الجزء السابع من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع من تفسير سورة يونس
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) أي: ينظرون إليك وإلى ما أعطاك
الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة، على
نبوءتك لأولي البصائر والنهى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار، وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ
كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا [ الفرقان : 41 ، 42 ].
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى [من الغي] وبصر به من العمى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبًا غلفا، وأضل به عن الإيمان
آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم
يسألون، لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي
صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل: "يا عبادي، إني حرّمت
الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا -إلى أن قال في آخره: يا
عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد
الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه". رواه مسلم بطوله.
وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ
اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
يقول تعالى مُذكِّرًا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عَرَصات القيامة: كأنهم يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا ( إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ) كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [ النازعات : 46 ]، وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا [ طه : 102 -104 ]، وقال تعالى : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ
اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ الروم : 55 ، 56 ].
وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ المؤمنون : 112 ، 114 ].
وقوله: ( يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) أي: يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم بعضا، كما كانوا في الدنيا، ولكن كل مشغول بنفسه فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون : 101 ]، وقال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا [ المعارج : 10 ، 15 ].
وقوله: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) كقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
[ المرسلات : 15 ]. لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو
الخسران المبين. فهذه هي الخسارة العظيمة، ولا خسارة أعظم من خَسارة من
فُرّق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.
وَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)
يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) أي: ننتقم
منهم في حياتك لتقرّ عينُك منهم، ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ) أي: مصيرهم ومتقَلَبهم، والله شهيد على أفعالهم بعدك.
وقد قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا داود بن الجارود، عن أبي الطفيل
عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عُرضت عليّ أمتي
البارحة لدى هذه الحجرة، أولها وآخرها. فقال رجل: يا رسول الله، عرض عليك
من خُلِق، فكيف من لم يخلق؟ فقال: "صُوِّروا لي في الطين، حتى إني لأعْرَفُ
بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه".
ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن عقبة بن مكرم، عن يونس بن
بُكَيْر، عن زياد بن المنذر، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، به نحوه.
وقوله: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ) قال مجاهد: يعني يوم القيامة.
( قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ
الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
[ الزمر : 69 ]، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من
خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد أمة.
وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم
القيامة يفصل بينهم، ويقضى لهم، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق" فأمته إنما حازت قَصَب السبق لشرف رسولها، صلوات الله وسلامه عليه [دائمًا] إلى يوم الدين.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
يقول تعالى مخبرًا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذَاب وسؤالهم عن وقته قبل التعين، مما لا فائدة فيه لهم كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ
[ الشورى : 18 ] أي: كائنة لا محالة وواقعة، وإن لم يعلموا وقتها عينا،
ولهذا أرشَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال: ( قُلْ لا
أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ) أي: لا
أقول إلا ما علَّمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني عليه،
فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة، ولم
يطلعني على وقتها، [ولكن] ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) أي: لكل قرن مدَّة من العمر مقدَّرة فإذا انقضى أجلهم ( فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) كما قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا
[ المنافقون : 11 ]، ثم أخبرهم أن عذاب الله سيأتيهم بغتة، فقال: ( قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا ) أي: ليلا
أو نهارا، ( مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا
مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ) يعني: أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة : 12 ]، وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ
يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غافر : 84 ، 85 ].
( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ) أي: يوم القيامة يقال لهم هذا، تبكيتا وتقريعًا، كقوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطور : 13 -16 ].
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
يقول تعالى: ويستخبرونك ( أَحَقٌّ هُوَ ) أي: المعاد والقيامة من
الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا. ( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي: ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن
إعادتكم كما بدأكم من العدم: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس : 82 ].
وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [ سبأ : 3 ]. وفي التغابن: زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ [ التغابن : 7 ].
( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) أي: ينظرون إليك وإلى ما أعطاك
الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة، على
نبوءتك لأولي البصائر والنهى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار، وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ
كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا [ الفرقان : 41 ، 42 ].
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى [من الغي] وبصر به من العمى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبًا غلفا، وأضل به عن الإيمان
آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم
يسألون، لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي
صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل: "يا عبادي، إني حرّمت
الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا -إلى أن قال في آخره: يا
عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد
الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه". رواه مسلم بطوله.
وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ
اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
يقول تعالى مُذكِّرًا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عَرَصات القيامة: كأنهم يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا ( إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ) كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [ النازعات : 46 ]، وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا [ طه : 102 -104 ]، وقال تعالى : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ
اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ الروم : 55 ، 56 ].
وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ المؤمنون : 112 ، 114 ].
وقوله: ( يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) أي: يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم بعضا، كما كانوا في الدنيا، ولكن كل مشغول بنفسه فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون : 101 ]، وقال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا [ المعارج : 10 ، 15 ].
وقوله: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) كقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
[ المرسلات : 15 ]. لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو
الخسران المبين. فهذه هي الخسارة العظيمة، ولا خسارة أعظم من خَسارة من
فُرّق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.
وَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)
يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) أي: ننتقم
منهم في حياتك لتقرّ عينُك منهم، ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ) أي: مصيرهم ومتقَلَبهم، والله شهيد على أفعالهم بعدك.
وقد قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا داود بن الجارود، عن أبي الطفيل
عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عُرضت عليّ أمتي
البارحة لدى هذه الحجرة، أولها وآخرها. فقال رجل: يا رسول الله، عرض عليك
من خُلِق، فكيف من لم يخلق؟ فقال: "صُوِّروا لي في الطين، حتى إني لأعْرَفُ
بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه".
ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن عقبة بن مكرم، عن يونس بن
بُكَيْر، عن زياد بن المنذر، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، به نحوه.
وقوله: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ) قال مجاهد: يعني يوم القيامة.
( قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ
الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
[ الزمر : 69 ]، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من
خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد أمة.
وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم
القيامة يفصل بينهم، ويقضى لهم، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق" فأمته إنما حازت قَصَب السبق لشرف رسولها، صلوات الله وسلامه عليه [دائمًا] إلى يوم الدين.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
يقول تعالى مخبرًا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذَاب وسؤالهم عن وقته قبل التعين، مما لا فائدة فيه لهم كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ
[ الشورى : 18 ] أي: كائنة لا محالة وواقعة، وإن لم يعلموا وقتها عينا،
ولهذا أرشَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال: ( قُلْ لا
أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ) أي: لا
أقول إلا ما علَّمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني عليه،
فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة، ولم
يطلعني على وقتها، [ولكن] ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) أي: لكل قرن مدَّة من العمر مقدَّرة فإذا انقضى أجلهم ( فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) كما قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا
[ المنافقون : 11 ]، ثم أخبرهم أن عذاب الله سيأتيهم بغتة، فقال: ( قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا ) أي: ليلا
أو نهارا، ( مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا
مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ) يعني: أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة : 12 ]، وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ
يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غافر : 84 ، 85 ].
( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ) أي: يوم القيامة يقال لهم هذا، تبكيتا وتقريعًا، كقوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطور : 13 -16 ].
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
يقول تعالى: ويستخبرونك ( أَحَقٌّ هُوَ ) أي: المعاد والقيامة من
الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا. ( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي: ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن
إعادتكم كما بدأكم من العدم: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس : 82 ].
وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [ سبأ : 3 ]. وفي التغابن: زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ [ التغابن : 7 ].
رد: الجزء السابع من تفسير سورة يونس
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء السابع من تفسير سورة يونس
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء السابع من تفسير سورة يونس
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة يونس
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة يونس
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى