الجزء التاسع من تفسير سورة الإسراء
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الإسراء
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء التاسع من تفسير سورة الإسراء
وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) .
قال سُنَيْد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قال
المشركون: يا محمد، إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سُخّرت له
الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سَرّك أن نؤمن بك ونصدقك، فادع ربك
أن يكون لنا الصفا ذهبًا. فأوحى الله إليه: "إني قد سمعت الذي قالوا،
فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نـزل العذاب؛ فإنه ليس بعد
نـزول الآية مناظرة، وإن شئت أن نَستأني بقومك استأنيتُ بهم؟" قال: "يا رب،
استأن بهم" .
وكذا قال قتادة، وابن جريج، وغيرهما.
قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس
، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه
وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن
شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نُؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما
أهلكتُ من كان قبلهم من الأمم: قال: "لا بل استأن بهم". وأنـزل الله: (
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ) رواه النسائي من حديث جرير، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهيل، عن عمران أبي الحكم
، عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن
يجعل لنا الصفا ذهبًا، ونؤمن بك. قال: "وتفعلون؟" قالوا: نعم. قال: فدعا
فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا
لهم ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عَذّبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من
العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. فقال: "بل باب التوبة
والرحمة" .
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري،
حدثنا خلف ابن تميم المصيصي، عن عبد الجبار بن عمار الأيلِيّ، عن عبد الله
بن عطاء بن إبراهيم، عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت
الزبير يقول: لما نـزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ
[ الشعراء: 214 ] صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قَبِيس: "يا
آل عبد مناف، إني نذير!" فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي
يوحى إليك، وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن
عيسى كان يحيي الموتى، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر
لنا الأرض أنهارًا، فنتخذها محارث فنـزرع ونأكل، وإلا فادع الله أن يحيي
لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي
تحتك ذهبًا، فننحت منها، وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك
كهيئتهم! قال: فبينا نحن حوله، إذ نـزل عليه الوحي، فلما سري عنه قال:
"والذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن
تدخلوا باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم،
فتضلوا عن باب الرحمة، فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة، فيؤمن
مؤمنكم. وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم، أنه يعذبكم عذابًا لا يعذبه
أحدًا من العالمين" ونـزلت: ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ
إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ ) وحتى قرأ ثلاث آيات ونـزلت: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [ الرعد: 31 ] .
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ ) أي:
نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك، فإنه سهل علينا يسير لدينا،
إلا أنه قد كذب بها الأولون بعدما سألوها، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم
أنهم لا يؤخرون إذا كذبوا بها بعد نـزولها، كما قال الله تعالى في المائدة:
: قَالَ
اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ
فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ المائدة: 115 ] وقال تعالى عن ثمود، حين سألوا آية: ناقة تخرج من صخرة عَيَّنُوها، فدعا صالح ربه، فأخرج له منها ناقة على ما سألوا " فظلموا بها" أي: كفروا بمن خلقها، وكذبوا رسوله وعقروا الناقة فقال: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
[ هود: 65 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ ) أي:
دالة على وحدانية من خلقها وصدق الرسول الذي أجيب دعاؤه فيها ( فَظَلَمُوا
بِهَا ) أي: كفروا بها ومنعوها شِرْبها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم،
وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) قال قتادة: إن الله خوف الناس بما يشاء
من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد
ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
وهكذا رُوي أن المدينة زُلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر:
أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الحديث المتفق عليه: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما
لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله، عز وجل، يرسلهما يخوف بهما
عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره" . ثم قال: " يا
أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة
محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" .
وَإِذْ
قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا
طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضًا له على إبلاغ رسالته،
ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس، فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته وتحت
قهره وغلبته.
قال مجاهد، وعروة بن الزبير، والحسن، وقتادة، وغيرهم في قوله: ( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) أي: عصمك منهم.
وقوله: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ ) قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو،
عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة أسري به ( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) شجرة الزقوم .
وكذا رواه أحمد، وعبد الرزاق، وغيرهما، عن سفيان بن عيينة به
، وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس، وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء: مجاهد،
وسعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد،
وغير واحد. وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة، ولله
الحمد والمنة. وتقدم أن ناسًا رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه
لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك
ثباتًا ويقينًا لآخرين؛ ولهذا
قال: ( إِلا فِتْنَةً ) أي: اختبارًا وامتحانًا. وأما "الشجرة الملعونة"،
فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة
والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله [بقوله] هاتوا لنا تمرًا وزبدًا، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تَزَقَّموا، فلا نعلم الزقوم غير هذا.
حكى ذلك ابن عباس، ومسروق، وأبو مالك، والحسن البصري، وغير واحد، وكل من قال: إنها ليلة الإسراء، فسره كذلك بشجرة الزقوم.
وقد قيل: المراد بالشجرة الملعونة: بنو أمية. وهو غريب ضعيف.
قال ابن جرير: حدثت عن محمد بن الحسن بن زَبَالة، حدثنا عبد المهيمن بن
عباس بن سهل بن سعد، حدثني أبي عن جدي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بني فلان ينـزون على منبره نـزو القرود فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكًا حتى مات. قال: وأنـزل الله في ذلك: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) الآية .
وهذا السند ضعيف جدًا؛ فإن "محمد بن الحسن بن زَبَالة" متروك، وشيخه
أيضًا ضعيف بالكلية. ولهذا اختار ابن جرير: أن المراد بذلك ليلة الإسراء،
وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، قال: لإجماع الحجة من أهل التأويل على
ذلك، أي: في الرؤيا والشجرة.
وقوله: ( وَنُخَوِّفُهُمْ ) أي: الكفار بالوعيد والعذاب والنكال ( فَمَا
يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ) أي: تماديا فيما هم فيه من الكفر
والضلال. وذلك من خذلان الله لهم.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ
أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62)
يذكر تعالى عَدَاوَةَ إبليس -لعنه الله -لآدم، عليه السلام، وذريته،
وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمرالملائكة بالسجود، فسجدوا
كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له؛ افتخارًا عليه واحتقارًا له (
قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) كما قال في الآية الأخرى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ الأعراف: 12 ].
وقال أيضًا: ( أَرَأَيْتَكَ ) ، يقول للرب جراءة وكفرًا، والرب يحلم
وينظر ( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ
أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا
قَلِيلا )
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لأستولين على ذريته إلا قليلا.
وقال مجاهد: لأحتوين. وقال ابن زيد: لأضلنهم.
وكلها متقاربة، والمعنى: أنه يقول: أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ، لئن أنظرتني لأضلن ذرّيته إلا قليلا منهم.
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) .
لما سأل إبليس [عليه اللعنة] النظرة قال الله له: ( اذْهَبْ ) فقد أنظرتك. كما قال في الآية الأخرى: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
[ الحجر: 37 ، 38 ] ثم أوعده ومن تَبِعه من ذرية آدم جهنم، فقال: ( فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ ) أي: على أعمالكم (
جَزَاءً مَوْفُورًا )
قال مجاهد: وافرا. وقال قتادة: مُوَفّرا عليكم، لا ينقص لكم منه.
وقوله: ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قيل: هو الغناء. قال مجاهد: باللهو والغناء، أي: استخفهم بذلك.
وقال ابن عباس في قوله: ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
بِصَوْتِكَ ) قال: كل داع دعا إلى معصية الله، عز وجل، وقال قتادة، واختاره
ابن جرير.
وقوله: ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) يقول: واحمل عليهم بجنودك خَيَّالتهم ورَجْلتَهم ؛ فإن "الرّجْل" جمع "راجل" ، كما أن "الركب" جمع "راكب" و"صحب" جمع "صاحب".
ومعناه: تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه. وهذا أمر قدري، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ مريم: 83 ] أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا، وتسوقهم إليها سوقًا. وقال ابن عباس، ومجاهد في قوله: ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: كل راكب وماش في معصية الله.
وقال قتادة: إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.
وتقول العرب: "أجلب فلان على فلان": إذا صاح عليه. ومنه: "نهى في
المسابقة عن الجَلَب والجَنَب" ومنه اشتقاق "الجلبة" ، وهي ارتفاع الأصوات.
وقوله: ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله.
وقال عطاء: هو الربا. وقال الحسن: [هو] جمعها من خبيث، وإنفاقها في حرام. وكذا قال قتادة.
وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أما مشاركته إياهم في
أموالهم، فهو ما حرموه من أنعامهم، يعني: من البحائر والسوائب ونحوها. وكذا
قال الضحاك وقتادة.
[ثم] قال ابن جرير: والأولى أن يقال: إن الآية تعم ذلك كله.
وقوله: ( وَالأولادِ ) قال العوفي عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: يعني أولاد الزنا.
وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم.
وقال قتادة، عن الحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد
مَجَّسُوا وهودوا ونَصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام، وجَزَّؤوا من أموالهم
جزءًا للشيطان وكذا قال قتادة سواء.
وقال أبو صالح، عن ابن عباس: هو تسميتهم أولادهم "عبد الحارث" و"عبد شمس" و"عبد فلان".
قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: كل مولود ولدته أنثى، عصى الله فيه، بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله ووأده، وغير ذلك من الأمور التي يعصي
الله بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له
أو منه؛ لأن الله لم يخصص بقوله: ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ
وَالأولادِ ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكل ما عصي الله فيه -أو به،
وأطيع فيه الشيطان -أو به، فهو مشاركة.
وهذا الذي قاله مُتَّجه، وكل من السلف، رحمهم الله، فسر بعض المشاركة، فقد ثبت في صحيح مسلم، عن عياض بن حمار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم" .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدهم إذا
أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما
رزقتنا، فإنه إن يُقَدّر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدًا" .
وقوله: ( وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) كما
أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق: إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ الآية[ إبراهيم: 22 ] .
وقوله: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) : إخبار
بتأييده تعالى عباده المؤمنين، وحفظه إياهم، وحراسته لهم من الشيطان
الرجيم؛ ولهذا قال: ( وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ) أي: حافظًا ومؤيدًا
وناصرًا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهيعة، عن موسى بن وَرْدَان،
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
المؤمن ليُنْضي شياطينه كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر" .
ينضي، أي: يأخذ بناصيته ويقهره.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) .
يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر، وتسهيلها لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) أي: إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم، ورحمته بكم.
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) .
قال سُنَيْد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قال
المشركون: يا محمد، إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سُخّرت له
الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سَرّك أن نؤمن بك ونصدقك، فادع ربك
أن يكون لنا الصفا ذهبًا. فأوحى الله إليه: "إني قد سمعت الذي قالوا،
فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نـزل العذاب؛ فإنه ليس بعد
نـزول الآية مناظرة، وإن شئت أن نَستأني بقومك استأنيتُ بهم؟" قال: "يا رب،
استأن بهم" .
وكذا قال قتادة، وابن جريج، وغيرهما.
قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس
، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه
وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن
شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نُؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما
أهلكتُ من كان قبلهم من الأمم: قال: "لا بل استأن بهم". وأنـزل الله: (
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ) رواه النسائي من حديث جرير، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهيل، عن عمران أبي الحكم
، عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن
يجعل لنا الصفا ذهبًا، ونؤمن بك. قال: "وتفعلون؟" قالوا: نعم. قال: فدعا
فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا
لهم ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عَذّبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من
العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. فقال: "بل باب التوبة
والرحمة" .
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري،
حدثنا خلف ابن تميم المصيصي، عن عبد الجبار بن عمار الأيلِيّ، عن عبد الله
بن عطاء بن إبراهيم، عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت
الزبير يقول: لما نـزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ
[ الشعراء: 214 ] صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قَبِيس: "يا
آل عبد مناف، إني نذير!" فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي
يوحى إليك، وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن
عيسى كان يحيي الموتى، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر
لنا الأرض أنهارًا، فنتخذها محارث فنـزرع ونأكل، وإلا فادع الله أن يحيي
لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي
تحتك ذهبًا، فننحت منها، وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك
كهيئتهم! قال: فبينا نحن حوله، إذ نـزل عليه الوحي، فلما سري عنه قال:
"والذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن
تدخلوا باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم،
فتضلوا عن باب الرحمة، فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة، فيؤمن
مؤمنكم. وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم، أنه يعذبكم عذابًا لا يعذبه
أحدًا من العالمين" ونـزلت: ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ
إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ ) وحتى قرأ ثلاث آيات ونـزلت: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [ الرعد: 31 ] .
ولهذا قال تعالى: ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ ) أي:
نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك، فإنه سهل علينا يسير لدينا،
إلا أنه قد كذب بها الأولون بعدما سألوها، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم
أنهم لا يؤخرون إذا كذبوا بها بعد نـزولها، كما قال الله تعالى في المائدة:
: قَالَ
اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ
فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ المائدة: 115 ] وقال تعالى عن ثمود، حين سألوا آية: ناقة تخرج من صخرة عَيَّنُوها، فدعا صالح ربه، فأخرج له منها ناقة على ما سألوا " فظلموا بها" أي: كفروا بمن خلقها، وكذبوا رسوله وعقروا الناقة فقال: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
[ هود: 65 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ ) أي:
دالة على وحدانية من خلقها وصدق الرسول الذي أجيب دعاؤه فيها ( فَظَلَمُوا
بِهَا ) أي: كفروا بها ومنعوها شِرْبها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم،
وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) قال قتادة: إن الله خوف الناس بما يشاء
من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد
ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
وهكذا رُوي أن المدينة زُلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر:
أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الحديث المتفق عليه: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما
لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله، عز وجل، يرسلهما يخوف بهما
عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره" . ثم قال: " يا
أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة
محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" .
وَإِذْ
قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا
طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضًا له على إبلاغ رسالته،
ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس، فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته وتحت
قهره وغلبته.
قال مجاهد، وعروة بن الزبير، والحسن، وقتادة، وغيرهم في قوله: ( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) أي: عصمك منهم.
وقوله: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ ) قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو،
عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة أسري به ( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) شجرة الزقوم .
وكذا رواه أحمد، وعبد الرزاق، وغيرهما، عن سفيان بن عيينة به
، وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس، وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء: مجاهد،
وسعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد،
وغير واحد. وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة، ولله
الحمد والمنة. وتقدم أن ناسًا رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه
لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك
ثباتًا ويقينًا لآخرين؛ ولهذا
قال: ( إِلا فِتْنَةً ) أي: اختبارًا وامتحانًا. وأما "الشجرة الملعونة"،
فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة
والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله [بقوله] هاتوا لنا تمرًا وزبدًا، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تَزَقَّموا، فلا نعلم الزقوم غير هذا.
حكى ذلك ابن عباس، ومسروق، وأبو مالك، والحسن البصري، وغير واحد، وكل من قال: إنها ليلة الإسراء، فسره كذلك بشجرة الزقوم.
وقد قيل: المراد بالشجرة الملعونة: بنو أمية. وهو غريب ضعيف.
قال ابن جرير: حدثت عن محمد بن الحسن بن زَبَالة، حدثنا عبد المهيمن بن
عباس بن سهل بن سعد، حدثني أبي عن جدي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بني فلان ينـزون على منبره نـزو القرود فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكًا حتى مات. قال: وأنـزل الله في ذلك: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) الآية .
وهذا السند ضعيف جدًا؛ فإن "محمد بن الحسن بن زَبَالة" متروك، وشيخه
أيضًا ضعيف بالكلية. ولهذا اختار ابن جرير: أن المراد بذلك ليلة الإسراء،
وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، قال: لإجماع الحجة من أهل التأويل على
ذلك، أي: في الرؤيا والشجرة.
وقوله: ( وَنُخَوِّفُهُمْ ) أي: الكفار بالوعيد والعذاب والنكال ( فَمَا
يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ) أي: تماديا فيما هم فيه من الكفر
والضلال. وذلك من خذلان الله لهم.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ
أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62)
يذكر تعالى عَدَاوَةَ إبليس -لعنه الله -لآدم، عليه السلام، وذريته،
وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمرالملائكة بالسجود، فسجدوا
كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له؛ افتخارًا عليه واحتقارًا له (
قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) كما قال في الآية الأخرى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ الأعراف: 12 ].
وقال أيضًا: ( أَرَأَيْتَكَ ) ، يقول للرب جراءة وكفرًا، والرب يحلم
وينظر ( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ
أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا
قَلِيلا )
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لأستولين على ذريته إلا قليلا.
وقال مجاهد: لأحتوين. وقال ابن زيد: لأضلنهم.
وكلها متقاربة، والمعنى: أنه يقول: أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ، لئن أنظرتني لأضلن ذرّيته إلا قليلا منهم.
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) .
لما سأل إبليس [عليه اللعنة] النظرة قال الله له: ( اذْهَبْ ) فقد أنظرتك. كما قال في الآية الأخرى: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
[ الحجر: 37 ، 38 ] ثم أوعده ومن تَبِعه من ذرية آدم جهنم، فقال: ( فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ ) أي: على أعمالكم (
جَزَاءً مَوْفُورًا )
قال مجاهد: وافرا. وقال قتادة: مُوَفّرا عليكم، لا ينقص لكم منه.
وقوله: ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قيل: هو الغناء. قال مجاهد: باللهو والغناء، أي: استخفهم بذلك.
وقال ابن عباس في قوله: ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
بِصَوْتِكَ ) قال: كل داع دعا إلى معصية الله، عز وجل، وقال قتادة، واختاره
ابن جرير.
وقوله: ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) يقول: واحمل عليهم بجنودك خَيَّالتهم ورَجْلتَهم ؛ فإن "الرّجْل" جمع "راجل" ، كما أن "الركب" جمع "راكب" و"صحب" جمع "صاحب".
ومعناه: تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه. وهذا أمر قدري، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ مريم: 83 ] أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا، وتسوقهم إليها سوقًا. وقال ابن عباس، ومجاهد في قوله: ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: كل راكب وماش في معصية الله.
وقال قتادة: إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.
وتقول العرب: "أجلب فلان على فلان": إذا صاح عليه. ومنه: "نهى في
المسابقة عن الجَلَب والجَنَب" ومنه اشتقاق "الجلبة" ، وهي ارتفاع الأصوات.
وقوله: ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله.
وقال عطاء: هو الربا. وقال الحسن: [هو] جمعها من خبيث، وإنفاقها في حرام. وكذا قال قتادة.
وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أما مشاركته إياهم في
أموالهم، فهو ما حرموه من أنعامهم، يعني: من البحائر والسوائب ونحوها. وكذا
قال الضحاك وقتادة.
[ثم] قال ابن جرير: والأولى أن يقال: إن الآية تعم ذلك كله.
وقوله: ( وَالأولادِ ) قال العوفي عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: يعني أولاد الزنا.
وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم.
وقال قتادة، عن الحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد
مَجَّسُوا وهودوا ونَصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام، وجَزَّؤوا من أموالهم
جزءًا للشيطان وكذا قال قتادة سواء.
وقال أبو صالح، عن ابن عباس: هو تسميتهم أولادهم "عبد الحارث" و"عبد شمس" و"عبد فلان".
قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: كل مولود ولدته أنثى، عصى الله فيه، بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله ووأده، وغير ذلك من الأمور التي يعصي
الله بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له
أو منه؛ لأن الله لم يخصص بقوله: ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ
وَالأولادِ ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكل ما عصي الله فيه -أو به،
وأطيع فيه الشيطان -أو به، فهو مشاركة.
وهذا الذي قاله مُتَّجه، وكل من السلف، رحمهم الله، فسر بعض المشاركة، فقد ثبت في صحيح مسلم، عن عياض بن حمار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم" .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدهم إذا
أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما
رزقتنا، فإنه إن يُقَدّر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدًا" .
وقوله: ( وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) كما
أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق: إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ الآية[ إبراهيم: 22 ] .
وقوله: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) : إخبار
بتأييده تعالى عباده المؤمنين، وحفظه إياهم، وحراسته لهم من الشيطان
الرجيم؛ ولهذا قال: ( وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ) أي: حافظًا ومؤيدًا
وناصرًا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهيعة، عن موسى بن وَرْدَان،
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
المؤمن ليُنْضي شياطينه كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر" .
ينضي، أي: يأخذ بناصيته ويقهره.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) .
يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر، وتسهيلها لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) أي: إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم، ورحمته بكم.
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة الإسراء
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة الإسراء
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثالث عشر من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الأول من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الثاني من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الثالث من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الرابع من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الأول من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الثاني من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الثالث من تفسير سورة الإسراء
» الجزء الرابع من تفسير سورة الإسراء
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الإسراء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى