا ينجو مني جبار عنيد، ولا شيطان مريد. فقال عبد الله بن عمرو
: فإنا نحدث يومئذ أنه يخرج عُنُق من النار فتنطلق حتى إذا كانت بين
ظهراني الناس نادت: أيها الناس، إني بُعثتُ إلى ثَلاثَة أنا أعرف بهم من
الأب بولده ومن الأخ بأخيه، لا يُغَيّبهم عني وَزَر، ولا تُخفِيهم عني
خافية: الذي جعل مع الله إلها آخر، وكلّ جبار عنيد، وكلّ شيطان مريد. فتطوي
عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ( 41 ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 42 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 44 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 45 ) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ( 46 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 47 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ( 48 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 49 ) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 50 )
يقول تعالى مخبرًا عن عباده المتقين
الذين عبدوه بأداء الواجبات، وترك المحرمات: إنهم يوم القيامة يكونون في
جنات وعيون، أي: بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه، من ظل اليحموم، وهو الدخان
الأسود المنتن.
( وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) أي: من سائر أنواع الثمار، مهما
طلبوا وجدوا . ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )
أي: يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم.
ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا: ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ ) أي: هذا حزاؤنا لمن أحسن العمل، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
وقوله: ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) خطاب
للمكذبين بيوم الدين، وأمَرَهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى: ( كُلُوا
وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا ) أي: مدة قليلة قريبة قصيرة، ( إِنَّكُمْ
مُجْرِمُونَ ) أي: ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، ( وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان : 24] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس : 69 ، 70]
وقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) أي: إذا أمر
هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة، امتنعوا من ذلك
واستكبروا عنه؛ ولهذا قال: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
ثم قال: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ؟ أي: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، فبأي كلام يؤمنون به؟! كقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية : 6] .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية:
سمعت رجلا أعرابيا بَدَويا يقول: سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا فقرأ: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ؟ فليقل: آمنت بالله وبما أنـزل.
وقد تقدم هذا الحديث في سورة "القيامة" .
آخر تفسير سورة "والمرسلات" [ولله الحمد والمنة]
ثم قال ممتنا على خلقه ومحتجا على الإعادة بالبَدَاءة: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ
؟ أي: ضعيف حقير بالنسبة إلى قُدرَة البارئ عز وجل، كما تقدم في سورة "يس"
في حديث بُسْر بن جِحَاش: "ابنَ آدم، أنَّى تُعجزُني وقد خلقتك من مثل
هذه؟" .
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ يعني: جمعناه في الرّحِم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرحم معد لذلك، حافظ لما أودع فيه من الماء.
وقوله: إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يعنى: إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر؛ ولهذا قال: فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .
ثم قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا
* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال ابن عباس: ( كِفَاتًا ) كنَّا. وقال
مجاهد: يُكَفتُ الميت فلا يُرَى منه شيء. وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم،
وظهرها لأحيائكم. وكذا قال مجاهد وقتادة.
( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) يعني: الجبال، أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب.
( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) عذبا زُلالا من السحاب، أو مما أنبعه الله من عيون الأرض.
( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) أي: ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 29 ) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ( 30 ) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ( 31 ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( 32 ) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ( 33 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 34 ) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ( 35 ) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( 36 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 37 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ( 38 ) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 40 )
يقول تعالى مخاطبا للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار، أنهم
يقال لهم يوم القيامة: ( انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) يعني: لَهَبَ
النار إذا ارتفع وصَعِدَ معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب، ( لا
ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ) أي: ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل
هو في نفسه، ولا يغني من اللهب، يعني: ولا يقيهم حر اللهب.
وقوله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) أي: يتطاير الشرر من لهبها كالقصر. قال ابن مسعود: كالحصون. وقال ابن عباس وقتادة، ومجاهد، ومالك عن زيد بن أسلم، وغيرهم: يعني أصول الشجر.
( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) أي: كالإبل السود. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك. واختاره ابن جرير.
وعن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) يعني: حبال السفن. وعنه - أعني ابن عباس-: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قطع نحاس .
وقال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، أخبرنا سفيان، عن عبد
الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) قال: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك، فنرفعه
للشتاء، فنسميه القَصَرَ، ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) حبال السفن، تجمع
حتى تكون كأوساط الرجال ، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
ثم قال تعالى: ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) أي: لا يتكلمون.
( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) أي: لا يقدرون على الكلام،
ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا، بل قد قامت عليهم الحجة، ووقع القولُ عليهم بما
ظلموا فهم لا ينطقون. وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه
الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ.
ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
وقوله: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ * فَإِنْ
كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) وهذه مخاطبة من الخالق لعباده يقول لهم: (
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ) يعني: أنه جمعهم
بقدرته في صعيد واحد، يُسمعُهم الداعي ويَنفُذهُم البصر.
وقوله: ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) تهديد شديد ووعيد
أكيد، أي: إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتَنجُوا من حكمي فافعلوا،
فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا
بِسُلْطَانٍ [الرحمن : 33] ، وقال تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا [هود : 57] وفي الحديث: "يا عبادي، إنكم لن تَبلُغوا نَفْعِي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني".
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا حُصيَن بن عبد الرحمن، عن
حسان بن أبي المخارق، عن أبي عبد الله الجَدَلي قال: أتيت بيت المقدس،
فإذا عُبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب الأحبار يتحدثون في بيت
المقدس، فقال عبادة: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين بصعيد
واحد، ينفذهم البصر ويُسمعهم الداعي، ويقول الله: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ
جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ )
اليوم لا ينجو مني جبار عنيد، ولا شيطان مريد. فقال عبد الله بن عمرو
: فإنا نحدث يومئذ أنه يخرج عُنُق من النار فتنطلق حتى إذا كانت بين
ظهراني الناس نادت: أيها الناس، إني بُعثتُ إلى ثَلاثَة أنا أعرف بهم من
الأب بولده ومن الأخ بأخيه، لا يُغَيّبهم عني وَزَر، ولا تُخفِيهم عني
خافية: الذي جعل مع الله إلها آخر، وكلّ جبار عنيد، وكلّ شيطان مريد. فتطوي
عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ( 41 ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 42 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 44 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 45 ) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ( 46 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 47 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ( 48 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 49 ) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 50 )
يقول تعالى مخبرًا عن عباده المتقين
الذين عبدوه بأداء الواجبات، وترك المحرمات: إنهم يوم القيامة يكونون في
جنات وعيون، أي: بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه، من ظل اليحموم، وهو الدخان
الأسود المنتن.
( وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) أي: من سائر أنواع الثمار، مهما
طلبوا وجدوا . ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )
أي: يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم.
ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا: ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ ) أي: هذا حزاؤنا لمن أحسن العمل، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
وقوله: ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) خطاب
للمكذبين بيوم الدين، وأمَرَهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى: ( كُلُوا
وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا ) أي: مدة قليلة قريبة قصيرة، ( إِنَّكُمْ
مُجْرِمُونَ ) أي: ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، ( وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان : 24] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس : 69 ، 70]
وقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) أي: إذا أمر
هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة، امتنعوا من ذلك
واستكبروا عنه؛ ولهذا قال: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
ثم قال: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ؟ أي: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، فبأي كلام يؤمنون به؟! كقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية : 6] .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية:
سمعت رجلا أعرابيا بَدَويا يقول: سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا فقرأ: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ؟ فليقل: آمنت بالله وبما أنـزل.
وقد تقدم هذا الحديث في سورة "القيامة" .
آخر تفسير سورة "والمرسلات" [ولله الحمد والمنة]
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة المرسلات
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة المرسلات
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة المرسلات
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة المطففين
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة البينة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة القيامة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة التحريم
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة البينة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة القيامة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة التحريم
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى