الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النازعات
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النازعات
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) < 8-315 > (إِذْ
نَادَاهُ رَبُّهُ ) أي: كلمه نداء، (بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ ) أي:
المطهر، (طُوًى ) وهو اسم الوادي على الصحيح، كما تقدم في سورة طه. فقال
له: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) أي: تجبر وتمرد وعتا،
(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) ؟ أي: قل له هل لك أن تجيب إلى
طريقة ومسلك تَزكَّى به، أي: تسلم وتطيع . (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ )
أي: أدلك إلى عبادة ربك، (فَتَخْشَى ) أي: فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشيا
بعدما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير. (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى )
يعني: فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قويةً، ودليلا واضحا على صدق
ما جاءه به من عند الله، (فَكَذَّبَ وَعَصَى ) أي: فكذب بالحق وخالف ما
أمره به من الطاعة. وحاصلُه أنه كَفَر قلبُه فلم ينفعل
لموسى بباطنه ولا بظاهره، وعلمُهُ بأن ما جاء به أنه حق لا يلزم منه أنه
مؤمن به؛ لأن المعرفة علمُ القلب، والإيمان عمله، وهو الانقياد للحق
والخضوع له.وقوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ) أي: في مقابلة الحق
بالباطل، وهو جَمعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى، عليه السلام، من
المعجزة الباهرة، (فَحَشَرَ فَنَادَى ) أي: في قومه، (فَقَالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الأعْلَى ) قال ابن عباس ومجاهد: وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص : 38] بأربعين سنة. قال الله تعالى : (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) أي :
انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في
الدنيا ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود : 99] ، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ
[القصص : 41] . هذا هو الصحيح في معنى الآية، أن المراد بقوله: (نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأولَى ) أي: الدنيا والآخرة، وقيل: المراد بذلك كلمتاه
الأولى والثانية. وقيل: كفره وعصيانه. والصحيح الذي لا شك فيه الأول.وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) أي: لمن يتعظ وينـزجر. < 8-316 > أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (33) يقول
تعالى محتجًا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه: (أَأَنْتُمْ )
أيها الناس (أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ) ؟ يعني: بل السماءُ أشدّ
خلقًا منكم، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر : 57] ، وقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ
[يس : 81] ، فقوله: (بَنَاهَا ) فسره بقوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا ) أي: جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء،
مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء.وقوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) أي: جعل ليلها مظلمًا أسود حالكا، ونهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا. قال ابن عباس: أغطش ليلها: أظلمه. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وجماعة كثيرون. (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) أي: أنار نهارها. وقوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) فسره بقوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) وقد تقدم في سورة "حم السجدة"
أن الأرض خلقت قبل السماء، ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء، بمعنى أنه
أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل. وهذا معنى قول ابن عباس، وغير واحد،
واختاره ابن جرير.وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن
جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله-يعني ابن عمرو-عن زيد بن أبي أنيسة، عن
المِنْهال بن عَمْرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (دَحَاهَا ) وَدَحْيها
أن أخرج منها الماء والمرعى، وشقق [فيها] الأنهار، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.وقوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) أي: قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرءوف بخلقه الرحيم.وقال
الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حَوشب، عن سليمان بن
أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق
الله الأرض جعلت تَمِيد، فخلق الجبال فألقاها عليها، فاستقرت فتعجبت
الملائكةُ من خلق الجبال فقالت: يا رب، فهل من < 8-317 >
خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم، الحديد. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء
أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من
النار؟ قال: نعم ، الماء. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال:
نعم، الريح. قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن
آدم، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله" . وقال
أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد
الرحمن السّلميّ، عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق عَلَيّ
آدم وذريته، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا، فأرساها الله
بالجبال، فمنها ما ترون، ومنها ما لا ترون، وكان أول قَرَار الأرض كلحم
الجزور إذا نحِر، يختلج لحمه. غريب . وقوله
(مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ) أي: دحا الأرض فأنبع عيونها، وأظهر
مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبت جبالها،
لتستقر بأهلها ويقر قرارها، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من
الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن
ينتهي الأمد، وينقضي الأجل. فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) يقول
تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) وهو يوم القيامة. قاله
ابن عباس، سميت بذلك لأنها تَطُم على كل أمر هائل مفظع، كما قال تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر : 46] . (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى ) أي: حينئذ يتذكرُ ابنُ آدم جميع عمله خيره وشره، كما قال: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر : 23] . (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ) أي: أظهرت للناظرين فرآها الناس
عيانا، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى ) أي: تَمَرّد وعتا، (وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا ) أي: قدمها على أمر دينه وأخراه، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى ) أي: فإن مصيرَه إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم، ومشربه من
الحميم . (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى ) < 8-318 >
أي: خاف القيام بين يدي الله عز وجل، وخاف حُكْمَ الله فيه، ونهى نفسه عن
هواها، ورَدها إلى طاعة مولاها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) أي:
منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.ثم قال تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) أي: ليس علمها إليك ولا إلى أحد
من الخلق، بل مَردها ومَرجعها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على
التعيين، ثَقُلَتْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف : 187] ، وقال هاهنا: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) ولهذا لما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" . . وقوله (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ) أي: إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه ، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده، اتبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك.وقوله:
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ
ضُحَاهَا ) أي: إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مُدّة الحياة
الدنيا، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضُحى من يوم.قال
جُويْبر، عن الضحاك، عن ابن عباس: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) أما عَشِيَّة: فما بين الظهر
إلى غروب الشمس، (أَوْ ضُحَاهَا ) ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار. وقال قتادة: وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة . [آخر تفسير سورة "النازعات"] [ولله الحمد والمنة]
نَادَاهُ رَبُّهُ ) أي: كلمه نداء، (بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ ) أي:
المطهر، (طُوًى ) وهو اسم الوادي على الصحيح، كما تقدم في سورة طه. فقال
له: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) أي: تجبر وتمرد وعتا،
(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) ؟ أي: قل له هل لك أن تجيب إلى
طريقة ومسلك تَزكَّى به، أي: تسلم وتطيع . (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ )
أي: أدلك إلى عبادة ربك، (فَتَخْشَى ) أي: فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشيا
بعدما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير. (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى )
يعني: فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قويةً، ودليلا واضحا على صدق
ما جاءه به من عند الله، (فَكَذَّبَ وَعَصَى ) أي: فكذب بالحق وخالف ما
أمره به من الطاعة. وحاصلُه أنه كَفَر قلبُه فلم ينفعل
لموسى بباطنه ولا بظاهره، وعلمُهُ بأن ما جاء به أنه حق لا يلزم منه أنه
مؤمن به؛ لأن المعرفة علمُ القلب، والإيمان عمله، وهو الانقياد للحق
والخضوع له.وقوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ) أي: في مقابلة الحق
بالباطل، وهو جَمعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى، عليه السلام، من
المعجزة الباهرة، (فَحَشَرَ فَنَادَى ) أي: في قومه، (فَقَالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الأعْلَى ) قال ابن عباس ومجاهد: وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص : 38] بأربعين سنة. قال الله تعالى : (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) أي :
انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في
الدنيا ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود : 99] ، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ
[القصص : 41] . هذا هو الصحيح في معنى الآية، أن المراد بقوله: (نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأولَى ) أي: الدنيا والآخرة، وقيل: المراد بذلك كلمتاه
الأولى والثانية. وقيل: كفره وعصيانه. والصحيح الذي لا شك فيه الأول.وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) أي: لمن يتعظ وينـزجر. < 8-316 > أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (33) يقول
تعالى محتجًا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه: (أَأَنْتُمْ )
أيها الناس (أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ) ؟ يعني: بل السماءُ أشدّ
خلقًا منكم، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر : 57] ، وقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ
[يس : 81] ، فقوله: (بَنَاهَا ) فسره بقوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا ) أي: جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء،
مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء.وقوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) أي: جعل ليلها مظلمًا أسود حالكا، ونهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا. قال ابن عباس: أغطش ليلها: أظلمه. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وجماعة كثيرون. (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) أي: أنار نهارها. وقوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) فسره بقوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) وقد تقدم في سورة "حم السجدة"
أن الأرض خلقت قبل السماء، ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء، بمعنى أنه
أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل. وهذا معنى قول ابن عباس، وغير واحد،
واختاره ابن جرير.وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن
جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله-يعني ابن عمرو-عن زيد بن أبي أنيسة، عن
المِنْهال بن عَمْرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (دَحَاهَا ) وَدَحْيها
أن أخرج منها الماء والمرعى، وشقق [فيها] الأنهار، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.وقوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) أي: قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرءوف بخلقه الرحيم.وقال
الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حَوشب، عن سليمان بن
أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق
الله الأرض جعلت تَمِيد، فخلق الجبال فألقاها عليها، فاستقرت فتعجبت
الملائكةُ من خلق الجبال فقالت: يا رب، فهل من < 8-317 >
خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم، الحديد. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء
أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من
النار؟ قال: نعم ، الماء. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال:
نعم، الريح. قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن
آدم، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله" . وقال
أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد
الرحمن السّلميّ، عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق عَلَيّ
آدم وذريته، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا، فأرساها الله
بالجبال، فمنها ما ترون، ومنها ما لا ترون، وكان أول قَرَار الأرض كلحم
الجزور إذا نحِر، يختلج لحمه. غريب . وقوله
(مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ) أي: دحا الأرض فأنبع عيونها، وأظهر
مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبت جبالها،
لتستقر بأهلها ويقر قرارها، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من
الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن
ينتهي الأمد، وينقضي الأجل. فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) يقول
تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) وهو يوم القيامة. قاله
ابن عباس، سميت بذلك لأنها تَطُم على كل أمر هائل مفظع، كما قال تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر : 46] . (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى ) أي: حينئذ يتذكرُ ابنُ آدم جميع عمله خيره وشره، كما قال: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر : 23] . (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ) أي: أظهرت للناظرين فرآها الناس
عيانا، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى ) أي: تَمَرّد وعتا، (وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا ) أي: قدمها على أمر دينه وأخراه، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى ) أي: فإن مصيرَه إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم، ومشربه من
الحميم . (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى ) < 8-318 >
أي: خاف القيام بين يدي الله عز وجل، وخاف حُكْمَ الله فيه، ونهى نفسه عن
هواها، ورَدها إلى طاعة مولاها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) أي:
منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.ثم قال تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) أي: ليس علمها إليك ولا إلى أحد
من الخلق، بل مَردها ومَرجعها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على
التعيين، ثَقُلَتْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف : 187] ، وقال هاهنا: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) ولهذا لما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" . . وقوله (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ) أي: إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه ، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده، اتبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك.وقوله:
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ
ضُحَاهَا ) أي: إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مُدّة الحياة
الدنيا، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضُحى من يوم.قال
جُويْبر، عن الضحاك، عن ابن عباس: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) أما عَشِيَّة: فما بين الظهر
إلى غروب الشمس، (أَوْ ضُحَاهَا ) ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار. وقال قتادة: وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة . [آخر تفسير سورة "النازعات"] [ولله الحمد والمنة]
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النازعات
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النازعات
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
ولا تنسى أن تزورنا دوما على عنوان واحد
هنا
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النازعات
شكرا على الموضوع
أبو سليمان- المشرفون
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 3412
تاريخ الميلاد : 03/11/1996
العمر : 28
رد: الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النازعات
شكرا على الرد نورت الموضوع بمرورك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
لا تبخل علينا بجميل كلماتك
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة البينة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة القيامة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النبأ
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الجمعة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الصف
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة القيامة
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة النبأ
» الجزء الثاني والأخير من تفسير سورة الجمعة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير جزء يس كاملا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى