الجزء الرابع من تفسير سورة الأنفال
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنفال
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الرابع من تفسير سورة الأنفال
وَاذْكُرُوا
إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا
قليلين فكثَّرهم، ومستضعفين خائفين فقوَّاهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من
الطيبات، واستشكرهم فأطاعوه، وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطرين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله، من مشرك ومجوسي ورومي، كلهم أعداء لهم
لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى
المدينة، فآواهم إليها، وقَيَّض لهم أهلها، آووا ونصروا يوم بدر وغيره
وآسَوا بأموالهم، وبذلوا مُهَجهم في طاعة الله وطاعة رسوله.
قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي، رحمه الله، في قوله تعالى: (
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ ) قال: كان
هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلا وأشقاه عَيْشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه
جلودا، وأبينه ضلالا مكعومين على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا
والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن
مات منهم رُدِّيَ في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قَبِيلا من
حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منـزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن
به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس.
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم مُنْعِم يحب
الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله [تعالى]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري: أنـزلت في أبي لُبابة بن عبد
المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينـزلوا
على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروه في ذلك، فأشار عليهم بذلك
-وأشار بيده إلى حلقه -أي: إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة، ورأى أنه قد خان
الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى
مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة
أيام، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد، حتى أنـزل الله توبته على رسوله.
فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه من السارية، فحلف لا
يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه [وسلم] بيده، فحله، فقال: يا رسول الله، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال يجزيك الثلث أن تصدق به"
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا يونس بن الحارث
الطائفي، حدثنا محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة قال:
نـزلت هذه الآية في قتل عثمان، رضي الله عنه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) الآية.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا القاسم بن بِشْر بن معروف، حدثنا شَبَابة بن
سَوَّار، حدثنا محمد بن المحرم قال: لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال:
حدثني جابر بن عبد الله؛ أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا" فكتب رجل من المنافقين إليه: إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنـزل الله [عز وجل] ( لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ) الآية
هذا حديث غريب جدًّا، وفي سنده وسياقه نظر.
وفي الصحيحين قصة "حاطب بن أبي بَلْتَعَة" أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح، فأطلع الله رسوله على ذلك،
فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه، واستحضر حاطبا فأقر بما صنع، فقام عمر بن
الخطاب فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله
والمؤمنين؟ فقال: " دعه، فإنه قد شهد بدرا، ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
قلت: والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص، فالأخذ
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب
الصغار والكبار اللازمة والمتعدية.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ )
الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد -يعني الفريضة يقول: لا
تخونوا: لا تنقضوها.
وقال في رواية: ( لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) يقول: بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير في هذه الآية، أي: لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السر إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم.
وقال السُّدِّيّ: إذا خانوا الله والرسول، فقد خانوا أماناتهم.
وقال أيضا: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال عبد الرحمن بن زيد [بن أسلم] نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون.
وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ ) أي: اختبار وامتحان منه لكم؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها
وتطيعونه فيها، أو تشتغلون بها عنه، وتعتاضون بها منه؟ كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15] ،وقال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ،وقال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9] ،وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ الآية [التغابن: 14] .
وقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) أي: ثوابه وعطاؤه
وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا
يغني عنك شيئا، والله، سبحانه، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، ولديه
الثواب الجزيل يوم القيامة.
وفي الأثر يقول [الله] تعالى: "ابن آدم، اطلبني تَجدني، فإن وَجَدْتَنِي وجَدْتَ كل شيء، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه قال]
ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب
إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه"
بل حب رسوله مقدم على الأولاد والأموال والنفوس، كما ثبت في الصحيح أنه،
عليه السلام، قال: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
نفسه وأهله وماله والناس أجمعين"
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قال ابن عباس، والسُّدِّيّ، ومُجاهِد، وعِكْرِمة، والضحاك، وقَتَادة، ومُقَاتِل بن حَيَّان: ( فُرْقَانًا ) مخرجا. زاد مجاهد: في الدنيا والآخرة.
وفي رواية عن ابن عباس: ( فُرْقَانًا ) نجاة. وفي رواية عنه: نصرا.
وقال محمد بن إسحاق: ( فُرْقَانًا ) أي: فصلا بين الحق والباطل.
وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وقد يستلزم ذلك كله؛ فإن من
اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك
سبب نصره
ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه -وهو
محوها -وغفرها: سترها عن الناس -سببًا لنيل ثواب الله الجزيل، كما قال
تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ
بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28] .
وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ (30)
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: ( لِيُثْبِتُوكَ ) [أي] : ليقيدوك.
وقال عطاء، وابن زيد: ليحبسوك.
وقال السُّدِّيّ: "الإثبات". هو الحبس والوثاق.
وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء، وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء.
وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال عطاء: سمعت عُبَيْد بن
عُمَيْر يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو
يخرجوه، قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: "يريدون أن
يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني" ، فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربي"، قال: نعم الرب ربك، استوص به خيرا فقال: "أنا أستوصي به؟ ! بل هو يستوصي بي"
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل البصري، المعروف بالوساوسي، أخبرنا عبد الحميد بن أبي رَوَّاد
عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن المطلب بن أبي وَدَاعةِ، أن
أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال:
"يريدون أن يسحروني
أو يقتلوني أو يخرجوني". فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربي"، قال: نعم الرب
ربك، فاستوص به خيرا، "قال: أنا أستوصي به؟! بل هو يستوصي بي". قال:
فنـزلت: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ) الآية
وذِكر أبي طالب في هذا، غريب جدا، بل منكر؛ لأن هذه الآية مدنية، ثم إن
هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي
أو القتل، إنما كان ليلة الهجرة سواء، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من
ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمه أبي طالب، الذي كان
يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه. والدليل على صحة ما قلنا: ما رواه الإمام محمد
بن إسحاق بن يَسَار صاحب "المغازي" عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي، عن باذان مولى أم هانئ، عن ابن عباس؛ أن
نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم
إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد، سمعت
أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل، ادخل
فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في
أمركم بأمره. قال: فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب
المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو
كأحدهم، قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي،
والله ليخرجنه ربه من محبسه
إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم،
فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم. قال: فانظروا في غير هذا.
قال: فقال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنه إذا خرج
لن يضركم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في
غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة [قوله] وطلاوة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب، ليجتمعن عليكم ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله، فانظروا بابا غير هذا.
قال: فقال أبو جهل، لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم تصرمونه
بعد، ما أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا
نهدًا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا
قتلوه تفرق دمه في القبائل [كلها] فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.
قال : فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي. القول ما قال الفتى لا رأي غيره، قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له
فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم. فلم
يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند
ذلك بالخروج، وأنـزل الله عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال" يذكر نعمه
عليه وبلاءه عنده: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) وأنـزل [الله] في قولهم: "تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء" ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] وكان ذلك اليوم يسمى "يوم الزحمة" للذي اجتمعوا عليه من الرأي
وعن السُّدِّيّ نحو هذا السياق، وأنـزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا [الإسراء: 76] .
وكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس. وروي عن مجاهد، وعُرْوة بن الزبير، وموسى بن عُقْبَة، وقتادة، ومِقْسَم، وغير واحد، نحو ذلك.
وقال يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينتظر أمر الله، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا،
أتاه جبريل، عليه السلام، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على
فراشه وأن يتسجى ببُرد له أخضر، ففعل. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
على القوم وهم على بابه، وخَرَج معه بحفنة من تراب، فجعل يذرها على
رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 1-9].
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: وروي عن عكرمة ما يؤكد هذا
وقد روى [أبو حاتم]
ابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن عثمان بن
خُثَيْم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: دخلت فاطمةُ على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك يا بُنَيَّة؟" قالت: يا أبت،
[و]
ما لي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجْر يتعاقدون باللات والعُزَّى
ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلوك، وليس منهم إلا من
قد عرف نصيبه من دمك. فقال: "يا بنية، ائتني بوَضُوء". فتوضأ رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم خرج إلى المسجد. فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا
فطأطؤوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم. فتناول
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال: "شاهت
الوجوه" . فما أصاب رجلا منهم حَصَاة من حصياته إلا قُتل يوم بدر كافرا.
ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ولا أعرف له علة
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، أخبرني عثمان
الجَزَري، عن مِقْسَم مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ) قال: تشاورت قريش ليلة
بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النبي صلى الله عليه
وسلم -وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على
ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه
وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا رَدَّ الله تعالى مكرهم،
فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصا
أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار،
فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت
على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوَة بن الزبير
في قوله: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ ) أي: فمكرت بهم بكيدي المتين، حتى خلصتك منهم.
وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
يخبر تعالى عن كفر قريش وعُتُوِّهم وتمرُّدهم وعنادهم، ودعواهم الباطل
عند سماع آياته حين تتلى عليهم أنهم يقولون: ( قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ) وهذا منهم قول لا فعل، وإلا فقد تحدوا غير ما
مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا. وإنما هذا قول منهم
يَغُرّون به أنفسهم ومن اتبعهم على باطلهم.
وقد قيل: إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث -لعنه الله -كما قد نص على
ذلك سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ، وابن جُرَيج وغيرهم؛ فإنه -لعنه الله
-كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رُسْتم واسفنديار، ولما
قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس
القرآن، فكان إذا قام صلى الله عليه وسلم
من مجلس، جلس فيه النضر فيحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله أيهما
أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في
الأسارى، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه،
ففُعل ذلك، ولله الحمد. وكان الذي أسره المقداد بن الأسود، رضي الله عنه، كما قال ابن جرير:
حدثنا محمد بن بشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبَة، عن أبي
بِشْر، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قَتَل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر
صبرا عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْط وطُعَيْمة بن عَدِي، والنضر بن الحارث. وكان
المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله، أسيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه كان يقول في كتاب الله، عز وجل،
ما يقول". فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله، أسيري. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغن المقداد من فضلك" . فقال المقداد: هذا
الذي أردت. قال: وفيه أنـزلت هذه الآية: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا
إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ )
وكذا رواه هُشَيْم، عن أبي بشر جعفر بن أبي وَحْشِيّة، عن سعيد بن جُبَيْر؛ أنه قال: "المطعم بن عدي"بدل طعيمة" وهو غلط؛ لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لو كان المطعم حيا، ثم سألني في هؤلاء النَّتْنَى لوهبتهم له" -يعني: الأسارى -لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف.
ومعنى: ( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) وهو جمع أسطورة، أي: كتبهم اقتبسها،
فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس. وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر الله
عنهم في الآية الأخرى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 5 ، 6].أي: لمن تاب إليه وأناب؛ فإنه يتقبل منه ويصفح عنه.
وقوله: ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) هذا من كثرة جهلهم وعُتُوِّهم وعنادهم وشدة
تكذيبهم، وهذا مما عِيبُوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا: "اللهم، إن كان
هذا هو الحق من عندك، فاهدنا له، ووفقنا لاتباعه". ولكن استفتحوا على
أنفسهم، واستعجلوا العذاب، وتقديم العقوبة كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ
وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:53] ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16] ، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج: 1-3] ،وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب له: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
[الشعراء: 187] ،وقال هؤلاء: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )
قال شُعْبَة، عن عبد الحميد، صاحب الزيّادي، عن أنس بن مالك قال: هو أبو
جهل بن هشام قال: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) فنـزلت ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ ) الآية.
رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر، كلاهما عن عُبَيد الله بن مُعَاذ، عن أبيه، عن شعبة، به
وأحمد هذا هو: أحمد بن النضر بن عبد الوهاب. قاله الحاكم أبو أحمد، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، والله أعلم.
وقال الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذْ
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ ) قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة، قال: فأنـزل الله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج: 1-2] وكذا قال مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والسدي: إنه النضر بن الحارث -زاد عطاء: فقال الله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] وقال وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] وقال سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ [المعارج: 1 ، 2]، قال عطاء: ولقد أنـزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله، عز وجل.
وقال ابن مُرْدُوَيْه: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد بن
الليث، حدثنا أبو غسان حدثنا أبو تُمَيْلة، حدثنا الحسين، عن ابن بُرَيْدة،
عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أُحُد على فرس، وهو يقول:
اللهم، إن كان ما يقول محمد حقا، فاخسف بي وبفرسي" .
وقال قتادة في قوله: ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية، قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها.
وقوله تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، حدثنا عِكْرِمة بن عمار،
عن أبي زُمَيْل سِمَاك الحنفي، عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون
بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قد"! ويقولون: لا شريك لك، إلا
شريكا هو لك، تملكه وما ملك. ويقولون: غفرانك، غفرانك، فأنـزل الله: (
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال ابن عباس: كان فيهم أمانان:
النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي
الاستغفار
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو مَعْشَر، عن
يزيد بن رُومَان ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله
من بيننا: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ ) فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللهم! فأنـزل
الله، عز وجل: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ [لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) إلى قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الإنفال:34].
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) يقول: ما كان الله ليعذب قوما
وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم، ثم قال: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) يقول: وفيهم من قد سبق له من الله
الدخولُ في الإيمان، وهو الاستغفار -يستغفرون، يعني: يصلون -يعني بهذا أهل
مكة.
وروي عن مُجاهد، وعِكْرِمَة، وعطية العَوْفي، وسعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ نحو ذلك.
وقال الضحاك وأبو مالك: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) يعني: المؤمنين الذين كانوا بمكة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا النضر بن عَرَبي [قال]
قال ابن عباس: إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين
من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم: فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي
فيكم، قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا
كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )
قال أبو صالح عبد الغفار: حدثني بعض أصحابنا، أن النضر بن عربي حدثه هذا الحديث، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وروى ابن مَرْدُوَيه وابن جرير، عن أبي موسى الأشعري نحوًا من هذا وكذا رُوي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرئ.
وقال الترمذي: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن نُمَيْر، عن إسماعيل بن
إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنـزل الله عليَّ أمانين لأمتي: (
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) فإذا مضيت، تركتُ فيهم
الاستغفار إلى يوم القيامة"
ويشهد لهذا
ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن
وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قال:
وعزتك يا رب، لا أبرح أغْوِي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب:
وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" .
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا رِشْدِين -هو ابن سعد
-حدثني معاوية بن سعد التُّجيبي، عمن حدثه، عن فَضَالة بن عُبَيد، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله، عز
وجل"
إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا
قليلين فكثَّرهم، ومستضعفين خائفين فقوَّاهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من
الطيبات، واستشكرهم فأطاعوه، وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطرين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله، من مشرك ومجوسي ورومي، كلهم أعداء لهم
لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى
المدينة، فآواهم إليها، وقَيَّض لهم أهلها، آووا ونصروا يوم بدر وغيره
وآسَوا بأموالهم، وبذلوا مُهَجهم في طاعة الله وطاعة رسوله.
قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي، رحمه الله، في قوله تعالى: (
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ ) قال: كان
هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلا وأشقاه عَيْشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه
جلودا، وأبينه ضلالا مكعومين على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا
والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن
مات منهم رُدِّيَ في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قَبِيلا من
حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منـزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن
به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس.
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم مُنْعِم يحب
الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله [تعالى]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري: أنـزلت في أبي لُبابة بن عبد
المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينـزلوا
على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروه في ذلك، فأشار عليهم بذلك
-وأشار بيده إلى حلقه -أي: إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة، ورأى أنه قد خان
الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى
مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة
أيام، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد، حتى أنـزل الله توبته على رسوله.
فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه من السارية، فحلف لا
يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه [وسلم] بيده، فحله، فقال: يا رسول الله، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال يجزيك الثلث أن تصدق به"
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا يونس بن الحارث
الطائفي، حدثنا محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة قال:
نـزلت هذه الآية في قتل عثمان، رضي الله عنه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) الآية.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا القاسم بن بِشْر بن معروف، حدثنا شَبَابة بن
سَوَّار، حدثنا محمد بن المحرم قال: لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال:
حدثني جابر بن عبد الله؛ أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا" فكتب رجل من المنافقين إليه: إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنـزل الله [عز وجل] ( لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ) الآية
هذا حديث غريب جدًّا، وفي سنده وسياقه نظر.
وفي الصحيحين قصة "حاطب بن أبي بَلْتَعَة" أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح، فأطلع الله رسوله على ذلك،
فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه، واستحضر حاطبا فأقر بما صنع، فقام عمر بن
الخطاب فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله
والمؤمنين؟ فقال: " دعه، فإنه قد شهد بدرا، ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
قلت: والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص، فالأخذ
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب
الصغار والكبار اللازمة والمتعدية.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ )
الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد -يعني الفريضة يقول: لا
تخونوا: لا تنقضوها.
وقال في رواية: ( لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) يقول: بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير في هذه الآية، أي: لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السر إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم.
وقال السُّدِّيّ: إذا خانوا الله والرسول، فقد خانوا أماناتهم.
وقال أيضا: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال عبد الرحمن بن زيد [بن أسلم] نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون.
وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ ) أي: اختبار وامتحان منه لكم؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها
وتطيعونه فيها، أو تشتغلون بها عنه، وتعتاضون بها منه؟ كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15] ،وقال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ،وقال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9] ،وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ الآية [التغابن: 14] .
وقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) أي: ثوابه وعطاؤه
وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا
يغني عنك شيئا، والله، سبحانه، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، ولديه
الثواب الجزيل يوم القيامة.
وفي الأثر يقول [الله] تعالى: "ابن آدم، اطلبني تَجدني، فإن وَجَدْتَنِي وجَدْتَ كل شيء، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه قال]
ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب
إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه"
بل حب رسوله مقدم على الأولاد والأموال والنفوس، كما ثبت في الصحيح أنه،
عليه السلام، قال: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
نفسه وأهله وماله والناس أجمعين"
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قال ابن عباس، والسُّدِّيّ، ومُجاهِد، وعِكْرِمة، والضحاك، وقَتَادة، ومُقَاتِل بن حَيَّان: ( فُرْقَانًا ) مخرجا. زاد مجاهد: في الدنيا والآخرة.
وفي رواية عن ابن عباس: ( فُرْقَانًا ) نجاة. وفي رواية عنه: نصرا.
وقال محمد بن إسحاق: ( فُرْقَانًا ) أي: فصلا بين الحق والباطل.
وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وقد يستلزم ذلك كله؛ فإن من
اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك
سبب نصره
ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه -وهو
محوها -وغفرها: سترها عن الناس -سببًا لنيل ثواب الله الجزيل، كما قال
تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ
بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28] .
وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ (30)
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: ( لِيُثْبِتُوكَ ) [أي] : ليقيدوك.
وقال عطاء، وابن زيد: ليحبسوك.
وقال السُّدِّيّ: "الإثبات". هو الحبس والوثاق.
وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء، وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء.
وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال عطاء: سمعت عُبَيْد بن
عُمَيْر يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو
يخرجوه، قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: "يريدون أن
يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني" ، فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربي"، قال: نعم الرب ربك، استوص به خيرا فقال: "أنا أستوصي به؟ ! بل هو يستوصي بي"
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل البصري، المعروف بالوساوسي، أخبرنا عبد الحميد بن أبي رَوَّاد
عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن المطلب بن أبي وَدَاعةِ، أن
أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال:
"يريدون أن يسحروني
أو يقتلوني أو يخرجوني". فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربي"، قال: نعم الرب
ربك، فاستوص به خيرا، "قال: أنا أستوصي به؟! بل هو يستوصي بي". قال:
فنـزلت: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ) الآية
وذِكر أبي طالب في هذا، غريب جدا، بل منكر؛ لأن هذه الآية مدنية، ثم إن
هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي
أو القتل، إنما كان ليلة الهجرة سواء، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من
ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمه أبي طالب، الذي كان
يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه. والدليل على صحة ما قلنا: ما رواه الإمام محمد
بن إسحاق بن يَسَار صاحب "المغازي" عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي، عن باذان مولى أم هانئ، عن ابن عباس؛ أن
نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم
إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد، سمعت
أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل، ادخل
فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في
أمركم بأمره. قال: فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب
المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو
كأحدهم، قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي،
والله ليخرجنه ربه من محبسه
إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم،
فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم. قال: فانظروا في غير هذا.
قال: فقال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنه إذا خرج
لن يضركم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في
غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة [قوله] وطلاوة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب، ليجتمعن عليكم ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله، فانظروا بابا غير هذا.
قال: فقال أبو جهل، لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم تصرمونه
بعد، ما أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا
نهدًا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا
قتلوه تفرق دمه في القبائل [كلها] فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.
قال : فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي. القول ما قال الفتى لا رأي غيره، قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له
فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم. فلم
يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند
ذلك بالخروج، وأنـزل الله عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال" يذكر نعمه
عليه وبلاءه عنده: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) وأنـزل [الله] في قولهم: "تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء" ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] وكان ذلك اليوم يسمى "يوم الزحمة" للذي اجتمعوا عليه من الرأي
وعن السُّدِّيّ نحو هذا السياق، وأنـزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا [الإسراء: 76] .
وكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس. وروي عن مجاهد، وعُرْوة بن الزبير، وموسى بن عُقْبَة، وقتادة، ومِقْسَم، وغير واحد، نحو ذلك.
وقال يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينتظر أمر الله، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا،
أتاه جبريل، عليه السلام، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على
فراشه وأن يتسجى ببُرد له أخضر، ففعل. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
على القوم وهم على بابه، وخَرَج معه بحفنة من تراب، فجعل يذرها على
رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 1-9].
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: وروي عن عكرمة ما يؤكد هذا
وقد روى [أبو حاتم]
ابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن عثمان بن
خُثَيْم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: دخلت فاطمةُ على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك يا بُنَيَّة؟" قالت: يا أبت،
[و]
ما لي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجْر يتعاقدون باللات والعُزَّى
ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلوك، وليس منهم إلا من
قد عرف نصيبه من دمك. فقال: "يا بنية، ائتني بوَضُوء". فتوضأ رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم خرج إلى المسجد. فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا
فطأطؤوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم. فتناول
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال: "شاهت
الوجوه" . فما أصاب رجلا منهم حَصَاة من حصياته إلا قُتل يوم بدر كافرا.
ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ولا أعرف له علة
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، أخبرني عثمان
الجَزَري، عن مِقْسَم مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ) قال: تشاورت قريش ليلة
بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النبي صلى الله عليه
وسلم -وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على
ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه
وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا رَدَّ الله تعالى مكرهم،
فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصا
أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار،
فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت
على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوَة بن الزبير
في قوله: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ ) أي: فمكرت بهم بكيدي المتين، حتى خلصتك منهم.
وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
يخبر تعالى عن كفر قريش وعُتُوِّهم وتمرُّدهم وعنادهم، ودعواهم الباطل
عند سماع آياته حين تتلى عليهم أنهم يقولون: ( قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ) وهذا منهم قول لا فعل، وإلا فقد تحدوا غير ما
مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا. وإنما هذا قول منهم
يَغُرّون به أنفسهم ومن اتبعهم على باطلهم.
وقد قيل: إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث -لعنه الله -كما قد نص على
ذلك سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ، وابن جُرَيج وغيرهم؛ فإنه -لعنه الله
-كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رُسْتم واسفنديار، ولما
قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس
القرآن، فكان إذا قام صلى الله عليه وسلم
من مجلس، جلس فيه النضر فيحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله أيهما
أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في
الأسارى، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه،
ففُعل ذلك، ولله الحمد. وكان الذي أسره المقداد بن الأسود، رضي الله عنه، كما قال ابن جرير:
حدثنا محمد بن بشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبَة، عن أبي
بِشْر، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قَتَل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر
صبرا عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْط وطُعَيْمة بن عَدِي، والنضر بن الحارث. وكان
المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله، أسيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه كان يقول في كتاب الله، عز وجل،
ما يقول". فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله، أسيري. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغن المقداد من فضلك" . فقال المقداد: هذا
الذي أردت. قال: وفيه أنـزلت هذه الآية: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا
إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ )
وكذا رواه هُشَيْم، عن أبي بشر جعفر بن أبي وَحْشِيّة، عن سعيد بن جُبَيْر؛ أنه قال: "المطعم بن عدي"بدل طعيمة" وهو غلط؛ لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لو كان المطعم حيا، ثم سألني في هؤلاء النَّتْنَى لوهبتهم له" -يعني: الأسارى -لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف.
ومعنى: ( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) وهو جمع أسطورة، أي: كتبهم اقتبسها،
فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس. وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر الله
عنهم في الآية الأخرى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 5 ، 6].أي: لمن تاب إليه وأناب؛ فإنه يتقبل منه ويصفح عنه.
وقوله: ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) هذا من كثرة جهلهم وعُتُوِّهم وعنادهم وشدة
تكذيبهم، وهذا مما عِيبُوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا: "اللهم، إن كان
هذا هو الحق من عندك، فاهدنا له، ووفقنا لاتباعه". ولكن استفتحوا على
أنفسهم، واستعجلوا العذاب، وتقديم العقوبة كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ
وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:53] ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16] ، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج: 1-3] ،وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب له: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
[الشعراء: 187] ،وقال هؤلاء: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )
قال شُعْبَة، عن عبد الحميد، صاحب الزيّادي، عن أنس بن مالك قال: هو أبو
جهل بن هشام قال: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) فنـزلت ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ ) الآية.
رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر، كلاهما عن عُبَيد الله بن مُعَاذ، عن أبيه، عن شعبة، به
وأحمد هذا هو: أحمد بن النضر بن عبد الوهاب. قاله الحاكم أبو أحمد، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، والله أعلم.
وقال الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذْ
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ ) قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة، قال: فأنـزل الله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج: 1-2] وكذا قال مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والسدي: إنه النضر بن الحارث -زاد عطاء: فقال الله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] وقال وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] وقال سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ [المعارج: 1 ، 2]، قال عطاء: ولقد أنـزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله، عز وجل.
وقال ابن مُرْدُوَيْه: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد بن
الليث، حدثنا أبو غسان حدثنا أبو تُمَيْلة، حدثنا الحسين، عن ابن بُرَيْدة،
عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أُحُد على فرس، وهو يقول:
اللهم، إن كان ما يقول محمد حقا، فاخسف بي وبفرسي" .
وقال قتادة في قوله: ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية، قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها.
وقوله تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، حدثنا عِكْرِمة بن عمار،
عن أبي زُمَيْل سِمَاك الحنفي، عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون
بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قد"! ويقولون: لا شريك لك، إلا
شريكا هو لك، تملكه وما ملك. ويقولون: غفرانك، غفرانك، فأنـزل الله: (
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال ابن عباس: كان فيهم أمانان:
النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي
الاستغفار
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو مَعْشَر، عن
يزيد بن رُومَان ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله
من بيننا: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ ) فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللهم! فأنـزل
الله، عز وجل: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ [لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) إلى قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الإنفال:34].
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) يقول: ما كان الله ليعذب قوما
وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم، ثم قال: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) يقول: وفيهم من قد سبق له من الله
الدخولُ في الإيمان، وهو الاستغفار -يستغفرون، يعني: يصلون -يعني بهذا أهل
مكة.
وروي عن مُجاهد، وعِكْرِمَة، وعطية العَوْفي، وسعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ نحو ذلك.
وقال الضحاك وأبو مالك: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) يعني: المؤمنين الذين كانوا بمكة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا النضر بن عَرَبي [قال]
قال ابن عباس: إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين
من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم: فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي
فيكم، قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا
كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )
قال أبو صالح عبد الغفار: حدثني بعض أصحابنا، أن النضر بن عربي حدثه هذا الحديث، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وروى ابن مَرْدُوَيه وابن جرير، عن أبي موسى الأشعري نحوًا من هذا وكذا رُوي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرئ.
وقال الترمذي: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن نُمَيْر، عن إسماعيل بن
إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنـزل الله عليَّ أمانين لأمتي: (
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) فإذا مضيت، تركتُ فيهم
الاستغفار إلى يوم القيامة"
ويشهد لهذا
ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن
وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قال:
وعزتك يا رب، لا أبرح أغْوِي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب:
وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" .
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا رِشْدِين -هو ابن سعد
-حدثني معاوية بن سعد التُّجيبي، عمن حدثه، عن فَضَالة بن عُبَيد، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله، عز
وجل"
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الأنفال
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الأنفال
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الأنفال
مشكووووووووووووور
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الأنفال
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الرابع من تفسير سورة الأنفال
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس من تفسير سورة الأنفال
» الجزء السادس من تفسير سورة الأنفال
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنفال
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنفال
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنفال
» الجزء السادس من تفسير سورة الأنفال
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنفال
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنفال
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنفال
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنفال
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى