الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ
كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى
اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ) أي:
أخبرهم واقصص عليهم، أي: على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك ( نَبَأَ
نُوحٍ ) أي: خبره مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله ودَمّرهم بالغرق
أجمعين عن آخرهم، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك. (
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ) أي:
عَظُم عليكم، ( مَقَامِي ) أي فيكم بين أظهركم، ( وَتَذْكِيرِي ) إياكم (
بِآيَاتِ اللَّهِ ) أي: بحججه وبراهينه، ( فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ )
أي: فإني لا أبالي ولا أكف عنكم
سواء عظم عليكم أو لا! ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) أي:
فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله، من صَنَم ووثن، ( ثُمَّ
لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) أي: ولا تجعلوا أمركم عليكم
ملتبسا، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون، فاقضوا إلي ولا
تنظرون، أي: ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي: مهما قدرتم فافعلوا، فإني لا
أباليكم ولا أخاف منكم، لأنكم لستم على شيء، كما قال هود لقومه: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود : 54 -56 ].
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أي: كذبتم وأدبرتم عن الطاعة، ( فَمَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ) أي: لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا، ( إِنْ
أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
أي: وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل، والإسلام هو دين [جميع] الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهجهم، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ المائدة : 48 ]. قال ابن عباس: سبيلا وسنة. فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ النمل : 91 ]، وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ البقرة : 131 ، 132 ]، وقال يوسف: رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ [ يوسف : 101 ]. وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [ يونس : 84 ]. وقالت السحرة: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [ الأعراف : 126 ]. وقالت بلْقيس: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ النمل : 44 ]. وقال [الله] تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [ المائدة : 44 ]، وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [ المائدة : 111 ] وقال خاتم الرسل وسيد البشر: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ الأنعام : 162 ، 163 ] أي: من هذه الأمة؛ ولهذا قال في الحديث الثابت عنه: "نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ديننا واحد" أي: وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت شرائعنا، وذلك معنى قوله: "أولاد علات" ، وهم: الإخوة من أمهات شتى والأب واحد.
وقوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ )
أي: على دينه ( فِي الْفُلْكِ ) وهي: السفينة، ( وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ
) أي: في الأرض، ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) أي: يا محمد كيف أنجينا
المؤمنين، وأهلكنا المكذبين.
ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ
قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
يقول تعالى: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فجاءوهم بالبينات، أي:
بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به، ( فَمَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) أي: فما كانت الأمم لتؤمن
بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كما قال
تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ الأنعام : 110 ].
وقوله: ( كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) أي: كما طبع الله على قلوب هؤلاء، فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم، ويختم على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
والمراد: أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل، وأنجى من آمن بهم، وذلك من بعد نوح، عليه السلام، فإن الناس كانوا من قبله من
زمان آدم عليه السلام على الإسلام، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام، فبعث
الله إليهم نوحا، عليه السلام؛ ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة: أنت
أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
وقال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وقال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
[ الإسراء : 17 ]، وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا بسيد
الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل
ما ذكره الله تعالى من العقاب والنَّكَال، فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟
ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ
لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
يقول تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا ) من بعد تلك الرسل ( مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) أي: قومه.
( بِآيَاتِنَا ) أي: حجَجنا وبراهيننا، ( فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا
قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) أي: استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له، (
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ
مُبِينٌ ) كأنهم -قبَّحهم الله -أقسموا على ذلك، وهم يعلمون أن ما قالوه
كذب وبهتان، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [ النمل : 14].
( قَاَلَ ) لهم ( مُوسَى ) منكرا عليهم: ( أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ
لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ) أي: تثنينا ( عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا ) أي: الدّين الذي كانوا عليه، ( وَتَكُونَ لَكُمَا ) أي: لك
ولهارون ( الْكِبْرِيَاء ) أي: العظمة والرياسة ( فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ
لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) .
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون في كتابه العزيز؛ لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حَذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه
على فراشه ومائدته بمنـزلة الولد، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من
بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله
تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان، فجاءه برسالة الله، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه
السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية، والنفس الخبيثة الأبية، وقوى
رأسه وتولّى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجهرم على الله، وعتا وبغى وأهان حزب
الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون،
ويحوطهما، بعنايته، ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء، ومرة
بعد مرة، مما يبهر العقول ويدهش الألباب، مما لا يقوم له شيء، ولا يأتي به
إلا من هو مؤيد من الله، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وصمم
فرعون وَمَلَؤه -قبحهم الله -على التكذيب بذلك كله، والجحد والعناد
والمكابرة، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الأنعام : 45 ].
عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ
كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى
اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ) أي:
أخبرهم واقصص عليهم، أي: على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك ( نَبَأَ
نُوحٍ ) أي: خبره مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله ودَمّرهم بالغرق
أجمعين عن آخرهم، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك. (
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ) أي:
عَظُم عليكم، ( مَقَامِي ) أي فيكم بين أظهركم، ( وَتَذْكِيرِي ) إياكم (
بِآيَاتِ اللَّهِ ) أي: بحججه وبراهينه، ( فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ )
أي: فإني لا أبالي ولا أكف عنكم
سواء عظم عليكم أو لا! ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) أي:
فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله، من صَنَم ووثن، ( ثُمَّ
لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) أي: ولا تجعلوا أمركم عليكم
ملتبسا، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون، فاقضوا إلي ولا
تنظرون، أي: ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي: مهما قدرتم فافعلوا، فإني لا
أباليكم ولا أخاف منكم، لأنكم لستم على شيء، كما قال هود لقومه: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود : 54 -56 ].
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أي: كذبتم وأدبرتم عن الطاعة، ( فَمَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ) أي: لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا، ( إِنْ
أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
أي: وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل، والإسلام هو دين [جميع] الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهجهم، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ المائدة : 48 ]. قال ابن عباس: سبيلا وسنة. فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ النمل : 91 ]، وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ البقرة : 131 ، 132 ]، وقال يوسف: رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ [ يوسف : 101 ]. وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [ يونس : 84 ]. وقالت السحرة: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [ الأعراف : 126 ]. وقالت بلْقيس: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ النمل : 44 ]. وقال [الله] تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [ المائدة : 44 ]، وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [ المائدة : 111 ] وقال خاتم الرسل وسيد البشر: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ الأنعام : 162 ، 163 ] أي: من هذه الأمة؛ ولهذا قال في الحديث الثابت عنه: "نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ديننا واحد" أي: وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت شرائعنا، وذلك معنى قوله: "أولاد علات" ، وهم: الإخوة من أمهات شتى والأب واحد.
وقوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ )
أي: على دينه ( فِي الْفُلْكِ ) وهي: السفينة، ( وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ
) أي: في الأرض، ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) أي: يا محمد كيف أنجينا
المؤمنين، وأهلكنا المكذبين.
ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ
قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
يقول تعالى: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فجاءوهم بالبينات، أي:
بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به، ( فَمَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) أي: فما كانت الأمم لتؤمن
بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كما قال
تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ الأنعام : 110 ].
وقوله: ( كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) أي: كما طبع الله على قلوب هؤلاء، فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم، ويختم على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
والمراد: أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل، وأنجى من آمن بهم، وذلك من بعد نوح، عليه السلام، فإن الناس كانوا من قبله من
زمان آدم عليه السلام على الإسلام، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام، فبعث
الله إليهم نوحا، عليه السلام؛ ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة: أنت
أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
وقال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وقال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
[ الإسراء : 17 ]، وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا بسيد
الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل
ما ذكره الله تعالى من العقاب والنَّكَال، فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟
ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ
لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
يقول تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا ) من بعد تلك الرسل ( مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) أي: قومه.
( بِآيَاتِنَا ) أي: حجَجنا وبراهيننا، ( فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا
قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) أي: استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له، (
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ
مُبِينٌ ) كأنهم -قبَّحهم الله -أقسموا على ذلك، وهم يعلمون أن ما قالوه
كذب وبهتان، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [ النمل : 14].
( قَاَلَ ) لهم ( مُوسَى ) منكرا عليهم: ( أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ
لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ) أي: تثنينا ( عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا ) أي: الدّين الذي كانوا عليه، ( وَتَكُونَ لَكُمَا ) أي: لك
ولهارون ( الْكِبْرِيَاء ) أي: العظمة والرياسة ( فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ
لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) .
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون في كتابه العزيز؛ لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حَذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه
على فراشه ومائدته بمنـزلة الولد، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من
بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله
تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان، فجاءه برسالة الله، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه
السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية، والنفس الخبيثة الأبية، وقوى
رأسه وتولّى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجهرم على الله، وعتا وبغى وأهان حزب
الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون،
ويحوطهما، بعنايته، ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء، ومرة
بعد مرة، مما يبهر العقول ويدهش الألباب، مما لا يقوم له شيء، ولا يأتي به
إلا من هو مؤيد من الله، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وصمم
فرعون وَمَلَؤه -قبحهم الله -على التكذيب بذلك كله، والجحد والعناد
والمكابرة، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الأنعام : 45 ].
رد: الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء العاشرمن تفسير سورة يونس
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السابع من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة يونس
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
» الجزء الثامن من تفسير سورة يونس
» الجزء التاسع من تفسير سورة يونس
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة يونس
» الجزء الثاني عشر من تفسير سورة يونس
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة يونس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى