الجزء الخامس من تفسير سورة الكهف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الكهف
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة الكهف
وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ
ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
وقوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) أي: اجلس
مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه
بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء.
يقال: إنها نـزلت في أشراف قريش، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم
أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب [وخباب] وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة. فنهاه الله عن ذلك، فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآية [الأنعام:52] ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله
الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شُرَيْح، عن أبيه، عن سعد -هو ابن أبي
وقاص-قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي
صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا!. قال: وكنت أنا وابن
مسعود، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان نسيت اسميهما
فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث
نفسه، فأنـزل الله عز وجل: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) انفرد بإخراجه مسلم دون
البخاري
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح
قال: سمعت أبا الجعد يحدّث عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم على قاص يقص، فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُص، فلأن
أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربع رقاب"
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا هاشم
حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن مَيْسَرة قال: سمعت كُرْدُوس بن قيس -وكان
قاص العامة بالكوفة-يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر: أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: "لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع
رقاب". قال شعبة: فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصا
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد، حدثنا يزيد بن أبان، عن
أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أجالس قومًا يذكرون الله
من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس، أحَبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحبّ إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا". فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس، فبلغت ستة وتسعين ألفًا، وهاهنا من يقول: "أربعة من ولد إسماعيل" والله ما قال إلا ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو
أحمد الزبيري، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي
مسلم -وهو الكوفي-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يقرأ سورة
الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم".
هكذا رواه أبو أحمد، عن عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر مرسلا. وحدثناه يحيى بن المعلى، عن منصور، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي مسلم
عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يقرأ
سورة الحِجْر أو سورة الكهف، فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر
حدثنا ميمون المَرئي، حدثنا ميمون بن سِيَاه، عن أنس بن مالك، رضي الله
عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون
الله، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا
مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتُكُم حسنات" تفرد به أحمد، رحمه الله.
وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد
عن أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيف قال: نـزلت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وهو في بعض أبياته: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) فخرج
يلتمسهم، فوجد قومًا يذكرون الله، منهم ثائر الرأس، وجافي الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم"
عبد الرحمن هذا، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة وأما أبوه فمن سادات الصحابة، رضي الله عنهم.
وقوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ) قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم: يعني: تطلب بدلهم أصحاب
الشرف والثروة.
( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) أي: شغل عن
الدين وعبادة ربه بالدنيا ( [وَاتَّبَعَ هَوَاهُ] وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
) أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: وَلا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]
وَقُلِ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا
الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ( فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) هذا من باب التهديد والوعيد
الشديد؛ ولهذا قال: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا ) أي: أرصدنا ( لِلظَّالِمِينَ )
وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا )
أي: سورها.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لسُرَادِق النار أربعة جُدُر، كثافة كل جدار مثل مسافة أربعين سنة".
وأخرجه الترمذي في "صفة النار" وابن جرير في تفسيره، من حديث دراج أبي السَّمح به
[وقال ابن جريج: قال ابن عباس: ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: حائط من نار]
قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو
عاصم، عن عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى،
عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البحر هو جهنم"
قال: فقيل له: [كيف ذلك؟]
فتلا هذه الآية -أو: قرأ هذه الآية-: ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا ) ثم قال: "والله لا أدخلها أبدًا أو: ما دمت حيًا -ولا
تصيبني منها قطرة" .
وقوله: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) قال ابن عباس:
"المهل" : ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وقال مجاهد: هو كالدم والقيح. وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حَرّه: وقال آخرون: هو كل شيء أذيب.
وقال قتادة: أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود، فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل.
وقال الضحاك: ماء جهنم أسود، وهي سوداء وأهلها سود.
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف
الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار؛ ولهذا قال: ( يَشْوِي الْوُجُوهَ )
أي: من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه، شواه حتى يسقط جلد
وجهه فيه، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في
سُرادِق النار عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "ماء كالمهل". قال كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه" وهكذا رواه الترمذي في "صفة النار" من جامعه، من حديث رِشْدِين بن سعد عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به
ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث "رشدين"، وقد تكلم فيه من قبل حفظه،، هكذا
قال، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب، عن ابن لَهِيعة، عن
دَرّاج، والله أعلم .
وقال عبد الله بن المبارك، وبَقِيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن
عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم في قوله: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ [إبراهيم:16، 17] قال: "يقرب إليه فيَتَكرّهه، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، يقول الله تعالى: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ) .
وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا
منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم، لعرف جلود
وجوههم فيها. ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون. فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي
قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات [الذميمة] القبيحة: ( بِئْسَ الشَّرَابُ ) أي: بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] وقال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] أي: حارة، كما قال: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:44]
( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) [أي: وساءت النار] منـزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق كما قال في الآية الأخرى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ
لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ
فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ
سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ
الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء، الذين آمنوا بالله
وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة،
فلهم ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) والعدن: الإقامة.
( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) أي: من تحت غرفهم ومنازلهم، قال [لهم] فرعون: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] .
( يُحَلَّوْنَ ) أي: من الحلية ( فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) وقال في المكان الآخر: وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23] وفصله هاهنا فقال: ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) فالسندس: لباس رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) الاتكاء قيل: الاضطجاع
وقيل التربع في الجلوس. وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [في] الصحيح: "أما أنا فلا آكل متكئًا " فيه القولان.
والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير تحت الحَجَلة، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه، والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَرُ، عن قتادة: ( عَلَى الأرَائِكِ ) قال: هي الحجال. قال معمر: وقال غيره: السّرُر في الحجال
وقوله: ( نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) [أي: نعمت الجنة
ثوابًا على أعمالهم ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) أي: حسنت منـزلا ومقيلا
ومقامًا، كما قال في النار: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 75، 76].
وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ
أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
يقول الله تعالى بعد ذكر المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلا برجلين، جعل الله ( لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) أي: بستانين من أعناب، محفوفتين بالنخل
المحدقة في جنباتهما، وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر
مُقبلٌ في غاية الجود؛ ولهذا قال: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ
أُكُلَهَا ) أي: خرجت ثمرها ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) أي: ولم
تنقص منه شيئًا ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) أي: والأنهار تتخرق
فيهما هاهنا وهاهنا.
( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) قيل: المراد به: المال. رُوي عن ابن عباس،
ومجاهد، وقتادة. وقيل: الثمار وهو أظهر هاهنا، ويؤيده القراءة الأخرى:
"وكان له ثُمْر" بضم الثاء وتسكين الميم، فيكون جمع ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشب، وقرأ آخرون: ( ثَمَرٌ ) بفتح الثاء والميم.
فقال -أي صاحب هاتين [الجنتين]
-( لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) أي: يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه
ويترأس: ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) أي: أكثر خدمًا
وحشمًا وولدًا.
قال قتادة: تلك -والله-أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر.
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ
ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
وقوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) أي: اجلس
مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه
بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء.
يقال: إنها نـزلت في أشراف قريش، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم
أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب [وخباب] وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة. فنهاه الله عن ذلك، فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآية [الأنعام:52] ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله
الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شُرَيْح، عن أبيه، عن سعد -هو ابن أبي
وقاص-قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي
صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا!. قال: وكنت أنا وابن
مسعود، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان نسيت اسميهما
فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث
نفسه، فأنـزل الله عز وجل: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) انفرد بإخراجه مسلم دون
البخاري
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح
قال: سمعت أبا الجعد يحدّث عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم على قاص يقص، فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُص، فلأن
أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربع رقاب"
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا هاشم
حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن مَيْسَرة قال: سمعت كُرْدُوس بن قيس -وكان
قاص العامة بالكوفة-يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر: أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: "لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع
رقاب". قال شعبة: فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصا
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد، حدثنا يزيد بن أبان، عن
أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أجالس قومًا يذكرون الله
من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس، أحَبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحبّ إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا". فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس، فبلغت ستة وتسعين ألفًا، وهاهنا من يقول: "أربعة من ولد إسماعيل" والله ما قال إلا ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو
أحمد الزبيري، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي
مسلم -وهو الكوفي-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يقرأ سورة
الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم".
هكذا رواه أبو أحمد، عن عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر مرسلا. وحدثناه يحيى بن المعلى، عن منصور، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي مسلم
عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يقرأ
سورة الحِجْر أو سورة الكهف، فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر
حدثنا ميمون المَرئي، حدثنا ميمون بن سِيَاه، عن أنس بن مالك، رضي الله
عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون
الله، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا
مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتُكُم حسنات" تفرد به أحمد، رحمه الله.
وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد
عن أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيف قال: نـزلت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وهو في بعض أبياته: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) فخرج
يلتمسهم، فوجد قومًا يذكرون الله، منهم ثائر الرأس، وجافي الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم"
عبد الرحمن هذا، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة وأما أبوه فمن سادات الصحابة، رضي الله عنهم.
وقوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ) قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم: يعني: تطلب بدلهم أصحاب
الشرف والثروة.
( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) أي: شغل عن
الدين وعبادة ربه بالدنيا ( [وَاتَّبَعَ هَوَاهُ] وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
) أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: وَلا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]
وَقُلِ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا
الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ( فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) هذا من باب التهديد والوعيد
الشديد؛ ولهذا قال: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا ) أي: أرصدنا ( لِلظَّالِمِينَ )
وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا )
أي: سورها.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لسُرَادِق النار أربعة جُدُر، كثافة كل جدار مثل مسافة أربعين سنة".
وأخرجه الترمذي في "صفة النار" وابن جرير في تفسيره، من حديث دراج أبي السَّمح به
[وقال ابن جريج: قال ابن عباس: ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: حائط من نار]
قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو
عاصم، عن عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى،
عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البحر هو جهنم"
قال: فقيل له: [كيف ذلك؟]
فتلا هذه الآية -أو: قرأ هذه الآية-: ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا ) ثم قال: "والله لا أدخلها أبدًا أو: ما دمت حيًا -ولا
تصيبني منها قطرة" .
وقوله: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) قال ابن عباس:
"المهل" : ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وقال مجاهد: هو كالدم والقيح. وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حَرّه: وقال آخرون: هو كل شيء أذيب.
وقال قتادة: أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود، فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل.
وقال الضحاك: ماء جهنم أسود، وهي سوداء وأهلها سود.
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف
الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار؛ ولهذا قال: ( يَشْوِي الْوُجُوهَ )
أي: من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه، شواه حتى يسقط جلد
وجهه فيه، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في
سُرادِق النار عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "ماء كالمهل". قال كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه" وهكذا رواه الترمذي في "صفة النار" من جامعه، من حديث رِشْدِين بن سعد عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به
ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث "رشدين"، وقد تكلم فيه من قبل حفظه،، هكذا
قال، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب، عن ابن لَهِيعة، عن
دَرّاج، والله أعلم .
وقال عبد الله بن المبارك، وبَقِيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن
عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم في قوله: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ [إبراهيم:16، 17] قال: "يقرب إليه فيَتَكرّهه، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، يقول الله تعالى: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ) .
وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا
منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم، لعرف جلود
وجوههم فيها. ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون. فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي
قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات [الذميمة] القبيحة: ( بِئْسَ الشَّرَابُ ) أي: بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] وقال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] أي: حارة، كما قال: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:44]
( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) [أي: وساءت النار] منـزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق كما قال في الآية الأخرى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ
لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ
فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ
سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ
الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء، الذين آمنوا بالله
وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة،
فلهم ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) والعدن: الإقامة.
( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) أي: من تحت غرفهم ومنازلهم، قال [لهم] فرعون: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] .
( يُحَلَّوْنَ ) أي: من الحلية ( فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) وقال في المكان الآخر: وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23] وفصله هاهنا فقال: ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) فالسندس: لباس رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) الاتكاء قيل: الاضطجاع
وقيل التربع في الجلوس. وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [في] الصحيح: "أما أنا فلا آكل متكئًا " فيه القولان.
والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير تحت الحَجَلة، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه، والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَرُ، عن قتادة: ( عَلَى الأرَائِكِ ) قال: هي الحجال. قال معمر: وقال غيره: السّرُر في الحجال
وقوله: ( نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) [أي: نعمت الجنة
ثوابًا على أعمالهم ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) أي: حسنت منـزلا ومقيلا
ومقامًا، كما قال في النار: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 75، 76].
وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ
أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
يقول الله تعالى بعد ذكر المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلا برجلين، جعل الله ( لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) أي: بستانين من أعناب، محفوفتين بالنخل
المحدقة في جنباتهما، وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر
مُقبلٌ في غاية الجود؛ ولهذا قال: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ
أُكُلَهَا ) أي: خرجت ثمرها ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) أي: ولم
تنقص منه شيئًا ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) أي: والأنهار تتخرق
فيهما هاهنا وهاهنا.
( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) قيل: المراد به: المال. رُوي عن ابن عباس،
ومجاهد، وقتادة. وقيل: الثمار وهو أظهر هاهنا، ويؤيده القراءة الأخرى:
"وكان له ثُمْر" بضم الثاء وتسكين الميم، فيكون جمع ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشب، وقرأ آخرون: ( ثَمَرٌ ) بفتح الثاء والميم.
فقال -أي صاحب هاتين [الجنتين]
-( لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) أي: يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه
ويترأس: ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) أي: أكثر خدمًا
وحشمًا وولدًا.
قال قتادة: تلك -والله-أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر.
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة الكهف
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة الكهف
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثامن من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثاني من تفسير سورة الكهف
» الجزء الرابع من تفسير سورة الكهف
» الجزء السادس من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثامن من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثاني من تفسير سورة الكهف
» الجزء الرابع من تفسير سورة الكهف
» الجزء السادس من تفسير سورة الكهف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الكهف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى