الجزء السابع من تفسير سورة الكهف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الكهف
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء السابع من تفسير سورة الكهف
الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (46).
وقوله: ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) كقوله: زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] ، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[التغابن:15] أي: الإقبال عليه والتفرغ لعبادته، خير لكم من اشتغالكم بهم
والجمع لهم، والشفقة المفرطة عليهم؛ ولهذا قال: ( وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) قال ابن
عباس، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ"
الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: "الْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ" سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وهكذا سُئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، عن: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حَيْوَة، أنبأنا أبو عقيل، أنه سمع
الحارث مولى عثمان، رضي الله عنه، يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاءه
المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه أنه سيكون فيه مُد، فتوضأ ثم قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ وضوئي
هذا، ثم قام فصلى
صلاة الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما
بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غُفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى
العشاء غُفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح، غُفر له ما بينها
وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات" قالوا: هذه الحسنات فما
الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد
لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفرد به .
وروى مالك، عن عمارة بن عبد الله بن صياد
عن سعيد بن المسيب قال: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سبحان الله، والحمد
لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال محمد بن عَجْلان، عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" فقلت: الصلاة والصيام. قال
لم تصب. فقلت: الزكاة والحج. فقال: لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله
إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن نافع بن
سَرْجس، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن: ( الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ )
قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، [وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا
بالله. قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: ( الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر].
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمر، عن الحسن وقتادة في قوله:
"الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد
لله، وسبحان الله، هُنّ الباقيات الصالحات.
قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي نصر
التمار، عن عبد العزيز بن مسلم، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المَقْبُرِي، عن
أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، منَ الباقيات الصالحات" .
قال: وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجًا
أبا السمح حَدّثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات". قيل: وما هي
يا رسول الله؟ قال: "الملة". قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير،
والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
وهكذا رواه أحمد، من حديث دراج، به .
وبه قال ابن وهب: أخبرني أبو صَخْر أن عبد الله بن عبد الرحمن، مولى سالم بن عبد الله حَدّثه
قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي، فقال: قل له: القني عند زاوية
القبر فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال
سالم: ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، وسبحان الله،
والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها "لا
حول ولا قوة إلا بالله؟" فقال: ما زلت أجعلها. قال: فراجعه مرتين أو ثلاثًا، فلم ينـزع، قال فأثبت قال سالم: أجل فأثبت
فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يقول: "عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام، فقال: يا جبريل من
هذا معك؟ فقال: محمد فرحب بي وسَهَّل، ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس
الجنة، فإن تربتها طيّبة وأرضها واسعة. فقلت: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول
ولا قوة إلا بالله"
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام، حدثني رجل من
الأنصار، من آل النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير قال: خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى
السماء ثم خفض، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال: "أما إنه سيكون
بعدي أمراء، يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم، فليس
مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم فهو مني وأنا منه. ألا وإن "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هُنّ الباقيات الصالحات"
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن كثير، عن زيد، عن أبي سلام [عن] مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال: "بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه
والده". وقال: "بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنًا بهن، دخل الجنة: يؤمن
بالله، واليوم الآخر، وبالجنة والنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه، [في سفر]
فنـزل منـزلا فقال لغلامه: "ائتنا بالشَّفرة نعبث بها". فأنكرت عليه،
فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه. فلا
تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنـز الناس الذهب والفضة فاكنـزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب"
ثم رواه أيضا والنسائي من وجه آخر عن شداد، بنحوه
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي،
حدثني أبي، حدثنا عمر بن الحسين، عن يونس بن نفيع الجدلي، عن سعد بن جنادة،
رضي الله عنه، قال: كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل
الطائف، فخرجت من أهلى
من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت، فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وعلمني: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) و (
إِذَا زُلْزِلَتِ ) وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا
إله إلا الله، والله أكبر، وقال: "هن الباقيات الصالحات". وبهذا الإسناد:
"من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه، ثم قال: سبحان الله مائة مرة، والحمد
لله مائة مرة، والله أكبر مائة مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، غفرت ذنوبه
إلا الدماء فإنها لا تبطل"
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ ) قال: هي ذكر الله، قول: لا إله إلا الله، والله أكبر،
وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر
الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة،
والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات. وهن الباقيات الصالحات،
التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السموات والأرض.
وقال العوفي، عن ابن عباس: هُنّ الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير، رحمه الله.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا
عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ
الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَدًا (49).
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9، 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] ، وقال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:5] وقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107] يقول تعالى: إنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قَاعًا صَفْصَفًا أي: سطحًا مستويًا لا عوج فيه وَلا أَمْتًا
أي: لا وادي ولا جَبَل؛ ولهذا قال تعالى: ( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً )
[أي: بادية ظاهرة، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا، بل الخلق
كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.
قال مجاهد، وقتادة: ( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) ] لا خَمَرَ فيها ولا غَيَابة. قال قتادة: لا بناءَ ولا شَجَر.
وقوله: ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) أي:
وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا
كبيرًا، كما قال: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49، 50] ، وقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103] ،
وقوله: ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ) يحتمل أن يكون المراد: أن
جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38] ويحتمل أنهم يقومون صفوفًا صفوفا، كما قال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]
وقوله: ( لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )
هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد؛ ولهذا قال مخاطبا
لهم: ( بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ) أي: ما كان
ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.
وقوله: ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) أي: كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل
والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير ( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، (
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ) أي: يا حسرتنا وويلنا
على ما فرطنا في أعمارنا ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) أي: لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا
ولا عملا وإن صغر ( إِلا أَحْصَاهَا ) أي: ضبطها، وحفظها.
وروى الطبراني، بإسناده المتقدم في الآية قبلها، إلى سعد ابن جنادة قال:
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن، نـزلنا قفرًا من
الأرض، ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا، من وجد
عُودًا فليأت به، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به. قال: فما كان إلا ساعة
حتى جعلناه رُكامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذا؟ فكذلك
تُجْمَع والذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها مُحْصَاة عليه "
وقوله: ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ) أي: من خير أو شر كما قال تعالى: يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30] ، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13] وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9] أي: تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لكل غادر لواء يومَ القيامة [يعرف به" .
أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: "يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة] عند استه بقدر غَدْرته، يقال: هذه غَدْرَة فلان بن فلان"
وقوله: ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدا من خلقه، بل يغفر ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء، بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، [ثم ينجي أصحاب المعاصي] ويُخلَّد فيها الكافرون وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] وقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد
الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت
بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلى، فسرت عليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا
عبد الله بن أنيس
فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج
يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول
الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشُر الله، عز وجل الناس
يوم القيامة -أو قال: العبادَ-عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا" قلت: وما بهمًا؟
قال: "ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قَربَ: أنا
الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند
أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله، عز وجل، عُراة غُرْلا بُهْمًا؟ قال: بالحسنات والسيئات" .
وعن شعبة، عن العوام بن مُزَاحم، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان، رضي
الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجَمَّاء لتقتص من
القرناء يوم القيامة" رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] وعند قوله تعالى: إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]
وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ
مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلا (50)
يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم،
ومقرعًا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، الذي أنشأه وابتداه، وبألطاف
رزقه غداه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: ( وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ ) أي: لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة
"البقرة" .
( اسْجُدُوا لآدَمَ ) أي: سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28، 29]
وقوله ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) أي: خانه
أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح
مسلم عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "خُلِقت
الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، خُلق آدم مما وصف لكم" . فعند الحاجة نضح
كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد تَوَسَّم
بأفعال الملائكة وتشبه بهم، وتعبد وتنسك، فلهذا دخل في خطابهم، وعصى
بالمخالفة .
ونبه تعالى هاهنا على أنه ( مِنَ الْجِنِّ ) أي: إنه خُلِق من نار، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12، وص:76]
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل
الجن، كما أن آدم، عليه السلام، أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح
[عنه] .
وقال الضحاك، عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال
لهم: الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة -قال: وكان اسمه الحارث،
وكان خازنًا من خزان الجنة، وخُلقت الملائكة من نور غير هذا الحي-قال:
وخلقت الجن الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار. وهو لسان النار الذي
يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال الضحاك أيضًا، عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان [السماء] الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه، من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفًا على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله. فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين
أمره بالسجود لآدم "فاستكبر، وكان من الكافرين. قال ابن عباس: وقوله: (
كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) أي: من خزان [الجنان، كما يقال للرجل: مكي، ومدني،
وبصري، وكوفي. وقال ابن جريج، عن ابن عباس، نحو ذلك.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: هو من خزان] الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا، رواه ابن جرير من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، به.
وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن إسحاق، عن خَلاد بن
عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان إبليس -قبل أن يركب المعصية-من
الملائكة، اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض. وكان من أشد الملائكة اجتهادًا
وأكثرهم علمًا. فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا.
وقال ابن جُرَيْج، عن صالح مولى التَّوْأمة وشريك بن أبي نَمِر، أحدهما
أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس
منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض. فعصى، فسخط الله عليه، فمسخه
شيطانًا رجيمًا -لعنه الله-ممسوخًا، قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر
فلا تَرْجُه، وإذا كانت في معصية فارجه.
وعن سعيد بن جُبَيْر أنه قال: كان من الجنانين، الذين يعملون في الجنة.
وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي
تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه
لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار
المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء
كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين
وانتحال المبطلين، كما لهذه [الأمة من] الأئمة العلماء، والسادة الأتقياء والأبرار النجباء من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد،
الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه، من ضعيفه، من منكره
وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك
من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتم
الرسل، وسيد البشر [عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات] ، أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس [منه] ، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
وقوله: ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) أي: فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال فَسَقت الرُّطَبة: إذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة من جُحْرها: إذا خرجت منه للعيث والفساد.
ثم قال تعالى مقرعًا وموبخًا لمن اتبعه وأطاعه: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) أي: بدلا عني؛ ولهذا قال: (
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا )
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 59 -62] .
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم، لا يملكون شيئًا، ولا أشهدتهم خلقي للسموات
والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء
كلها، ومدبرها ومقدرها وَحْدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا
نظير، كما قال: قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الآية [سبأ: 22 ، 23] ؛ ولهذا قال: ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) قال مالك: أعوانًا.
وَيَوْمَ
يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا: ( نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) أي: في دار الدنيا، ادعوهم اليوم، ينقذونكم مما أنتم فيه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ
مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ
تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
وقوله: ( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) [كما قال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ] وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص:64] ، وقال وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5، 6]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:81، 82]
وقوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال ابن عباس، وقتادة وغير واحد: مَهْلكًا .
وقال قتادة: ذكر لنا عمر البكالي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق، فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة.
وقال قتادة: ( مَوْبِقًا ) واديًا في جهنم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سِنان القزاز، حدثنا عبد الصمد، حدثنا
يزيد بن درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: واد في جهنم، من قيح ودم.
وقال الحسن البصري: ( مَوْبِقًا ) : عداوة.
والظاهر من السياق هاهنا: أنه المهلك، ويجوز أن يكون واديًا في جهنم أو غيره، إلا أن الله تعالى أخبر
أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون
في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين
إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
وأما إن جعل الضمير في قوله: ( بَيْنَهُمْ ) عائدًا إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14] ، وقال يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43] ، وقال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ
أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ
مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ
تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:28 -30] .
وقوله: ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) أي: إنهم لما عاينوا
جهنم حين
جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى
المجرمون النار، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل
الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) أي: ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرّاج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الكافر يرى جهنم، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة"
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن
لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة، كما لم يعمل في
الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم، ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة"
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (46).
وقوله: ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) كقوله: زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] ، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[التغابن:15] أي: الإقبال عليه والتفرغ لعبادته، خير لكم من اشتغالكم بهم
والجمع لهم، والشفقة المفرطة عليهم؛ ولهذا قال: ( وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) قال ابن
عباس، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ"
الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: "الْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ" سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وهكذا سُئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، عن: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حَيْوَة، أنبأنا أبو عقيل، أنه سمع
الحارث مولى عثمان، رضي الله عنه، يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاءه
المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه أنه سيكون فيه مُد، فتوضأ ثم قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ وضوئي
هذا، ثم قام فصلى
صلاة الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما
بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غُفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى
العشاء غُفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح، غُفر له ما بينها
وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات" قالوا: هذه الحسنات فما
الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد
لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفرد به .
وروى مالك، عن عمارة بن عبد الله بن صياد
عن سعيد بن المسيب قال: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سبحان الله، والحمد
لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال محمد بن عَجْلان، عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" فقلت: الصلاة والصيام. قال
لم تصب. فقلت: الزكاة والحج. فقال: لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله
إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن نافع بن
سَرْجس، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن: ( الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ )
قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، [وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا
بالله. قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: ( الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر].
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمر، عن الحسن وقتادة في قوله:
"الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد
لله، وسبحان الله، هُنّ الباقيات الصالحات.
قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي نصر
التمار، عن عبد العزيز بن مسلم، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المَقْبُرِي، عن
أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، منَ الباقيات الصالحات" .
قال: وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجًا
أبا السمح حَدّثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات". قيل: وما هي
يا رسول الله؟ قال: "الملة". قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير،
والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
وهكذا رواه أحمد، من حديث دراج، به .
وبه قال ابن وهب: أخبرني أبو صَخْر أن عبد الله بن عبد الرحمن، مولى سالم بن عبد الله حَدّثه
قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي، فقال: قل له: القني عند زاوية
القبر فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال
سالم: ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، وسبحان الله،
والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها "لا
حول ولا قوة إلا بالله؟" فقال: ما زلت أجعلها. قال: فراجعه مرتين أو ثلاثًا، فلم ينـزع، قال فأثبت قال سالم: أجل فأثبت
فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يقول: "عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام، فقال: يا جبريل من
هذا معك؟ فقال: محمد فرحب بي وسَهَّل، ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس
الجنة، فإن تربتها طيّبة وأرضها واسعة. فقلت: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول
ولا قوة إلا بالله"
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام، حدثني رجل من
الأنصار، من آل النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير قال: خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى
السماء ثم خفض، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال: "أما إنه سيكون
بعدي أمراء، يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم، فليس
مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم فهو مني وأنا منه. ألا وإن "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هُنّ الباقيات الصالحات"
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن كثير، عن زيد، عن أبي سلام [عن] مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال: "بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه
والده". وقال: "بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنًا بهن، دخل الجنة: يؤمن
بالله، واليوم الآخر، وبالجنة والنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه، [في سفر]
فنـزل منـزلا فقال لغلامه: "ائتنا بالشَّفرة نعبث بها". فأنكرت عليه،
فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه. فلا
تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنـز الناس الذهب والفضة فاكنـزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب"
ثم رواه أيضا والنسائي من وجه آخر عن شداد، بنحوه
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي،
حدثني أبي، حدثنا عمر بن الحسين، عن يونس بن نفيع الجدلي، عن سعد بن جنادة،
رضي الله عنه، قال: كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل
الطائف، فخرجت من أهلى
من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت، فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وعلمني: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) و (
إِذَا زُلْزِلَتِ ) وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا
إله إلا الله، والله أكبر، وقال: "هن الباقيات الصالحات". وبهذا الإسناد:
"من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه، ثم قال: سبحان الله مائة مرة، والحمد
لله مائة مرة، والله أكبر مائة مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، غفرت ذنوبه
إلا الدماء فإنها لا تبطل"
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ ) قال: هي ذكر الله، قول: لا إله إلا الله، والله أكبر،
وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر
الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة،
والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات. وهن الباقيات الصالحات،
التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السموات والأرض.
وقال العوفي، عن ابن عباس: هُنّ الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير، رحمه الله.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا
عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ
الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَدًا (49).
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9، 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] ، وقال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:5] وقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107] يقول تعالى: إنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قَاعًا صَفْصَفًا أي: سطحًا مستويًا لا عوج فيه وَلا أَمْتًا
أي: لا وادي ولا جَبَل؛ ولهذا قال تعالى: ( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً )
[أي: بادية ظاهرة، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا، بل الخلق
كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.
قال مجاهد، وقتادة: ( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) ] لا خَمَرَ فيها ولا غَيَابة. قال قتادة: لا بناءَ ولا شَجَر.
وقوله: ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) أي:
وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا
كبيرًا، كما قال: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49، 50] ، وقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103] ،
وقوله: ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ) يحتمل أن يكون المراد: أن
جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38] ويحتمل أنهم يقومون صفوفًا صفوفا، كما قال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]
وقوله: ( لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )
هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد؛ ولهذا قال مخاطبا
لهم: ( بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ) أي: ما كان
ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.
وقوله: ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) أي: كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل
والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير ( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، (
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ) أي: يا حسرتنا وويلنا
على ما فرطنا في أعمارنا ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) أي: لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا
ولا عملا وإن صغر ( إِلا أَحْصَاهَا ) أي: ضبطها، وحفظها.
وروى الطبراني، بإسناده المتقدم في الآية قبلها، إلى سعد ابن جنادة قال:
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن، نـزلنا قفرًا من
الأرض، ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا، من وجد
عُودًا فليأت به، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به. قال: فما كان إلا ساعة
حتى جعلناه رُكامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذا؟ فكذلك
تُجْمَع والذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها مُحْصَاة عليه "
وقوله: ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ) أي: من خير أو شر كما قال تعالى: يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30] ، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13] وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9] أي: تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لكل غادر لواء يومَ القيامة [يعرف به" .
أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: "يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة] عند استه بقدر غَدْرته، يقال: هذه غَدْرَة فلان بن فلان"
وقوله: ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدا من خلقه، بل يغفر ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء، بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، [ثم ينجي أصحاب المعاصي] ويُخلَّد فيها الكافرون وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] وقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد
الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت
بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلى، فسرت عليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا
عبد الله بن أنيس
فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج
يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول
الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشُر الله، عز وجل الناس
يوم القيامة -أو قال: العبادَ-عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا" قلت: وما بهمًا؟
قال: "ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قَربَ: أنا
الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند
أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله، عز وجل، عُراة غُرْلا بُهْمًا؟ قال: بالحسنات والسيئات" .
وعن شعبة، عن العوام بن مُزَاحم، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان، رضي
الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجَمَّاء لتقتص من
القرناء يوم القيامة" رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] وعند قوله تعالى: إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]
وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ
مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلا (50)
يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم،
ومقرعًا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، الذي أنشأه وابتداه، وبألطاف
رزقه غداه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: ( وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ ) أي: لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة
"البقرة" .
( اسْجُدُوا لآدَمَ ) أي: سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28، 29]
وقوله ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) أي: خانه
أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح
مسلم عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "خُلِقت
الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، خُلق آدم مما وصف لكم" . فعند الحاجة نضح
كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد تَوَسَّم
بأفعال الملائكة وتشبه بهم، وتعبد وتنسك، فلهذا دخل في خطابهم، وعصى
بالمخالفة .
ونبه تعالى هاهنا على أنه ( مِنَ الْجِنِّ ) أي: إنه خُلِق من نار، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12، وص:76]
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل
الجن، كما أن آدم، عليه السلام، أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح
[عنه] .
وقال الضحاك، عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال
لهم: الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة -قال: وكان اسمه الحارث،
وكان خازنًا من خزان الجنة، وخُلقت الملائكة من نور غير هذا الحي-قال:
وخلقت الجن الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار. وهو لسان النار الذي
يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال الضحاك أيضًا، عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان [السماء] الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه، من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفًا على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله. فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين
أمره بالسجود لآدم "فاستكبر، وكان من الكافرين. قال ابن عباس: وقوله: (
كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) أي: من خزان [الجنان، كما يقال للرجل: مكي، ومدني،
وبصري، وكوفي. وقال ابن جريج، عن ابن عباس، نحو ذلك.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: هو من خزان] الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا، رواه ابن جرير من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، به.
وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن إسحاق، عن خَلاد بن
عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان إبليس -قبل أن يركب المعصية-من
الملائكة، اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض. وكان من أشد الملائكة اجتهادًا
وأكثرهم علمًا. فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا.
وقال ابن جُرَيْج، عن صالح مولى التَّوْأمة وشريك بن أبي نَمِر، أحدهما
أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس
منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض. فعصى، فسخط الله عليه، فمسخه
شيطانًا رجيمًا -لعنه الله-ممسوخًا، قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر
فلا تَرْجُه، وإذا كانت في معصية فارجه.
وعن سعيد بن جُبَيْر أنه قال: كان من الجنانين، الذين يعملون في الجنة.
وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي
تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه
لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار
المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء
كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين
وانتحال المبطلين، كما لهذه [الأمة من] الأئمة العلماء، والسادة الأتقياء والأبرار النجباء من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد،
الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه، من ضعيفه، من منكره
وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك
من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتم
الرسل، وسيد البشر [عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات] ، أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس [منه] ، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
وقوله: ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) أي: فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال فَسَقت الرُّطَبة: إذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة من جُحْرها: إذا خرجت منه للعيث والفساد.
ثم قال تعالى مقرعًا وموبخًا لمن اتبعه وأطاعه: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) أي: بدلا عني؛ ولهذا قال: (
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا )
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 59 -62] .
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم، لا يملكون شيئًا، ولا أشهدتهم خلقي للسموات
والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء
كلها، ومدبرها ومقدرها وَحْدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا
نظير، كما قال: قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الآية [سبأ: 22 ، 23] ؛ ولهذا قال: ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) قال مالك: أعوانًا.
وَيَوْمَ
يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا: ( نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) أي: في دار الدنيا، ادعوهم اليوم، ينقذونكم مما أنتم فيه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ
مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ
تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
وقوله: ( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) [كما قال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ] وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص:64] ، وقال وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5، 6]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:81، 82]
وقوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال ابن عباس، وقتادة وغير واحد: مَهْلكًا .
وقال قتادة: ذكر لنا عمر البكالي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق، فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة.
وقال قتادة: ( مَوْبِقًا ) واديًا في جهنم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سِنان القزاز، حدثنا عبد الصمد، حدثنا
يزيد بن درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: واد في جهنم، من قيح ودم.
وقال الحسن البصري: ( مَوْبِقًا ) : عداوة.
والظاهر من السياق هاهنا: أنه المهلك، ويجوز أن يكون واديًا في جهنم أو غيره، إلا أن الله تعالى أخبر
أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون
في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين
إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
وأما إن جعل الضمير في قوله: ( بَيْنَهُمْ ) عائدًا إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14] ، وقال يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43] ، وقال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ
أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ
مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ
تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:28 -30] .
وقوله: ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) أي: إنهم لما عاينوا
جهنم حين
جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى
المجرمون النار، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل
الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) أي: ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرّاج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الكافر يرى جهنم، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة"
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن
لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة، كما لم يعمل في
الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم، ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة"
رد: الجزء السابع من تفسير سورة الكهف
موضــــــ جميل ـــــوع
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
والأجمل مشاركة به معنا
لا تحرمنا مواضيعك سنكون شاكريــــ لك ـــن على جهودك الطيبة
فكن دائما كما أنت لأنك تستحق كــــ الشكر ــــــل
ولا تنسى أن تترك أثرا هنا
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
رد: الجزء السابع من تفسير سورة الكهف
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الحادي عشر من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثامن من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثاني من تفسير سورة الكهف
» الجزء الرابع من تفسير سورة الكهف
» الجزء الخامس من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثامن من تفسير سورة الكهف
» الجزء الثاني من تفسير سورة الكهف
» الجزء الرابع من تفسير سورة الكهف
» الجزء الخامس من تفسير سورة الكهف
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة الكهف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى