الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
قد تقدم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعلي، رضي الله عنهما، في ضمن الأحاديث المذكورة. وقال ابن جرير:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُليَّة، عن ابن عَوْن، عن الحسن: أن ناسا سألوا
عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله، أمَرَ أن يُعمل
بها فلا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه،
فلقيه عمر، رضي الله عنه، فقال: متى قدمت؟ < 2-281 >
فقال: منذ كذا وكذا قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: يا
أمير المؤمنين، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله،
أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال: اجمعهم لي. قال: فجمعتهم له -قال ابن عون: أظنه قال: في بَهْو-فأخذ أدناهم رجلا فقال: نشدتك
بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم قال فهل أحصيته في
نفسك؟ قال اللهم لا. قال: ولو قال: نعم لخصمه. قال: فهل أحصيته في بصرك؟
فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم. قال: فثكلت عمر أمه. أتكلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟! قد علم ربنا أنه ستكون
لنا سيئات. قال: وتلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا
كَرِيمًا] ) ثم قال: هل علم أهل المدينة -أو قال: هل علم أحد-بما قدمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم.
إسناد حسن ومتن حسن، وإن كان من رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاع، إلا أن مثل هذا اشتهر فتكفي شهرته .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو أحمد -يعني
الزبيري-حدثنا علي بن صالح، عن عثمان بن المغيرة، عن مالك بن جوين، عن علي،
رضي الله عنه، قال: الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم،
وقذف المحصنَة، والفرار من الزَّحْف، والتعرب بعد الهجرة، والسِّحْر،
وعُقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة.
وتقدم عن ابن مسعود أنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، عز وجل.
وروى ابن
جرير، من حديث الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، والأعمش، عن إبراهيم، عن
علقمة، كلاهما عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين
آية منها. ومن حديث سفيان الثوري وشعبة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرّ
بن حُبيشِ، عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية
منها ثم تلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
[نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى بن عبيد،
حدثنا صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: أكبر الكبائر: الشرك
بالله، وعقوق الوالدين، ومنع فضول الماء بعد الري، ومنع طروق الفحل إلا بجُعْلٍ.
< 2-282 >
وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يُمنَع فَضْلُ الماءِ ليمنع به الكلأ"
وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم
القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فَضْلِ ماء بالفَلاةِ يمنعه
ابن السَّبيل"، وذكر الحديث بتمامه .
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده
مرفوعا: "من مَنَعَ فَضْلَ الماءِ وفَضْلَ الكَلأ منعه الله فضله يوم
القيامة" .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شَنَبَة
الواسطي، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن
عائشة، قالت: ما أُخِذ على النِّساء من الكبائر. قال ابن أبي حاتم: يعني قوله:
عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [وَلا
يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ
يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ]
الآية [الممتحنة: 12] .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا زياد بن
مِخْراق، عن معاوية بن قُرَّة قال: أتينا أنس بن مالك، فكان فيما حدثنا
قال: لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال. ثم سكت هُنية ثم قال: والله لما كلفنا
ربنا أهون من ذلك، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر، فما لنا ولها، ثم تلا (
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] ) .
أقوال ابن عباس في ذلك:
روى ابن جرير، من حديث المعتمر
بن سليمان، عن أبيه، عن طاوس قال: ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي
سبع، فقال: هي أكثر من سبع وسبع. قال سليمان: فما أدري كم قالها من مرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قُبَيْصَة، حدثنا سفيان، عن ليث،
عن طاوس قال: قلت لابن عباس: ما السبع الكبائر؟ قال: هي إلى السبعين أقرب
منها إلى السبع.
ورواه ابن جرير، عن ابن حميد، عن ليث، عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله؟ ما هن؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن طاوس، عن أبيه قال: قيل لابن عباس:
الكبائر سبع؟ قال: هن إلى السبعين أقرب، وكذا قال أبو العالية الرياحي،
رحمه الله.
< 2-283 >
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شِبْل، عن قيس عن
سعد، عن سعيد بن جُبير؛ أن رجلا قال لابن عباس: كم الكبائر؟ سبع؟ قال: هن
إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع
إصرار. وكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث شبل، به.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو
غضب أو لعنة أو عذاب. ورواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا
شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الكبائر: كل ما وعد الله عليه النار
كبيرة. وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب، عن محمد بن
سيرين قال: نبئت أن ابن عباس كان يقول: كل ما نهى الله عنه كبيرة. وقد ذكرت
الطَّرْفة [فيه] قال: هي النظرة.
وقال أيضا: حدثنا أحمد بن حازم، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن معدان، عن أبي الوليد قال: سألت ابن عباس عن الكبائر فقال هي كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة.
أقوال التابعين
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيّة، عن ابن
عَوْن، عن محمد قال: سألت عَبِيدة عن الكبائر، فقال: الإشراك بالله، وقتل
النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرار يوم الزَّحْف، وأكل مال اليتيم بغير
حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال: ويقولون: أعرابية بعد هجرة. قال ابن عون:
فقلت لمحمد: فالسحر؟ قال: إن البهتان يجمع شرا كبيرا .
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المُحَاربي
حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق، عن عُبيد بن عُمَير قال:
الكبائر سبع، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله: الإشراك بالله
منهن:
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ
[الحج:31] و
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
[النساء: 10]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
[البقرة: 275] و
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
[النور: 23] والفرار من الزحف:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ]
[الأنفال: 15]، والتعرب بعد الهجرة:
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
[محمد: 25]، وقتل المؤمن:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
الآية [النساء: 93].
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق، عن عُبَيد، بنحوه.
< 2-284 >
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي
نَجِيح، عن عطاء -يعني ابن أبي رباح-قال: الكبائر سبع: قتل النَّفْسِ، وأكل
الربا وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقُوق الوالدين،
والفِرَار من الزَّحْف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا
جرير، عن مغيرة قال: كان يقال شَتْمُ أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، من
الكبائر.
قلت: وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سَبَّ الصحابة، وهو رواية
عن مالك بن أنس، رحمه الله: وقال محمد بن سيرين: ما أظن أحدا ينتقص أبا بكر، وعمر، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عبد الله بن عيَّاش، قال
زيد بن أسلم في قول الله عز وجل: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) من الكبائر: الشرك، والكفر بآيات الله ورسوله، والسحر،
وقتل الأولاد، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة، ومثل ذلك من الأعمال، والقول
الذي لا يصلح معه عمل، وأما كل ذنب يصلح معه دين، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات.
وقال ابن جرير: حدثنا بِشْر بن معاذ، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن
قتادة: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية: إنما
وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه
وسلم قال: "اجْتَنِبُوا الْكَبائر، وسَدِّدُوا، وأبْشِرُوا".
وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس، وعن جابر مرفوعا: "شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي"
ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف، إلا ما رواه عبد الرزاق: أخبرنا
مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَفاعتي
لأهْلِ الكبائرِ من أمتي". فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه، عن عباس العَنْبري، عن عبد الرزاق ثم قال: هذا حديث حسن صحيح
وفي الصحيح شاهد لمعناه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة:
"أترَوْنَها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين المُتَلَوِّثِينَ".
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل: هي ما عليه حدٌّ في الشرع.
< 2-285 >
ومنهم من قال: هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة. وقيل غير
ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، في كتابه الشرح الكبير
الشهير، في كتاب الشهادات منه: ثم اختلف الصحابة، رضي الله [ تعالى ] عنهم، فمن بعدهم في الكبائر، وفي الفرق بينها وبين الصغائر، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه:
أحدها: أنها المعصية الموجبة للحد.
والثاني: أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة. وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهو وإلى الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر.
والثالث: قال إمام الحرمين في "الإرشاد" وغيره: كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة.
والرابع: ذكر القاضي أبو سعيد
الهروي أن الكبيرة: كل فِعْل نَصَّ الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في
جنسها حدًّا من قتل أو غيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في
الشهادة، والرواية، واليمين.
هذا ما ذكره على سبيل الضبط.
ثم قال: وفصل القاضي الروياني فقال: الكبائر سبع: قتل النفس بغير الحق،
والزنا، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصبا، والقذف. وزاد في
"الشامل" على السبع المذكورة: شهادة الزور. وأضاف إليها صاحب العدة: أكل
الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق
الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن،
وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها، بلا عذر، وضرب المسلم بلا
حق، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا، وسب أصحابه، وكتمان
الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند
السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة،
ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها
بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما يعد من الكبائر: الظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.
ثم قال الرافعي: وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال.
قلت: وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة، وإذا قيل: إن الكبيرة [هى] ما توعد < 2-286 >
الشارع عليها بالنار بخصوصها، كما قال ابن عباس، وغيره، وتتبع ذلك، اجتمع منه شيء كثير، وإذا قيل: كل ما نهى الله [تعالى] عنه فكثير جدًّا، والله [تعالى] أعلم.
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
(32)
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: قالت
أم سلمة: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل
الله عز وجل: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ
عَلَى بَعْضٍ )
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد،
عن أمّ سلمة أنها قالت: قلت: يا رسول الله... فذكره، وقال: غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن أم سلمة قالت...
ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من
حديث الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله،
لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) ثم نزلت:
أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
[آل عمران: 195].
ثم قال ابن أبي حاتم: وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيح
بهذا اللفظ. وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، وعن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله... وروي عن مقاتل بن
حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك.
وروى ابن جرير من حديث ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن شيخ من أهل مكة قال: نزلت هذه
الآية في قول النساء: ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله
عز وجل .
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن
عبد الرحمن، حدثني أبي، حدثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفر -يعني ابن أبي
المغيرة-عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في [قوله]
( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ ) قال: أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي
الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة. فأنزل الله هذه الآية: ( وَلا تَتَمَنَّوْا ) فإنه عدل مني، وأنا صنعته.
< 2-287 >
وقال السدي: قوله: في الآية ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من
الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: نريد
أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب
علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي قال:
ليس بعرض الدنيا.
وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: (
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ )
قال ولا يتمنى الرجل فيقول: "ليت لو أن لي مال فلان وأهله!" فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله.
وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك
وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح: "لا حَسَد إلا في
اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق، فيقول رجل:
لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله. فهما في الأجر سواء"
فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل
نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، فقال: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي: في الأمور الدنيوية،
وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة، وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح:
نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون.
رواه ابن جرير.
ثم قال: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) أي: كل له جزاء على عمله بحسبه، إن خيرا
فخير، وإن شرا فشر. وهو قول ابن جرير.
وقيل: المراد بذلك في الميراث، أي: كل يرث بحسبه. رواه الترمذي عن ابن عباس:
ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) [أي] لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإني كريم وهاب.
وقد روى الترمذي، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد: سمعت إسرائيل عن
أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "سلُوا الله من فَضْلِه؛ فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج".
ثم قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو
نُعَيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع، عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن < 2-288 >
حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: "سَلُوا الله من فَضْلِه، فإن الله يحب أن يُسأل، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج" .
ثم قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) أي: هو عليم
بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق
الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا
(33)
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن
أسلم، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في قوله: ( وَلِكُلٍّ
جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) أي: ورثة. وعن ابن عباس في رواية: أي عَصَبة. قال
ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن عباس:
قال:
ويعني بقوله: ( مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) من تركة
والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلكم -أيها الناس-جعلنا عصبة
يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له.
وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي: والذين تحالفتم بالأيمان
المؤكدة -أنتم وهم-فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان
المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في
ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا
بعد نزول هذه الآية معاقدة.
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة
بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ )
قال: ورثة، ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) كان المهاجرون لما
قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي
صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ )
نُسخت، ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ ) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له.
ثم قال البخاري: سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، حدثنا
إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مُصَرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في
قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ] ) الآية، < 2-289 >
قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي
رحمه؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه
الآية: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأقْرَبُونَ ) نُسخت. ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) .
وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حَجّاج، عن ابن جُرَيْج -وعثمان
بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، يقول:
ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ، فلا يَزِيدُه
الإسلامُ إلا شدَّةً، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ". فنسختها هذه
الآية:
وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
[الأنفال:75].
ثم قال: وروي عن سعيد بن المُسَيَّب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وسعيد بن
جُبَيْر، وأبي صالح، والشَّعْبِي، وسليمان بن يَسار، وعكرمة، والسُّدِّي،
والضَّحَّاك، وقتادة، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا: هم الحلفاء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شَريك، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة،
عن ابن عباس -ورفعه-قال: "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام
إلا حدة وشدة" .
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شريك، عن سِمَاك، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحدثنا أبو
كريب، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل عن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن
مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا حِلْفَ في الإسلام، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده
الإسلام إلا شِدَّة، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ
الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة" هذا لفظ ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن
عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد
الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شهِدتُ حِلْف
المُطيَّبين، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا
أنكثُهُ". قال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يُصب
الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً". قال: "ولا حِلْف في الإسلام". وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، بتمامه .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرني مغيرة، عن أبيه، عن
شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن
الحلف، قال: فقال: "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا
حِلْفٍ في الإسلام".
< 2-290 >
وكذا رواه أحمد عن هشيم .
وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن
جُدْعان، عن جدته، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا
شِدَّةً" .
وحدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق، عن عَمْرو
بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام
الفتح قام خطيبا في الناس فقال: "يا أيها الناس، ما كان من حِلْفٍ في
الجاهلية، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلامِ".
ثم رواه من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عَمْرو بن شعيب، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة،
عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأيما حلف كان في
الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً".
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد، وهو أبو بكر بن أبي شيبة،
بإسناده، مثله. ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن
بشر وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريا -وهو ابن أبي زائدة -بإسناده، مثله.
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر، به. ورواه النسائي من حديث إسحاق
بن يوسف الأزرق، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن
أبيه، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، قال: مغيرة أخبرنى، عن أبيه، عن شعبة بن
التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف،
فقال: "ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفَ في
الإسْلامِ".
وكذا رواه شعبة، عن مغيرة -وهو ابن مِقْسَم-عن أبيه، به.
وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت
الربيع، مع ابن ابنها موسى بن سعد -وكانت يتيمة في حجر أبي بكر -فقرأت
عليها ( وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) فقالت: لا ولكن: (
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قالت: إنما نزلت في أبي بكر وابنه
عبد الرحمن، حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم حين حمل
على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه.
رواه ابن أبي حاتم، وهذا قول غريب، والصحيح الأول، وأن هذا كان في
ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن
كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود < 2-291 >
والعهود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم
وغيره من الصحابة: لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده
الإسلام إلا شدة.
وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل،رحمه الله.
والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ ولهذا قال
تعالى: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأقْرَبُونَ ) أي: ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون
سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ
ذَكَرٍ"
أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض،
فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة، وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ ) أي: قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث،
فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له.
وقد قيل: إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الماضي أيضا، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتم.
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني
طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
) قال: من النصرة والنصيحة والرّفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث.
ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، نحو ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَت
أَيْمَانُكُمْ ) قال: كان الرجل يعاقد الرجل، أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل
الله:
وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا
[الأحزاب: 6]. يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف.
وهذا نص غير واحد من السلف: أنها منسوخة بقوله:
وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا
وقال سعيد بن جبير: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي: من الميراث. قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه. رواه ابن جرير.
وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون
رجالا غير أبنائهم، يورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية،
ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا
ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية. رواه ابن جرير.
< 2-292 >
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:
من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث -حتى
تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ، بل إنما دلت الآية على
الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا منسوخة.
وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة
والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال
ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك,
فكيف يقول: إن هذه الآية محكمة غير منسوخة ؟! والله أعلم
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُليَّة، عن ابن عَوْن، عن الحسن: أن ناسا سألوا
عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله، أمَرَ أن يُعمل
بها فلا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه،
فلقيه عمر، رضي الله عنه، فقال: متى قدمت؟ < 2-281 >
فقال: منذ كذا وكذا قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: يا
أمير المؤمنين، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله،
أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال: اجمعهم لي. قال: فجمعتهم له -قال ابن عون: أظنه قال: في بَهْو-فأخذ أدناهم رجلا فقال: نشدتك
بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم قال فهل أحصيته في
نفسك؟ قال اللهم لا. قال: ولو قال: نعم لخصمه. قال: فهل أحصيته في بصرك؟
فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم. قال: فثكلت عمر أمه. أتكلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟! قد علم ربنا أنه ستكون
لنا سيئات. قال: وتلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا
كَرِيمًا] ) ثم قال: هل علم أهل المدينة -أو قال: هل علم أحد-بما قدمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم.
إسناد حسن ومتن حسن، وإن كان من رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاع، إلا أن مثل هذا اشتهر فتكفي شهرته .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو أحمد -يعني
الزبيري-حدثنا علي بن صالح، عن عثمان بن المغيرة، عن مالك بن جوين، عن علي،
رضي الله عنه، قال: الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم،
وقذف المحصنَة، والفرار من الزَّحْف، والتعرب بعد الهجرة، والسِّحْر،
وعُقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة.
وتقدم عن ابن مسعود أنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، عز وجل.
وروى ابن
جرير، من حديث الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، والأعمش، عن إبراهيم، عن
علقمة، كلاهما عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين
آية منها. ومن حديث سفيان الثوري وشعبة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرّ
بن حُبيشِ، عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية
منها ثم تلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
[نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] )
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى بن عبيد،
حدثنا صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: أكبر الكبائر: الشرك
بالله، وعقوق الوالدين، ومنع فضول الماء بعد الري، ومنع طروق الفحل إلا بجُعْلٍ.
< 2-282 >
وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يُمنَع فَضْلُ الماءِ ليمنع به الكلأ"
وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم
القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فَضْلِ ماء بالفَلاةِ يمنعه
ابن السَّبيل"، وذكر الحديث بتمامه .
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده
مرفوعا: "من مَنَعَ فَضْلَ الماءِ وفَضْلَ الكَلأ منعه الله فضله يوم
القيامة" .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شَنَبَة
الواسطي، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن
عائشة، قالت: ما أُخِذ على النِّساء من الكبائر. قال ابن أبي حاتم: يعني قوله:
عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [وَلا
يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ
يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ]
الآية [الممتحنة: 12] .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا زياد بن
مِخْراق، عن معاوية بن قُرَّة قال: أتينا أنس بن مالك، فكان فيما حدثنا
قال: لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال. ثم سكت هُنية ثم قال: والله لما كلفنا
ربنا أهون من ذلك، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر، فما لنا ولها، ثم تلا (
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] ) .
أقوال ابن عباس في ذلك:
روى ابن جرير، من حديث المعتمر
بن سليمان، عن أبيه، عن طاوس قال: ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي
سبع، فقال: هي أكثر من سبع وسبع. قال سليمان: فما أدري كم قالها من مرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قُبَيْصَة، حدثنا سفيان، عن ليث،
عن طاوس قال: قلت لابن عباس: ما السبع الكبائر؟ قال: هي إلى السبعين أقرب
منها إلى السبع.
ورواه ابن جرير، عن ابن حميد، عن ليث، عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله؟ ما هن؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن طاوس، عن أبيه قال: قيل لابن عباس:
الكبائر سبع؟ قال: هن إلى السبعين أقرب، وكذا قال أبو العالية الرياحي،
رحمه الله.
< 2-283 >
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شِبْل، عن قيس عن
سعد، عن سعيد بن جُبير؛ أن رجلا قال لابن عباس: كم الكبائر؟ سبع؟ قال: هن
إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع
إصرار. وكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث شبل، به.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو
غضب أو لعنة أو عذاب. ورواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا
شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الكبائر: كل ما وعد الله عليه النار
كبيرة. وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب، عن محمد بن
سيرين قال: نبئت أن ابن عباس كان يقول: كل ما نهى الله عنه كبيرة. وقد ذكرت
الطَّرْفة [فيه] قال: هي النظرة.
وقال أيضا: حدثنا أحمد بن حازم، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن معدان، عن أبي الوليد قال: سألت ابن عباس عن الكبائر فقال هي كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة.
أقوال التابعين
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيّة، عن ابن
عَوْن، عن محمد قال: سألت عَبِيدة عن الكبائر، فقال: الإشراك بالله، وقتل
النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرار يوم الزَّحْف، وأكل مال اليتيم بغير
حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال: ويقولون: أعرابية بعد هجرة. قال ابن عون:
فقلت لمحمد: فالسحر؟ قال: إن البهتان يجمع شرا كبيرا .
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المُحَاربي
حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق، عن عُبيد بن عُمَير قال:
الكبائر سبع، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله: الإشراك بالله
منهن:
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ
[الحج:31] و
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
[النساء: 10]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
[البقرة: 275] و
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
[النور: 23] والفرار من الزحف:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ]
[الأنفال: 15]، والتعرب بعد الهجرة:
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
[محمد: 25]، وقتل المؤمن:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
الآية [النساء: 93].
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق، عن عُبَيد، بنحوه.
< 2-284 >
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي
نَجِيح، عن عطاء -يعني ابن أبي رباح-قال: الكبائر سبع: قتل النَّفْسِ، وأكل
الربا وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقُوق الوالدين،
والفِرَار من الزَّحْف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا
جرير، عن مغيرة قال: كان يقال شَتْمُ أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، من
الكبائر.
قلت: وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سَبَّ الصحابة، وهو رواية
عن مالك بن أنس، رحمه الله: وقال محمد بن سيرين: ما أظن أحدا ينتقص أبا بكر، وعمر، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عبد الله بن عيَّاش، قال
زيد بن أسلم في قول الله عز وجل: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) من الكبائر: الشرك، والكفر بآيات الله ورسوله، والسحر،
وقتل الأولاد، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة، ومثل ذلك من الأعمال، والقول
الذي لا يصلح معه عمل، وأما كل ذنب يصلح معه دين، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات.
وقال ابن جرير: حدثنا بِشْر بن معاذ، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن
قتادة: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية: إنما
وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه
وسلم قال: "اجْتَنِبُوا الْكَبائر، وسَدِّدُوا، وأبْشِرُوا".
وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس، وعن جابر مرفوعا: "شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي"
ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف، إلا ما رواه عبد الرزاق: أخبرنا
مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَفاعتي
لأهْلِ الكبائرِ من أمتي". فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه، عن عباس العَنْبري، عن عبد الرزاق ثم قال: هذا حديث حسن صحيح
وفي الصحيح شاهد لمعناه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة:
"أترَوْنَها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين المُتَلَوِّثِينَ".
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل: هي ما عليه حدٌّ في الشرع.
< 2-285 >
ومنهم من قال: هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة. وقيل غير
ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، في كتابه الشرح الكبير
الشهير، في كتاب الشهادات منه: ثم اختلف الصحابة، رضي الله [ تعالى ] عنهم، فمن بعدهم في الكبائر، وفي الفرق بينها وبين الصغائر، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه:
أحدها: أنها المعصية الموجبة للحد.
والثاني: أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة. وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهو وإلى الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر.
والثالث: قال إمام الحرمين في "الإرشاد" وغيره: كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة.
والرابع: ذكر القاضي أبو سعيد
الهروي أن الكبيرة: كل فِعْل نَصَّ الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في
جنسها حدًّا من قتل أو غيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في
الشهادة، والرواية، واليمين.
هذا ما ذكره على سبيل الضبط.
ثم قال: وفصل القاضي الروياني فقال: الكبائر سبع: قتل النفس بغير الحق،
والزنا، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصبا، والقذف. وزاد في
"الشامل" على السبع المذكورة: شهادة الزور. وأضاف إليها صاحب العدة: أكل
الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق
الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن،
وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها، بلا عذر، وضرب المسلم بلا
حق، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا، وسب أصحابه، وكتمان
الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند
السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة،
ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها
بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما يعد من الكبائر: الظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.
ثم قال الرافعي: وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال.
قلت: وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة، وإذا قيل: إن الكبيرة [هى] ما توعد < 2-286 >
الشارع عليها بالنار بخصوصها، كما قال ابن عباس، وغيره، وتتبع ذلك، اجتمع منه شيء كثير، وإذا قيل: كل ما نهى الله [تعالى] عنه فكثير جدًّا، والله [تعالى] أعلم.
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
(32)
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: قالت
أم سلمة: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل
الله عز وجل: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ
عَلَى بَعْضٍ )
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد،
عن أمّ سلمة أنها قالت: قلت: يا رسول الله... فذكره، وقال: غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن أم سلمة قالت...
ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من
حديث الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله،
لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) ثم نزلت:
أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
[آل عمران: 195].
ثم قال ابن أبي حاتم: وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيح
بهذا اللفظ. وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، وعن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله... وروي عن مقاتل بن
حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك.
وروى ابن جرير من حديث ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن شيخ من أهل مكة قال: نزلت هذه
الآية في قول النساء: ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله
عز وجل .
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن
عبد الرحمن، حدثني أبي، حدثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفر -يعني ابن أبي
المغيرة-عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في [قوله]
( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ ) قال: أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي
الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة. فأنزل الله هذه الآية: ( وَلا تَتَمَنَّوْا ) فإنه عدل مني، وأنا صنعته.
< 2-287 >
وقال السدي: قوله: في الآية ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من
الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: نريد
أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب
علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي قال:
ليس بعرض الدنيا.
وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: (
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ )
قال ولا يتمنى الرجل فيقول: "ليت لو أن لي مال فلان وأهله!" فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله.
وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك
وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح: "لا حَسَد إلا في
اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق، فيقول رجل:
لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله. فهما في الأجر سواء"
فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل
نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، فقال: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي: في الأمور الدنيوية،
وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة، وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح:
نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون.
رواه ابن جرير.
ثم قال: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) أي: كل له جزاء على عمله بحسبه، إن خيرا
فخير، وإن شرا فشر. وهو قول ابن جرير.
وقيل: المراد بذلك في الميراث، أي: كل يرث بحسبه. رواه الترمذي عن ابن عباس:
ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) [أي] لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإني كريم وهاب.
وقد روى الترمذي، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد: سمعت إسرائيل عن
أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "سلُوا الله من فَضْلِه؛ فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج".
ثم قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو
نُعَيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع، عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن < 2-288 >
حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: "سَلُوا الله من فَضْلِه، فإن الله يحب أن يُسأل، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج" .
ثم قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) أي: هو عليم
بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق
الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا
(33)
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن
أسلم، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في قوله: ( وَلِكُلٍّ
جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) أي: ورثة. وعن ابن عباس في رواية: أي عَصَبة. قال
ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن عباس:
مَهْــلا بنـي عَمّنـا مَهْـلا مَوالينـا | | لا تُظْهـِرَن لنا مــا كــان مـدفُـونا |
ويعني بقوله: ( مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) من تركة
والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلكم -أيها الناس-جعلنا عصبة
يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له.
وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي: والذين تحالفتم بالأيمان
المؤكدة -أنتم وهم-فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان
المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في
ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا
بعد نزول هذه الآية معاقدة.
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة
بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ )
قال: ورثة، ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) كان المهاجرون لما
قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي
صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ )
نُسخت، ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ ) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له.
ثم قال البخاري: سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، حدثنا
إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مُصَرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في
قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ] ) الآية، < 2-289 >
قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي
رحمه؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه
الآية: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأقْرَبُونَ ) نُسخت. ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) .
وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حَجّاج، عن ابن جُرَيْج -وعثمان
بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، يقول:
ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ، فلا يَزِيدُه
الإسلامُ إلا شدَّةً، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ". فنسختها هذه
الآية:
وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
[الأنفال:75].
ثم قال: وروي عن سعيد بن المُسَيَّب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وسعيد بن
جُبَيْر، وأبي صالح، والشَّعْبِي، وسليمان بن يَسار، وعكرمة، والسُّدِّي،
والضَّحَّاك، وقتادة، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا: هم الحلفاء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شَريك، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة،
عن ابن عباس -ورفعه-قال: "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام
إلا حدة وشدة" .
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شريك، عن سِمَاك، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحدثنا أبو
كريب، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل عن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن
مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا حِلْفَ في الإسلام، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده
الإسلام إلا شِدَّة، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ
الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة" هذا لفظ ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن
عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد
الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شهِدتُ حِلْف
المُطيَّبين، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا
أنكثُهُ". قال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يُصب
الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً". قال: "ولا حِلْف في الإسلام". وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، بتمامه .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرني مغيرة، عن أبيه، عن
شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن
الحلف، قال: فقال: "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا
حِلْفٍ في الإسلام".
< 2-290 >
وكذا رواه أحمد عن هشيم .
وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن
جُدْعان، عن جدته، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا
شِدَّةً" .
وحدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق، عن عَمْرو
بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام
الفتح قام خطيبا في الناس فقال: "يا أيها الناس، ما كان من حِلْفٍ في
الجاهلية، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلامِ".
ثم رواه من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عَمْرو بن شعيب، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة،
عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأيما حلف كان في
الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً".
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد، وهو أبو بكر بن أبي شيبة،
بإسناده، مثله. ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن
بشر وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريا -وهو ابن أبي زائدة -بإسناده، مثله.
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر، به. ورواه النسائي من حديث إسحاق
بن يوسف الأزرق، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن
أبيه، به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، قال: مغيرة أخبرنى، عن أبيه، عن شعبة بن
التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف،
فقال: "ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفَ في
الإسْلامِ".
وكذا رواه شعبة، عن مغيرة -وهو ابن مِقْسَم-عن أبيه، به.
وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت
الربيع، مع ابن ابنها موسى بن سعد -وكانت يتيمة في حجر أبي بكر -فقرأت
عليها ( وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) فقالت: لا ولكن: (
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قالت: إنما نزلت في أبي بكر وابنه
عبد الرحمن، حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم حين حمل
على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه.
رواه ابن أبي حاتم، وهذا قول غريب، والصحيح الأول، وأن هذا كان في
ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن
كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود < 2-291 >
والعهود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم
وغيره من الصحابة: لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده
الإسلام إلا شدة.
وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل،رحمه الله.
والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ ولهذا قال
تعالى: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأقْرَبُونَ ) أي: ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون
سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ
ذَكَرٍ"
أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض،
فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة، وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ ) أي: قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث،
فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له.
وقد قيل: إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الماضي أيضا، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتم.
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني
طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
) قال: من النصرة والنصيحة والرّفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث.
ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، نحو ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَت
أَيْمَانُكُمْ ) قال: كان الرجل يعاقد الرجل، أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل
الله:
وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا
[الأحزاب: 6]. يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف.
وهذا نص غير واحد من السلف: أنها منسوخة بقوله:
وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا
وقال سعيد بن جبير: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي: من الميراث. قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه. رواه ابن جرير.
وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون
رجالا غير أبنائهم، يورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية،
ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا
ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية. رواه ابن جرير.
< 2-292 >
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:
من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث -حتى
تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ، بل إنما دلت الآية على
الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا منسوخة.
وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة
والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال
ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك,
فكيف يقول: إن هذه الآية محكمة غير منسوخة ؟! والله أعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء التاسع عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الأول من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السادس عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الأول من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء السابع عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى