الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً
وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
(102)
صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون
في غير صَوْبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة ثلاثية كالمغرب، وتارة
ثنائية، كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم الحرب فلا
يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ورجالا
وركبانا، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن
الصلاة.
ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة؛ لحديث ابن عباس
المتقدم، وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في الحواشي: وبه قال عطاء،
وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد. وإليه ذهب طاوس والضحاك.
وقد حكى أبو عاصم العَبَّادي عن محمد بن نصر المروزي؛ أنه يرى رَدَّ الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضًا.
وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة، تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله.
وقال آخرون: تكفي تكبيرة واحدة. فلعله أراد ركعة واحدة، كما قاله أحمد
بن حنبل وأصحابه، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة
واحدة، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن
بُخْت المكي، حتى قال: فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه، يعني بالنية، رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عَيَّاش، عن شعيب بن دينار، عنه، فالله أعلم.
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخر
النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة العصر، قيل: والظهر، فصلاهما
بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء. وكما قال < 2-399 >
بعدها -يوم بني قريظة، حين جهز إليهم الجيش -: "لا يصلينّ أحدٌ منكم العصر
إلا في بني قريظة"، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون:
لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيلَ المسير، ولم يرد منا
تأخير الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق. وأخَّر آخرون منهم
العصر، فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يُعَنِّف رسول الله صلى الله
عليه وسلم أحدا من الفريقين
وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة، وبَيَّنا أن الذين صلوا العصر لوقتها
أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا، والحجة
هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين
للعهد
من الطائفة الملعونة اليهود. وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة
الخوف، فإنها لم تكن نـزلت بعد، فلما نـزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا
بين في حديث أبي سعيد الخدري، الذي رواه الشافعي وأهل السنن، ولكن يشكل على
هذا ما حكاه البخاري رحمه الله، في صحيحه، حيث قال:
"باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو": قال الأوزاعي: إن كان
تَهَيَّأ الفتحُ ولم يقدروا على الصلاة، صَلُّوا إيماء، كل امرئ لنفسه، فإن
لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا
ركعتين. فإن لم يقدروا صَلُّوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزئهم
التكبير، ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك: حضرت
مناهضة
حصن تُسْتر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة،
فلم نُصَلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، فَفُتح
لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها.
انتهى ما ذكره، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث
أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وكأنه كالمختار لذلك، والله
أعلم.
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه أنكر عليهم، ولا أحد من الصحابة، والله أعلم.
[و]
قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق؛ لأن ذات الرِّقَاع كانت
قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي. وممن نص على ذلك محمد بن
إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقدي، ومحمد بن سعد كاتبه، وخليفة بن خَيَّاط
وغيرهم وقال البخاري وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق، لحديث أبي موسى وما قَدم إلا في خيبر، والله أعلم. والعجب -كل العجب - < 2-400 >
أن المُزْني، وأبا يوسف القاضي، وإبراهيم بن إسماعيل ابن عُلَيَّة ذهبوا
إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره، عليه السلام، الصلاة يوم الخندق. وهذا
غريب جدًّا، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف، وحمل تأخير الصلاة
يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب، والله أعلم.
فقوله تعالى: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ )
أي: إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف، وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك
قصرها إلى ركعة، كما دل عليه الحديث، فرادى ورجالا وركبانا، مستقبلي القبلة
وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد. وما أحسن ما
استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال
كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك، وأما من استدل بهذه
الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ ) فبعده تفوت هذه الصفة، فإنه استدلال ضعيف،
ويُرَدُّ عليه مثل قول مانعي الزكاة، الذين احتجوا بقوله:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ
[التوبة: 103] قالوا: فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيدينا
على من نراه، ولا ندفعها إلى من صلاته، أي: دعاؤه، سكن لنا، ومع هذا ردَّ
عليهم الصحابة وأبَوْا عليهم هذا الاستدلال، وأجبروهم على أداء الزكاة،
وقاتلوا من منعها منهم.
ولنذكر سبب نـزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها:
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الله بن هاشم، أنبأنا سيف
عن أبي رَوْق، عن أبي أيوب، عن علي، رضي الله عنه، قال: سأل قوم من بني
النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في
الأرض، فكيف نصلي؟ فأنـزل الله عز وجل:
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ
ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى
الظّهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم
عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها. قال: فأنـزل الله عز
وجل بين الصلاتين:
إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا
.( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) إلى قوله: ( أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
مُهِينًا) ] فنـزلت صلاة الخوف.
وهذا سياق غريب جدا ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزُّرَقي، واسمه زيد بن الصامت، رضي الله عنه، قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم
خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه
وسلم الظهر، فقالوا: لقد
كانوا على حال لو أصبنا غُرَّتَهم. ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب
إليهم من أبنائهم وأنفسهم. قال: فنـزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر
والعصر: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) قال:
فحضرت، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، [قال] فصفنا خلفه < 2-401 >
صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد النبي صلى
الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا
جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء
إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي
صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا
جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف. قال: فصلاها رسول الله صلى
الله عليه وسلم مرتين: مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم.
ثم رواه أحمد ، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن منصور، به نحوه. وهكذا رواه
أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد، والنسائي من حديث شعبة
وعبد العزيز بن عبد الصمد، كلهم عن منصور، به .
وهذا إسناد صحيح، وله شواهد كثيرة، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال:
حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح، حدثنا محمد بن حرب، عن الزُّبيدي، عن الزُّهري،
عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله
عليه وسلم وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد
وسجدوا معه، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا، وحرسوا إخوانهم، وأتت
الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم
بعضًا .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن
قتادة، عن سليمان اليَشْكُري: أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة:
أي يوم أنـزل؟ أو: أي يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقي عِيرَ قريش آتية من
الشام، حتى إذا كنا بنخل، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: يا محمد. قال: "نعم"، قال: هل تخافني؟ قال: "لا". قال: فما
يمنعك مني؟ قال: "الله يمنعني منك". قال: فَسلَّ السيف ثم تهدده وأوعده،
ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم. فصلى بالذين يلونه ركعتين،
ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون
فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه
وسلم أربع ركعات، والقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنـزل الله في إقصار الصلاة
وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيج
حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس اليَشْكُري، عن جابر بن
عبد الله قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خَصَفَة
فجاء رجل منهم يقال له: "غورث بن الحارث" حتى قام على رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله"، فسقط السيف من يده،
فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ومن يمنعك مني"؟ قال: كن خير
آخذ. قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قال: لا ولكني
أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى قومه فقال:
جئتكم من عند خير الناس. فلما حضرت الصلاة صلى < 2-402 >
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين: طائفة
بإزاء العدو، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى بالطائفة
الذين معه ركعتين، وانصرفوا، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم.
وانصرف الذين بإزاء عدوهم فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين،
فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين.
تفرد به من هذا الوجه .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنَان، حدثنا أبو قَطَن عمرو بن
الهيثم، حدثنا المسعودي، عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله عن
الركعتين في السفر: أقصرهما؟ قال: الركعتان في السفر تمام، إنما القصر
واحدة عند القتال، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذْ
أقيمت الصلاة، فقام رسول الله صلى فصف طائفة، وطائفة وجهها قِبَل العدو،
فصلَّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا
مقامهم ومكانهم نحو ذا، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
جلس وسلم، وسلم الذين خلفه، وسلم أولئك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ركعتين، وللقوم ركعة ركعة، ثم قرأ: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد
الفقير، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم
صلاة الخوف، فقام صفٌّ بين يديه، وصفٌّ خلفه، فصلى بالذي خلفه ركعة
وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا
مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم.
فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة.
ورواه النسائي من حديث شعبة، ولهذا الحديث طرق عن جابر وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمساند.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نُعَيْم بن حمَّاد، حدثنا عبد
الله بن المبارك، أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: (
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) قال: هي صلاة الخوف،
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى
مقبلة على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى
بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى، ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة
منهم فصلت ركعة ركعة. وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر،
به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، وقد أجاد الحافظ أبو بكر
بن مَرْدُويه في سرد طُرُقه وألفاظه، وكذا ابن جرير، ولنحرره في كتاب
"الأحكام الكبير" إن شاء الله، وبه الثقة.
< 2-403 >
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف، فمحمول عند طائفة من العلماء
على الوجوب لظاهر الآية، وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قوله: ( وَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ) أي: بحيث
تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة: ( إِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا )
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا
(103)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا
لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
(104)
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا
فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها،
ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك، مما ليس يوجد في غيرها، كما
قال تعالى في الأشهر الحرم:
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
[التوبة: 36]، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها
وعظمها؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ) أي في سائر أحوالكم.
ثم قال: ( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أي: فإذا
أمنتم وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة ( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أي: فأتموها
وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وسجودها وركوعها، وجميع شئونها.
وقوله: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا ) قال ابن عباس: أي مفروضا. وكذا روي عن مجاهد، وسالم بن عبد
الله، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، والحسن، ومقاتل، والسدي، وعطية
العوفي.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحج.
وقال زيد بن أسلم: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتَابًا مَوْقُوتًا ) قال: منجما، كلما مضى نجم، جاءتهم يعني: كلما مضى
وقت جاء وقت.
وقوله: ( وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ) أي: لا تضعفوا في
طلب عدوكم، بل جدوا فيهم وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد: ( إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ) أي: كما يصيبكم
الجراح والقتل، كذلك يحصل لهم، كما قال
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
[آل عمران: 140].
ثم قال: ( وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ) أي: أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من < 2-404 >
الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد، وهم لا
يرجون شيئا من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة في إقامة كلمة
الله وإعلائها.
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي: هو أعلم وأحكم فيما يقدره
ويقضيه، وينفذه ويمضيه، من أحكامه الكونية والشرعية، وهو المحمود على كل
حال.
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
(105)
يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( إِنّا أَنـزلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) أي: هو حق من الله، وهو يتضمن الحق في
خبره وطلبه.
وقوله: ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) احتج به
من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان، عليه السلام، له أن يحكم بالاجتهاد
بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن
زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع
حَلَبَةَ خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: "ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي
بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت
له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن
رافع، عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ، ليس عندهما
بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا
بشر، ولعل بعضكم ألْحَن بحُجَّتِه من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما
أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من
النار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة". فبكى الرجلان وقال كل
منهما: حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إذا قلتما فاذهبا
فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليُحْللْ كل واحد منكما صاحبه" .
وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد، به. وزاد: "إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم < 2-405 >
ينـزل عليّ فيه" .
وقد روى ابن مَرْدُويه، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: إن نفرا من
الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع
لأحدهم، فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي، فلما رأى السارق
ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني
غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبي الله
صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا: يا نبي الله، إن صاحبنا بريء. وإن صاحب
الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس الناس وجادل
عنه. فإنه إلا
يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذرَه على
رءوس الناس، فأنـزل الله: ( إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) [ يقول: احكم بما أنـزل الله إليك في الكتاب]
الموضوع الأصلي : الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الموضوع الأصلي : الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
رد: الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الموضوع الأصلي : الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الموضوع
الموضوع الأصلي : الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
الموضوع الأصلي : الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الرابع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الرابع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الخامس والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السادس والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السابع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى