الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
قال [علي]
بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ ) يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما،
فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: ( إِلا مَنْ ظُلِمَ ) وإن
صبر فهو خير له.
وقال
أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن
عطاء، عن عائشة قالت: سُرق لها شيء، فجعلت تدعو عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تُسَبّخي عنه" .
وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي
منه. وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي
عليه.
وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه؛ لقوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41].
وقال
أبو داود: حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن
أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْتَبَّانِ
ما قالا فعلى البادئ منهما، ما لم يعتد المظلوم" .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله: ( لا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ )
قال: ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال:
"ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي". فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من
ظلم، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته.
وقال محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ ) قال: قال هو
الرجل ينـزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: "أساء ضيافتي، ولم
يحسن". وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من
القول.
وكذا روي عن غير واحد، عن مجاهد، نحو هذا. وقد روى الجماعة سوى النسائي
والترمذي، من طريق الليث بن سعد -والترمذي من حديث ابن لَهِيعة-كلاهما عن
يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله، عن عقبة بن عامر قال:
قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا
فننـزل بقوم فلا يَقْرُونا، فما ترى في ذلك؟ قال: "إذا نـزلتم بقوم
فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق
الضيف الذي ينبغي لهم" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا الجودي
يحدث، عن سعيد بن المهاجر، عن المقدام أبي كريمة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "أيما مسلمٍ ضاف قومًا، فأصبح الضيف محرومًا، فإن حقًا على
كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله".
تفرد به أحمد من هذا الوجه
وقال أحمد أيضًا: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة، حدثني منصور، عن
الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له
عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه".
ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة. وعن زياد بن عبد الله البكَّائي. عن وَكِيع، وأبي نُعَيْم، عن سفيان الثوري -ثلاثتهم عن منصور، به. وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة، عن منصور، به .
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار.
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا محمد بن عَجْلان، عن
أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي
جارا يؤذيني، فقال له: "أخرج متاعك فضعه على الطريق". فأخذ الرجل متاعه
فطرحه على الطريق، فجعل كل من مر به قال: مالك؟ قال: جاري يؤذيني. فيقول:
اللهم العنه، اللهم أخزه! قال: فقال الرجل: ارجع إلى منـزلك، وقال لا أوذيك أبدًا".
وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان به .
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، ورواه أبو
جُحَيفة وهب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله
بن سلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) أي: إن تظهروا -أيها
الناس-خيرًا، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم
عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته
على عقابهم. ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ؛
ولهذا ورد في الأثر: أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم: سبحانك على
حلمك بعد علمك. ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك. وفي الحديث
الصحيح: "ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، ومن تواضع لله رفعه الله" .
إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (152)
يتوعد [تبارك و]
تعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى، حيث فَرّقوا بين الله ورسله
في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة، وما
ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك
بل بمجرد الهوى والعصبية. فاليهود -عليهم لعائن الله-آمنوا بالأنبياء إلا
عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا
بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد
يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال: إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال
له زرادشت، ثم كفروا بشرعه، فرفع من بين أظهرهم، والله أعلم.
والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء، فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن
الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو
العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا
شرعيًّا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله (
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أي: في الإيمان
( وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) أي: طريقًا ومسلكًا.
ثم أخبر تعالى عنهم، فقال: ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) أي:
كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيًّا، إذ لو كانوا
مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى
برهانًا منه، أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) أي: كما
استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه
وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد
علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى
الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه
وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل
الأخروي: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 61] في الدنيا والآخرة.
وقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) يعني بذلك: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم
يؤمنون بكل كتاب أنـزله الله وبكل نبي بعثه الله، كما قال تعالى: آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ [وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] [البقرة: 285] .
ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء
الجميل، فقال: ( أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) على ما آمنوا
بالله ورسله ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي: لذنوبهم أي: إن كان
لبعضهم ذنوب.
يَسْأَلُكَ
أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ
ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ
سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
قال محمد بن كعب القرظي، والسدي، وقتادة: سأل اليهود رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم أن ينـزل عليهم كتابًا من السماء. كما نـزلت التوراة على
موسى مكتوبة.
قال ابن جُرَيج: سألوه أن ينـزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان
وفلان وفلان، بتصديقه فيما جاءهم به. وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت
والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور
في سورة "سبحان": وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا
[الإسراء: 90، 93] الآيات. ولهذا قال تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى
أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) أي: بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم. وهذا
مفسر في سورة "البقرة" حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 55، 56].
وقوله تعالى: ( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ ) أي: من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة
على يد موسى، عليه السلام، في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدو الله فرعون وجميع جنوده في اليمّ، فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأعراف: 138، 139] . ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة
في سورة "الأعراف" ، وفي سورة "طه" بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله، عز
وجل، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه: أن
يقتُلَ من لم يعبد العجل منهم من عبده، فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم
الله، عز وجل، فقال الله عز وجل ( فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا )
ثم قال تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ) وذلك
حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به
موسى، عليه السلام، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا،
وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأعراف: 171].
( وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) أي: فخالفوا ما أمروا
به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا، وهم
يقولون: حطة. أي: اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه، حتى تهنا في التيه أربعين سنة. فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون: حنطة في شعرة.
( وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ) أي: وصيناهم بحفظ السبت
والتزام ما حرّم الله عليهم، ما دام مشروعًا لهم ( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا ) أي: شديدا، فخالفوا وعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب
مناهى الله، عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ] [الأعراف: 163-166] الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال، في سورة "سبحان" عند قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101]، وفيه: "وعليكم -خاصة يهود-أن لا تعدوا في السبت".
قال [علي]
بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ ) يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما،
فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: ( إِلا مَنْ ظُلِمَ ) وإن
صبر فهو خير له.
وقال
أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن
عطاء، عن عائشة قالت: سُرق لها شيء، فجعلت تدعو عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تُسَبّخي عنه" .
وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي
منه. وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي
عليه.
وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه؛ لقوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41].
وقال
أبو داود: حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن
أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْتَبَّانِ
ما قالا فعلى البادئ منهما، ما لم يعتد المظلوم" .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله: ( لا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ )
قال: ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال:
"ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي". فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من
ظلم، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته.
وقال محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ ) قال: قال هو
الرجل ينـزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: "أساء ضيافتي، ولم
يحسن". وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من
القول.
وكذا روي عن غير واحد، عن مجاهد، نحو هذا. وقد روى الجماعة سوى النسائي
والترمذي، من طريق الليث بن سعد -والترمذي من حديث ابن لَهِيعة-كلاهما عن
يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله، عن عقبة بن عامر قال:
قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا
فننـزل بقوم فلا يَقْرُونا، فما ترى في ذلك؟ قال: "إذا نـزلتم بقوم
فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق
الضيف الذي ينبغي لهم" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا الجودي
يحدث، عن سعيد بن المهاجر، عن المقدام أبي كريمة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "أيما مسلمٍ ضاف قومًا، فأصبح الضيف محرومًا، فإن حقًا على
كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله".
تفرد به أحمد من هذا الوجه
وقال أحمد أيضًا: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة، حدثني منصور، عن
الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له
عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه".
ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة. وعن زياد بن عبد الله البكَّائي. عن وَكِيع، وأبي نُعَيْم، عن سفيان الثوري -ثلاثتهم عن منصور، به. وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة، عن منصور، به .
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار.
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا محمد بن عَجْلان، عن
أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي
جارا يؤذيني، فقال له: "أخرج متاعك فضعه على الطريق". فأخذ الرجل متاعه
فطرحه على الطريق، فجعل كل من مر به قال: مالك؟ قال: جاري يؤذيني. فيقول:
اللهم العنه، اللهم أخزه! قال: فقال الرجل: ارجع إلى منـزلك، وقال لا أوذيك أبدًا".
وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان به .
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، ورواه أبو
جُحَيفة وهب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله
بن سلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) أي: إن تظهروا -أيها
الناس-خيرًا، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم
عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته
على عقابهم. ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ؛
ولهذا ورد في الأثر: أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم: سبحانك على
حلمك بعد علمك. ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك. وفي الحديث
الصحيح: "ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، ومن تواضع لله رفعه الله" .
إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (152)
يتوعد [تبارك و]
تعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى، حيث فَرّقوا بين الله ورسله
في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة، وما
ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك
بل بمجرد الهوى والعصبية. فاليهود -عليهم لعائن الله-آمنوا بالأنبياء إلا
عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا
بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد
يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال: إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال
له زرادشت، ثم كفروا بشرعه، فرفع من بين أظهرهم، والله أعلم.
والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء، فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن
الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو
العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا
شرعيًّا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله (
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أي: في الإيمان
( وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) أي: طريقًا ومسلكًا.
ثم أخبر تعالى عنهم، فقال: ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) أي:
كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيًّا، إذ لو كانوا
مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى
برهانًا منه، أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) أي: كما
استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه
وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد
علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى
الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه
وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل
الأخروي: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 61] في الدنيا والآخرة.
وقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) يعني بذلك: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم
يؤمنون بكل كتاب أنـزله الله وبكل نبي بعثه الله، كما قال تعالى: آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ [وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] [البقرة: 285] .
ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء
الجميل، فقال: ( أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) على ما آمنوا
بالله ورسله ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي: لذنوبهم أي: إن كان
لبعضهم ذنوب.
يَسْأَلُكَ
أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ
ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ
سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
قال محمد بن كعب القرظي، والسدي، وقتادة: سأل اليهود رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم أن ينـزل عليهم كتابًا من السماء. كما نـزلت التوراة على
موسى مكتوبة.
قال ابن جُرَيج: سألوه أن ينـزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان
وفلان وفلان، بتصديقه فيما جاءهم به. وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت
والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور
في سورة "سبحان": وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا
[الإسراء: 90، 93] الآيات. ولهذا قال تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى
أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) أي: بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم. وهذا
مفسر في سورة "البقرة" حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 55، 56].
وقوله تعالى: ( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ ) أي: من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة
على يد موسى، عليه السلام، في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدو الله فرعون وجميع جنوده في اليمّ، فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأعراف: 138، 139] . ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة
في سورة "الأعراف" ، وفي سورة "طه" بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله، عز
وجل، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه: أن
يقتُلَ من لم يعبد العجل منهم من عبده، فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم
الله، عز وجل، فقال الله عز وجل ( فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا )
ثم قال تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ) وذلك
حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به
موسى، عليه السلام، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا،
وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأعراف: 171].
( وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) أي: فخالفوا ما أمروا
به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا، وهم
يقولون: حطة. أي: اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه، حتى تهنا في التيه أربعين سنة. فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون: حنطة في شعرة.
( وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ) أي: وصيناهم بحفظ السبت
والتزام ما حرّم الله عليهم، ما دام مشروعًا لهم ( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا ) أي: شديدا، فخالفوا وعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب
مناهى الله، عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ] [الأعراف: 163-166] الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال، في سورة "سبحان" عند قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101]، وفيه: "وعليكم -خاصة يهود-أن لا تعدوا في السبت".
الموضوع الأصلي : الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الموضوع الأصلي : الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
رد: الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
الموضوع الأصلي : الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الموضوع
الموضوع الأصلي : الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
الموضوع الأصلي : الجزء التاسع والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
المصدر : ملتقى الجزائريين والعرب
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء التاسع عشر من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء التاسع من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الواحد والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثاني والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
» الجزء الثالث والعشرون من تفسير سورة النساء لابن كثير
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النساء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى