الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الأنفال
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنفال
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الأنفال
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قال محمد بن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل، عن بعض أهله، عن
عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
يوم بدر: "إني قد عرفت أن أناسا من بني هاشم وغيرهم، قد أخرجوا كرها، لا
حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي
منكم أحدا منهم -أي: من بني هاشم -فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام
فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج
مستكرها". فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا
وعشائرنا ونترك العباس؟ ! والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف؟ فبلغت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: "يا أبا حفص" -قال عمر: والله
إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -"أيضرب وجه عم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟ " فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فأضرب
عنقه، فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك: والله ما آمن من تلك
الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفا، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة.
فقتل يوم اليمامة شهيدا، رضي الله عنه.
وبه، عن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر،
والأسارى محبوسون بالوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا أول
الليل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما لك لا تنام؟ -وقد أسر العباس رجل
من الأنصار -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سمعت أنين عمي العباس في
وثاقه" فأطلقوه، فسكت، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق: وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب، وذلك أنه كان رجلا مُوسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا
وفي صحيح البخاري، من حديث موسى بن عقبة، قال ابن شهاب: حدثني أنس بن
مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
"ائذَنْ لنا فَلْنَتْرُكْ لابن أختنا عباس فداءه. قال لا والله لا تَذَرون منه درهما"
وقال يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومان، عن عُرْوَة
-وعن الزهري، عن جماعة سماهم قالوا: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى
كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله، قد كنت مسلما! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن
الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابنيْ أخيك: نوفل بن
الحارث بن عبد المطلب، وعَقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن
عمرو أخي بني الحارث بن فهر" قال: ما ذاك عندي يا رسول الله! قال: "فأين
المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت
لها: إن أصبتُ في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبَني: الفضل، وعبد
الله، وقُثم". قال: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا
لشيء ما علمه أحد
غيري وغيرُ أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني: عشرين أوقية من
مال كان معي فقال؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ذاك شيء أعطانا الله
تعالى منك". ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنـزل الله، عز وجل فيه: (
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأُسَارَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا، كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله، عز وجل.
وقد روى ابن إسحاق أيضا، عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية بنحو مما تقدم.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا ابن إدريس [عن ابن إسحاق ]
عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال العباس: في نـزلت: (
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأرْضِ ) فأخبرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني
بالعشرين الأوقية التي أخذ مني، فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبدا، كلهم تاجر، مالي في يده.
وقال ابن إسحاق أيضا: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر
بن عبد الله ابن رئاب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيَّ نـزلت
-والله -حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي -ثم ذكر نحو الحديث
الذي قبله.
وقال ابن جُريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأُسَارَى ) عباس وأصحابه.
قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول
الله، لننصحن لك على قومنا. فأنـزل الله: ( إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ) إيمانا
وتصديقا، يخلف
لكم خيرا مما أخذ منكم ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الشرك الذي كنتم عليه. قال:
فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنـزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد
قال: ( يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ) فقد أعطاني خيرا مما
أخذ مني مائة ضعف، وقال: ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) وأرجو أن يكون غُفر لي.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: كان العباس أسر يوم
بدر، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين قرئت هذه الآية:
لقد أعطانا
الله، عز وجل، خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: إني أسرت يوم بدر
فَفَدَيت نفسي بأربعين أوقية. فآتاني أربعين عبدا، وأنا أرجو المغفرة التي
وعدنا الله، جل ثناؤه.
وقال قتادة في تفسير هذه الآية: ذُكر لنا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ
لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكتًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه،
فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فأخذ. قال: فكان العباس يقول: هذا خير
مما أخذ منا، وأرجو المغفرة.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن
حميد بن هلال قال: بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من
البحرين ثمانين ألفا، ما أتاه مال أكثر منه لا قَبلُ ولا بَعدُ. قال: فنثرت
على حصير ونودي بالصلاة. قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثل
قائما على المال، وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عددٌ ولا وزنٌ، ما كان إلا قَبْضًا، [قال]
وجاء العباس بن عبد المطلب يحثى في خَميصة عليه، وذهب يقوم فلم يستطع،
قال: فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ارفع
علي. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه -أو: نابه
-وقال له: "أعدْ من المال طائفة، وقم بما تطيق". قال: ففعل، وجعل العباس
يقول -وهو منطلق -: أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا، وما ندري ما
يصنع في الأخرى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ
مِنَ الأُسَارَى ) الآية، ثم قال: هذا خير مما أخذ منا، ولا أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مائلا على ذلك المال، حتى ما بقي منه درهم، وما بعث إلى أهله بدرهم، ثم أتى الصلاة فصلى
حديث آخر في ذلك: قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله
الحافظ، أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله السعيدي، حدثنا مَحْمَش
بن عصام، حدثنا حفص بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عبد
العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمال من البحرين، فقال: "انثروه في المسجد".
قال: وكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى
الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه. فما كان يرى أحدا
إلا أعطاه، إذ جاء العباس فقال: يا رسول الله، أعطني فإني فاديت نفسي،
وفاديت عَقيلا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ". فحثا في ثوبه،
ثم ذهب يُقِلُّه فلم يستطع، فقال: مُرْ بعضهم يرفعه إليَّ. قال: "لا".
قال: فارفعه أنت عليَّ. قال: "لا" فنثر منه ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق،
فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خَفِيَ عنه، عَجَبًا
من حِرْصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَمَّ منها درهم
وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة الجزم، يقول: "وقال إبراهيم بن طهمان" ويسوقه، وفي بعض السياقات أتم من هذا
وقوله: ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ ) أي: فيما أظهروا لك من
الأقوال، ( فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل بدر بالكفر
به، ( فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ) أي: بالإسار يوم بدر، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ) أي: عليم بما يفعله، حكيم فيه.
قال قتادة: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح الكاتب حين ارتد، ولحق بالمشركين.
وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: نـزلت في عباس وأصحابه، حين قالوا: لننصحن لك على قومنا.
وفسرها السُّدِّيّ على العموم، وهو أشمل وأظهر، والله أعلم.
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا
أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (72)
ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم
وأموالهم، وجاؤوا لنصر الله ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم
في ذلك. وإلى أنصار، وهم: المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم
المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال
معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض
أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخَوَان، فكانوا يتوارثون بذلك
إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في
صحيح البخاري، عن ابن عباس ورواه العَوْفي، وعلي بن أبي طلحة، عنه وقال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن
جَرير -هو ابن عبد الله البجلي -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش
والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة" تفرد به أحمد
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا شيبان
حدثنا عِكْرِمة -يعني ابن إبراهيم الأزدي -حدثنا عاصم، عن شَقِيق، عن ابن
مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهاجرون والأنصار،
والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة".
هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود
وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه، فقال: وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ الآية [التوبة: 100]، وقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ الآية. [التوبة: 117]، وقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ الآية [الحشر: 8 ، 9].
وأحسن ما قيل في قوله: ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا ) أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم، فإن ظاهر
الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، لا
يختلفون في ذلك، ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق
البزار في مسنده: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا
حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن حذيفة قال: خَيَّرني
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة
ثم قال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ ) [قرأ حمزة: "ولايتهم" بالكسر، والباقون بالفتح، وهما واحد
كالدِّلالة والدَّلالة]
( مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم
الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بَوَاديهم، فهؤلاء ليس لهم في
المغانم نصيب، ولا في خُمسها إلا ما حضروا فيه القتال، كما قال الإمام
أحمد:
حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيْدة،
عن أبيه: بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه
بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: "اغزوا باسم الله في سبيل
الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى
ثلاث خصال -أو: خلال -فأيتهن ما أجابوك
إليها فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل
منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم
إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا
واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين،
يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء
والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء
الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم"
.
انفرد به مسلم، وعنده زيادات أخر
وقوله: ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يقول تعالى: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم
يهاجروا في قتال ديني، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم
إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار ( بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) أي: مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا
أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مروي عن ابن عباس، رضي الله عنه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضُهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، كما قال الحاكم في مستدركه:
حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا أبو سعد
يحيى بن منصور الهروي، حدثنا محمد بن أبان، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن
حسين، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرًا، ولا
كافر مسلما" ، ثم قرأ: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه
قلت: الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وفي المسند والسنن، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد، [عن محمد بن ثور] عن معمر، عن الزهري: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال: "تقيم الصلاة،
وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له
حرب"
وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين" ، ثم
قال: "لا يتراءى ناراهما"
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، أخبرني
يحيى بن حسان، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن
سَمُرَة بن جُنْدُب [حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة] عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن هرمز، عن محمد وسعيد ابنى عبيد، عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من تَرْضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". قالوا: يا رسول الله، وإن كان؟ قال: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرات.
وأخرجه أبو داود والترمذي، من حديث حاتم بن إسماعيل، به بنحوه
ثم رُويَ من حديث عبد الحميد بن سليمان، عن ابن عَجْلان، عن ابن وَثيمةَ النَّصْري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"
ومعنى قوله تعالى: ( إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا
وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين
الناس فساد منتشر طويل عريض.
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة،
فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، كما تقدم في أول السورة، وأنه سيجازيهم
بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت، وبالرزق الكريم، وهو الحسن الكثير الطيب
الشريف، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه
وتنوعه.
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال: وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ الآية [التوبة: 100]، وقال: وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
[الحشر:10]وفي الحديث المتفق عليه، بل المتواتر من طرق صحيحة، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب"، وفي الحديث الآخر:
"من أحب قوما حُشر معهُم"
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن
جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجرون والأنصار أولياء
بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم
القيامة". قال شريك: فحدثنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن
هلال، عن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
تفرد به أحمد من هذين الوجهين
وأما قوله تعالى: ( وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللهِ ) أي: في حكم الله، وليس المراد بقوله: ( وَأُوْلُو
الأرْحَامِ ) خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة، الذين لا فرض لهم
ولا هم عصبة، بل يُدْلون بوارث، كالخالة، والخال، والعمة، وأولاد البنات،
وأولاد الأخوات، ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية، ويعتقد ذلك
صريحا في المسألة، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع
القرابات. كما نص ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة وغير واحد: على
أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا وعلى
هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص. ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها
حديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصِيَّة لوارث"، قالوا: فلو كان
ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا،
والله أعلم.
آخر [تفسير] سورة "الأنفال"، ولله الحمد والمنة، وعليه [الثقة و] التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قال محمد بن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل، عن بعض أهله، عن
عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
يوم بدر: "إني قد عرفت أن أناسا من بني هاشم وغيرهم، قد أخرجوا كرها، لا
حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي
منكم أحدا منهم -أي: من بني هاشم -فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام
فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج
مستكرها". فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا
وعشائرنا ونترك العباس؟ ! والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف؟ فبلغت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: "يا أبا حفص" -قال عمر: والله
إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -"أيضرب وجه عم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟ " فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فأضرب
عنقه، فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك: والله ما آمن من تلك
الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفا، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة.
فقتل يوم اليمامة شهيدا، رضي الله عنه.
وبه، عن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر،
والأسارى محبوسون بالوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا أول
الليل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما لك لا تنام؟ -وقد أسر العباس رجل
من الأنصار -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سمعت أنين عمي العباس في
وثاقه" فأطلقوه، فسكت، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق: وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب، وذلك أنه كان رجلا مُوسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا
وفي صحيح البخاري، من حديث موسى بن عقبة، قال ابن شهاب: حدثني أنس بن
مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
"ائذَنْ لنا فَلْنَتْرُكْ لابن أختنا عباس فداءه. قال لا والله لا تَذَرون منه درهما"
وقال يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومان، عن عُرْوَة
-وعن الزهري، عن جماعة سماهم قالوا: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى
كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله، قد كنت مسلما! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن
الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابنيْ أخيك: نوفل بن
الحارث بن عبد المطلب، وعَقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن
عمرو أخي بني الحارث بن فهر" قال: ما ذاك عندي يا رسول الله! قال: "فأين
المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت
لها: إن أصبتُ في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبَني: الفضل، وعبد
الله، وقُثم". قال: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا
لشيء ما علمه أحد
غيري وغيرُ أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني: عشرين أوقية من
مال كان معي فقال؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ذاك شيء أعطانا الله
تعالى منك". ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنـزل الله، عز وجل فيه: (
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأُسَارَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا، كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله، عز وجل.
وقد روى ابن إسحاق أيضا، عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية بنحو مما تقدم.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا ابن إدريس [عن ابن إسحاق ]
عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال العباس: في نـزلت: (
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأرْضِ ) فأخبرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني
بالعشرين الأوقية التي أخذ مني، فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبدا، كلهم تاجر، مالي في يده.
وقال ابن إسحاق أيضا: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر
بن عبد الله ابن رئاب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيَّ نـزلت
-والله -حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي -ثم ذكر نحو الحديث
الذي قبله.
وقال ابن جُريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأُسَارَى ) عباس وأصحابه.
قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول
الله، لننصحن لك على قومنا. فأنـزل الله: ( إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ) إيمانا
وتصديقا، يخلف
لكم خيرا مما أخذ منكم ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الشرك الذي كنتم عليه. قال:
فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنـزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد
قال: ( يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ) فقد أعطاني خيرا مما
أخذ مني مائة ضعف، وقال: ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) وأرجو أن يكون غُفر لي.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: كان العباس أسر يوم
بدر، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين قرئت هذه الآية:
لقد أعطانا
الله، عز وجل، خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: إني أسرت يوم بدر
فَفَدَيت نفسي بأربعين أوقية. فآتاني أربعين عبدا، وأنا أرجو المغفرة التي
وعدنا الله، جل ثناؤه.
وقال قتادة في تفسير هذه الآية: ذُكر لنا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ
لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكتًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه،
فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فأخذ. قال: فكان العباس يقول: هذا خير
مما أخذ منا، وأرجو المغفرة.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن
حميد بن هلال قال: بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من
البحرين ثمانين ألفا، ما أتاه مال أكثر منه لا قَبلُ ولا بَعدُ. قال: فنثرت
على حصير ونودي بالصلاة. قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثل
قائما على المال، وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عددٌ ولا وزنٌ، ما كان إلا قَبْضًا، [قال]
وجاء العباس بن عبد المطلب يحثى في خَميصة عليه، وذهب يقوم فلم يستطع،
قال: فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ارفع
علي. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه -أو: نابه
-وقال له: "أعدْ من المال طائفة، وقم بما تطيق". قال: ففعل، وجعل العباس
يقول -وهو منطلق -: أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا، وما ندري ما
يصنع في الأخرى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ
مِنَ الأُسَارَى ) الآية، ثم قال: هذا خير مما أخذ منا، ولا أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مائلا على ذلك المال، حتى ما بقي منه درهم، وما بعث إلى أهله بدرهم، ثم أتى الصلاة فصلى
حديث آخر في ذلك: قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله
الحافظ، أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله السعيدي، حدثنا مَحْمَش
بن عصام، حدثنا حفص بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عبد
العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمال من البحرين، فقال: "انثروه في المسجد".
قال: وكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى
الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه. فما كان يرى أحدا
إلا أعطاه، إذ جاء العباس فقال: يا رسول الله، أعطني فإني فاديت نفسي،
وفاديت عَقيلا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ". فحثا في ثوبه،
ثم ذهب يُقِلُّه فلم يستطع، فقال: مُرْ بعضهم يرفعه إليَّ. قال: "لا".
قال: فارفعه أنت عليَّ. قال: "لا" فنثر منه ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق،
فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خَفِيَ عنه، عَجَبًا
من حِرْصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَمَّ منها درهم
وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة الجزم، يقول: "وقال إبراهيم بن طهمان" ويسوقه، وفي بعض السياقات أتم من هذا
وقوله: ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ ) أي: فيما أظهروا لك من
الأقوال، ( فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل بدر بالكفر
به، ( فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ) أي: بالإسار يوم بدر، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ) أي: عليم بما يفعله، حكيم فيه.
قال قتادة: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح الكاتب حين ارتد، ولحق بالمشركين.
وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: نـزلت في عباس وأصحابه، حين قالوا: لننصحن لك على قومنا.
وفسرها السُّدِّيّ على العموم، وهو أشمل وأظهر، والله أعلم.
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا
أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (72)
ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم
وأموالهم، وجاؤوا لنصر الله ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم
في ذلك. وإلى أنصار، وهم: المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم
المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال
معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض
أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخَوَان، فكانوا يتوارثون بذلك
إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في
صحيح البخاري، عن ابن عباس ورواه العَوْفي، وعلي بن أبي طلحة، عنه وقال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن
جَرير -هو ابن عبد الله البجلي -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش
والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة" تفرد به أحمد
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا شيبان
حدثنا عِكْرِمة -يعني ابن إبراهيم الأزدي -حدثنا عاصم، عن شَقِيق، عن ابن
مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهاجرون والأنصار،
والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة".
هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود
وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه، فقال: وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ الآية [التوبة: 100]، وقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ الآية. [التوبة: 117]، وقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ الآية [الحشر: 8 ، 9].
وأحسن ما قيل في قوله: ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا ) أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم، فإن ظاهر
الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، لا
يختلفون في ذلك، ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق
البزار في مسنده: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا
حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن حذيفة قال: خَيَّرني
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة
ثم قال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ ) [قرأ حمزة: "ولايتهم" بالكسر، والباقون بالفتح، وهما واحد
كالدِّلالة والدَّلالة]
( مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم
الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بَوَاديهم، فهؤلاء ليس لهم في
المغانم نصيب، ولا في خُمسها إلا ما حضروا فيه القتال، كما قال الإمام
أحمد:
حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيْدة،
عن أبيه: بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه
بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: "اغزوا باسم الله في سبيل
الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى
ثلاث خصال -أو: خلال -فأيتهن ما أجابوك
إليها فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل
منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم
إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا
واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين،
يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء
والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء
الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم"
.
انفرد به مسلم، وعنده زيادات أخر
وقوله: ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يقول تعالى: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم
يهاجروا في قتال ديني، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم
إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار ( بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) أي: مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا
أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مروي عن ابن عباس، رضي الله عنه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضُهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، كما قال الحاكم في مستدركه:
حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا أبو سعد
يحيى بن منصور الهروي، حدثنا محمد بن أبان، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن
حسين، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرًا، ولا
كافر مسلما" ، ثم قرأ: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه
قلت: الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وفي المسند والسنن، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد، [عن محمد بن ثور] عن معمر، عن الزهري: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال: "تقيم الصلاة،
وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له
حرب"
وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين" ، ثم
قال: "لا يتراءى ناراهما"
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، أخبرني
يحيى بن حسان، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن
سَمُرَة بن جُنْدُب [حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة] عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن هرمز، عن محمد وسعيد ابنى عبيد، عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من تَرْضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". قالوا: يا رسول الله، وإن كان؟ قال: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرات.
وأخرجه أبو داود والترمذي، من حديث حاتم بن إسماعيل، به بنحوه
ثم رُويَ من حديث عبد الحميد بن سليمان، عن ابن عَجْلان، عن ابن وَثيمةَ النَّصْري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"
ومعنى قوله تعالى: ( إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا
وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين
الناس فساد منتشر طويل عريض.
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة،
فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، كما تقدم في أول السورة، وأنه سيجازيهم
بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت، وبالرزق الكريم، وهو الحسن الكثير الطيب
الشريف، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه
وتنوعه.
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال: وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ الآية [التوبة: 100]، وقال: وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
[الحشر:10]وفي الحديث المتفق عليه، بل المتواتر من طرق صحيحة، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب"، وفي الحديث الآخر:
"من أحب قوما حُشر معهُم"
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن
جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجرون والأنصار أولياء
بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم
القيامة". قال شريك: فحدثنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن
هلال، عن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
تفرد به أحمد من هذين الوجهين
وأما قوله تعالى: ( وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللهِ ) أي: في حكم الله، وليس المراد بقوله: ( وَأُوْلُو
الأرْحَامِ ) خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة، الذين لا فرض لهم
ولا هم عصبة، بل يُدْلون بوارث، كالخالة، والخال، والعمة، وأولاد البنات،
وأولاد الأخوات، ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية، ويعتقد ذلك
صريحا في المسألة، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع
القرابات. كما نص ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة وغير واحد: على
أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا وعلى
هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص. ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها
حديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصِيَّة لوارث"، قالوا: فلو كان
ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا،
والله أعلم.
آخر [تفسير] سورة "الأنفال"، ولله الحمد والمنة، وعليه [الثقة و] التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
رد: الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الأنفال
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الأنفال
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
رد: الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الأنفال
مشكووووووووووووور
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الأنفال
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء العاشر والأخير من تفسير سورة الأنفال
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء السادس من تفسير سورة الأنفال
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنفال
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنفال
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنفال
» الجزء الاول من تفسير سورة الأنفال
» الجزء السابع من تفسير سورة الأنفال
» الجزء الثامن من تفسير سورة الأنفال
» الجزء التاسع من تفسير سورة الأنفال
» الجزء الاول من تفسير سورة الأنفال
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الأنفال
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى