الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة النساء
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة النساء
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ
اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ
إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا
(171)
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم
تجاوزوا حد التصديق بعيسى، حتى رفعوه فوق المنـزلة التي أعطاه الله إياها،
فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما
يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه، ممن زعم أنه على دينه، فادَّعوْا
فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقًا أو باطلا أو ضلالا أو
رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا؛ ولهذا قال تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
[التوبة: 31].
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم قال: زعم الزُّهْرِي، عن عبيد الله بن
عبد الله بن عُتْبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن عمر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا
عبد الله ورسوله".
ثم رواه هو وعلي بن المديني، عن سفيان بن عُيَيْنة، عن الزُّهري كذلك. وقال علي بن المديني: هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري، عن الحُميدي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، به. ولفظه: "فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حمَّاد بن سَلَمَة، عن
ثابت البُناني، عن أنس بن مالك: أن رجلا قال: محمد يا سيدنا وابن سيدنا،
وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس،
عليكم بقولكم، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ، أنا محمدُ بنُ عبد الله،
عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منـزلتي التي أنـزلني
اللَّهُ عز وجل". تفرد به من هذا الوجه .
وقوله: ( وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) أي: لا تفتروا
عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وتنـزه وتقدس
وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته -فلا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا قال:
( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) أي: إنما هو عبد
من عباد الله وخَلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله، وكلمته
ألقاها إلى مريم، أي: خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل، عليه السلام،
إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه، عز وجل، فكان عيسى بإذن الله، عز
وجل، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جَيْب درعها، < 2-478 >
فنـزلت حتى وَلَجت فرجها بمنـزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله، عز وجل؛ ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه؛ لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها: كن، فكان. والروح التي أرسل بها جبريل، قال الله تعالى:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ
[المائدة: 75]. وقال تعالى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[آل عمران: 59]. وقال تعالى:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ
[الأنبياء: 91] وقال تعالى:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [فَنَفَخْنَا
فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ]
[التحريم: 12]. وقال تعالى إخبارا عن المسيح:
إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ]
[الزخرف: 59].
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) هو كقوله:
كُنْ
[آل عمران: 59] فكان وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال:
سمعت شَاذَّ بن يحيى يقول: في قول الله: ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) قال: ليس الكلمةُ صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار
عيسى.
وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: ( أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) أي: أعلمها بها، كما زعمه في قوله:
إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
[آل عمران: 45] أي: يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كما قال تعالى:
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
[القصص: 86] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى، عليه السلام.
وقال البخاري: حدثنا صَدَقَةُ بن الفضل، حدثنا
الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عُمَيْر بن هانئ، حدثني جُنَادةُ بن أبي
أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله
ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنةَ حق، والنارَ حق، أدخله
الله الجنة على ما كان من العمل". قال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد
بن جابر، عن عُمير بن هانئ، عن جُنَادة زاد: "من أبواب الجنة الثمانية من
أيها شاء".
وكذا رواه مسلم، عن داود بن رُشَيد، عن الوليد، عن ابن جابر، به ومن وجه آخر، عن الأوزاعي، به .
فقوله في الآية والحديث: ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) كقوله
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ
< 2-479 >
[الجاثية : 13]أي: مِنْ خَلْقه ومن عنده، وليست "مِنْ" للتبعيض، كما تقوله
النصارى -عليهم لعائن الله المتتابعة-بل هي لابتداء الغاية، كما في الآية
الأخرى.
وقد قال مجاهد في قوله: ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) أي: ورسول منه. وقال غيره.
ومحبة منه. والأظهر الأول أنَّه مخلوق من روح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى
الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله، في قوله:
هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ
[هود: 64]. وفي قوله:
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
[الحج: 26]، وكما ورد في الحديث الصحيح: "فأدخل على رَبِّي في داره"
أضافها إليه إضافة تشريف لها، وهذا كله من قبيل واحد ونمَط واحد.
وقوله: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أي: فصدقوا بأن الله واحد
أحد، لا صاحبة له ولا ولد، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله؛
ولهذا قال: ( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ) أي: لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله
شريكين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهذه الآية والتي تأتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ
[المائدة: 73]. وكما قال في آخر السورة المذكورة:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ
سُبْحَانَكَ]
الآية [المائدة: 116]، وقال في أولها:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
الآية [المائدة: 17]، فالنصارى -عليهم لعنة الله-من جهلهم ليس لهم ضابط،
ولا لكفرهم حد، بل أقوالهم وضلالهم منتشر، فمنهم من يعتقده إلهًا، ومنهم من
يعتقده شريكا، ومنهم من يعتقده ولدًا. وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة،
وأقوال غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من
النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا. ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير، وهو
سعيد بن بَطْرِيق -بتْرَكُ الإسكندرية-في حدود سنة أربعمائة من الهجرة
النبوية، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي
لهم، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة
المشهورة، وأنهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط ولا ينحصر، فكانوا أزيد
من ألفين أَسْقُفًا، فكانوا أحزابًا كثيرة، كل خمسين منهم على مقالة،
وعشرون على مقالة، ومائة على مقالة، وسبعون على مقالة، وأزيد من ذلك وأنقص.
فلما رأى عصابة منهم قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرًا، وقد
توافقوا على مقالة، فأخذها الملك ونصرها وأيدها -وكان فيلسوفًا ذا هيئة -ومَحَقَ ما عداها من الأقوال، وانتظم دَسْتُ أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر، وبنيت لهم الكنائس، ووضعوا لهم كتبًا وقوانين، وأحدثوا الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار
-ليعتقدوها-ويُعَمّدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم الملكية. ثم إنهم اجتمعوا
مجمعا ثانيًا فحدث فيهم اليعقوبية، ثم مجمعًا ثالثًا فحدث فيهم النسطورية.
وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك
وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم! هل اتحدا، أو ما اتحدا، بل امتزجا أو
حل فيه؟ على ثلاث مقالات، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى، ونحن نكفر الثلاثة؛
ولهذا قال تعالى: ( انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ) أي: يكن خيرا لكم (
إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ )
أي: تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) < 2-480 >
أي: الجميع ملكه وخلقه، وجميع ما فيها عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو
وكيل على كل شيء، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد؟ كما قال في الآية
الأخرى:
بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[الأنعام: 101]، وقال تعالى:
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا
*
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا
*
[تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا
*
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا
*
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
*
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا
*
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
*
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا]
[مريم: 88-95]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا
(172)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا
(173)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن
ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس قوله: ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ) لن يستكبر.
وقال قتادة: لن يحتشم ( الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة
على البشر بهذه الآية حيث قال: ( وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ )
وليس له في ذلك دلالة؛ لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح؛ لأن الاستنكاف
هو الامتناع، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح؛ فلهذا قال: ( وَلا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على
الامتناع أن يكونوا أفضل.
وقيل: إنما ذكروا؛ لأنهم اتّخذُوا آلهة مع الله، كما اتخذ المسيح،
فأخبر تعالى أنهم عبيد من عبيده وخَلْق من خلقه، كما قال الله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * [لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
*
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ]
الأنبياء: [26-29].
ثم
قال: ( وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) أي: فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل
بينهم بحكمه العدل، الذي لا يجور فيه ولا يَحِيف؛ ولهذا قال: ( فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) يعني: فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم
الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسَعَة رحمته وامتنانه.
وقد روى ابن مَرْدُوَيه من طريق بَقِيَّة، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي، عن الأعمش، عن سفيان عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) قال: < 2-481 >
أجورهم: أدخلهم الجنة". ( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) قال: "الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم".
وهذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفًا فهو جيد .
( وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا ) أي: امتنعوا من
طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك ( فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) كما
قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
[غافر: 60] أي: صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا
(174)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
(175)
يقول تعالى مخاطبًا جميع الناس ومخبرا
بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعُذْر، والحجة المزيلة
للشبهة؛ ولهذا قال: ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ) أي: ضياء
واضحا على الحق، قال ابن جُرَيج وغيره: وهو القرآن .
( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ) أي:
جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم. وقال ابن جريج:
آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن . رواه ابن جرير.
( فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ) أي: يرحمهم
فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم، من فضله عليهم
وإحسانه إليهم، ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي:
طريقا واضحا قَصْدا قَوَاما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. وهذه صفة المؤمنين
في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في
جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى
روضات الجنات . وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القرآن صراطُ اللهِ المستقيمُ
وحبلُ الله المتين " . وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد
والمنة .
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة النساء
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة النساء
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة النساء
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة النساء
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثالث والثلاثون والأخير من تفسير سورة النساء
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني والثلاثون من تفسير سورة البقرة
» الجزء الثاني من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى